بيان
تتضمن الآيات قصته (عليه السلام) أيام لبثه في بيت العزيز و قد ابتلي فيها بحب امرأة العزيز له و مراودتها إياه عن نفسه، و مني بتعلق نساء المدينة به و مراودتهن إياه عن نفسه، و كان ذلك بلوى، و قد ظهر خلال ذلك من عفة نفسه و طهارة ذيله أمر عجيب، و من تولهه في محبة ربه ما هو أعجب.
قوله تعالى: «و لما بلغ أشده آتيناه حكما و علما و كذلك نجزي المحسنين» بلوغ الأشد أن يعمر الإنسان ما تشتد به قوى بدنه و تتقوى به أركانه بذهاب آثار الصباوة، و يأخذ ذلك من ثمانية عشر من عمره إلى سن الكهولة التي عندها يكمل العقل و يتم الرشد.
و الظاهر أن المراد به الانتهاء إلى أول سن الشباب دون التوسط فيه أو الانتهاء إلى آخره كالأربعين، و الدليل عليه قوله تعالى في موسى (عليه السلام): «و لما بلغ أشده و استوى آتيناه حكما و علما»: القصص: 14 حيث دل على التوسط فيه بقوله: «استوى»، و قوله: «حتى إذا بلغ أشده و بلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك» الآية: الأحقاف: 15 فلو كان بلوغ الأشد هو بلوغ الأربعين لم تكن حاجة إلى تكرار قوله: «بلغ».
فلا مجال لما ذكره بعضهم: أن المراد ببلوغ الأشد بلوغ الثلاثين أو الثلاث و الثلاثين، و كذا ما قاله آخرون إن المراد به بلوغ الأربعين و هو سن الأربعين.
على أن من المضحك أن تصبر امرأة العزيز عن يوسف مدى عنفوان شبابه و ريعان عمره حتى إذا بلغ الأربعين من عمره و أشرف على الشيخوخة تعلقت به و راودته عن نفسه.
و قوله: «آتيناه حكما» الحكم هو القول الفصل و إزالة الشك و الريب من الأمور القابلة للاختلاف - على ما يتحصل من اللغة - و لازمه إصابة النظر في عامة المعارف الإنسانية الراجعة إلى المبدإ و المعاد و الأخلاق النفسانية و الشرائع و الآداب المرتبطة بالمجتمع البشري.
و بالنظر إلى قوله (عليه السلام) لصاحبيه في السجن: «إن الحكم إلا لله»: الآية 40 من السورة، و قوله بعد: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»: الآية 41 من السورة يعلم أن هذا الحكم الذي أوتيه كان هو حكم الله فكان حكمه حكم الله، و هذا هو الذي سأله إبراهيم (عليه السلام) من ربه إذ قال: «رب هب لي حكما و ألحقني بالصالحين»: الشعراء: 83.
و قوله: «و علما» و هذا العلم المذكور المنسوب إلى إيتائه تعالى كيفما كان و أي مقدار كان علم لا يخالطه جهل كما أن الحكم المذكور معه حكم لا يخالطه هوى نفساني و لا تسويل شيطاني كيف؟ و الذي آتاهما هو الله سبحانه و قد قال تعالى: «و الله غالب على أمره»: الآية 21 من السورة، و قال: «إن الله بالغ أمره»: الطلاق: 3 فما آتاه من الحكم لا يخالطه تزلزل الريب و الشك، و ما يؤتيه من العلم لا يكون جهلا البتة.
ثم من المعلوم أن هذه المواهب الإلهية ليست بأعمال جزافية و لا لغوا أو عبثا منه تعالى فالنفوس التي تؤتى هذا الحكم و العلم لا تستوي هي و النفوس الخاطئة في حكمها المنغمرة في جهلها، و قد قال تعالى: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا»: الأعراف: 58 و إلى ذلك الإشارة بقوله: «و كذلك نجزي المحسنين» حيث يدل على أن هذا الحكم و العلم اللذين آتاهما الله إياه لم يكونا موهبتين ابتدائيتين لا مستدعي لهما أصلا بل هما من قبيل الجزاء جزاه الله بهما لكونه من المحسنين.
و ليس من البعيد أن يستفاد من قوله: «و كذلك نجزي المحسنين» إن الله تعالى يجزي كل محسن - على اختلاف صفات الإحسان - شيئا من الحكم و العلم يناسب موقعه في الإحسان و قد قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد: 28 و قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122.
و هذا العلم المذكور في الآية يتضمن ما وعد الله سبحانه تعليمه ليوسف من تأويل الأحاديث فإنه واقع بين قوله تعالى في الآيات السابقة: «و لنعلمه من تأويل الأحاديث» و قوله حكاية عن يوسف في قوله لصاحبيه في السجن: «ذلكما مما علمني ربي» فافهم ذلك.
قوله تعالى: «و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» قال في المفردات،: الرود هو التردد في طلب الشيء برفق و منه الرائد لطالب الكلاء، قال: و الإرادة منقولة من راد يرود إذا سعى في طلب شيء، قال: و المراودة أن تنازع غيرك في الإرادة فتريد غير ما يريد أو ترود غير ما يرود، و راودت فلانا عن كذا، قال تعالى: «هي راودتني عن نفسي» و قال: «تراود فتاها عن نفسه» أي تصرفه عن رأيه، و على ذلك قوله: «و لقد راودته عن نفسه» «سنراود عنه أباه» انتهى.
و في المجمع،: المراودة المطالبة بأمر بالرفق و اللين ليعمل به و منه المرود لأنه يعمل به، و لا يقال في المطالبة بدين: راوده، و أصله من راد يرود إذا طلب المرعى، و في المثل: الرائد لا يكذب أهله، و التغليق إطباق الباب بما يعسر فتحه، و إنما شدد ذلك لتكثير الإغلاق أو للمبالغة في الإيثاق، انتهى.
و هيت لك اسم فعل بمعنى هلم، و معاذ الله أي أعوذ بالله معاذا فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله.
و الآية الكريمة «و راودته التي هو في بيتها عن نفسه و غلقت الأبواب و قالت هيت لك قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» على ما فيها من الإيجاز تنبىء عن إجمال قصة المراودة غير أن التدبر في القيود المأخوذة فيها و السياق الذي هي واقعة فيه و سائر ما يلوح من أطراف قصته الموردة في السورة يجلي عن حقيقة الحال و يكشف القناع عن تفصيل ما خبىء من الأمر.
يوسف: هو ذا طفل صغير حولته أيدي المقادير إلى بيت العزيز عليه سيما العبيد و لعله لم يسأل إلا عن اسمه، و لم يتكلم إلا أن قال: اسمي يوسف أو قيل عنه ذلك و لم يلح من لهجته إلا أنه كان قد نشأ بين العبريين، و لم يسأل عن بيته و نسبه فليس للعبيد بيوت و لم يكن من المعهود أن يحفظ للأرقاء أنساب و هو ساكت مختوم على لسانه لا يتكلم بشيء و كم من حديث بين جوانحه فلم يعرف نسبه إلا بعد سنين من ذلك حينما قال لصاحبيه في السجن «و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب» و لا كشف عما في سره من توحيد العبودية لله بين أولئك الوثنيين إلا ما ذكره لامرأة العزيز حين راودته عن نفسه بقوله: «معاذ الله إنه ربي» إلخ.
هو اليوم حليف الصمت و السكوت لكن قلبه مليء بما يشاهده من لطيف صنع الله به فهو على ذكر مما بثه إليه أبوه يعقوب النبي من حقيقة التوحيد و معنى العبودية ثم ما بشر به من الرؤيا أن الله سيخلصه لنفسه و يلحقه بآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب، و ليس ينسى ما فعله به إخوته ثم ما وعده به ربه في غيابة الجب حين ما انقطع عن كافة الأسباب: أنه تحت الولاية الإلهية و التربية الربوبية معني بأمره و سينبأ إخوته بأمرهم هذا و هم لا يشعرون.
فكان (عليه السلام) مملوء الحس مستغرق النفس في مشاهدة ألطاف ربه الخفية يرى نفسه تحت ولاية الله محبورا بصنائعه الجميلة لا يرد إلا على خير و لا يواجه إلا جميلا.
و هذا هو الذي هون عليه ما نزل به من النوائب، و تواتر عليه من المحن و البلايا فصبر عليها على ما بها من المرارة فلم يشك و لم يجزع و لم يضل الطريق و قد ذكر ذلك لإخوته حين عرفهم نفسه بقوله: «إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين»: الآية 90 من السورة.
فلم يزل يوسف (عليه السلام) تنجذب نفسه إلى جميل صنائع ربه و يمعن قلبه في لطيف الإشارات إليه، و يزداد كل يوم حبا بما يجده من شواهد الولاية و يشاهد أن ربه هو القائم على كل نفس بما كسبت و هو على كل شيء شهيد حتى تمكنت المحبة الإلهية منه و استقر الوله و الهيمان في سره فكان همه في ربه لا يشغله عنه شاغل و لا يصرفه عنه صارف و لا طرفة عين، و هذا بمكان من الوضوح لمن تدبر فيما تحكي عنه السورة من المحاورات كقوله: «معاذ الله إنه ربي» و قوله: «ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء» و قوله: «إن الحكم إلا لله» و قوله: «أنت وليي في الدنيا و الآخرة» و غير ذلك كما سنبين إن شاء الله تعالى.
فهذا ما عند يوسف (عليه السلام) فقد كان شبحا ما وراءه إلا محبة إلهية أنسته نفسه و شغلته عن كل شيء، و صورة معناها أنها خالصة أخلصها الله لنفسه فلم يشاركه فيه أحد.
و لم يظهر للعزيز منه أول يوم إذ حل في بيته إلا أنه غلام صغير عبري مملوك له غير أن قوله لامرأته: «أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» يكشف أنه شاهد منه وقارا و تمكينا و تفرس فيه عظمة و كبرياء نفسانية أطمعته في أن ينتفع به أو يلحقه بنفسه بالتبني على ما في يوسف من عجيب الجمال و الحسن.
امرأة العزيز: امرأة العزيز و هي عزيزة مصر «وصاها العزيز يوسف أن تكرم مثواه و أعلمها أن له فيه إربة و أمنية فلم تزل تجتهد في إكرام يوسف و تحسن مثواه و تهتم بأمره لا كما يهتم في أمر رقيق مملوك بل كما يعنى بأمر جوهر كريم أو قطعة كبد و تحبه لبديع جماله و غزير كماله و تزداد كلما مضت الأيام حبا إلى حب حتى إذا بلغ الحلم و استوى على مستوى الرجال لم تملك نفسها دون أن تعشقه و تذل على ما لها من مناعة الملك و العزة و عصمة العفة و الخدارة تجاه هواه القاطن بسرها الآخذ بمجامع قلبها.
و قد كان يوسف يلازمها في العشرة و لا يفارق بينها من جانب و كانت عزيزة لا يثني أمرها و لا ترد عزيمتها و كانت فيما تزعم سيدة يوسف و هو عبدها المملوك لا يسعه إلا أن يطيعها و ينقاد لها، و لبيوت الملوك و الأعزة أن تحتال لشتى مقاصدها و مآربها بأنواع الحيل و المكايد فإن عامة الأسباب و إن عزت و امتنعت ميسرة لها، و كانت العزيزة ذات جمال و زينة فإن حريم الملوك لا تدخلها كل شوهاء دميمة و لا تحل بها إلا غوان ذوات حسن فتانات.
و العادة تحكم أن هذه الأسباب - و قد اجتمعت على عزيزة مصر - أسعرت في سرها كل لهيب، و أججت كل نار حتى استغرقت في حب يوسف و تولهت في غرامه و اشتغلت به عن كل شيء، و قد أحاط بقلبها من كل جانب، هو أول منطقها إذا تكلمت و في ضميرها إذا سكتت فلا هم لها إلا يوسف و لا بغية لها إلا فيه «قد شغفها حبا» و ليوسف الجمال الذي يأخذ بمجامع القلوب فكيف إذا امتلأت به عين محب واله و أدام النظر إليه مهيم ذو غرام.
يوسف و امرأة العزيز: لم تزل عزيزة مصر تعد نفسها و تمنيها بوصال يوسف و الظفر بما تبتغيه منه و تلاطفه في عشرته و تشفع ذلك بما لربات الحسن و الزينة من الغنج و الدلال لتصطاده بما عندها كما اصطاده بما عنده، و لعل الذي كانت تشاهده من صبر يوسف و سكوته كان يغرها فيما ترومه و يغريها عليه.
حتى إذا تاقت نفسها له و بلغت بها و أعيتها المذاهب خلت به في بيتها و قد غلقت الأبواب فلم يبق فيه إلا هي و يوسف.
و هي لا تشك أن سيطيعها يوسف في أمرها و لا يمتنع عليها لما كانت و لا تزال تراه بالسمع و الطاعة، و تشاهد أن الأوضاع و الأحوال الحاضرة تقضي بفوزها و نيلها ما تريده منه.
فتى واله في حبه و فتاة تائقة في غرامها اجتمعا في بيت خالية أما هي فمشغوفة بحب يوسف تريد أن تصرفه عن نفسه إلى نفسها و تتوسل إلى ذلك بتغليق الأبواب و مراودته عن نفسه و الاعتماد على ما لها من العزة و الملك حيث تدعوه إلى نفسها بلفظ الأمر «هيت لك» لتقهره على ما تريده منه.
و أما هو فقد استغرق في حب ربه و أخلص و صفى ذلك نفسه فلم يترك لشيء في قلبه محلا غير حبيبه فهو في خلوة مع ربه و حضرة منه يشاهد فيه جماله و جلاله و قد طارت الأسباب الكونية على ما لها من ظاهر التأثير من نظره فهو على خلافها لا يتبجح بالأسباب و لا يركن إلى الأعضاد.
ترى أنها تتوسل عليه بالأسباب بتغليق الأبواب و المراودة و الأمر بقولها: «هيت لك» و أما هو فقد قابلها بقوله: «معاذ الله» فلم يجبها بتهديد و لم يقل: إني أخاف العزيز أو لا أخونه أو إني من بيت النبوة و الطهارة أو إن عفتي أو عصمتي تمنعني من الفحشاء، و لم يقل إني أرجو ثواب الله أو أخاف عذابه إلى غير ذلك، و لو كان قلبه متعلقا بشيء من الأسباب الظاهرة لذكره و بدأ به عند مفاجأة الشدة و نزول الاضطرار على ما هو مقتضى طبع الإنسان.
بل استمسك بعروة التوحيد و أجاب بالعياذ بالله فحسب و لم يكن في قلبه أحد سوى ربه و لا تعدى بصره إياه إلى غيره فهذا هو التوحيد الخالص الذي هدته إليه المحبة الإلهية و أولهه في ربه فأنساه الأسباب كلها حتى أنساه نفسه فلم يقل إني أعوذ منك بالله أو ما يؤدي معناه، و إنما قال «معاذ الله» و كم من الفرق بين قوله هذا و بين قول مريم للروح لما تمثل لها بشرا سويا: «إني أعوذ بالرحمن منك إن كنت تقيا»: مريم: 18.
و أما قوله لها ثانيا: «إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» فإنه يوضح كلمة التوحيد الذي أفاده بقوله: «معاذ الله» و يجليه، يقول: إن الذي أشاهده أن إكرامك مثواي عن قول العزيز لك «أكرمي مثواه» فعل من ربي و إحسان منه إلي فربي أحسن مثواي و إن انتسب إليك ذلك بوجه فهو الذي يجب علي أن أعوذ به و ألوذ إليه، و إنما أعوذ به لأن إجابتك فيما تسألين و ارتكاب هذه المعصية ظلم و لا يفلح الظالمون فلا سبيل إلى ارتكابه.
فقد أفاد (عليه السلام) بقوله: «إنه ربي أحسن مثواي» أولا: أنه موحد لا يرى شرك الوثنية فليس ممن يتخذ أربابا من دون الله كما تقول به الوثنية يتخذون مع الله أربابا أخرى ينسبون إليهم تدبير العالم بل هو يقول بأن الله هو ربه لا رب سواه.
و ثانيا: أنه ليس ممن يوحد الله سبحانه قولا و يشرك به فعلا بإعطاء الاستقلال لهذه الأسباب الظاهرة تؤثر ما تؤثر بإذن الله بل هو يرى ما ينسب من جميل الآثار إلى الأسباب فعلا جميلا لله سبحانه في عين هذا الانتساب فيما تراه امرأة العزيز أنها هي التي أكرمت مثواه عن وصية العزيز و أنها و بعلها ربان له يتوليان أمره يرى هو أن الله سبحانه هو الذي أحسن مثواه و أنه ربه الذي يتولى تدبير أمره فعليه أن يعوذ به.
