بيان
السورة كما يظهر من مفتتحها و مختتمها و السياق الذي يجري عليه آياتها تبين غرض الآيات القرآنية على كثرتها و تشتتها، و تصف المحصل من مقاصدها على اختلافها و الملخص من مضامينها.
فتذكر أنها على احتوائها معارف الدين المختلفة من أصول المعارف الإلهية و الأخلاق الكريمة الإنسانية، و الأحكام الشرعية الراجعة إلى كليات العبادات و المعاملات و السياسات و الولايات ثم وصف عامة الخليقة كالعرش و الكرسي و اللوح و القلم و السماء و الأرض و الملائكة و الجن و الشياطين و النبات و الحيوان و الإنسان، و وصف بدء الخليقة و ما ستعود إليه من الفناء و الرجوع إلى الله سبحانه.
و هو يوم البعث بما يتقدمه من عالم القبر و هو البرزخ ثم القيام لرب العالمين و الحشر و الجمع و السؤال و الحساب و الوزن و شهادة الأشهاد ثم فصل القضاء ثم الجنة أو النار بما فيهما من الدرجات و الدركات.
ثم وصف الرابطة التي بين خلقة الإنسان و بين عمله و ما بين عمله، و ما يستتبعه من سعادة أو شقاوة و نعمة أو نقمة و درجة أو دركة، و ما يتعلق بذلك من الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير بالموعظة و المجادلة الحسنة و الحكمة.
فالآيات القرآنية على احتوائها تفاصيل هذه المعارف الإلهية و الحقائق الحقة تعتمد على حقيقة واحدة هي الأصل و تلك فروعه، و هي الأساس الذي بني عليه بنيان الدين و هو توحيده تعالى توحيد الإسلام بأن يعتقد أنه تعالى هو رب كل شيء لا رب غيره و يسلم له من كل وجهة فيوفي له حق ربوبيته، و لا يخشع في قلب و لا يخضع في عمل إلا له جل أمره.
و هذا أصل يرجع إليه على إجماله جميع تفاصيل المعاني القرآنية من معارفها و شرائعها بالتحليل، و هو يعود إليها على ما بها من التفصيل بالتركيب.
فالسورة تبين ذلك بنحو الإجمال في هذه الآيات الأربع التي افتتحت بها ثم تأخذ في بيانه التفصيلي بسمة الإنذار و التبشير بذكر ما لله من السنة الجارية في عباده، و إيراد أخبار الأمم الماضية، و قصص أقوام نوح و هود و صالح و لوط و شعيب و موسى (عليه السلام)، و ما ساقهم إليه الاستكبار عن إجابة الدعوة الإلهية و الإفساد في الأرض و الإسراف في الأمر، و وصف ما وعد الله به الذين آمنوا و عملوا الصالحات و ما أوعد الله به الذين كفروا و كذبوا بالآيات، و تبين في خلال ذلك أمورا من المعارف الإلهية الراجعة إلى التوحيد و النبوة و المعاد.
و مما تقدم يظهر ما في قول بعضهم عند ما ذكر غرض هذه السورة: أنها في معنى سورة يونس و موضوعها، و هو أصول عقائد الإسلام في الإلهيات و النبوات و البعث و الجزاء و عمل الصالحات و قد فصل فيها ما أجمل في سورة يونس من قصص الرسل (عليهم السلام).
انتهى.
و قد عرفت أن السورتين مسوقتان لغرضين مختلفين لا يرجع أحدهما إلى الآخر البتة فسورة يونس تبين أن السنة الإلهية جارية على القضاء بين الرسل و بين أممهم المكذبين لهم، ثم توعد هذه الأمة بما جرى مثله على الذين من قبلهم، و سورة هود تبين أن المعارف القرآنية ترجع بالتحليل إلى التوحيد الخالص كما أن التوحيد يعود بحسب التركيب إلى تفاصيل المعارف الأصلية و الفرعية.
و السورة - على ما تشهد به آياتها بمضامينها و الاتصال الظاهر بينها - مكية نازلة دفعة واحدة، و قد روي عن بعضهم استثناء قوله تعالى: «فلعلك تارك بعض ما يوحى إليك:» الآية - 12 فذكر أنها مدنية.
و استثنى بعضهم قوله: «أ فمن كان على بينة من ربه:» الآية - 17، و بعضهم قوله تعالى: «و أقم الصلاة طرفي النهار و زلفا من الليل:» الآية - 114، و لا دليل على شيء من ذلك من طريق اللفظ، و ظاهر اتصالها أنها جميعا مكية.
