بيان
تذكر الآيات رؤيا رآها يوسف و قصها على أبيه يعقوب (عليهما السلام) فعبرها أبوه له و نهاه أن يقصها على إخوته، و هذه الرؤيا بشرى بشر الله سبحانه يوسف بها ليكون مادة روحية لتربيته تعالى عبده في صراط الولاية و القرب من ربه، و هي بمنزلة المدخل في قصته (عليه السلام).
قوله تعالى: «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين» لم يذكر يعقوب (عليه السلام) باسمه بل كنى عنه بالأب للدلالة على ما بينهما من صفة الرحمة و الرأفة و الشفقة كما يدل عليه ما في الآية التالية: «قال يا بني لا تقصص» إلخ.
و قوله: «رأيت» و «رأيتهم» من الرؤيا و هي ما يشاهده النائم في نومته أو الذي خمدت حواسه الظاهرة بإغماء أو ما يشابهه، و يشهد به قوله في الآية التالية: «لا تقصص رؤياك على إخوتك» و قوله في آخر القصة: «يا أبت هذا تأويل رؤياي».
و تكرار ذكر الرؤية لطول الفصل بين قوله «رأيت» و قوله «لي ساجدين» و من فائدة التكرير الدلالة على أنه إنما رآهم مجتمعين على السجود جميعا لا فرادى.
على أن ما حصل له من المشاهدة نوعان مختلفان فمشاهدة أشخاص الكواكب و الشمس و القمر مشاهدة أمر صوري و مشاهدة سجدتهم و خضوعهم و تعظيمهم له مشاهدة أمر معنوي.
و قد عبر عن الكواكب و النيرين في قوله: «رأيتهم لي ساجدين» بما يختص بأولى العقل - ضمير الجمع المذكر و جمع المذكر السالم - للدلالة على أن سجدتهم كانت عن علم و إرادة كما يسجد واحد من العقلاء لآخر.
و قد افتتح سبحانه قصته (عليه السلام) بذكر هذه الرؤيا التي أراها له و هي بشرى له تمثل له ما سيناله من الولاية الإلهية و يخص به من اجتباء الله إياه و تعليمه تأويل الأحاديث و إتمام نعمته عليه، و من هناك تبتدىء التربية الإلهية له لأن الذي بشر به في رؤياه لا يزال نصب عينيه في الحياة لا يتحول من حال إلى حال، و لا ينتقل من شأن إلى شأن، و لا يواجه نائبة، و لا يلقى مصيبة، إلا و هو ذاكر لها مستظهر بعناية الله سبحانه عليها موطن نفسه على الصبر عليها.
و هذه هي الحكمة في أن الله سبحانه يخص أولياءه بالبشرى بجمل ما سيكرمهم به من مقام القرب و منزلة الزلفى كما في قوله: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون - إلى أن قال - لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة»: يونس: 64.
قوله تعالى: «قال يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا إن الشيطان للإنسان عدو مبين» ذكر في المفردات،: أن الكيد ضرب من الاحتيال، و قد يكون مذموما و ممدوحا و إن كان يستعمل في المذموم أكثر و كذلك الاستدراج و المكر.
انتهى.
و قد ذكروا أن الكيد يتعدى بنفسه و باللام.
و الآية تدل على أن يعقوب لما سمع ما قصة عليه يوسف من الرؤيا أيقن بما يدل عليه أن يوسف (عليه السلام) سيتولى الله أمره و يرفع قدره، يسنده على أريكة الملك و عرش العزة، و يخصه من بين آل يعقوب بمزيد الكرامة فأشفق على يوسف (عليه السلام) و خاف من إخوته عليه و هم عصبة أقوياء أن لو سمعوا الرؤيا - و هي ظاهرة الانطباق على يعقوب (عليه السلام) و زوجه و أحد عشر من ولده غير يوسف، و ظاهرة الدلالة على أنهم جميعا سيخضعون و يسجدون ليوسف - حملهم الكبر و الأنفة أن يحسدوه فيكيدوا له كيدا ليحولوا بينه و بين ما تبشره به رؤياه.
و لذلك خاطب يوسف (عليه السلام) خطاب الإشفاق كما يدل عليه قوله: «يا بني» بلفظ التصغير، و نهاه عن اقتصاص رؤياه على إخوته قبل أن يعبرها له و ينبئه بما تدل عليه رؤياه من الكرامة الإلهية المقضية في حقه، و لم يقدم النهي على البشارة إلا لفرط حبه له و شدة اهتمامه به و اعتنائه بشأنه، و ما كان يتفرس من إخوته أنهم يحسدونه و أنهم امتلئوا منه بغضا و حنقا.