و ثالثا: أنه إنما تعوذ بالله مما تدعوه إليه لأنه ظلم لا يفلح المتلبس به و لا يهتدي إلى سعادته و لا يتمكن في حضرة الأمن عند ربه كما قال تعالى حكاية عن جده إبراهيم (عليه السلام): «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.
و رابعا: أنه مربوب - أي مملوك مدبر - لله سبحانه ليس له من الأمر شيء، و لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا إلا ما شاء الله له أو أحب أن يأتي به و لذلك لم يرد ما سألته منه بصريح اللفظ بل بالكناية عنه بقوله: «معاذ الله» إلخ فلم يقل: لا أفعل ما تأمريننى به و لم يقل: لا أرتكب كذا، و لم يقل: أعوذ بالله منك، و ما يشابه ذلك حذرا من دعوى الحول و القوة، و إشفاقا من وسمة الشرك و الجهالة اللهم إلا ما في قوله: «إنه ربي أحسن مثواي» حيث أشار فيه إلى نفسه مرتين و ليس فيه إلا تثبيت المربوبية و تأكيد الذلة و الحاجة، و لهذه العلة بعينها بدل الإكرام إحسانا فأتى حذاء قول العزيز: «أكرمي مثواه» بقوله: «أحسن مثواي» لما في الإكرام من الإشعار باحترام الشخصية و تعظيمها.
و بالجملة الواقعة و إن كانت مراجعة و مغالبة بين امرأة العزيز و يوسف (عليه السلام) بحسب ظاهر الحال فهي كانت تنازعا بين حب و هيمان إلهي و عشق و غرام حيواني يتشاجران في يوسف كل منهما يجذبه إلى نفسه، و كانت كلمة الله هي العليا فأخذته الجذبة السماوية الإلهية و دافعت عنه المحبة الإلهية و الله غالب على أمره.
فقوله تعالى: «و راودته التي هو في بيتها عن نفسه» يدل على أصل المراودة، و الإتيان بالوصف أعني كونه في بيتها للدلالة على أن الأوضاع و الأحوال كانت لها عليه و أن الأمر كان عليه شديدا، و كذا قوله: «و غلقت الأبواب» حيث عبر بالتغليق و هو يدل على المبالغة و علق الغلق بالأبواب و هو جمع محلى باللام و كذا قوله: «و قالت هيت لك» حيث عبر بالأمر المولوي الدال على إعمال المولوية و السيادة مع إشعاره بأنها هيأت له من نفسها ما ليس بينه و بين طلبتها إلا مجرد إقبال من يوسف و لا بين يوسف - على ما هيأت من العلل و الشرائط و نظمتها بزعمها و بين الإقبال عليها شيء حائل غير أن الله كان أقرب إلى يوسف من نفسه و من العزيزة امرأة العزيز، و لله سبحانه العزة جميعا.
و قوله: «قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي» إلى آخر الآية جواب ليوسف يقابل به مسألتها بالعياذ بالله يقول: «أعوذ بالله معاذا مما تدعينني إليه لأنه ربي الذي تولى أمري و أحسن مثواي و جعلني بذلك سعيدا مفلحا و لو اقترفت هذا الظلم لتغربت به عن الفلاح و خرجت به من تحت ولايته.
و قد راعى (عليه السلام) في كلامه هذا أدب العبودية كله كما تقدم و قد أتى أولا بلفظة «الجلالة» ثم بصفة الربوبية ليدل به على أنه لا يعبد ربا غير الله ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب.
و احتمل عدة من المفسرين أن يكون الضمير في قوله: «إنه ربي أحسن مثواي» للشأن، و المراد أن ربي و مولاي و هو العزيز - بناء على ظاهر الأمر فقد اشترى يوسف من السيارة - أحسن مثواي حيث أمركم بإكرام مثواي، و لو أجبتك على ما تسألين لكان ذلك خيانة له و ما كنت لأخونه.
و نظير الوجه قول بعضهم: إن الضمير عائد إلى العزيز و هو اسم إن و خبرها قوله: ربي، و قوله: أحسن مثواي، خبر بعد خبر.
و فيه أنه لو كان كذلك لكان الأنسب أن يقال: إنه لا يفلح الخائنون كما قال للرسول و هو في السجن: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين»: الآية - 52 من السورة و لم: يقل إني لم أظلمه بالغيب.
على أنه (عليه السلام) لم يكن ليعد العزيز ربا لنفسه، و هو حر غير مملوك له و إن كان الناس يزعمون ذلك بناء على الظاهر، و قد قال لأحد صاحبيه في السجن: «اذكرني عند ربك»: الآية 42 من السورة، و قال لرسول الملك: «ارجع إلى ربك»: الآية 51 من السورة و لم يعبر عن الملك بلفظ ربي على عادتهم في ذكر الملوك، و قال أيضا لرسول الملك: «اسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم» حيث يأخذ الله سبحانه ربا لنفسه قبال ما يأخذ الملك ربا للرسول.
و يؤيد ما ذكرنا أيضا قوله في الآية التالية: «لو لا أن رءا برهان ربه».
قوله تعالى: «و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» التدبر البالغ في أطراف القصة و إمعان النظر فيما محتف به الجهات و الأسباب و الشرائط العاملة فيها يعطي أن نجاة يوسف منها لم تكن إلا أمرا خارقا للعادة و واقعة هي أشبه بالرؤيا منها باليقظة.
فقد كان يوسف (عليه السلام) رجلا و من غريزة الرجال الميل إلى النساء، و كان شابا بالغا أشده و ذلك أوان غليان الشهوة و ثوران الشبق، و كان ذا جمال بديع يدهش العقول و يسلب الألباب و الجمال و الملاحة يدعو إلى الهوى و الترح، و كان مستغرقا في النعمة و هنيء العيش محبورا بمثوى كريم و ذلك من أقوى أسباب التهوس و الإتراف، و كانت الملكة فتاة فائقة الجمال و كذلك تكون حرم الملوك و العظماء.
و كانت لا محالة متزينة بما يأخذ بمجامع كل قلب، و هي عزيزة مصر و هي عاشقة والهة تتوق إليها النفوس و تتوق نفسها إليه، و كانت لها سوابق الإكرام و الإحسان و الإنعام ليوسف و ذلك كله مما يقطع اللسان و يصمت الإنسان، و قد تعرضت له و دعته إلى نفسها و الصبر مع التعرض أصعب، و قد راودته هذه الفتانة و أتت فيها بما في مقدرتها من الغنج و الدلال، و قد ألحت عليه فجذبته إلى نفسها حتى قدت قميصه و الصبر معها أصعب و أشق، و كانت عزيزة لا يرد أمرها و لا يثنى رأيها، و هي ربته خصه بها العزيز، و كانا في قصر زاه من قصور الملوك ذي المناظر الرائقة التي تبهر العيون و تدعو إلى كل عيش هنيء.
و كانا في خلوة و قد غلقت الأبواب و أرخت الستور، و كان لا يأمن الشر مع الامتناع، و كان في أمن من ظهور الأمر و انهتاك الستر لأنها كانت عزيزة بيدها أسباب الستر و التعمية، و لم تكن هذه المخالطة فائتة لمرة بل كان مفتاحا لعيش هنيء طويل، و كان يمكن ليوسف أن يجعل هذه المخالطة و المعاشقة وسيلة يتوسل بها إلى كثير من آمال الحياة و أمانيها كالملك و العزة و المال.
فهذه أسباب و أمور هائلة لو توجهت إلى جبل لهدته أو أقبلت على صخرة صماء لأذابتها و لم يكن هناك مما يتوهم مانعا إلا الخوف من ظهور الأمر أو مناعة نسب يوسف أو قبح الخيانة للعزيز.
أما الخوف من ظهور الأمر فقد مر أنه كان في أمن منه.
و لو كان بدأ من ذلك شيء لكان في وسع العزيزة أن تؤوله تأويلا كما فعلت فيما ظهر من أمر مراودتها فكادت حتى أرضت نفس العزيز إرضاء فلم يؤاخذها بشيء و قلبت العقوبة ليوسف حتى سجن.
و أما مناعة النسب فلو كانت مانعة لمنعت إخوة يوسف عما هو أعظم من الزنا و أشد إثما فإنهم كانوا أبناء إبراهيم و إسحاق و يعقوب أمثال يوسف فلم تمنعهم.
شرافة النسب من أن يهموا بقتله و يلقوه في غيابت الجب و يبيعوه من السيارة بيع العبيد و يثكلوا فيه أباهم يعقوب النبي (عليه السلام) فبكى حتى ابيضت عيناه.
و أما قبح الخيانة و حرمتها فهو من القوانين الاجتماعية و القوانين الاجتماعية إنما تؤثر أثرها بما تستتبعه من التبعة على تقدير المخالفة، و ذلك إنما يتم فيما إذا كان الإنسان تحت سلطة القوة المجرية و الحكومة العادلة، و أما لو أغفلت القوة المجرية أو فسقت فأهملت أو خفي الجرم عن نظرها أو خرج من سلطانها فلا تأثير حينئذ لشيء من هذه القوانين كما سنتكلم فيه عن قريب.
فلم يكن عند يوسف (عليه السلام) ما يدفع به عن نفسه و يظهر به على هذه الأسباب القوية التي كانت لها عليه إلا أصل التوحيد و هو الإيمان بالله.
و إن شئت فقل المحبة الإلهية التي ملأت وجوده و شغلت قلبه فلم تترك لغيرها محلا و لا موضع إصبع فهذا هو ما يفيده التدبر في القصة.
و لنرجع إلى متن الآية.
فقوله تعالى: «و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء إنه من عبادنا المخلصين» لا ريب أن الآية تشير إلى وجه نجاة يوسف من هذه الغائلة، و السياق يعطي أن المراد بصرف السوء و الفحشاء عنه إنجاؤه مما أريد منه و سئل بالمراودة و الخلوة، و أن المشار إليه بقوله: «كذلك» هو ما يشتمل عليه قوله: «أن رءا برهان ربه».
فيئول معنى قوله: «كذلك لنصرف» إلى آخر الآية إلى أنه (عليه السلام) لما كان من عبادنا المخلصين صرفنا عنه السوء و الفحشاء بما رأى من برهان ربه فرؤية برهان ربه هي السبب الذي صرف الله سبحانه به السوء و الفحشاء عن يوسف (عليه السلام).
و لازم ذلك أن يكون الجزاء المقدر لقوله: «لو لا أن رءا برهان ربه» هو ارتكاب السوء و الفحشاء، و لازم ذلك أن يكون «لو لا أن رءا» إلخ قيدا لقوله: «و هم بها» و ذلك يقتضي أن يكون المراد بهمه بها نظير همها به هو القصد إلى المعصية و يكون حينئذ همه بها داخلا تحت الشرط، و المعنى أنه لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها و أوشك أن يرتكب فإن «لو لا» و إن كانت ملحقة بأدوات الشرط و قد منع النحاة تقدم جزائها عليها قياسا على إن الشرطية إلا أن قوله: «و هم بها» ليس جزاء لها بل هو مقسم به بالعطف على قوله: «و لقد همت به» و هو في معنى الجزاء استغنى به عن ذكر الجزاء فهو كقولنا: و الله لأضربنه إن يضربني و المعنى: و الله إن يضربني أضربه.
و معنى الآية: و الله لقد همت به و الله لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها و أوشك أن يقع في المعصية، و إنما قلنا: أوشك أن يقع، و لم نقل: وقع لأن الهم - كما قيل - لا يستعمل إلا فيما كان مقرونا بالمانع كقوله تعالى: «و هموا بما لم ينالوا»: التوبة: 74، و قوله: «إذ همت طائفتان منكم أن تفشلا»: آل عمران: 122، و قول صخر: أهم بأمر الحزم لا أستطيعه.
و قد حيل بين العير و النزوان.
فلو لا ما رآه من البرهان لكان الواقع هو الهم و الاقتراب دون الارتكاب و الاقتراف، و قد أشار سبحانه إلى ذلك بقوله: «لنصرف عنه السوء و الفحشاء» و لم يقل: لنصرفه من السوء و الفحشاء فتدبر فيه.
و من هنا يظهر أن الأنسب أن يكون المراد بالسوء هو الهم بها و الميل إليها كما أن المراد بالفحشاء اقتراف الفاحشة و هي الزنا فهو (عليه السلام) لم يفعل و لم يكد، و لو لا ما أراه الله من البرهان لهم و كاد أن يفعل، و هذا المعنى هو الذي يؤيده ما قدمناه من الاعتبار و التأمل في الأسباب و العوامل المجتمعة في هذا الحين القاضية لها عليه.
فقوله تعالى: «و لقد همت به» اللام فيه للقسم، و المعنى و أقسم لقد قصدت يوسف بما تريده منه و لا يكون الهم إلا بأن تشفع الإرادة بشيء من العمل.
و قوله: «و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه» معطوف على مدخول لام القسم من الجملة السابقة، و المعنى أقسم لو لا رؤيته برهان ربه لهم بها و كاد أن يجيبها لما تريده منه.
و البرهان هو السلطان و يراد به السبب المفيد لليقين لتسلطه على القلوب كالمعجزة قال تعالى: «فذانك برهانان من ربك إلى فرعون و ملئه»: القصص: 32، و قال: «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم»: النساء: 174، و قال: «أ إله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين»: النمل: 64 و هو الحجة اليقينية التي تجلي الحق و لا تدع ريبا لمرتاب.
و الذي رآه يوسف (عليه السلام) من برهان ربه و إن لم يوضحه كلامه تعالى كل الإيضاح لكنه - على أي حال - كان سببا من أسباب اليقين لا يجامع الجهل و الضلال بتاتا، و يدل على أنه كان من قبيل العلم قول يوسف (عليه السلام) فيما يناجي ربه كما سيأتي: «و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين»: الآية 33 من السورة، و يدل على أنه ليس من العلم المتعارف بحسن الأفعال و قبحها و مصلحتها و مفسدتها إن هذا النوع من العلم قد يجامع الضلال و المعصية و هو ظاهر قال تعالى: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم»: الجاثية: 23 و قال: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14.
فالبرهان الذي أراه به و هو الذي يريه الله عباده المخلصين نوع من العلم المكشوف و اليقين المشهود تطيعه النفس الإنسانية طاعة لا تميل معها إلى معصية أصلا، و سنورد فيه بعض الكلام إن شاء الله تعالى.
و قوله: «كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء» اللام في «لنصرف» للغاية أو التعليل و المآل واحد و «كذلك» متعلق بقوله «لنصرف» و الإشارة إلى ما ذكر من رؤية برهان ربه، و السوء هو الذي يسوء صدوره من العبد بما هو عبد و هو مطلق المعصية أو الهم بها، و الفحشاء هو ارتكاب الأعمال الشنيعة كالزنا، و قد تقدم أن ظاهر السياق انطباق السوء و الفحشاء على الزنا و الهم به.
و المعنى: الغاية - أو السبب - في أن رءا برهان ربه هي أن نصرف عنه الفحشاء و الهم بها.
و من لطيف الإشارة في الآية ما في قوله: «لنصرف عنه السوء و الفحشاء» حيث أخذ السوء و الفحشاء مصروفين عنه لا هو مصروفا عنهما، لما في الثاني من الدلالة على أنه كان فيه ما يقتضي اقترافهما المحوج إلى صرفه عن ذلك، و هو ينافي شهادته تعالى بأنه من عباده المخلصين و هم الذين أخلصهم الله لنفسه فلا يشاركه فيهم شيء فلا يطيعون غيره من تسويل شيطان أو تزيين نفس أو أي داع يدعو من دون الله سبحانه.
و قوله: «إنه من عبادنا المخلصين» في مقام التعليل لقوله: «كذلك لنصرف» «إلخ» و المعنى: عاملنا يوسف كذلك لأنه من عبادنا المخلصين، و هم يعاملون هذه المعاملة.
و يظهر من الآية أن من شأن المخلصين من عباد الله أن يروا برهان ربهم، و إن الله سبحانه يصرف كل سوء و فحشاء عنهم فلا يقترفون معصية و لا يهمون بها بما يريهم الله من برهانه، و هذه هي العصمة الإلهية.
و يظهر أيضا أن هذا البرهان سبب علمي يقيني لكن لا من العلوم المتعارفة المعهودة لنا.