قوله تعالى: «الر كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» المقابلة بين الإحكام و التفصيل الذي هو إيجاد الفصل بين أجزاء الشيء المتصل بعضها ببعض، و التفرقة بين الأمور المندمجة كل منها في آخر تدل على أن المراد بالإحكام ربط بعض الشيء ببعضه الآخر و إرجاع طرف منه إلى طرف آخر بحيث يعود الجميع شيئا واحدا بسيطا غير ذي أجزاء و أبعاض.
و من المعلوم أن الكتاب إذا اتصف بالإحكام و التفصيل بهذا المعنى الذي مر فإنما يتصف بهما من جهة ما يشتمل عليه من المعنى و المضمون لا من جهة ألفاظه أو غير ذلك، و أن حال المعاني في الإحكام و التفصيل و الاتحاد و الاختلاف غير حال الأعيان فالمعاني المتكثرة إذا رجعت إلى معنى واحد كان هذا الواحد هو الأصل المحفوظ في الجميع و هو بعينه على إجماله هذه التفاصيل، و هي بعينها على تفاصيلها ذاك الإجمال و هذا كله ظاهر لا ريب فيه.
و على هذا فكون آيات الكتاب محكمة أولا ثم مفصلة ثانيا معناه أن الآيات الكريمة القرآنية على اختلاف مضامينها و تشتت مقاصدها و أغراضها ترجع إلى معنى واحد بسيط، و غرض فارد أصلي لا تكثر فيه و لا تشتت بحيث لا تروم آية من الآيات الكريمة مقصدا من المقاصد و لا ترمي إلى هدف إلا و الغرض الأصلي هو الروح الساري في جثمانه و الحقيقة المطلوبة منه.
فلا غرض لهذا الكتاب الكريم على تشتت آياته و تفرق أبعاضه إلا غرض واحد متوحد إذا فصل كان في مورد أصلا دينيا و في آخر أمرا خلقيا و في ثالث حكما شرعيا و هكذا كلما تنزل من الأصول إلى فروعها و من الفروع إلى فروع الفروع لم يخرج من معناه الواحد المحفوظ، و لا يخطي غرضه فهذا الأصل الواحد بتركبه يصير كل واحد واحد من أجزاء تفاصيل العقائد و الأخلاق و الأعمال، و هي بتحليلها و إرجاعها إلى الروح الساري فيها الحاكم على أجسادها تعود إلى ذاك الأصل الواحد.
فتوحيده تعالى بما يليق بساحة عزه و كبريائه مثلا في مقام الاعتقاد هو إثبات أسمائه الحسنى و صفاته العليا، و في مقام الأخلاق هو التخلق بالأخلاق الكريمة من الرضا و التسليم و الشجاعة و العفة و السخاء و نحو ذلك و الاجتناب عن الصفات الرذيلة، و في مقام الأعمال و الأفعال الإتيان بالأعمال الصالحة و الورع عن محارم الله.
و إن شئت فقل: إن التوحيد الخالص يوجب في كل من مراتب العقائد و الأخلاق و الأعمال ما يبينه الكتاب الإلهي من ذلك كما أن كلا من هذه المراتب و كذلك أجزاؤها لا تتم من دون توحيد خالص.
فقد تبين أن الآية في مقام بيان رجوع تفاصيل المعارف و الشرائع القرآنية إلى أصل واحد هو بحيث إذا ركب في كل مورد من موارد العقائد و الأوصاف و الأعمال مع خصوصية ذلك المورد أنتج حكما يخصه من الأحكام القرآنية، و بذلك يظهر: أولا: أن قوله: «كتاب» خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: هذا كتاب، و المراد بالكتاب هو ما بأيدينا من القرآن المقسم إلى السور و الآيات، و لا ينافي ذلك ما ربما يذكر أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ أو القرآن بما هو في اللوح فإن هذا الكتاب المقرو متحد مع ما في اللوح اتحاد التنزيل مع التأويل.
و ثانيا: أن لفظة «ثم» في قوله: «ثم فصلت» إلخ، لإفادة التراخي بحسب ترتيب الكلام دون التراخي الزماني إذ لا معنى للتقدم و التأخر الزماني بين المعاني المختلفة بحسب الأصلية و الفرعية أو بالإجمال و التفصيل.
و يظهر أيضا ما في بعض ما ذكره أرباب التفاسير في معنى الآية كقول بعضهم: إن معناها أحكمت آياته فلم تنسخ منها كما نسخت الكتب و الشرائع ثم فصلت ببيان الحلال و الحرام و سائر الأحكام.