و الدليل على بلوغ حسدهم و ظهور حنقهم و بغضهم قوله: «لا تقصص رؤياك على إخوتك فيكيدوا لك كيدا» فلم يقل: إني أخاف أن يكيدوا، أو لا آمنهم عليك بتفريع الخوف من كيدهم أو عدم الأمن من جهتهم بل فرع على اقتصاص الرؤيا نفس كيدهم و أكد تحقق الكيد منهم بالمصدر - المفعول المطلق - إذ قال: «فيكيدوا لك كيدا» ثم أكد ذلك بقوله ثانيا في مقام التعليل: «إن الشيطان للإنسان عدو مبين» أي إن لكيدهم سببا آخر منفصلا يؤيد ما عندهم من السبب الذي هو الحسد و يثيره و يهيجه ليؤثر أثره السيىء و هو الشيطان الذي هو عدو للإنسان مبين لا خلة بينه و بينه أبدا يحمل الإنسان بوسوسته و تسويله على أن يخرج من صراط الاستقامة و السعادة إلى سبيل عوج فيه شقاء دنياه و آخرته فيفسد ما بين الوالد و ولده و ينزع بين الشقيق و شقيقه و يفرق بين الصديق و صديقه ليضلهم عن الصراط.
فكأن المعنى: قال يعقوب ليوسف (عليهما السلام): يا بني لا تقصص رؤياك على إخوتك فإنهم يحسدونك و يغتاظون من أمرك فيكيدونك عندئذ بنزغ و إغراء من الشيطان و قد تمكن من قلوبهم و لا يدعهم يعرضوا عن كيدك فإن الشيطان للإنسان عدو مبين.
قوله تعالى: «و كذلك يجتبيك ربك و يعلمك من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب» إلى آخر الآية الاجتباء من الجباية و هي الجمع يقال: جبيت الماء في الحوض إذا جمعته فيه، و منه جباية الخراج أي جمعه قال تعالى: «يجبى إليه ثمرات كل شيء»: القصص: 57 ففي معنى الاجتباء جمع أجزاء الشيء و حفظها من التفرق و التشتت، و فيه سلوك و حركة من الجابي نحو المجبي فاجتباه الله سبحانه عبدا من عباده هو أن يقصده برحمته و يخصه بمزيد كرامته فيجمع شمله و يحفظه من التفرق في السبل المتفرقة الشيطانية المفرقة للإنسان و يركبه صراطه المستقيم و هو أن يتولى أمره و يخصه بنفسه فلا يكون لغيره فيه نصيب كما أخبر تعالى بذلك في يوسف (عليه السلام) إذ قال: «إنه من عبادنا المخلصين»: الآية 24 من السورة.
و قوله: «و يعلمك من تأويل الأحاديث» التأويل هو ما ينتهي إليه الرؤيا من الأمر الذي تتعقبه، و هو الحقيقة التي تتمثل لصاحب الرؤيا في رؤياه بصورة من الصور المناسبة لمداركه و مشاعره كما تمثل سجدة أبوي يوسف و إخوته الأحد عشر في صورة أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر و خرورها أمامه ساجدة له، و قد تقدم استيفاء البحث عن معنى التأويل في تفسير قوله تعالى.
«فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة و ابتغاء تأويله» الآية: آل عمران: 7 في الجزء الثالث من الكتاب.
و الأحاديث جمع الحديث و ربما أريد به الرؤى لأنها من حديث النفس فإن نفس الإنسان تصور له الأمور في المنام كما يصور المحدث لسماعه الأمور في اليقظة فالرؤيا حديث مثله و منه يظهر ما في قول بعضهم: إن الرؤى سميت أحاديث باعتبار حكايتها و التحديث بها و هو كما ترى.
و كذا ما قيل: إنها سميت أحاديث لأنها من حديث الملك إن كانت صادقة و من حديث الشيطان إن كانت كاذبة.
انتهى، و فيه أنها ربما لم تستند إلى ملك و لا إلى شيطان كالرؤيا المستندة إلى حالة مزاجية عارضة لنائم تأخذه حمى أو سخونة اتفاقية فتحكيها نفسه في صورة حمام يستحم فيه أو حر قيظ و نحوهما أو يتسلط عليه برد فتحكيه نفسه بتصوير الشتاء و نزول الثلج و نحوهما.
و رده بعضهم بأنه يخالف الواقع فإن رؤيا يوسف ليس فيها حديث و كذا رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر انتهى.