و للمفسرين من العامة و الخاصة في تفسير الآية أقوال مختلفة:
1 منها: ما ذكره بعضهم و نسب إلى ابن عباس و مجاهد و قتادة و عكرمة و الحسن و غيرهم: أن المعنى أنها همت بالفاحشة و أنه هم بمثله لو لا أن رءا برهان ربه لفعل.
و قد وصفوا همه (عليه السلام) بما يجل عنه مقام النبوة و يتنزه عنه ساحة الصديق فذكروا أنه قصدها بالفاحشة و دنا منها حتى حل السراويل و جلس منها مجلس الخاتن فأدركه برهان من ربه أبطل الشهوة و نجاة من الهلكة، و ذكروا في وصف هذا البرهان أمورا كثيرة مختلفة.
قال الغزالي في تفسيره لهذه السورة: اختلفوا فيه - يعني في البرهان - ما هو؟ قال بعضهم: إن طائرا وقع على كتفه فقال في أذنه: لا تفعله فإن فعلت سقطت من درجة الأنبياء.
و قيل: إنه رأى يعقوب عاضا على إصبعه، و هو يقول: يا يوسف أ ما تراني: و قال الحسن البصري: رآها و هي تغطي شيئا فقال لها: ما تصنعين؟ قالت: أغطي وجه صنمي لئلا يراني فقال يوسف: أنت تستحيين الجماد الذي لا يعقل و لا يرى فأنا أولى أن أستحيي ممن يراني و يعلم سري و علانيتي.
قال أرباب اللسان: إنه نودي في سره يا يوسف اسمك مكتوب في ديوان الأنبياء، و تريد أن تفعل فعل السفهاء.
و قيل: رأى كفا قد خرج من الحائط مكتوب عليها: و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا.
و قيل: انفرج سقف البيت فرأى صورة حسنة تقول: يا رسول العصمة لا تفعل فإنك معصوم.
و قيل: نكس رأسه فرأى على الأرض مكتوبا: و من يعمل سوءا يجز به.
و قيل: أتاه ملك و مسح جناحيه على ظهره فخرجت شهوته من أصابع رجليه.
و قيل: رأى الملك في البيت و هو يقول: أ لست هاهنا؟ و قيل: وقع بينهما حجاب فلا يرى أحد صاحبه.
و قيل: رأى جارية من جواري الجنة فتحير من حسنها فقال لها: لمن أنت؟ قالت: لمن لا يزني.
و قيل: جاز عليه طائر فناداه: يا يوسف لا تعجل فإنها لك حلال و لك خلقت.
و قيل: رأى ذلك الجب الذي كان بحذائه و عليه ملك قائم يقول يا يوسف أ نسيت هذا الجب.
و قيل: رأى زليخا على صورة قبيحة فهرب منها.
و قيل رأى شخصا فقال: يا يوسف انظر إلى يمينك فنظر فرأى ثعبانا أعظم ما يكون فقال: الزاني في بطني غدا فهرب منه.
انتهى.
و مما قيل فيه أنه تمثل له يعقوب فضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من أطراف أنامله رواه في الدر المنثور، عن مجاهد و عكرمة و ابن جبير إلى غير ذلك من الوجوه المختلفة التي أوردها في التفسير بالمأثور.
و الجواب عنه مضافا إلى أنه (عليه السلام) كان نبيا ذا عصمة إلهية تحفظه من المعصية، و قد تقدم إثبات ذلك، أن الذي أورده الله تعالى من كرائم صفاته و إخلاص عبوديته لا يبقى شكا في أنه أطهر ساحة و أرفع منزلة من أن ينسب إليه أمثال هذه الألواث فقد ذكر تعالى أنه من عباده الذين أخلصهم لنفسه و اجتباهم لعبوديته و آتاهم حكما و علما، و علمه من تأويل الأحاديث، و أنه كان عبدا متقيا صبورا في الله غير خائن و لا ظالم و لا جاهل، و كان من المحسنين و قد ألحقه بآبائه الصالحين إبراهيم و إسحاق و يعقوب.
و كيف يستقيم هذه المقامات العالية و الدرجات الرفيعة إلا لإنسان طاهر في وجدانه منزه في أركانه صالح في أعماله مستقيم في أحواله.
و أما من ذهب لوجهه في معصية الله و هم بما هو من أفحش الإثم في دين الله و هو زنا ذات البعل و خيانة من أحسن إليه أبلغ الإحسان في عرضه و أصر عليه حتى حل التكة و جلس منها مجلس الرجل من المرأة فأتته لصرفه آية بعد آية فلم ينصرف، و ازدجر بنداء بعد نداء من كل جانب فلم يستحي و لم يكف حتى ضرب في صدره ضربة خرجت بها شهوته من رءوس أصابعه، و شاهد ثعبانا أعظم ما يكون من عن يمينه فذعر منه و هرب من هول ما رأى، فمثله أحرى به أن لا يسمى إنسانا فضلا أن يتكىء على أريكة النبوة و الرسالة، و يأتمنه الله على وحيه، و يسلم إليه مفاتيح دينه، و يؤتيه حكمه و علمه و يلحقه بمثل إبراهيم الخليل.
لكن هؤلاء المتعلقين بهذه الأقاويل المختلفة و الإسرائيليات و الآثار الموضوعة إذ يتهمون جده إبراهيم (عليه السلام) في زوجته سارة لا يبالون أن يتهموا نجله (عليه السلام) في زوجة غيره.
قال في الكشاف،: و قد فسر هم يوسف بأنه حل الهميان و جلس منها مجلس المجامع، و بأنه حل تكة سراويله و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها و فسر البرهان بأنه سمع صوتا إياك و إياها فلم يكترث له فسمعه ثانيا فلم يعمل به فسمع ثالثا: أعرض عنها فلم ينجع فيه حتى مثل له يعقوب عاضا على أنملته، و قيل ضرب بيده في صدره فخرجت شهوته من أنامله.
و قيل: كل ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلا يوسف فإنه ولد له أحد عشر ولدا من أجل ما نقص من شهوته حين هم، و قيل.
صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له، و قيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم مكتوب فيها: «و إن عليكم لحافظين كراما كاتبين» فلم ينصرف ثم رأى فيها: «و لا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة و ساء سبيلا» فلم ينته ثم رأى فيها: «و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله» فلم ينجع فيه فقال الله لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة فانحط جبريل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان الأنبياء؟.
و قيل: رأى تمثال العزيز، و قيل: قامت المرأة إلى صنم كان هناك فسترته و قالت: أستحيي منه أن يرانا فقال يوسف: استحييت ممن لا يسمع و لا يبصر و لا أستحيي من السميع البصير العليم بذات الصدور؟.
و هذا و نحوه مما يورده أهل الحشو و الجبر الذين دينهم بهت الله تعالى و أنبيائه، و أهل العدل و التوحيد ليسوا من مقالاتهم و رواياتهم بحمد الله بسبيل.
و لو وجدت من يوسف (عليه السلام) أدنى زلة لنعيت عليه و ذكرت توبته و استغفاره كما نعيت على آدم زلته، و على داود و على نوح و على أيوب و على ذي النون و ذكرت توبتهم و استغفارهم كيف و قد أثنى عليه و سمي مخلصا؟.
فعلم بالقطع أنه ثبت في ذلك المقام الدحض و أنه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوة و العزم ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح حتى استحق من الله الثناء فيما أنزل من كتب الأولين ثم في القرآن الذي هو حجة على سائر كتبه و مصدق لها، و لم يقتصر إلا على استيفاء قصته، و ضرب سورة كاملة عليها ليجعل له لسان صدق في الآخرين كما جعله لجده الخليل إبراهيم (عليه السلام).
و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفة و طيب الإزار و التثبت في مواقع العثار.
فأخزى الله أولئك في إيرادهم ما يؤدي إلى أن يكون إنزال الله السورة التي هي أحسن القصص في القرآن العربي المبين ليقتدى بنبي من أنبياء الله في القعود بين شعب الزانية و في حل تكته للوقوع عليها، و في أن ينهاه ربه ثلاث مرات، و يصاح به من عنده ثلاث صيحات بقوارع القرآن و بالتوبيخ العظيم و بالوعيد الشديد و بالتشبيه بالطائر الذي سقط ريشه حين سفد غير أنثاه و هو جاثم في مربضه لا يتحلحل و لا ينتهي و لا يتنبه حتى يتداركه الله بجبريل و بإجباره، و لو أن أوقح الزناة و أشطرهم و أحدهم حدقة أجلحهم وجها لقي بأدنى ما لقي به مما ذكروا لما بقي له عرق ينبض و لا عضو يتحرك فيا له من مذهب ما أفحشه و من ضلال ما أبينه.
انتهى.
و ما أحسن ما قال بعض أهل التفسير في ذم أصحاب هذا القول إنهم يتهمونه (عليه السلام) في هذه الواقعة و قد شهد ببراءته و طهارته كل من لها تعلق ما بها فالله سبحانه يشهد بذلك إذ يقول: «إنه من عبادنا المخلصين» و الشاهد الذي شهد له من أهلها إذ قال: «إن كان قميصه قد من قبل» إلى آخر الآيتين، و العزيز إذ قال لامرأته.
«إنه من كيدكن» و امرأة العزيز إذ قالت: «الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» و النسوة إذ قلن: «حاش لله ما علمنا عليه من سوء» و يوسف ينفي ذلك عن نفسه و قد سماه الله صديقا إذ قال: «إني لم أخنه بالغيب».
و عمدة السبب في تعاطيهم هذا القول أمران: أحدهما: إفراطهم في الركون إلى الآثار و قبول الحديث كيفما كان و إن خالف صريح العقل و محكم الكتاب فلعبت بأحلامهم الإسرائيليات و ما يلحق بها من الأخبار الموضوعة المدسوسة، و أنستهم كل حق و حقيقة و صرفتهم عن المعارف الحقيقية.
و لذلك تراهم لا يرون لمعارف الدين محتدا وراء الحس، و لا للمقامات المعنوية الإنسانية كالنبوة و الولاية و العصمة و الإخلاص أصلا إلا الوضع و الاعتبار نظائر المقامات الوهمية الاعتبارية الدائرة في مجتمع الإنسان الاعتباري التي ليست لها وراء التسمية و المواضعة حقيقة تتكىء عليها و تطمئن إليها.
فيقيسون نفوس الأنبياء الكرام على سائر النفوس العامية التي تنقلب بين الأهواء و بلغت بها الجهالة و الخساسة فإن ارتقت فإنما ترتقي إلى منزلة التقوى و رجاء الثواب و خوف العقاب تصيب كثيرا و تخطىء و إن لحقت بها عصمة إلهية في مورد أو موارد فإنما هي قوة حاجزة بين الإنسان و المعصية لا تعمل عملها إلا بإبطال سائر الأسباب و القوى التي جهز بها الإنسان و إلجاء الإنسان و اضطراره إلى فعل الجميل و اقتراف الحسنة، و لا جمال لفعل و لا حسن لعمل و لا مدح لإنسان مع الإلجاء و الاضطرار و للكلام تتمة سنوردها في بحث يختص به.
الثاني: ظاهر قوله تعالى: «و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه» بناء على ما ذكره النحاة أن جزاء «لو لا» لا يتقدم عليها قياسا على إن الشرطية، و على هذا يصير قوله «و هم بها» جملة تامة غير متعلقه بالشرط، و جواب لو لا قولنا «لفعل» أو ما يشبه ذلك و التقدير: و لقد همت امرأة العزيز بيوسف و هم يوسف بها لو لا أن رءا برهان ربه لفعل، و هو المطلوب.
و قد عرفت فساد ذلك و إن الجملتين معا أعني قوله: «و لقد همت به» و قوله: «و هم بها» قسميتان، و إن جزاء لو لا في معنى الجملة الثانية حذف لدلالتها عليه، و الكلام على تقدير: و أقسم لقد همت به و أقسم لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها نظير قولهم: و الله لأضربنه إن ضربني.
على أن الذي قدروه من المعنى كان الأنسب به أن يقال: «و لو لا أن رءا برهان ربه» بالوصل، و لا وجه ظاهرا من جهة السياق يوجه به الفصل.
2 - و من الأقوال في الآية أن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و انتزاع الغريزة قال في الكشاف،: فإن قلت كيف جاز على نبي الله أن يكون منه هم بالمعصية و قصد إليها؟ قلت: المراد أن نفسه مالت إلى المخالطة و نازعت إليها عن شهوة الشباب و قرمه ميلا يشبه الهم به و القصد إليه و كما تقتضيه صورة تلك الحال التي تكاد تذهب بالعقول و العزائم، و هو يكسر ما به و يرده بالنظر إلى برهان الله المأخوذ على المكلفين من وجوب اجتناب المحارم.
و لو لم يكن ذلك الميل الشديد المسمى هما لشدته لما كان صاحبه ممدوحا عند الله بالامتناع لأن استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدته، و لو كان همه كهمها عن عزيمة لما مدحه الله بأنه من عباده المخلصين.
و يجوز أن يريد بقوله: «و هم بها» و شارف أن يهم بها كما يقول الرجل: قتلته لو لم أخف الله، يريد مشارفة القتل و مشافهته كأنه شرع فيه.
ثم قال: فإن قلت: لم جعلت جواب لو لا محذوفا يدل عليه هم بها، و هلا جعلته هو الجواب مقدما.
قلت: لأن لو لا لا يتقدم عليها جوابها من قبل أنه في حكم الشرط، و للشرط صدر الكلام و هو مع ما في حيزه من الجملتين مثل كلمة واحدة، و لا يجوز تقديم بعض الكلمة على بعض، و أما حذف بعضها إذا دل الدليل عليه فجائز.
فإن قلت: فلم جعلت لو لا متعلقة بهم بها وحده؟ و لم تجعلها متعلقة بجملة قوله: «و لقد همت به و هم بها» لأن الهم لا يتعلق بالجواهر و لكن بالمعاني فلا بد من تقدير المخالطة و المخالطة لا تكون إلا باثنين معا فكأنه قيل: و لقد هما بالمخالطة لو لا أن منع مانع أحدهما.
قلت: نعم ما قلت و لكن الله سبحانه قد جاء بالهمين على سبيل التفصيل حيث قال: «و لقد همت به و هم بها» فكان إغفاله إلغاء له فوجب أن يكون التقدير: و لقد همت بمخالطته و هم بمخالطتها، على أن المراد بالمخالطتين توصلها إلى ما هو حظها من قضاء شهوتها منه، و توصله إلى ما هو حظه من قضاء شهوته منها لو لا أن رءا برهان ربه فترك التوصل إلى حظه من الشهوة فلذلك كانت «لو لا» حقيقة بأن تعلق بهم بها وحده انتهى.
و لخصه البيضاوي في تفسيره، حيث قال: المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة لا القصد الاختياري و ذلك مما لا يدخل تحت التكليف بل الحقيق بالمدح و الأجر الجزيل من الله من يكف نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهم أو مشارفة الهم كقولك: قتلته لو لم أخف الله.
انتهى.
و رد هذا القول بأنه مخالف لما ثبت في اللغة من معنى الهم و هو القصد إلى الفعل مع مقارنته ببعض الأعمال الكاشفة عن ذلك من حركة إلى الفعل المراد أو شروع في بعض مقدماته كمن يريد ضرب رجل فيقوم إليه و أما مجرد ميل الطبع و منازعة القوة الشهوانية فليس يسمى هما البتة و الهم بمعناه اللغوي مذموم لا ينبغي صدوره من نبي كريم، و الطبع و إن كان غير مذموم لخروجه عن تحت التكليف لكنه لا يسمى هما.
أقول: هذا إنما يصلح جوابا لقولهم: إن المراد بهمه (عليه السلام) ميل الطبع و منازعة الشهوة، و أما تجويزه أن يكون المراد بالهم الإشراف على الهم فلا، بل هو قول على حدة في معنى الآية و هو أن يفرق بين الهمين المذكورين فالمراد بهمها القصد العمدي إلى المخالطة و بهمه إشرافه (عليه السلام) على الهم بها من دون تحقق للهم بالفعل و القرينة عليه هو وصفه تعالى إياه بما فيه مدح بالغ، و لو كان همه حقيقيا بالقصد العمدي إلى مخالطتها كان فعلا مذموما لا يتعلق به مدح أصلا فمن هنا يعلم أن المراد بهمه (عليه السلام) إشرافه على الهم لا الهم بالفعل.