و فيه: أن الواجب على هذا المعنى أن يقيد عدم النسخ بعدم النسخ بكتاب غير القرآن ينسخ القرآن بعده كما نسخ القرآن غيره فإن وجود النسخ بين الآيات القرآنية نفسها مما لا ينبغي الارتياب فيه.
و التقييد المذكور لا دلالة عليه من جهة لفظ الآية.
و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته بالأمر و النهي ثم فصلت بالوعد و الوعيد و الثواب و العقاب.
و فيه أنه تحكم لا دليل عليه أصلا.
و كقول بعضهم: إن المراد إحكام لفظها بجعلها على أبلغ وجوه الفصاحة حتى صار معجزا، و تفصيلها بالشرح و البيان.
و الكلام في هذا الوجه كسابقه.
و كقول بعضهم: المراد بإحكام آياته جعلها محكمة متقنة لا خلل فيها و لا باطل، و المراد بتفصيلها جعلها متتابعة بعضها إثر بعض.
و فيه: أن التفصيل بهذا المعنى غير معهود لغة إلا أن يفسر بمعنى التفرقة و التكثير و يرجع حينئذ إلى ما قدمناه من المعنى.
و كقول بعضهم: إن المراد أحكمت آياته جملة ثم فرقت في الإنزال آية بعد آية ليكون المكلف أمكن من النظر و التأمل.
و فيه: أن الأحرى بهذا الوجه أن يذكر في مثل قوله تعالى: «إنا أنزلناه في ليلة مباركة:» الدخان: - 3، و قوله: «و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا:» إسراء: - 106 و ما في هذا المعنى من الآيات مما يدل على أن للقرآن مرتبة عند الله هي أعلى من سطح الأفهام ثم نزل إلى مرتبة تقبل التفهم و التفقه رعاية لحال الأفهام العادية كما يشير إليه أيضا قوله: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم:» الزخرف: - 4.
و أما آيتنا التي نحن فيها كتاب أحكمت آياته ثم فصلت» إلخ، فقد علق فيها الإحكام و التفصيل معا على الآيات، و ليس ذلك إلا من جهة معانيها فتفيد أن الإحكام و التفصيل هما في معاني هذه الآيات المتكثرة فلها جهة وحدة و بساطة و جهة كثرة و تركب، و ينطبق على ما قدمناه من المعنى لا على ما ذكره الراجع إلى مسألة التأويل و التنزيل فافهم ذلك.
و كقول بعضهم: إن المراد بالإحكام و التفصيل إجمال بعض الآيات و تبيين البعض الآخر، و قد مثل لذلك بقوله تعالى في هذه السورة: «مثل الفريقين كالأعمى و الأصم و البصير و السميع:» الآية: - 24، فإنه مجمل محكم يتبين بما ورد فيها من قصة نوح و هود و صالح.
و هكذا.
و فيه: أن ظاهر الآية أن الإحكام و التفصيل متحدان من حيث المورد بمعنى أن الآيات التي ورد عليها الإحكام بعينها هي التي ورد عليها التفصيل لا أن الإحكام وصف لبعض آياته و التفصيل وصف بعضها الآخر كما هو لازم ما ذكره.
و قوله تعالى: «من لدن حكيم خبير» الحكيم من أسمائه الحسنى الفعلية يدل على إتقان الصنع، و كذا الخبير من أسمائه الحسنى يدل على علمه بجزئيات أحوال الأمور الكائنة و مصالحها، و إسناد إحكام الآيات و تفصيلها إلى كونه تعالى حكيما خبيرا لما بينهما من النسبة.
قوله تعالى: «ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير و بشير و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» الآية، و ما بعدها تفسير لمضمون الآية الأولى: «كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير» و إذ كانت الآية تتضمن أنه كتاب من الله إلى... له آيات محكمة ثم مفصلة كانت العناية في تفسيرها متوجه إلى إيضاح هذه الجهات.
و من المعلوم أن هذا الكتاب الذي أنزله الله تعالى من عنده إلى رسوله ليتلوه على الناس و يبلغهم له وجه خطاب إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و وجه خطاب إلى الناس بوساطته أما وجه خطابه إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو الذي يتلقاه الرسول من وحي الله فهو أن أنذر و بشر و ادع الناس إلى كذا و كذا، و هذا الوجه هو الذي عني به في أول سورة يونس حيث قال تعالى: «أوحينا إلى رجل منهم أن أنذر الناس و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم:» يونس: - 2.
و أما وجه خطابه إلى الناس و هو الذي يتلقاه الناس من الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو ما يلقيه إلى الناس من المعنى في ضمن تلاوته كلام الله عليهم بعنوان الرسالة أني أدعوكم إلى الله دعوة نذير و بشير، و هذا الوجه من الخطاب هو الذي عنى به في قوله: «ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير و بشير» إلخ.
فالآية من كلام الله تفسر معنى إحكام آيات الكتاب ثم تفصيلها بحكاية ما يتلقاه الناس من دعوة الرسول إياهم بتلاوة كتاب الله عليهم، و ليس كلاما للرسول بطريق الحكاية و لا بتقدير القول و لا من الالتفات في شيء، و لا أن التقدير: أمركم بأن لا تعبدوا أو: «فصلت آياته لأن لا تعبدوا إلا الله» بأن يكون قوله: «لا تعبدوا» نفيا لا نهيا فإن قوله بعد: «و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» معطوف على قوله: ألا تعبدوا إلا الله، و هو يشهد بأن «لا تعبدوا» نهي لا نفي.
على أن التقدير لا يصار إليه من غير دليل فافهم ذلك فإنه من لطيف صنعة البلاغة في الآية.
و على هذا فقوله: «ألا تعبدوا إلا الله» دعوة إلى توحيد العبادة بالنهي عن عبادة غير الله من الآلهة المتخذة شركاء لله، و قصر العبادة فيه تعالى، و قوله: «و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» أمر بطلب المغفرة من الله و قد اتخذوه ربا لهم برفض عبادة غيره ثم أمر بالتوبة و الرجوع إليه بالأعمال الصالحة و يتحصل من الجميع سلوك الطريق الطبيعي الموصل إلى القرب و الزلفى منه تعالى، و هو رفض الآلهة دون الله ثم طلب المغفرة و الطهارة النفسانية للحضور في حظيرة القرب ثم الرجوع إليه تعالى بالأعمال الصالحة.
و قد جيء بأن التفسيرية ثانيا في قوله: «و أن استغفروا» إلخ، لاختلاف ما بين المرحلتين اللتين يشير إليهما قوله: «ألا تعبدوا إلا الله» و هي مرحلة التوحيد بالعبادة مخلصا، و قوله: «و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» و هي مرحلة العمل الصالح و إن كانت الثانية من نتائج الأولى و فروعها.
و لكون التوحيد هو الأصل الأساسي و الاستغفار و التوبة نتيجة و فرعا متفرعا عليه أورد النذر و البشارة بعد ذكر التوحيد، و الوعد الجميل الذي يتضمنه قوله: «يمتعكم» إلخ، بعد ذكر الاستغفار و التوبة فقال: «ألا تعبدوا إلا الله إنني لكم منه نذير و بشير» فبين به أن النذر و البشرى كائنين ما كانا يرجعان إلى التوحيد و يتعلقان به ثم قال: «و أن استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يمتعكم متاعا حسنا» إلخ فإن الآثار القيمة و النتائج الحسنة المطلوبة إنما تترتب على الشيء بعد ما تم في نفسه و كمل بصفاته و فروعه و نتائجه، و التوحيد و إن كان هو الأصل الوحيد للدين على سعته لكن شجرته لا تثمر ما لم تقم على ساقها و يتفرع عليها فروعها و أغصانها، «كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها».
و الظاهر أن المراد بالتوبة في الآية الإيمان كما في قوله تعالى: «فاغفر للذين تابوا و اتبعوا سبيلك:» المؤمنون: - 7 فيستقيم الجمع بين الاستغفار و التوبة مع عطف التوبة عليه بثم، و المعنى اتركوا عبادة الأصنام بعد هذا و اطلبوا من ربكم غفران ما قدمتم من المعصية ثم آمنوا بربكم.
و قيل: إن المعنى اطلبوا المغفرة و اجعلوها غرضكم ثم توصلوا إليه بالتوبة و هو غير جيد و من التكلف ما ذكره بعضهم أن المعنى: استغفروا من ذنوبكم الماضية ثم توبوا إليه كلما أذنبتم في المستقبل و كذا قول آخر: إن «ثم» في الآية بمعنى الواو لأن التوبة و الاستغفار واحد.
و قوله: «يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى» الأجل المسمى هو الوقت الذي ينتهي إليه الحياة لا تتخطاه البتة، فالمراد هو التمتيع في الحياة الدنيا بل بالحياة الدنيا لأن الله سبحانه سماها في مواضع من كلامه متاعا، فالمتاع الحسن إلى أجل مسمى ليس إلا الحياة الدنيا الحسنة.