و الجواب: أنه معنى مجازي لا يصار إليه إلا مع عدم إمكان الحمل على المعنى الحقيقي، و قد تقدم أنه بمكان من الإمكان.
على أن الذي ذكروه في معنى رؤيته برهان ربه و أن المراد بها الرجوع إلى الحجة العقلية القاضية بوجوب الانتهاء عن النواهي الشرعية و المحارم الإلهية معنى بعيد من اللفظ إذ الرؤية لا تستعمل إلا في الإبصار الحسي أو المشاهدة القلبية التي هي بمنزلتها أو أظهر منها، و أما مجرد التفكر العقلي فلا يسمى رؤية البتة.
3 - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهمين مختلف فهمها هو قصدها مخالطته و همه بها هو قصده أن يضربها للدفاع عن نفسه، و الدليل على التفرقة بين الهمين شهادته تعالى على أنه من عباده المخلصين و قيام الحجة عقلا على عصمة الأنبياء (عليهم السلام).
قال في مجمع البيان،: إن الهم في ظاهر الآية قد تعلق بما لا يصح تعلق العزم به على الحقيقة لأنه قال: «و لقد همت به و هم بها» فعلق الهم بهما و ذاتاهما لا يجوز أن يراد و يعزم عليهما لأن الموجود الباقي لا يصح أن يراد و يعزم عليه فإذا حملنا الهم في الآية على العزم فلا بد من تقدير أمر محذوف يتعلق العزم به.
و قد أمكن أن نعلق عزمه بغير القبيح، و نجعله متناولا لضربها أو دفعها عن نفسه فكأنه قال: و لقد همت بالفاحشة منه و أرادت ذلك و هم يوسف بضربها و دفعها عن نفسه كما يقال هممت بفلان أي بضربه و إيقاع مكروه به.
و على هذا فيكون معنى رؤية البرهان أن الله سبحانه أراه برهانا على أنه إن أقدم على ما هم به أهلكه أهلها أو قتلوه أو ادعت عليه المراودة على القبيح و قذفته بأنه دعاها إليه و ضربها لامتناعها منه، فأخبر سبحانه أنه صرف عنه السوء و الفحشاء اللذين هما القتل و ظن اقتراف الفاحشة به، و يكون التقدير: لو لا أن رءا برهان ربه لفعل ذلك، و يكون جواب لو لا محذوفا كما حذف في قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته و إن الله رءوف رحيم» انتهى موضع الحاجة.
و الجواب: أنه قول لا بأس به لكنه مبني على التفرقة بين الهمين و هو خلاف الظاهر لا يصار إليه إلا إذا لم يمكن حملهما على معنى واحد و قد عرفت إمكان ذلك.
على أن لازمه أن يكون المراد بالبرهان الذي رآه ما يدل على أنه إن ضربها استتبع ذلك هلاكه أو مصيبة أخرى تصيبه و يكون المراد بالسوء و الفحشاء القتل و التهمة - كما أشار إليه في المجمع، - و هذا خلاف ما يستفاد من السياق قطعا.
و أما ما ذكره في المجمع، من عدم جواز إرادة العزم على المخالطة من الهمين معا، و محصله أن الهم إنما يتعلق بمن لا ينقاد للعازم الهام فيما يريده، و إذا فرض تحقق الهم من أحد الطرفين لم يصح تحققه مع ذلك من الطرف الآخر إذ لا معنى لتعلق الإرادة بالمريد و الطلب من الطالب و بعث من هو مبعوث بالفعل.
ففيه أنه لا مانع من تحقق الهم من الطرفين إذا فرض تحققهما دفعة واحدة من دون سبق و لحوق أو قارن ذلك عناية زائدة كإنسانين يريدان الاقتراب و الاجتماع فربما يثبت أحدهما و يتحرك إليه الآخر، و ربما يتحركان و يقتربان و يتدليان معا و جسمين يريدان الانجذاب و الاتصال فربما يجذب أحدهما و ينجذب إليه الآخر و ربما يتجاذبان و يتدانيان.
4 - و من الأقوال في الآية: أن المراد بالهم في الموردين معا الهم بالضرب و الدفاع فهي لما راودته و ردها بالامتناع و الاستنكاف ثارت منها داعية الغضب و الانتقام و هاج في باطنها الوجد الممزوج بالسخط و الأسف فهمت به لتضربه على تمرده من امتثال ما أمرته به، و هو لما شاهد ذلك استعد للدفاع عن نفسه و ضربها إن مستها بسوء غير أن ضربه إياها و مقاومته لدفعها لما كان ربما يتهمه في أنه راودها عن نفسه و دعاها إلى الفحشاء أراه الله سبحانه بفضله برهانا فهم منه ذلك و ألهم أن يختار للدفاع عن نفسه سبيل الفرار فقصد باب البيت ليفتحه و يخرج من عندها فعقبته فاستبقا الباب.
و لا مساغ لحمل الهم على الهم بالمخالطة أما في قوله: «و لقد همت به» فلان الهم لا يكون إلا بفعل للهام، و الوقاع ليس من أفعال المرأة فتهم به، و إنما نصيبها منه قبولها لمن يطلبه منها بتمكينه منه.
هذا أولا.
على أن يوسف لم يطلب من امرأة العزيز هذا الفعل فيسمى قبولها لطلبه و رضاها بتمكينه منه هما لها فإن نصوص الآيات قبل هذه الآية و بعدها تبرئة من ذلك بل من وسائله و مقدماته أيضا.
و هذا ثانيا.
على أن ذلك لو وقع لكان الواجب في التعبير عنه أن يقال: و لقد هم بها و همت به لأن الأول هو المقدم في الطبع و الوضع و هو الهم الحقيقي، و الهم الثاني متوقف عليه لا يتحقق بدونه.
و هذا ثالثا.
على أنه قد علم من القصة أن هذه المرأة كانت عازمة على ما طلبته طلبا جازما مصرة عليه ليس عندها أدنى تردد فيه و لا مانع منه يعارض المقتضي له، فإذن لا يصح أن يقال: إنها همت به مطلقا حتى لو فرض جدلا أنه كان قبولا لطلبه و مواتاة له إذ الهم مقاربة الفعل المتردد فيه، و أما الهم بمعنى قصدها له بالضرب تأديبا فيصح ذلك فيه بأهون تقدير.
و هذا رابعا.
انتهى ملخصا مما أورده صاحب المنار في تفسيره،.
و الجواب: أنه يشارك القول السابق في معنى همه بها فيرد عليه ما أوردناه على سابقه، و أما ما يختص به أن المراد بهمها به قصدها إياه بضرب و نحوه فمما لا دليل عليه أصلا، و أما مجرد اتفاق ذلك في بعض نظائر القصة فليس يوجب حمل الكلام عليه من غير قرينة تدل على ذلك.
و أما ما ذكره في استبعاد أن يراد من قوله: «و لقد همت به» الهم على المخالطة أو عدم صحته فوجوه سخيفة جدا فإن من المعلوم أن هذه المخالطة تتألف عادة من حركات و سكنات شأن المرأة فيها الفعل دون الانفعال و العمل دون القبول فلو همت به بضم أو ما يناظره ليلتهب بذلك ما خمدت من نار غريزته الكامنة، و تلجئه إلى إجابتها فيما تريده منه صح أن يقال: إنها همت به أي بمخالطته و ليس من الواجب أن يفسر همها به بقصدها خصوص ما هي قابلة له حتى لا يصح به إطلاق الهم عليه.
و أما ما ذكره أخيرا أنها كانت جازمة غير مترددة فلا يصح أن يراد بهمها الهم على ما تريده من المخالطة ففيه أنها إنما كانت جازمة في إرادتها منه و عزيمتها عليه، و أما في تحقق الفعل و وقوعه على ما قدرته فلا كيف؟ و قد شاهدت من يوسف الامتناع و الإباء عن مراودتها، و إنما همت به لما قابلها بالاستنكاف و لا جزم لها مع ذلك بإجابته لها و مطاوعته لما أرادته منه و هو ظاهر.
5 - و من الأقوال في الآية: حمل الكلام على التقديم و التأخير و يكون التقدير: و لقد همت به و لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها، و لما رءا برهان ربه لم يهم بها، و يجري ذلك مجرى قولهم: قد كنت هلكت لو لا أني تداركتك، و قد كنت قتلت لو لا أني خلصتك، و المعنى: لو لا تداركي لهلكت - و لو لا تخليصي لقتلت و إن كان لم يقع هلاك و قتل، و مثله قول الشاعر: فلا تدعني قومي ليوم كريهة.
لئن لم أعجل ضربة أو أعجل.
و في القرآن الكريم: «إن كادت لتبدي به لو لا أن ربطنا على قلبها» نسبه في المجمع، إلى أبي مسلم المفسر.
و الجواب: أنه إن كان المراد به ما ربما يقوله المفسرون: إن في القرآن تقديما و تأخيرا فإنما ذلك فيما يكون هناك جمل متعددة بعضها متقدمة على بعضها بالطبع فأهمل النظم و اكتفى بمجرد العد من غير ترتيب لعناية تعلقت به كما قيل في قوله تعالى: «و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب»: هود: 71 إنه من التقديم و التأخير، و إن التقدير: فبشرناها فضحكت و أما قوله: «و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه» فالمعنى يختلف فيه بالتقديم و التأخير فهو إذا قدم كان هما مطلقا من غير تقييد لعدم جواز كونه جوابا للو لا مقدما عليها على ما ذكروه، و إذا أخر كان هما مقيدا بالشرط.
و إن كان المراد أنه جواب للو لا مقدم عليها فالنحاة لا يجوزونه قياسا على إن الشرطية و يؤولون ما سمع من ذلك اللهم إلا أن يكون ذلك خلافا منه لهم لعدم الدليل على هذا القياس، و لا موجب لتأويل ما ورد في الكلام مما ظاهره ذلك.
6 - و من الأقوال في الآية: ما ذكروا أنها أول ما همت به في منامها و هم بها لأنه رآها في منامه فعند ذلك علم أنها له فلذلك هم بها.
أورده الغزالي في تفسيره، قال: و هذا وجه حسن لأن الأنبياء كانوا معصومين لا يقصدون المعاصي.
انتهى.
و الجواب أنه إن أريد به أن قوله: «و هم بها» حكاية ما رآه يوسف (عليه السلام) في المنام فهو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و إن أريد به أنه (عليه السلام) رآها في المنام و هم بها فيه، و اعتقد من هناك أنها له و خاصة بناء على أن رؤيا الأنبياء وحي، ثم هم بها في اليقظة في مجلس المراودة بالمضي على اعتقاده فيها فأدركته رؤية برهان من ربه يبين له أنه قد أخطأ في زعمه ففيه إثبات خطإ الأنبياء في تلقي الوحي، و ليس ذلك بأقل محذورا من تجويز إقدامهم على المعاصي.
على أن الآية السابقة - و قد عد فيها المخالطة ظلما لا يفلح صاحبه و استعاذ بالله منه - تناقض ذلك فكيف يزعم أنها له و هو يعده ظلما و يستعيذ منه بالله سبحانه؟.
فهذه عمدة الأقوال في الآية و هي مع ما قدمناه أولا ترتقي إلى سبعة أو ثمانية، و قد علمت أن معنى رؤية البرهان يختلف بحسب اختلاف الأقوال فمن قائل إنه سبب يقيني شاهده يوسف (عليه السلام)، و من قائل إنه الآيات و الأمور التي ظهرت له فردعته عن اقتراف الخطيئة، و من قائل إنه العلم بحرمة الزنا و عذابه، و من قائل إنه ملكة العفة، و من قائل إنه العصمة و الطهارة و قد عرفت ما هو الحق منها و سنعود إليه في كلام خاص به بعد تمام البحث عن الآيات إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و استبقا الباب و قدت قميصه من دبر» الاستباق هو التسابق و قد تقدم، و القد القط هو الشق إلا أن القد هو الشق طولا و القط هو الشق عرضا، و الدبر و القبل كالخلف و الأمام.
و السياق يعطي أن استباقها كان لغرضين مختلفين فكان يوسف (عليه السلام) يريد أن يفتحه و يتخلص منها بالخروج من البيت، و امرأة العزيز كانت تريد أن تسبقه إليه فتمنعه من الفتح و الخروج لعلها تفوز بما تريده منه، و إن يوسف سبقها إلى الباب فاجتذبته من قميصه من الوراء فقدته و لم ينقد إلا لأنه كان في حال الهرب مبتعدا منها و إلا لم ينشق طولا.
و قوله: «و ألفيا سيدها لدى الباب» الإلفاء الوجدان يقال: ألفيته كذا أي وجدت و المراد بسيدها زوجها.
قيل: إنه جري على عرف مصر و قد كانت النساء بمصر يلقبن زوجهن بالسيد، و هو مستمر إلى هذا الزمان.
قوله تعالى: «قالت ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» لما ألفيا سيدها لدى الباب انقلب مجلس المراودة إلى موقف التحقيق، و إنما أوجد هذا الموقف وجود العزيز لدى الباب و حضورهما و الهيئة هذه الهيئة عنده، و يتكفل ما جرى في هذا الموقف قوله: «و ألفيا سيدها لدى الباب» إلى تمام خمس آيات.
فبدأت امرأة العزيز تشكو يوسف إليه و تسأله أن يجازيه فذكرت أنه أراد بها سوءا و عليه أن يسجنه أو يعذبه عذابا أليما لكنها لم تصرح بذلك و لا بشيء من أطراف الواقعة بل كنت و أتت بحكم عام عقلائي يتضمن مجازاة من قصد ذوات البعل بالفحشاء فقالت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم» فلم يصرح باسم يوسف و هو المريد، و لا باسم نفسها و هي الأهل، و لا باسم السوء و هو الزنا بذات البعل كل ذلك تأدبا في حضرة العزيز و تقديسا لساحته.
و لم يتعين الجزاء بل رددته بين السجن و العذاب الأليم لأن قلبها الواله إليه المليء بحبه ما كان يساعدها على التعيين فإن في الإبهام نوعا من الفرج إلا أن في تعبيرها بقولها: «بأهلك» نوعا من التحريض عليه و تهييجه على مؤاخذته و لم يكن ذلك إلا كيدا منها للعزيز بالتظاهر بالوجد و الأسى لئلا يتفطن بواقع الأمر فيؤاخذها أما إذا صرفته عن نفسها المجرمة فإن صرفه عن مؤاخذة يوسف (عليه السلام) لم يكن صعبا عليها تلك الصعوبة.
قوله تعالى: «قال هي راودتني عن نفسي» لم يبدأ يوسف (عليه السلام) بالقول أدبا مع العزيز و صونا لها أن يرميها بالجرم لكن لما اتهمته بقصدها بالسوء لم ير بدا دون أن يصرح بالحق فقال: «هي راودتني عن نفسي» و في الكلام دلالة على القصر و هي من قصر القلب أي لم أردها بالسوء بل هي التي أرادت ذلك فراودتني عن نفسي.
و في كلامه هذا - و هو خال عن أقسام التأكيد كالقسم و نحوه - دلالة على سكون نفسه (عليه السلام) و طمأنينته و أنه لم يحتشم و لم يجزع و لم يتملق حين دعوى براءته مما رمته به إذ كان لم يأت بسوء و لا يخافها و لا ما اتهمته و قد استعاذ بربه حين قال: «معاذ الله».
قوله تعالى: «و شهد شاهد من أهلها إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين» إلى آخر الآيتين.
لما كانت الشهادة في معنى القول كان قوله: «إن كان قميصه» «إلخ» بمنزلة مقول القول بالنسبة إليه فلا حاجة إلى تقدير القول قبل قوله: «إن كان قميصه» «إلخ»، و قد قيل: إن هذا القول لما أدى مؤدى الشهادة عبر عنه بلفظ الشهادة.
و قد أشار هذا الشاهد إلى دليل ينحل به العقدة و يتضح طريق القضية فتكلم فقال: «إن كان قميصه قد من قبل فصدقت و هو من الكاذبين» فإن من البين أن أحدهما صادق في دعواه و الآخر كاذب، و كون القد من قبل يدل على منازعتهما و مصارعتهما بالمواجهة فالقضاء لها عليه، و إن كان قميصه قد من دبر فكذبت و هو من الصادقين فإن كون القد من دبر يدل على هربه منها و تعقيبها إياه و اجتذابها له إلى نفسها فالقضاء له عليها.
و هو ظاهر.