فيئول معنى قوله: «يمتعكم متاعا حسنا» على تقدير كون «متاعا» مفعولا مطلقا إلى نحو من قولنا: يمتعكم تمتيعا حسنا بالحياة الحسنة الدنيوية «و متاع الحياة إنما يكون حسنا إذا ساق الإنسان إلى سعادته الممكنة له، و هداه إلى أماني الإنسانية من التنعم بنعم الدنيا في سعة و أمن و رفاهية و عزة و شرافة فهذه الحياة الحسنة تقابل المعيشة الضنك التي يشير إليها في قوله: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا:» طه: - 124.
و لا حسن لمتاع الحياة الدنيا و لا سعة في المعيشة لمن أعرض عن ذكر الله و لم يؤمن بربه فإن البعض من الناس و إن أمكن أن يؤتى سعة من المال و علوا في الأرض ثم يحسب أن لا أمنية من أماني الإنسانية إلا و قد أوتيها لكنه في غفلة عن ابتهاج من تحقق بحقيقة الإيمان بالله و دخل في ولاية الله فآتاه الله الحياة الطيبة الإنسانية، و آمنه من ذلة الحياة الحيوانية التي لا حكومة فيها إلا للحرص و الشره و الافتراس و التكلب و الجهالة، فالنفس الحرة الإنسانية تذم من الحياة ما يستأثره النفوس الرذيلة الخسيسة و إن استتبع الذلة و المسكنة و كل شناعة.
فالحياة الحسنة لمجتمع صالح حر أن يشتركوا في التمتع من مزايا النعم الأرضية التي خلقها الله لهم اشتراكا عن تراحم بينهم و تعاون و تعاضد من غير تعد و تزاحم بحيث يطلب كل خير نفسه و نفعها في خير مجتمعه و نفعه من غير أن يعبد نفسه و يستعبد الآخرين.
و بالجملة التمتع بالحياة الحسنة إلى أجل مسمى هو تمتع الفرد بالحياة على ما تستحسنه الفطرة الإنسانية و هو الاعتدال في التمتعات المادية في ضوء العلم النافع و العمل الصالح هذا إذا نسب إلى الفرد، و أما إذا نسب إلى المجتمع فهو الانتفاع العام من نعم الحياة الأرضية الطيبة بتخصيص ما يناله الأفراد بكدهم و سعيهم بالمجتمع الملتئم الأجزاء من غير تضاد بين أبعاضه أو تناقض.
و قوله: «و يؤت كل ذي فضل فضله» الفضل هو الزيادة و إذ نسب الفضل في قوله: «كل ذي فضل» إلى من عنده الفضل من الأفراد كان ذلك قرينة على كون الضمير في «فضله» راجعا إلى ذي الفضل دون اسم الجلالة كما احتمله بعضهم و الفضل و الزيادة من المعاني النسبية التي إنما تتحقق بقياس شيء إلى شيء و إضافته إليه.
فالمعنى: و يعطي كل من زاد على غيره بشيء من صفاته و أعماله و ما يقتضيه من الاختصاص بمزيد الأجر و خصوصه موهبة السعادة تلك الزيادة من غير أن يبطل حقه أو يغصب فضله أو يملكه غيره كما يشاهد في المجتمعات غير الدينية و إن كانت مدنية راقية فلم تزل البشرية منذ سكنت الأرض و كونت أنواع المجتمعات الهمجية أو الراقية أو ما هي أرقى تنقسم إلى طائفتين مستعلية مستكبرة قاهرة، و مستذلة مستعبدة مقهورة، و ليس يعدل هذا الإفراط و التفريط و لا يسوي هذا الاختلاف إلا دين التوحيد.
فدين التوحيد هو السنة الوحيدة التي تقصر المولوية و السيادة في الله سبحانه و تسوي بين القوي و الضعيف و المتقدم و المتأخر و الكبير و الصغير و الأبيض و الأسود و الرجل و المرأة و تنادي بمثل قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم:» الحجرات: - 13، و قوله: «أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض:» آل عمران: - 195.
ثم إن وقوع قوله: «و يؤت كل ذي فضل فضله» الحاكي عن الاعتناء بفضل كل ذي فضل بعد قوله: «يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى» الدال على تمتيع الجميع مشعر: أولا: بأن المراد بالجملة الأولى المتاع العام المشترك بين أفراد المجتمع و بعبارة أخرى حياة المجتمع العامة الحسنة، و بالجملة الثانية المزايا التي يؤتاها بعض الأفراد قبال ما يختصون به من الفضل.