و أما من هذا الشاهد؟ فقد اختلف فيه المفسرون فقال بعضهم: كان رجلا حكيما أشار للعزيز بما أشار كما عن الحسن و قتادة و عكرمة، و قيل: كان رجلا و هو ابن عم المرأة و كان جالسا مع زوجها لدى الباب، و قيل: لم يكن من الإنس و لا الجن بل خلقا من خلق الله كما عن مجاهد، و رد بمنافاته الصريحة لقوله تعالى: «من أهلها».
و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و بعض طرق أهل السنة أنه كان صبيا في المهد من أهلها، و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و الذي ينبغي أن ينظر فيه أن الذي أتى به هذا الشاهد بيان عقلي و دليل فكري يؤدي إلى نتيجة هي القاضية لأحد هذين المتداعيين على الآخر، و مثل هذا لا يسمى شهادة عرفا فإنها هي البيان المتعمد على الحس أو ما في حكمه و بالجملة القول الذي لا يعتمد على التفكير و التعقل كما في قوله: «شهد عليهم سمعهم و أبصارهم و جلودهم»: حم السجدة: 20، و قوله: «قالوا نشهد إنك لرسول الله»: المنافقون: 1 فإن الحكم بصدق الرسالة و إن كان في نفسه مستندا إلى التفكر و التعقل لكن المراد بالشهادة تأدية ما عنده من الحق المعلوم قطعا من غير ملاحظة كونه عن تفكر و تعقل كما في موارد يعبر عنه فيها بالقول و نحوه.
فليس من البعيد أن يكون في التعبير عن قول هذا القائل بمثل «و شهد شاهد» إشارة إلى كون ذلك كلاما صدر عنه من غير ترو و فكر فيكون شهادة لعدم اعتماده على تفكر و تعقل لا قولا يعبر به عرفا عن البيان الذي يبتني على ترو و تفكر، و بهذا يتأيد ما ورد من الرواية أنه كان صبيا في المهد فقد كان ذلك بنوع من الإعجاز أيد الله سبحانه به قول يوسف (عليه السلام).
قوله تعالى: «فلما رءا قميصه قد من دبر قال إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم» أي فلما رأى العزيز قميص يوسف و الحال أنه مقدود مشقوق من خلف، قال إن الأمر من كيدكن معاشر النساء إن كيدكن عظيم فمرجع الضمائر معلوم من السياق.
و نسبة الكيد إلى جماعة النساء مع كونه من امرأته للدلالة على أنه إنما صدر منها بما أنها من النساء، و كيدهن معهود معروف، و لذا استعظمه و قال ثانيا: «إن كيدكن عظيم» و ذلك أن الرجال أوتوا من الميل و الانجذاب إليهن ما ليس يخفى و أوتين من أسباب الاستمالة و الجلب ما في وسعهن أن يأخذن بمجامع قلوب الرجال و يسخرن أرواحهم بجلوات فتانة و أطوار سحارة تسلب أحلامهم، و تصرفهم إلى إرادتهن من حيث لا يشعرون و هو الكيد و إرادة الإنسان بالسوء و مفاد الآية أن العزيز لما شاهد أن قميصه مقدود من خلف قضى ليوسف (عليه السلام) على امرأته.
قوله تعالى: «يوسف أعرض عن هذا و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين» من مقول قول العزيز أي إنه بعد ما قضى له عليها أمر يوسف أن يعرض عن الأمر و أمر امرأته أن تستغفر لذنبها و من خطيئتها.
فقوله: «يوسف أعرض عن هذا» يشير إلى ما وقع من الأمر و يعزم على يوسف أن يعرض عنه و يفرضه كأن لم يكن فلا يحدث به و لا يذيعه، و لم يرد في كلامه تعالى ما يدل على أن يوسف (عليه السلام) حدث به أحدا و هو الظن به (عليه السلام) كما نرى أنه لم يظهر حديث المراودة للعزيز حتى اتهمته بسوء القصد فذكر الحق عند ذلك لكن كيف يخفى حديث استمر عهدا ليس بالقصير، و قد استولى عليها الوله و سلب منها الغرام كل حلم و حزم، و لم تكن المراودة مرة أو مرتين و الدليل على ذلك ما سيأتي من قول النسوة: «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا».
و قوله: «و استغفري لذنبك إنك كنت من الخاطئين» يقرر لها الذنب و يأمرها أن تستغفر ربها لذلك الذنب لأنها كانت بذلك من أهل الخطيئة، و لذلك قيل: «من الخاطئين» و لم يقل من الخاطئات.
و هذا كله من كلام العزيز على ما يعطيه السياق لا من كلام الشاهد لأنه قضاء و حكم و القضاء للعزيز لا للشاهد.
و من الخطإ قول بعضهم: إن معنى «و استغفري لذنبك» سلي زوجك أن لا يعاقبك على ذنبك انتهى.
بناء على أن الجملة من كلام الشاهد لا من كلام العزيز و كذا قول آخر: معناه: استغفري الله من ذنبك و توبي إليه فإن الذنب كان منك لا من يوسف فإنهم كانوا يعبدون الله تعالى مع عبادة الأصنام.
انتهى.
و ذلك أن الوثنيين يقرون بالله سبحانه في خالقيته لكنهم لا يعبدون إلا الآلهة و الأرباب من دون الله سبحانه - و قد تقدم الكلام في ذلك في الجزء السابق من الكتاب - على أن الآية لا تشتمل إلا على قوله: «و استغفري» من دون أن يذكر المتعلق، و هو ربها المعبود لها في مذهبها.
و ربما قيل: إن الآية تدل على أن العزيز كان فاقدا للغيرة، و الحق أن الذي تدل عليه أنه كان شديد الحب لامرأته.
قوله تعالى: «و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين» قصة نسوة مصر مع يوسف في بيت العزيز تتضمنها الآية إلى تمام ست آيات.
و الذي يعطيه التدبر فيها بما ينضم إليها من قرائن الأحوال و ما يستوجبه طبع القصة أنه لما كان من أمر يوسف و العزيزة ما كان، شاع الخبر في المدينة تدريجا، و صارت النساء و هن سيدات المدينة يتحدثن به في مجامعهن و محافلهم فيما بينهن و يعيرن بذلك عزيزة مصر و يعبنها أنها تولهت إلى فتاها و افتتنت به و قد أحاط بها حبا فظلت تراوده عن نفسه، و ضلت به ضلالا مبينا.
و كان ذلك مكرا منهن بها على ما في طبع أكثر النساء من الحسد و العجب فإن المرأة تغلبه العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة و ركوز لطف الخلقة و جمال الطبيعة فيها مشعوفة القلب بالزينة و الجمال متعلقة الفؤاد برسوم الدلال، و يورث ذلك فيها و خاصة في الفتيات إعجابا بالنفس و حسدا للغير.
و بالجملة كان تحديثهن بحديث الحب و المراودة مكرا منهن بالعزيزة - و فيه بعض السلوة لنفوسهن و الشفاء لغليل صدورهن - و لما يرين يوسف، و لا شاهدن منه ما شاهدته العزيزة فولها و هتك سترها و إنما كن يتخيلن شيئا و يقايسن قياسا، و أين الرواية من الدراية و البيان من العيان.
و شاع التحديث به في المسامرات حق بلغ الخبر امرأة العزيز تلك التي لا هم لها إلا أن تفوز في طلب يوسف و بلوغ ما تريد منه و لا تعبأ في حبه بشيء من الملك و العزة إلا لأن تتوصل به إلى حبه لها و ميله إليها و إنجاحه لطلبتها فاستيقظت من رقدتها و علمت بمكرهن بها فأرسلت إليهن للحضور لديها و أنهن سيدات و نساء أشراف المدينة و أركان البلاد ممن له رابطة المعاشرة مع بيت العزيز أو لياقة الحضور فيه.
فتهيأن للحضور و تبرزن بأحسن الجمال و أوقع الزينة على ما هو الدأب في أمثال هذه الاحتفالات من أمثال هؤلاء السيدات، و كل تتمنى أن ترى يوسف و تشاهد ما عنده من الحسن الذي أوقع على العزيزة ما أوقع و فضحها.
و العزيزة لا هم لها يومئذ إلا أن تريهن يوسف حتى يعذرنه و يشتغلن عنها بأنفسهن فتتخلص من لسانهن فتأمن مكرهن، و هي لا تعبأ بافتتانهن بيوسف و لا تخاف عليه منهن لأنها - على ما تزعم - مولاته و صاحبته و مالكة أمره، و هو فتاها المخصوص بها، و هي تعلم أن يوسف ليس بالذي يرغب فيهن أو يصبو إليهن و هو لا ينقاد لها فيما تريده منه بما عنده من الاستعصام و الاعتزاز عن هذه الأهواء و الأميال.
ثم لما حضرن عند العزيزة و أخذن مقاعدهن، و وقع الأنس و جرت المحادثة و المفاوضة و أخذن في التفكه آتت كل واحد منهن سكينا و قد هيأت لهن و قدمت إليهن الفاكهة، عند ذلك أمرت يوسف أن يخرج إليهن و قد كان مستورا عنهن.
فلما طلع يوسف عليهن و وقعت عليه أعينهن طارت عقولهن و طاحت أحلامهن و لم يدرين دون أن قطعن أيديهن مكان الفاكهة التي فيها لما دخل عليهن من البهت و الذهول، و هذه خاصة الوله و الفزع فإن نفس الإنسان إذا انجذبت إلى شيء مما تفرط في حبه أو تخافه و تهوله اضطربت و بهتت ففاجأها الموت أو سلبت الشعور اللازم في تدبير القوى و الأعضاء و تنظيم الأمر، فربما أقدم مسرعا إلى الخطر الذي أدهشه لقاؤه و ربما نسي الفرار فبقي كالجماد الذي لا حراك به، و ربما يفعل غير ما هو قاصده و فاعله اختباطا، و نظائرها في جانب الحب كثيرة و حكايات المغرمين و المتولهين من العشاق مشهورة.
و كان هذا هو الفرق بين العزيزة و بينهن فإن استغراقها في حب يوسف إنما حصل لها تدريجا، و أما نساء المدينة فإنهن فوجئن به دفعة فغشيت قلوبهن غاشية الجمال، و غادرهن الحب ففضحهن و أطار عقلهن و أضل رأيهن فنسين الفاكهة و قطعن أيديهن و تركن كل تجلد و اصطبار، و أبدين ما في أنفسهن من وله الحب، و قلن: «حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم».
هذا و هن في بيت العزيز و هو بيت يجب فيه التحفظ على كل أدب و وقار، و كان يجب أن يتقينها و يحتشمن موقعها و هن شريفات ذوات جمال و ذوات بعولة و ذوات خدر و ستر و هذه كلها جهات مانعة عن الخلاعة و التهتك، و هن لم ينسين ما كن بالأمس يتحدثن به و يلمن و يذممن امرأة العزيز في حبها ليوسف و هما في بيت واحد منذ سنين.
فكان من الواجب على كل منهن أن تتقي صواحبها فلا تتهتك و هن يعلمن ما انجر إليه أمر امرأة العزيز من سوء الذكر و فضاحة الشهرة هذا كله و يوسف واقف أمامهن يسمع قولهن و يشاهد صنعهن.
لكن الذي شاهدنه على المفاجأة من حسن يوسف نسخ ما قدرنه من قبل في أنفسهن و بدل مجلس الأدب و الاحتشام حفلة عيش لا يكتم محتفلوها من أنفسهم ضميرا، و لا يبالي حضارها ما قيل أو يقال فيهم و لم يلبثن دون أن قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» و قد قلن غير بعيد: «امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حبا إنا لنراها في ضلال مبين».
و كلامهن هذا بعد قولهن ذاك إعذار منهن فمفاده أن الذي كنا نقوله قبل إنما هو حق لو كان هذا بشرا و ليس به و إنما يذم الإنسان و يعاب لو ابتلي بهوى بشر و مراودته و كان في وسعه أن يكتفي عنه بما يكافئه و يغني عنه، و أما الجمال الذي لا يعادله جمال، و يسلب كل حزم و اختيار، فلا لوم على هواه.
و لا ذم في غرامه.
و لهذا انقلب المجلس دفعة، و انقطعت قيود الاحتشام فانبسطن و تظاهرن بالقول في حسن يوسف و كل تتكلم بما في ضميرها منه، و قالت امرأة العزيز: «فذلكن الذي لمتنني فيه و لقد راودته عن نفسه فاستعصم» فأبدت سرا ما كانت تعترف به قبل ثم هددت يوسف تجلدا و حفظا لمقامها عندهن و طمعا في مطاوعته و انقياده: «و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين».
و أما يوسف فلم يأخذه شيء من تلك الوجوه الحسان بألحاظها الفتانة و لا التفت إلى شيء من لطيف كلامهن و نعيم مراودتهن أو هائل تهديدها فقد كان وجهة نفسه جمال فوق كل جمال، و جلال يذل عنده كل عزة و جلال فلم يكلمهن بشيء و لم يلتفت إلى ما كانت امرأة العزيز تسمعه من القول، و إنما رجع إلى ربه فقال: «رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين».
و كلامه هذا إذا قيس إلى ما قاله لامرأة العزيز وحدها في مجلس المراودة: «معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» دل بسياقه على أن هذا المقام كان أشق و أمر على يوسف (عليه السلام) إذ كان بالأمس يقاوم هم امرأة العزيز و يعالج كيدها وحدها، و قد توجهت إليه اليوم همهن و مكايدهن جميعا، و كان ما بالأمس واقعة في خلوة على تستر منها، و هي و هن اليوم متجاهرات في حبه متظاهرات في إغوائه ملجآت على مراودته، و جميع الأسباب و المقتضيات اليوم قاضية لهن عليه أشد مما كانت عليه بالأمس.
و لذا تضرع إلى ربه سبحانه في دفع كيدهن هاهنا، و اكتفى بالاستعاذة إليه سبحانه هناك فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم.
و لنرجع إلى البحث عن الآيات.
فقوله تعالى: «و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها» إلخ، النسوة اسم جمع للمرأة و تقييد بقوله: في المدينة تفيد أنهن كن من جهة العدد أو الشأن بحال تؤثر قولهن في شيوع الفضيحة.
و امرأة العزيز هي التي كان يوسف في بيتها و قد راودته عن نفسه و العزيز معناه معروف، و قد كان يلقب به السيد الذي اشترى يوسف من السيارة و كان يلقب به الرؤساء بمصر كما لقب به يوسف بعد ما جعل على خزائن الأرض.
و في قوله: «تراود» دلالة على الاستمرار و هو أفحش المراودة، و الفتى الغلام الشاب و المرأة فتاة، و قد شاع تسمية العبد فتى و كأنه بهذه العناية أضيف إلى ضميرها فقيل: «فتاها».
و في المفردات،: «شغفها حبا» أي أصاب شغاف قلبها أي باطنه.
عن الحسن، و قيل: وسطه.
عن أبي علي، و هما يتقاربان انتهى.
و شغاف القلب غلافه المحيط به.
و المعنى: و قال عدة من نساء المدينة لا يخلو قولهن من أثر فيها و في حقها: امرأة تستمر في مراودة عبدها عن نفسه و لا يحري بها ذلك لأنها مرأة و من القحة أن تراود المرأة الرجل بل ذاك - إن كان - من طبع الرجال و أنها امرأة العزيز فهي عزيزة مصر فمن الواجب الذي لا معدل عنه أن تراعي شرف بيتها و عزة زوجها و مكانة نفسها، و إن الذي علقت به عبدها من الشنيع أن يتوله مثلها و هي عزيزة مصر بعبد عبراني من جملة عبيده، و أنها أحبته و تعدت ذلك إلى مراودته فامتنع من إجابتها فلم تنته حتى ألحت و استمرت على مراودته و ذلك أقبح و أشنع و أمعن في الضلال.
و لذلك عقبن قولهن: «امرأة العزيز تراود» إلخ بقولهن: «إنا لنراها في ضلال مبين».
قوله تعالى: «فلما سمعت بمكرهن أرسلت إليهن و اعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا» قال في المجمع،: المكر هو الفتل بالحيلة على ما يراد من الطلبة.
انتهى.
و تسمية هذا القول منهن مكرا بامرأة العزيز لما فيه من فضاحتها و هتك سترها من ناحية رقيباتها حسدا و بغيا، و إنما أرسلت إليهن لتريهن يوسف و تبتليهن بما ابتليت به نفسها فيكففن عن لومها و يعذرنها في حبه.
و على هذا إنما سمي قولهن مكرا و نسب السمع إليه لأنه صدر منهن حسدا و بغيا لغاية فضاحتها بين الناس.
و قيل: إنما كان قولهن مكرا لأنهن جعلنه ذريعة إلى لقاء يوسف لما سمعن من حسنه البديع فإنما قلن هذا القول لتسمعه امرأة العزيز فترسل إليهن ليحضرن عندها فتريهن إياه ليعذرنها فيما عزلنها له فيتخذن ذلك سبيلا إلى أن يراودنه عن نفسه هذا، و الوجه الأول أقرب إلى سياق الآيات.
و قوله: «أرسلت إليهن» معناه معلوم و هو كناية عن الدعوة إلى الحضور عندها.
و قوله: «و اعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا» الإعتاد الإعداد و التهيئة أي أعدت و هيأت، و المتكأ بضم الميم و تشديد التاء اسم المفعول من الاتكاء، و المراد به ما يتكأ عليه من نمرق أو كرسي كما كان معمولا في بيوت العظماء.
و فسر المتكأ بالأترج و هو نوع من الفاكهة كما قرىء في الشواذ «متكأ» بالضم فالسكون و هو الأترج و قرىء «متكأ» بضم الميم و تشديد التاء من غير همز.
و قوله: «و آتت كل واحدة منهن سكينا» أي لقطع ما يرون أكله من الفاكهة كالأترج أو ما يشابهه من الفواكه المأكولة بالقطع و قوله: «و قالت اخرج عليهن» أي أمرت يوسف أن يخرج عليهن و هن خاليات الأذهان فارغات القلوب مشتغلات بأخذ الفاكهة و قطعها، و في اللفظ دلالة على أنه (عليه السلام) كان غائبا عنهن و كان في مخدع هناك أو بيت آخر في داخل بيت المأدبة الذي كن فيه فإنها قالت: «اخرج عليهن» و لو كان في خارج من البيت لقالت: «ادخل عليهن».
و في السياق دلالة على أن هذا التدبير كان مكرا منها تجاه مكرهن ليفتضحن به فيعذرنها فيما عذلنها و قد أصابت في رأيها حيث نظمت برنامج الملاقاة فاعتدت لهن متكأ و آتت كل واحدة منهن سكينا، و أخفت يوسف عن أعينهن ثم فاجأتهن بإظهاره دفعة لهن ليغبن عن عقولهن، و يندهشن بذاك الجمال البديع و يأتين بما لا يأتي به ذو شعور البتة و هو تقطيع الأيدي مكان الفواكه لا من الواحدة و الثنتين منهن بل من الجميع.
قوله تعالى: «فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن حاش لله ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» الإكبار الإعظام و هو كناية عن اندهاشهن و غيبتهن عن شعورهن و إرادتهن بمفاجأة مشاهدة ذاك الحسن الرائع طبقا للناموس الكوني العام و هو خضوع الصغير للكبير و قهر العظيم للحقير فإذا ظهر العظيم الكبير بعظمته و كبريائه لشعور الإنسان قهر سائر ما في ذهنه من المقاصد و الأفكار فأنساها و صار يتخبط في أعماله.
و لذلك لما رأينه قهرت رؤيته شعورهن فقطعن أيديهن تقطيعا مكان الفاكهة التي كن يردن قطعها، و في صيغة التفعيل دلالة على الكثرة يقال: قتل القوم تقتيلا و موتهم الجدب تمويتا.
و قوله: «و قلن حاش لله» تنزيه لله سبحانه في أمر يوسف و هذا كقوله تعالى: «ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم»: النور: 16 و هو من أدب الكلام عند المليين إذا جرى القول في أمر فيه نوع تنزيه و تبرئة لأحد يبدأ فينزه الله سبحانه ثم يشتغل بتنزيه من أريد تنزيهه فهن لما أردن تنزيهه (عليه السلام) بقولهن «ما هذا بشرا» إلخ، بدأن بتنزيهه تعالى، ثم أخذن ينزهنه.
و قوله: «ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك كريم» نفي أن يكون يوسف (عليه السلام) بشرا و إثبات أنه ملك كريم، و هذا بناء على ما يعتقده المليون و منهم الوثنيون أن الملائكة موجودات شريفة هم مبادىء كل خير و سعادة في العالم منهم يترشح كل حياة و علم و حسن و بهاء و سرور و سائر ما يتمنى و يؤمل من الأمور ففيهم كل جمال صوري و معنوي، و إذا مثلوا تخيلوا في حسن لا يقدر بقدر، و يتصوره أصحاب الأصنام في صور إنسانية حسنة بهية.
و لعل هذا هو السبب في قولهن: «إن هذا إلا ملك كريم» حيث لم يصفنه بما يدل على حسن الوجه و جمال المنظر مع أن الذي فعل بهن ما فعل هو حسن وجهه و اعتدال صورته بل سمينه ملكا كريما لتكون فيه إشارة إلى حسن صورته و سيرته معا، و جمال خلقه و خلقه و ظاهره و باطنه جميعا.
و الله أعلم.
و تقدم قولهن هذا على قول امرأة العزيز: «فذلكن الذي لمتنني فيه» يدل على أنهن لم يفهمن بهذا الكلام إعذار لامرأة العزيز في حبها له و تيمها و غرامها به، و إنما كان ذلك اضطرارا منهن على الثناء عليه و إظهارا قهريا لانجذاب نفوسهن و توله قلوبهن إليه فقد كان فيه فضاحتهن، و لم تقل امرأة العزيز: «فذلكن الذي لمتنني فيه» إلا بعد ما فضحتهن فعلا و قولا بتقطيع الأيدي و تنزيه الحسن فلم يبق لهن إلا أن يصدقنها فيما تقول و يعذرنها فيما تفعل.
قوله تعالى: «قالت فذلكن الذي لمتنني فيه و لقد راودته عن نفسه فاستعصم» إلى آخر الآية، الكلام في موضع دفع الدخل كان قائلا يقول: فما ذا قالت امرأة العزيز لهن؟ فقيل: «قالت فذلكن الذي لمتنني فيه».
و قد فرعت كلامها على ما تقدمه من قولهن و فعلهن و أشارت إلى شخص الذي لمنها فيه و وصفته بأنه الذي لمنها فيه ليكون هو بعينه جوابا لما رمينها به من ترك شرف بيتها و عزة زوجها و عفة نفسها في حبه، و عذرا قبال لومهن إياها في مراودته، و أقوى البيان أن يحال السامع إلى العيان، و من هذا الباب قوله تعالى «أ هذا الذي يذكر آلهتكم»: الأنبياء: 36، و قوله: «ربنا هؤلاء أضلونا»: الأعراف: 38.
ثم اعترفت بالمراودة و ذكرت لهن أنها راودته لكنه أخذ بالعفة و طلب العصمة، و إنما استرسلت و أظهرت لهن ما لم تزل تخفيه لما رأت موافقة القلوب على التوله فيه فبثت الشكوى لهن و نبهت يوسف أنها غير تاركته فليوطن نفسه على طاعتها فيما تأمر به، و هذا معنى قولها: «و لقد راودته عن نفسه فاستعصم».
ثم ذكرت لهن ما عزمت عليه من إجباره على الموافقة و سياسته لو خالفت فقالت: «و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين» و قد أكدت الكلام بوجوه من التأكيد كالقسم و النون و اللام و نحوها ليدل على أنها عزمت على ذلك عزيمة جازمة، و عندها ما يجبره على ما أرادته و لو استنكف فليوطن نفسه على السجن بعد الراحة، و الصغار و الهوان بعد الإكرام و الاحترام، و في الكلام تجلد و نوع تعزز و تمنع بالنسبة إليهن و نوع تنبيه و تهديد بالنسبة إلى يوسف (عليه السلام).
و هذا التهديد الذي يتضمنه قولها: «و لئن لم يفعل ما آمره ليسجنن و ليكونا من الصاغرين» أشد و أهول مما سألته زوجها يوم المراودة بقولها: «ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم».
أما أولا: فلأنها رددت الجزاء هناك بين السجن و العذاب الأليم و جمع هاهنا بين الجزاءين و هو السجن و الكون من الصاغرين.
و أما ثانيا فلأنها هاهنا قامت بالتهديد بنفسها لا بأن تسأل زوجها، و كلامها كلام من لا يتردد فيما عزم عليه و لا يرجع عما جزم به.
و قد حققت أنها تملك قلب زوجها و تقدر أن تصرفه مما يريده إلى ما تريده، و تقوى على التصرف في أمره كيفما شاءت؟.
قوله تعالى: «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين» قال الراغب في المفردات،: صبا فلان يصبو صبوا و صبوة إذا نزع و اشتاق و فعل فعل الصبيان، قال تعالى: «أصب إليهن و أكن من الجاهلين» انتهى و في المجمع،: الصبوة لطافة الهوى.
انتهى.
تفاوضت امرأة العزيز و النسوة فقالت و قلن و استرسلن في بت ما في ضمائرهن و يوسف (عليه السلام) واقف أمامهن يدعونه و يراودنه عن نفسه لكن يوسف (عليه السلام) لم يلتفت إليهن و لا كلمهن و لا بكلمة بل رجع إلى ربه الذي ملك قلبه بقلب لا مكان فيه إلا له و لا شغل له إلا به «و قال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه» إلخ.
و قوله هذا ليس بدعاء على نفسه بالسجن و أن يصرف الله عنه ما يدعونه إليه بإلقائه في السجن، و إنما هو بيان حال لربه و أنه عن تربية إلهية يرجح عذاب السجن في جنب الله على لذة المعصية و البعد منه، فهذا الكلام منه نظير ما قاله لامرأة العزيز حين خلت به و راودته عن نفسه: «معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون» ففي الكلامين معا تمنع و تعزز بالله، و إنما الفرق أنه يخاطب بأحدهما امرأة العزيز و بالآخر ربه القوي العزيز و ليس شيء من الكلامين دعاء البتة.
و في قوله: «رب السجن أحب إلي» إلخ، نوع توطئة لقوله «و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن» إلخ، الذي هو دعاء في صورة بيان الحال.
فمعنى الآية: رب إني لو خيرت بين السجن و بين ما يدعونني إليه لاخترت السجن على غيره و أسألك أن تصرف عني كيدهن فإنك إن لا تصرف عني كيدهن أنتزع و أمل إليهن و أكن من الجاهلين فإني إنما أتوقى شرهن بعلمك الذي علمتنيه و تصرف به عني كيدهن فإن أمسكت عن إفاضته علي صرت جاهلا و وقعت في مهلكة الصبوة و الهوى.
و قد ظهر من الآية بمعونة السياق: أولا: أن قوله: «رب السجن أحب إلي» إلخ، ليس دعاء من يوسف (عليه السلام) على نفسه بالسجن بل بيان حال منه لربه بالإعراض عنهن و الرجوع إليه، و معنى «أحب إلي» أني أختاره على ما يدعونني إليه لو خيرت، و ليس فيه دلالة على كون ما يدعونه إليه محبوبا عنده بوجه إلا بمقدار ما تدعو إليه داعية الطبع الإنساني و النفس الأمارة.
و إن قوله تعالى: «فاستجاب له ربه» إشارة إلى استجابة ما يشتمل عليه قوله: «و إلا تصرف عني كيدهن» إلخ، من معنى الدعاء.
و يؤيده تعقيبه بقوله: «فصرف عنه كيدهن»، و ليس استجابة لدعائه بالسجن على نفسه كما توهمه بعضهم.
و من الدليل عليه قوله بعد في قصة دخوله السجن: «ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين» و لو كان دعاء بالسجن و استجابة الله سبحانه و قدر له السجن لم يكن التعبير بثم و فصل المعنى عما تقدمه بأنسب فافهم.
و ثانيا: أن النسوة دعونه و راودنه كما دعته امرأة العزيز إلى نفسها و راودته عن نفسه، و أما أنهن دعونه إلى أنفسهن أو إلى امرأة العزيز أو أتين بالأمرين فدعينه بحضرة من امرأة العزيز إليها ثم أسرت كل واحدة منهن داعية إياه إلى نفسها فالآية ساكتة عن ذلك سوى ما يستفاد من قوله: «و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن» إذ لو لا دعوة منهن إلى أنفسهن لم يكن معنى ظاهر للصبوة إليهن.
و الذي يشعر به قوله تعالى حكاية عن قوله في السجن لرسول الملك: «ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن - إلى أن قال - قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين»: الآيات: 50 - 52 من السورة.
أنهن دعينه إلى امرأة العزيز و قد أشركهن في القصة ثم قال: «لم أخنه بالغيب» و لم يقل: لم أخن بالغيب و لا قال: لم أخنه و غيره فتدبر فيه.
و مع ذلك فمن المحال عادة أن يرين منه ما يغيبهن عن شعورهن و يدهش عقولهن و يقطعن أيديهن ثم ينسللن انسلالا و لا يتعرض له أصلا و يذهبن لوجوههن بل العادة قاضية أنهن ما فارقن المجلس إلا و هن متيمات فيه والهات لا يصبحن و لا يمسين إلا و هو همهن و فيه هواهن يفدينه بالنفس و يطمعنه بأي زينة في مقدرتهن و يعرضن له أنفسهن و يتوصلن إلى ما يردنه منه بكل ما يستطعن.
و هو ظاهر مما حكاه الله من يوسف في قوله: «رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن» فإنه لم يعرض عن تكليمهن إلى مناجاة ربه الخبير بحاله السميع لمقاله إلا لشدة الأمر عليه و إحاطة المحنة و المصيبة من ناحيتهن به.
و ثالثا: أن تلك القوة القدسية التي استعصم بها يوسف (عليه السلام) كانت كأمر تدريجي يفيض عليه آنا بعد آن من جانب الله سبحانه، و ليست الأمر الدفعي المفروغ عنه و إلا لانقطعت الحاجة إليه تعالى، و لذا عبر عنه بقوله: «و إلا تصرف عني» و لم يقل: و إن لم تصرف عني و إن كانت الجملة الشرطية منسلخة الزمان لكن في الهيئة إشارات.
و لذلك أيضا قال تعالى: «فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن» إلخ فنسب دفع الشر عنه إلى استجابة و صرف جديد.
و رابعا: أن هذه القوة القدسية من قبيل العلوم و المعارف و لذا قال (عليه السلام): «و أكن من الجاهلين» و لم يقل: و أكن من الظالمين، كما قال لامرأة العزيز: «إنه لا يفلح الظالمون» أو أكن من الخائنين كما قال للملك: «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» و قد فرق في نحو الخطاب بينهما و بين ربه فخاطبهما بظاهر الأمر رعاية لمنزلتهما في الفهم فقال: إنه ظلم و الظالم لا يفلح، و إنه خيانة و الله لا يهدي كيد الخائن، و خاطب ربه بحقيقة الأمر و هو أن الصبوة إليهن من الجهل.
و ستوافيك حقيقة الحال في هذين الأمرين في أبحاث ملحقة بالبيان إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم» أي استجاب الله مسألته في صرف كيدهن عنه حين قال: «و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن» إنه هو السميع بأقوال عباده العليم بأحوالهم.
أبحاث حول التقوى الديني و درجاته
في فصول
1 - القانون و الأخلاق الكريمة و التوحيد:
لا يسعد القانون إلا بإيمان تحفظه الأخلاق الكريمة و الأخلاق الكريمة لا تتم إلا بالتوحيد فالتوحيد هو الأصل الذي عليه تنمو شجرة السعادة الإنسانية و تتفرع بالأخلاق الكريمة، و هذه الفروع هي التي تثمر ثمراتها الطيبة في المجتمع، قال تعالى: «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار»: إبراهيم: 26.
فجعل الإيمان بالله كشجرة لها أصل و هو التوحيد لا محالة و أكل تؤتيه كل حين بإذن ربها» و هو العمل الصالح، و فرع و هو الخلق الكريم كالتقوى و العفة و المعرفة و الشجاعة و العدالة و الرحمة و نظائرها.
و قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الفاطر: 10 فجعل سعادة الصعود إلى الله و هو القرب منه تعالى للكلم الطيب و هو الاعتقاد الحق و جعل العمل الذي يصلح له و يناسبه هو الذي يرفعه و يمده في صعوده.
بيان ذلك: أن من المعلوم أن الإنسان لا يتم له كماله النوعي و لا يسعد في حياته التي لا بغية له أعظم من إسعادها إلا باجتماع من أفراد يتعاونون على أعمال الحياة على ما فيها من الكثرة و التنوع و ليس يقوى الواحد من الإنسان على الإتيان بها جميعا.