و ثانيا: أن الجملة الأولى تشير إلى التمتيع بمتاع الحياة الدنيا و الثانية إلى إيتاء ثواب الآخرة قبال الأعمال الصالحة القائمة بالفرد أو إيتاء كل ذي فضل فضله في الدنيا و الآخرة معا بتخصيص كل من جاء بزيادة في جهة دنيوية بما تقتضيه زيادته من المزية في جهات الحياة بإقامة كل ذي فضيلة في صفة أو عمل مقامه الذي تقتضيه صفته أو عمله و وضعه موضعه من غير أن يسوي بين الفاضل و المفضول في دينهما أو تزاح الخصوصيات و تبطل الدرجات و المنازل بين الأعمال و المساعي الاجتماعية فلا يتفاوت حال الناشط في عمله و الكسلان، و لا يختلف أمر المجتهد في العمل الدقيق المهم في بابه و اللاعب بالعمل الحقير الهين و هكذا.
و قوله: «و إن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير» أي فإن تتولوا إلخ بالخطاب، و الدليل عليه قوله: «عليكم» و ما تقدم في الآيتين من الخطابات المتعددة فلا يصغي إلى قول من يأخذ قوله: «تولوا» جمعا مذكرا غائبا من الفعل الماضي فإنه ظاهر الفساد.
و قد أغرب بعض المفسرين حيث قال في قوله تعالى: «يمتعكم متاعا حسنا إلى أجل مسمى»: و الآية تتضمن نجاة هذه الأمة المحمدية من عذاب الاستئصال كما بيناه في تفسير سورة يونس أيضا انتهى، و لست أدري كيف استفاد من الآية ما ذكره و لعله بنى ذلك على أن الآية اشترطت للأمة الحياة الحسنة من غير استئصال إن آمنوا بالله و آياته ثم إنهم آمنوا و انتشر الإسلام في الدنيا، لكن من المعلوم أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مرسل إلى أهل الدنيا عامة و لم يؤمن به عامتهم، و لا أن المؤمنين به أخلصوا جميعا إيمانهم من النفاق و سرى الإيمان من ظاهرهم إلى باطنهم و من لسانهم إلى جنانهم.
و لو كان مجرد إيمان بعض الأمة مع كفر الآخرين كافيا في تحقق الشرط و ارتفاع عذاب الاستئصال لكفى في أمة نوح و هود (عليهما السلام) و غيرهما و قد دعوا أممهم إلى ما دعا إليه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اشترطوا لهم مثل ما اشترط لأمته ثم عمهم الله بعذاب الاستئصال و كان حقا عليه نصر المؤمنين.
و قد حكى الله سبحانه عن نوح قوله لقومه في ضمن دعوته: «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا:» نوح: - 12 و حكى عن هود قوله: «و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا و يزدكم قوة إلى قوتكم و لا تتولوا مجرمين:» هود: - 52، و حكى جملة عن نوح و هود و صالح و الذين من بعدهم قولهم: «أ في الله شك فاطر السموات و الأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى أجل مسمى:» إبراهيم: - 10.
و أما قوله: «و قد بيناه في سورة يونس أيضا» فلم يأت هناك إلا بدعوى خالية و قد قدمنا هناك أن آيات سورة يونس صريحة في أن الله سيقضي بين هذه الأمة بين نبيها (صلى الله عليه وآله وسلم) فيعذبهم و ينجي المؤمنين سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا.
قوله تعالى: «إلى الله مرجعكم و هو على كل شيء قدير» في مقام التعليل لما يفيده قوله: «و إن تولوا فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير» من المعاد، و ذيل الآية، مسوق لإزاحة ما يمكن أن يختلج في صدورهم من استبعاد البعث بعد عروض الموت، و المعنى و إن تتولوا عن إخلاص العبادة له و رفض الشركاء فإني أخاف عليكم عذاب يوم كبير سيستقبلكم فتواجهونه و هو يوم البعث بعد الموت لأن مرجعكم إلى الله و الله على كل شيء قدير فلا يعجز عن إحيائكم بعد الإماتة فإياكم أن تستبعدوا ذلك.
فالآية قرينة على أن المراد باليوم الكبير يوم القيامة، و روى القمي في تفسيره، مضمرا: أن المراد بعذاب يوم كبير الدخان و الصيحة.
|