و هذا هو الذي أحوج الإنسان الاجتماعي إلى أن يتسنن بسنن و قوانين يحفظ بها حقوق الأفراد عن الضيعة و الفساد حتى يعمل كل منهم ما في وسعه العمل به ثم يبادلوا أعمالهم فينال كل من النتائج المعدة ما يعادل عمله و يقدره وزنه الاجتماعي من غير أن يظلم القوي المقتدر أو يظلم الضعيف العاجز.
و من المسلم أن هذه السنن و القوانين لا تثبت مؤثرة إلا بسنن و قوانين أخرى جزائية تهدد المتخلفين عن السنن و القوانين المتعدين على حقوق ذوي الحقوق، و تخوفهم بالسيئة قبال السيئة و بأخرى تشوقهم و ترغبهم في عمل الخيرات و تضمن إجراء الجميع القوة الحاكمة التي تحكم فيهم و تتسيطر عليهم بالعدل و الصدق.
و إنما تتحقق هذه الأمنية إذا كانت القوة المجرية للقوانين عالمة بالجرم و قوية على المجرم، و أما إذا جهلت و وقع الأجرام على جهل منها أو غفلة - و كم له من وجود - فلا مانع يمنع من تحققه، و القوانين لا أيدي لها تبطش بها، و كذا إذا ضعفت الحكومة بفقد القوى اللازمة أو مساهلة في السياسة و العمل فظهر عليها المجرم أو كان المجرم أشد قوة ضاعت القوانين و فشت التخلفات و التعديات على حقوق الناس، و الإنسان - كما مر مرارا في المباحث السابقة من هذا الكتاب - مستخدم بالطبع يجر النفع إلى نفسه و لو أضر غيره.
و يشتد هذا البلوى إذا تمركزت هذه القوة في القوة المجرية أو من يتولى أزمة جميع الأمور فاستضعف الناس و سلب منهم القدرة على رده إلى العدل و تقويمه بالحق فصار ذا قوة و شوكة لا يقاوم في قوته و لا يعارض في إرادته.
و التواريخ المحفوظة مملوءة من قصص الجبابرة و الطواغيت و تحكماتهم الجائرة على الناس، و هو ذا نصب أعيننا في أكثر أقطار الأرض.
فالقوانين و السنن و إن كانت عادلة في حدود مفاهيمها، و أحكام الجزاء و إن كانت بالغة في شدتها لا تجري على رسلها في المجتمع و لا تسد باب الخلاف و طريق التخلف إلا بأخلاق فاضلة إنسانية تقطع دابر الظلم و الفساد كملكة اتباع الحق و احترام الإنسانية و العدالة و الكرامة و الحياة و نشر الرحمة و نظائرها.
و لا يغرنك ما تشاهده من القوة و الشوكة في الأمم الراقية و الانتظام و العدل الظاهر فيما بينهم و لم يوضع قوانينهم على أسس أخلاقية حيث لا ضامن لإجرائها فإنهم أمم يفكرون فكرة اجتماعية لا يرى الفرد منهم إلا نفع الأمة و خيرها و لا يدفع إلا ما يضر أمته، و لا هم لأمته إلا استرقاق سائر الأمم الضعيفة و استدرارهم، و استعمار بلادهم، و استباحة نفوسهم و أعراضهم و أموالهم فلم يورثهم هذا التقدم و الرقي إلا نقل ما كان يحمله الجبابرة الماضون على الأفراد إلى المجتمعات فقامت الأمة اليوم مقام الفرد بالأمس، و هجرت الألفاظ معانيها إلى أضدادها تطلق الحرية و الشرافة و العدالة و الفضيلة و لا يراد بها إلا الرقية و الخسة و الظلم و الرذيلة.
و بالجملة السنن و القوانين لا تأمن التخلف و الضيعة إلا إذا تأسست على أخلاق كريمة إنسانية و استظهرت بها.
ثم الأخلاق لا تفي بإسعاد المجتمع و لا تسوق الإنسان إلى صلاح العمل إلا إذا اعتمدت على التوحيد و هو الإيمان بأن للعالم - و منه الإنسان - إلها واحدا سرمديا لا يعزب عن علمه شيء، و لا يغلب في قدرته عن أحد خلق الأشياء على أكمل نظام لا لحاجة منه إليها و سيعيدهم إليه فيحاسبهم فيجزي المحسن بإحسانه و يعاقب المسيء بإساءته ثم يخلدون منعمين أو معذبين.
و من المعلوم أن الأخلاق إذا اعتمدت على هذه العقيدة لم يبق للإنسان هم إلا مراقبة رضاه تعالى في أعماله، و كان التقوى رادعا داخليا له عن ارتكاب الجرم و لو لا ارتضاع الأخلاق من ثدي هذه العقيدة عقيدة التوحيد لم يبق للإنسان غاية في أعماله الحيوية إلا التمتع بمتاع الدنيا الفانية و التلذذ بلذائذ الحياة المادية، و أقصى ما يمكنه أن يعدل به معاشه فيحفظ به القوانين الاجتماعية الحيوية أن يفكر في نفسه أن من الواجب عليه أن يلتزم القوانين الدائرة حفظا للمجتمع من التلاشي و للاجتماع من الفساد، و إن من اللازم عليه أن يحرم نفسه من بعض مشتهياته ليحتفظ به المجتمع فينال بذلك البعض الباقي، و يثني عليه الناس و يمدحوه ما دام حيا أو يكتب اسمه في أوراق التاريخ بخطوط ذهبية.
أما ثناء الناس و تقديرهم العمل فإنما يجري في أمور هامة علموا بها أما الجزئيات و ما لم يعلموا بها كالأعمال السرية فلا وقاء يقيها و أما الذكر الجاري و الاسم السامي و يؤثر غالبا فيما فيه تفدية و تضحية من الأمور كالقتل في سبيل الوطن و بذل المال و الوقت في ترفيع مباني الدولة و نحو ذلك فليس ممن يبتغيه و يذعن به ثم لا يذعن بما وراء الحياة الدنيا إلا اعتقادا خرافيا إذ لا إنسان - على هذا - بعد الموت و الفوت حتى يعود إليه شيء من النفع بثناء أو حسن ذكر و أي عاقل يشتري تمتع غيره بحرمان نفسه من غير أي فائدة عائدة أو يقدم الحياة لغيره باختيار الموت لنفسه و ليس عنده بعد الموت إلا البطلان و الاعتقاد الخرافي يزول بأدنى تنبه و التفات.
فقد تبين أن شيئا عن هذه الأمور ليس من شأنه أن يقوم مقام التوحيد، و لا أن يخلفه في صد الإنسان عن المعصية و نقض السنن و القوانين و خاصة إذا كان العمل مما من طبعه أن لا يظهر للناس و خاصة إذا كان من طبعه أن لو ظهر ظهر على خلاف ما هو عليه لأسباب تقتضي ذلك كالتعفف الذي يزعم أنه كان شرها و بغيا كما تقدم من حديث مراودة امرأة العزيز يوسف (عليه السلام)، و قد كان أمره يدور بين خيانة العزيز في امرأته و بين اتهام المرأة إياه عند العزيز بقصدها بالسوء فلم يمنعه (عليه السلام) - و لا كان من الحري أن يمنعه - شيء إلا العلم بمقام ربه.
2 - يحصل التقوى الديني بأحد أمور ثلاثة و إن شئت فقل:
إنه سبحانه يعبد بأحد طرق ثلاثة: الخوف و الرجاء و الحب، قال تعالى: «في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور»: الحديد: 20 فعلى المؤمن أن يتنبه لحقيقة الدنيا و هي أنها متاع الغرور كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا فعليه أن لا يجلعها غاية لأعماله في الحياة، و أن يعلم أن له وراءها دارا و هي الدار الآخرة فيها ينال غاية أعماله، و هي عذاب شديد للسيئات يجب أن يخافه و يخاف الله فيه، و مغفرة من الله قبال أعماله الصالحة يجب أن يرجوها و يرجو الله فيها، و رضوان من الله يجب أن يقدمه لرضى نفسه.
و طباع الناس مختلفة في إيثار هذه الطرق الثلاثة و اختيارها فبعضهم و هو الغالب يغلب على نفسه الخوف، و كلما فكر فيما أوعد الله الظالمين و الذين ارتكبوا المعاصي و الذنوب من أنواع العذاب الذي أعد لهم زاد في نفسه خوفا و لفرائصه ارتعادا و يساق بذلك إلى عبادته تعالى خوفا من عذابه.
و بعضهم يغلب على نفسه الرجاء و كلما فكر فيما وعده الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات من النعمة و الكرامة و حسن العاقبة زاد رجاء و بالغ في التقوى و التزام الأعمال الصالحات طمعا في المغفرة و الجنة.
و طائفة ثالثا و هم العلماء بالله لا يعبدون الله خوفا من عقابه و لا طمعا في ثوابه و إنما يعبدونه لأنه أهل للعبادة و ذلك لأنهم عرفوه بما يليق به من الأسماء الحسنى و الصفات العليا فعلموا أنه ربهم الذي يملكهم و إرادتهم و رضاهم و كل شيء غيرهم، و يدبر الأمر وحده و ليسوا إلا عباد الله فحسب، و ليس للعبد إلا أن يعبد ربه، و يقدم مرضاته و إرادته على مرضاته و إرادته، فهم يعبدون الله و لا يريدون في شيء من أعمالهم فعلا أو تركا إلا وجهه، و لا يلتفتون فيها إلى عقاب يخوفهم، و لا إلى ثواب يرجيهم، و إن خافوا عذابه و رجوا رحمته، و إلى هذا يشير قوله (عليه السلام): «ما عبدتك خوفا من نارك و لا رغبة في جنتك بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».
و هؤلاء لما خصوا رغباتهم المختلفة بابتغاء مرضات ربهم و محضوا أعمالهم في طلب غاية هو ربهم تظهر في قلوبهم المحبة الإلهية و ذلك أنهم يعرفون ربهم بما عرفهم به نفسه، و قد سمى نفسه بأحسن الأسماء و وصف ذاته بكل صفة جميلة و من خاصة النفس الإنسانية أن تنجذب إلى الجميل فكيف بالجميل على الإطلاق و قال تعالى: «ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو خالق كل شيء فاعبدوه»: الأنعام: 102 ثم قال: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة: 7 فأفاد أن الخلقة تدور مدار الحسن و أنهما متلازمان متصادقان ثم ذكر سبحانه في آيات كثيرة أن ما خلقه من شيء آية تدل عليه و إن في السماوات و الأرض لآيات لأولي الألباب فليس في الوجود ما لا يدل عليه تعالى و لا يحكي شيئا من جماله و جلاله.
فالأشياء من جهة أنواع خلقها و حسنها تدل على جماله الذي لا يتناهى و يحمده و يثني على حسنه الذي لا يفنى، و من جهة ما فيها من أنواع النقص و الحاجة تدل على غناه المطلق و تسبح و تنزه ساحة القدس و الكبرياء كما قال تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: إسراء: 44.
فهؤلاء يسلكون في معرفة الأشياء من طريق هداهم إليه ربهم و عرفها لهم و هو أنها آيات له و علامات لصفات جماله و جلاله، و ليس لها من النفسية و الأصالة و الاستقلال إلا أنها كمرائي تجلى بحسنها ما وراءها من الحسن غير المتناهي و بفقرها و حاجتها ما أحاط بها من الغنى المطلق، و بذلتها و استكانتها ما فوقها من العزة و الكبرياء، و لا يلبث الناظر إلى الكون بهذه النظرة دون أن تنجذب نفسه إلى ساحة العزة و العظمة و يغشى قلبه من المحبة الإلهية ما ينسيه نفسه و كل شيء، و يمحو رسم الأهواء و الأميال النفسانية عن باطنه، و يبدل فؤاده قلبا سليما ليس فيه إلا الله عز اسمه قال تعالى: «و الذين آمنوا أشد حبا لله»: البقرة: 165.
و لذلك يرى أهل هذا الطريق أن الطريقين الآخرين أعني طريق العبادة خوفا و طريق العبادة طمعا لا يخلوان من شرك فإن الذي يعبده تعالى خوفا من عذابه يتوسل به تعالى إلى دفع العذاب عن نفسه كما أن من يعبده طمعا في ثوابه يتوسل به تعالى إلى الفوز بالنعمة و الكرامة، و لو أمكنه الوصول إلى ما يبتغيه من غير أن يعبده لم يعبده و لا حام حول معرفته، و قد تقدمت الرواية - عن الصادق (عليه السلام): «هل الدين إلا الحب» و قوله (عليه السلام) في حديث: «و إني أعبده حبا له و هذا مقام مكنون لا يمسه إلا المطهرون» الحديث، و إنما كان أهل الحب مطهرين لتنزههم عن الأهواء النفسانية و الألواث المادية فلا يتم الإخلاص في العبادة إلا من طريق الحب.
3 - كيف يورث الحب الإخلاص؟
عبادته تعالى: خوفا من العذاب تبعث الإنسان إلى التروك و هو الزهد في الدنيا للنجاة في الآخرة فالزاهد من شأنه أن يتجنب المحرمات أو ما في معنى الحرام أعني ترك الواجبات، و عبادته تعالى طمعا في الثواب تبعث إلى الأفعال و هو العبادة في الدنيا بالعمل الصالح لنيل نعم الآخرة و الجنة فالعابد من شأنه أن يلتزم الواجبات أو ما في معنى الواجب و هو ترك الحرام، و الطريقان معا إنما يدعوان إلى الإخلاص للدين لا لرب الدين.
و أما محبة الله سبحانه فإنها تطهر القلب من التعلق بغيره تعالى من زخارف الدنيا و زينتها من ولد أو زوج أو مال أو جاه حتى النفس و ما لها من حظوظ و آمال، و تقصر القلب في التعلق به تعالى و بما ينسب إليه من دين أو نبي أو ولي و سائر ما يرجع إليه تعالى بوجه فإن حب الشيء حب لآثاره.
فهذا الإنسان يحب من الأعمال ما يحبه الله و يبغض منها ما يبغضه الله و يرضى برضا الله و لرضاه و يغضب بغضب الله و لغضبه، و هو النور الذي يضيء له طريق العمل، قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122.
و الروح الذي يشير إليه بالخيرات و الأعمال الصالحات، قال تعالى: «و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22 و هذا هو السر في أنه لا يقع منه إلا الجميل و الخير و يتجنب كل مكروه و شر.
و أما الموجودات الكونية و الحوادث الواقعة فإنه لا يقع بصره على شيء منها خطير أو حقير، كثير أو يسير إلا أحبه و استحسنه لأنه لا يرى منها إلا أنها آيات محضة تجلى له ما وراءها من الجمال المطلق و الحسن الذي لا يتناهى العاري من كل شين و مكروه.
و لذلك كان هذا الإنسان محبورا بنعمة ربه بسرور لا غم معه و لذة و ابتهاج لا ألم و لا حزن معه، و أمن لا خوف معه، فإن هذه العوارض السوء إنما تطرأ عن إدراك للسوء و ترقب للشر و المكروه، و من كان لا يرى إلا الخير و الجميل و لا يجد إلا ما يجري على وفق إرادته و رضاه فلا سبيل للغم و الحزن و الخوف و كل ما يسوء الإنسان و يؤذيه إليه بل ينال من السرور و الابتهاج و الأمن ما لا يقدره و لا يحيط به إلا الله سبحانه و هذا أمر ليس في وسع النفوس العادية أن تتعقله و تكتنهه إلا بنوع من التصور الناقص.
و إليه يشير أمثال قوله تعالى: «إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون»: يونس: 63، و قوله: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.
و هؤلاء هم المقربون الفائزون بقربه تعالى إذ لا يحول بينهم و بين ربهم شيء مما يقع عليه الحس أو يتعلق به الوهم أو تهواه النفس أو يلبسه الشيطان فإن كل ما يتراءى لهم ليس إلا آية كاشفة عن الحق المتعال لا حجابا ساترا فيفيض عليهم ربهم علم اليقين، و يكشف لهم عما عنده من الحقائق المستورة عن هذا الأعين المادية العمية بعد ما يرفع الستر فيما بينه و بينهم كما يشير إليه قوله تعالى: «كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون»: المطففين: 21، و قوله تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم»: التكاثر: 6 و قد تقدم كلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم»: المائدة: 105 في الجزء السادس من الكتاب.
و بالجملة هؤلاء في الحقيقة هم المتوكلون على الله المفوضون إليه الراضون بقضائه المسلمون لأمره إذ لا يرون إلا خيرا و لا يشاهدون إلا جميلا فيستقر في نفوسهم من الملكات الشريفة و الأخلاق الكريمة ما يلائم هذا التوحيد فهم مخلصون لله في أخلاقهم كما كانوا مخلصين له في أعمالهم، هذا معنى إخلاص العبد دينه لله قال تعالى: «هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين»: المؤمن: 65.
4 - و أما إخلاصه تعالى عبده له فهو ما يجده العبد في نفسه من الإخلاص له منسوبا إليه تعالى فإن العبد لا يملك من نفسه شيئا إلا بالله، و الله سبحانه هو المالك لما ملكه إياه فإخلاصه دينه - و إن شئت فقل: إخلاصه نفسه لله هو إخلاصه تعالى إياه لنفسه.
نعم هاهنا شيء و هو أن الله سبحانه خلق بعض عباده هؤلاء على استقامة الفطرة و اعتدال الخلقة فنشئوا من بادىء الأمر بأذهان وقادة و إدراكات صحيحة و نفوس طاهرة و قلوب سليمة فنالوا بمجرد صفاء الفطرة و سلامة النفس من نعمة الإخلاص ما ناله غيرهم بالاجتهاد و الكسب بل أعلى و أرقى لطهارة داخلهم من التلوث بألواث الموانع و المزاحمات و الظاهر أن هؤلاء هم المخلصون - بالفتح - لله في عرف القرآن.
و هؤلاء هم الأنبياء و الأئمة، و قد نص القرآن بأن الله اجتباهم أي جمعهم لنفسه و أخلصهم لحضرته، قال تعالى: «و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم»: الأنعام: 87، و قال: «هو اجتباكم و ما جعل عليكم في الدين من حرج»: الحج: 78.
و آتاهم الله سبحانه من العلم ما هو ملكة تعصمهم من اقتراف الذنوب و ارتكاب المعاصي، و تمتنع معه صدور شيء منها عنهم صغيرة أو كبيرة، و بهذا يمتاز العصمة من العدالة فإنهما معا تمنعان من صدور المعصية لكن العصمة يمتنع معها الصدور بخلاف العدالة.
و قد تقدم آنفا أن من خاصة هؤلاء القوم أنهم يعلمون من ربهم ما لا يعلمه غيرهم، و الله سبحانه يصدق ذلك بقوله: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160، و إن المحبة الإلهية تبعثهم على أن لا يريدوا إلا ما يريده الله و ينصرفوا عن المعاصي و الله سبحانه يقرر ذلك بما حكاه عن إبليس في غير مورد من كلامه كقوله: «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: ص: 83.
و من الدليل على أن العصمة من قبيل العلم قوله تعالى خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) «و لو لا فضل الله عليك و رحمته لهمت طائفة منهم أن يضلوك و ما يضلون إلا أنفسهم و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما»: النساء: 113 و قد فصلنا الكلام في معنى الآية في تفسير سورة النساء.
و قوله تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): «قال رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين»: يوسف: 33 و قد أوضحنا وجه دلالة الآية على ذلك.
و يظهر من ذلك أولا: أن هذا العلم يخالف سائر العلوم في أن أثره العملي و هو صرف الإنسان عما لا ينبغي إلى ما ينبغي قطعي غير متخلف دائما بخلاف سائر العلوم فإن الصرف فيها أكثري غير دائم، قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل 14: و قال: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه و أضله الله على علم»: الجاثية: 23، و قال: «فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم»: الجاثية: 17.
و يدل على ذلك أيضا قوله تعالى: «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 160، و ذلك أن هؤلاء المخلصين من الأنبياء و الأئمة (عليهم السلام) قد بينوا لنا جمل المعارف المتعلقة بأسمائه تعالى و صفاته من طريق السمع، و قد حصلنا العلم به من طريق البرهان أيضا، و الآية مع ذلك تنزهه تعالى عن ما نصفه به دون ما يصفه به أولئك المخلصون فليس إلا أن العلم غير العلم و إن كان متعلق العلمين واحدا من وجه.
و ثانيا: أن هذا العلم أعني ملكة العصمة لا يغير الطبيعة الإنسانية المختارة في أفعالها الإرادية و لا يخرجها إلى ساحة الإجبار و الاضطرار كيف؟ و العلم من مبادىء الاختيار، و مجرد قوة العلم لا يوجب إلا قوة الإرادة كطالب السلامة إذا أيقن بكون مائع ما سما قاتلا من حينه فإنه يمتنع باختياره من شربه قطعا و إنما يضطر الفاعل و يجبر إذا أخرج من يجبره أحد طرفي الفعل و الترك من الإمكان إلى الامتناع.
و يشهد على ذلك قوله: «و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم ذلك هدى الله يهدي به من يشاء من عباده و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام: 88 تفيد الآية أنهم في إمكانهم أن يشركوا بالله و إن كان الاجتباء و الهدى الإلهي مانعا من ذلك، و قوله: «يا أيها النبي بلغ ما أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته»: المائدة: 67 إلى غير ذلك من الآيات.
فالإنسان المعصوم إنما ينصرف عن المعصية بنفسه و اختياره و إرادته و نسبة الصرف إلى عصمته تعالى كنسبة انصراف غير المعصوم عن المعصية إلى توفيقه تعالى.
و لا ينافي ذلك أيضا ما يشير إليه كلامه تعالى و يصرح به الأخبار أن ذلك من الأنبياء و الأئمة بتسديد من روح القدس فإن النسبة إلى روح القدس كنسبة تسديد المؤمن إلى روح الإيمان و نسبة الضلال و الغواية إلى الشيطان و تسويله فإن شيئا من ذلك لا يخرج الفعل عن كونه فعلا صادرا عن فاعله مستندا إلى اختياره و إرادته فافهم ذلك.
نعم هناك قوم زعموا أن الله سبحانه إنما يصرف الإنسان عن المعصية لا من طريق اختياره و إرادته بل من طريق منازعة الأسباب و مغالبتها بخلق إرادة أو إرسال ملك يقاوم إرادة الإنسان فيمنعها عن التأثير أو يغير مجراها و يحرفها إلى غير ما من طبع الإنسان أن يقصده كما يمنع الإنسان القوي الضعيف عما يريده من الفعل بحسب طبعه.
و بعض هؤلاء و إن كانوا من المجبرة لكن الأصل المشترك الذي يبتني عليه نظرهم هذا و أشباهه أنهم يرون أن حاجة الأشياء إلى البارىء الحق سبحانه إنما هي في حدوثها، و أما في بقائها بعد ما وجدت فلا حاجة لها إليه فهو سبحانه سبب في عرض الأسباب إلا أنه لما كان أقدر و أقوى من كل شيء كان له أن يتصرف في الأشياء حال البقاء أي تصرف شاء من منع أو إطلاق و إحياء أو إماتة و معافاة أو تمريض و توسعة أو تقتير إلى غير ذلك بالقهر.
فإذا أراد الله سبحانه أن يصرف عبدا عن شر مثلا أرسل إليه ملكا ينازعه في مقتضى طبعه و يغير مجرى إرادته مثلا عن الشر إلى الخير أو أراد أن يضل عبدا لاستحقاقه ذلك سلط عليه إبليس فحوله من الخير إلى الشر و إن كان ذلك لا بمقدار يوجب الإجبار و الاضطرار.
و هذا مدفوع بما نشاهده من أنفسنا في أعمال الخير و الشر مشاهدة عيان أنه ليس هناك سبب آخر يغايرنا و ينازعنا فيغلب علينا غير أنفسنا التي تعمل أعمالها عن شعور بها و إرادة مترتبة عليه قائمين بها فالذي يثبته السمع و العقل وراء نفوسنا من الأسباب كالملك و الشيطان سبب طولي لا عرضي و هو ظاهر.
مضافا إلى أن المعارف القرآنية من التوحيد و ما يرجع إليه يدفع هذا القول من أصله، و قد تقدم شطر وافر من ذلك في تضاعيف الأبحاث السالفة.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن السجاد (عليه السلام) في حديث تقدم صدره في البحث الروائي السابق. قال (عليه السلام): و كان يوسف من أجمل أهل زمانه فلما راهق يوسف راودته امرأة الملك عن نفسه فقال: معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون فغلقت الأبواب عليها و عليه و قالت: لا تخف و ألقت نفسها عليه فأفلت منها هاربا إلى الباب ففتحه فلحقته فجذبت قميصه من خلفه فأخرجته منه فأفلت يوسف منها في ثيابه فالفيا سيدها لدى الباب قالت: ما جزاء من أراد بأهلك سوءا إلا أن يسجن أو عذاب أليم. قال: فهم الملك بيوسف ليعذبه فقال له يوسف: ما أردت بأهلك سوءا بل هي راودتني عن نفسي فسل هذا الصبي أينا راود صاحبه عن نفسه؟ قال: كان عندها من أهلها صبي زائر لها فأنطق الله الصبي لفصل القضاء فقال: أيها الملك انظر إلى قميص يوسف فإن كان مقدودا من قدامه فهو الذي راودها، و إن كان مقدودا من خلفه فهي التي راودته. فلما سمع الملك كلام الصبي و ما اقتصه أفزعه ذلك فزعا شديدا فجيء بالقميص فنظر إليه فلما رآه مقدودا من خلفه قال لها: إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم. و قال ليوسف: أعرض عن هذا و لا يسمعه منك أحد و اكتمه. قال: فلم يكتمه يوسف و أذاعه في المدينة حتى قلن نسوة منهن: امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه فبلغها ذلك فأرسلت إليهن، و هيأت لهن طعاما و مجلسا ثم أتتهن بأترنج و آتت كل واحدة منهن سكينا ثم قالت ليوسف اخرج عليهن فلما رأينه أكبرنه و قطعن أيديهن و قلن ما قلن يعني النساء فقالت لهن: هذا الذي لمتنني فيه تعني في حبه. و خرجن النسوة من تحتها فأرسلت كل واحدة منهن إلى يوسف سرا من صاحبتها تسأله الزيارة فأبى عليهن و قال: إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن و أكن من الجاهلين و صرف الله عنه كيدهن. فلما شاع أمر يوسف و امرأة العزيز و النسوة في مصر بدا للملك بعد ما سمع قول الصبي ليسجنن يوسف فسجنه في السجن و دخل السجن مع يوسف فتيان، و كان من قصتهما و قصة يوسف ما قصه الله في الكتاب. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليهما السلام).
أقول و روى ما في معناه العياشي في تفسيره عن أبي حمزة عنه (عليه السلام) باختلاف يسير، و قوله (عليه السلام): «قال معاذ الله إنا أهل بيت لا يزنون» تفسير بقرينة المحاذاة لقوله في الآية: «إنه ربي أحسن مثواي» إلخ و هو يؤيد ما قدمناه في بيان الآية أن الضمير إلى الله سبحانه لا إلى عزيز مصر كما ذهب إليه أكثر المفسرين فافهم ذلك.
و قوله: فأبى عليهن و قال: «إلا تصرف عني» إلخ ظاهر في أنه (عليه السلام) لم يأخذ قوله: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه» جزءا من الدعاء فيوافق ما قدمناه في بيان الآية أنه ليس بدعاء.
و في العيون، بإسناده عن حمدان عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى فقال له المأمون: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون: قال: بلى و ذكر الحديث إلى أن قال فيه: فأخبرني عن قول الله تعالى: «و لقد همت به و هم بها لو لا أن رءا برهان ربه» فقال الرضا (عليه السلام): لقد همت به و لو لا أن رءا برهان ربه لهم بها لكنه كان معصوما، و المعصوم لا يهم بذنب و لا يأتيه. و لقد حدثني أبي عن أبيه الصادق (عليه السلام) أنه قال: همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل فقال المأمون: لله درك يا أبا الحسن.
أقول: تقدم أن ابن الجهم هذا لا يخلو عن شيء لكن صدر الحديث أعني جواب الرضا (عليه السلام) يوافق ما قدمناه في بيان الآية و أما ما نقله عن جده الصادق (عليه السلام) «أنها همت بأن تفعل و هم بأن لا يفعل» فلعل المراد به ما ذكره الرضا (عليه السلام) من الجواب لقبوله الانطباق عليه و لعل المراد به همه بقتلها كما يؤيده الحديث الآتي فينطبق على بعض الاحتمالات المتقدمة في بيان الآية.
و فيه، بإسناده عن أبي الصلت الهروي قال: لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا (عليهما السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و من الديانات من اليهود و النصارى و المجوس و الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا. قام إليه علي بن محمد بن الجهم فقال: يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء؟ فقال: نعم. فقال له فما تقول في قوله عز و جل في يوسف: «و لقد همت به و هم بها»؟ فقال له: أما قوله تعالى في يوسف: «و لقد همت به و هم بها» فإنها همت بالمعصية و هم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظيم ما تداخله فصرف الله عنه قتلها و الفاحشة. و هو قوله عز و جل: «كذلك لنصرف عنه السوء و الفحشاء» و السوء القتل و الفحشاء الزنا.
و في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن علي بن أبي طالب: في قوله: «و لقد همت به و هم بها» قال: طمعت فيه و طمع فيها، و كان من الطمع أن هم بحل التكة فقامت إلى صنم مكلل بالدر و الياقوت في ناحية البيت فسترته بثوب أبيض بينها و بينه فقال: أي شيء تصنعين؟ فقالت: أستحيي من إلهي أن يراني على هذه الصورة فقال يوسف (عليه السلام): تستحين من صنم لا يأكل و لا يشرب، و لا أستحيي أنا من إلهي الذي هو قائم على كل نفس بما كسبت؟ ثم قال: لا تنالينها مني أبدا. و هو البرهان الذي رأى.
أقول: و الرواية من الموضوعات كيف؟ و كلامه و كلام سائر أئمة أهل البيت (عليهم السلام) مشحون بذكر عصمة الأنبياء و مذهبهم في ذلك مشهور.
على أن سترها الصنم و انتقاله من ذلك إلى ما ذكره لها من الحجة لا يعد من رؤية البرهان، و قد ورد هذا المعنى في عدة روايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) لكنها آحاد لا تعويل عليها.
نعم لا يبعد أن تقوم المرأة إلى ستر صنم كان هناك فتنزع نفس يوسف (عليه السلام) إلى مشاهدة آية التوحيد عند ذلك فيرتفع الحجاب بينه و بين ساحة الكبرياء فيرى ما يصرفه عن كل سوء و فحشاء كما كان له ذلك من قبل، و قد قال تعالى في حقه: إنه من عبادنا المخلصين.
فإن صح شيء من هذه الروايات فليكن هذا معناه.
و فيه،: أخرج أبو الشيخ عن ابن عباس قال: عثر يوسف (عليه السلام) ثلاث عثرات: حين هم بها فسجن، و حين قال: «اذكرني عند ربك» فلبث في السجن بضع سنين فأنساه الشيطان ذكر ربه. و حين قال: «إنكم لسارقون» قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل.
أقول: و الرواية تخالف صريح كلامه تعالى حيث يذكر أن الله اجتباه و أخلصه لنفسه و أن الشيطان لا سبيل له إلى من أخلصه الله لنفسه و كيف يستقيم لمن هم على أفحش معصية و أنساه الشيطان ذكر ربه ثم كذب في مقاله فعاقبه الله بالسجن ثم بلبثه فيه بضع سنين و جبه بالسرقة أن يعده الله صديقا من عباده المخلصين و المحسنين، و يذكر أنه آتاه الحكم و العلم و اجتباه و أتم عليه نعمته، و على هذا السبيل روايات جمة رواها في الدر المنثور، و قد تقدم نقل شطر منها عند بيان الآيات، و لا تعويل على شيء منها.
و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: تكلم أربعة و هم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريح، و عيسى بن مريم.
و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «قد شغفها حبا» يقول: قد حجبها حبه عن الناس فلا تعقل غيره، و الحجاب هو الشغاف، و الشغاف هو حجاب القلب.
و فيه، في حديث جمعها النسوة و تقطيعهن أيديهن قال: فما أمسى يوسف (عليه السلام) في ذلك اليوم حتى بعثت إليه كل امرأة رأته تدعوه إلى نفسها فضجر يوسف في ذلك اليوم فقال: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه - و إلا تصرف عني كيدهن أصب إليهن - و أكن من الجاهلين فاستجاب له ربه - فصرف عنه كيدهن.
الحديث.
|