و قد اشتبه عليه معنى الحديث و ظن أن المراد بقولهم: إن الرؤيا من حديث الملك أو الشيطان، الحديث على نحو التكليم باللفظ، و ليس كذلك بل المراد أن المنام يصور له القصة أو حادثا من الحوادث بصورة مناسبة كما أن تصوره المتكلم اللافظ يصور ذلك بصورة لفظية يستدل بها السامع على الأصل المراد و هذا كما يقال لمن يقصد أمرا و يعزم على فعل أو ترك أنه حدثه نفسه أن يفعل كذا أو يترك كذا أي أنه يصوره فأراد فعله أو تركه كأن نفسه حدثته بأنه يجب عليك كذا أو لا يجوز لك كذا، و بالجملة معنى كون الرؤيا من الأحاديث أنها من قبيل تصور الأمور للنائم كما يتصور الأنباء و القصص بالتحديث اللفظي فهي حديث إما ملكي أو شيطاني أو نفسي كما تقدم لكن الحق أنها من أحاديث النفس بالمباشرة، و سيجيء استيفاء البحث في ذلك إن شاء الله تعالى.
هذا.
لكن الظاهر المتحصل من قصته (عليه السلام) المسرودة في هذه السورة أن الأحاديث التي علمه الله تعالى تأويلها أعم من أحاديث الرؤيا، و إنما هي الأحاديث أعني الحوادث و الوقائع التي تتصور للإنسان أعم من أن تتصور له في يقظة أو منام فإن بين الحوادث و الأصول التي تنشأ هي منها و الغايات التي تنتهي إليها اتصالا لا يسع إنكاره، و بذلك يرتبط بعضها ببعض فمن الممكن أن يهتدي عبد بإذن الله تعالى إلى هذه الروابط فينكشف له تأويل الأحاديث و الحقائق التي تنتهي هي إليها.
و يؤيده فيما يرجع إلى المنام ما حكاه الله تعالى من بيان يعقوب تأويل رؤيا يوسف (عليه السلام)، و تأويل يوسف لرؤيا نفسه و رؤيا صاحبيه في السجن و رؤيا عزيز مصر و فيما يرجع إلى اليقظة ما حكاه عن يوسف في السجن بقوله: «قال لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي»: الآية 37 من السورة، و كذا قوله: «فلما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون»: الآية 15 من السورة و سيوافيك توضيحه إن شاء الله تعالى.
و قوله: «و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب» قال الراغب في المفردات،: النعمة بالكسر فالسكون الحالة الحسنة، و بناء النعمة بناء الحالة التي يكون عليها الإنسان كالجلسة و الركبة، و النعمة بالفتح فالسكون التنعم و بناؤها بناء المرة من الفعل كالضربة و الشتمة، و النعمة للجنس تقال للقليل و الكثير.
قال: و الإنعام إيصال الإحسان إلى الغير، و لا يقال إلا إذا كان الموصل إليه من جنس الناطقين فإنه لا يقال: أنعم فلان على فرسه، قال تعالى: «أنعمت عليهم» «و إذ تقول للذي أنعم الله عليه و أنعمت عليه» و النعماء بإزاء الضراء.
قال: و النعيم النعمة الكثيرة قال تعالى: «في جنات النعيم» و قال تعالى: «جنات النعيم»، و تنعم تناول ما فيه النعمة و طيب العيش، يقال: نعمه تنعيما فتنعم أي لين عيش و خصب قال تعالى: «فأكرمه و نعمه» و طعام ناعم و جارية ناعمة انتهى.
ففي الكلمة - كما ترى شيء - من معنى اللين و الطيب و الملاءمة فكأنها مأخوذة من النعومة و هي الأصل في معناها، و قد اختص استعمالها بالإنسان لأن له عقلا يدرك به النافع من الضار فيستطيب النافع و يستلئمه و يتنعم به بخلاف غيره الذي لا يميز ما ينفعه مما يضره، كما أن المال و الأولاد و غيرهما مما يعد نعمة يكون نعمة لواحد و نقمة لآخر و نعمة للإنسان في حال و نقمة في أخرى.
و لذا كان القرآن الكريم لا يعد هذه العطايا الإلهية كالمال و الجاه و الأزواج و الأولاد و غير ذلك نعمة بالنسبة إلى الإنسان إلا إذا وقعت في طريق السعادة و منصبغة بصبغة الولاية الإلهية تقرب الإنسان إلى الله زلفى، و أما إذا وقعت في طريق الشقاء و تحت ولاية الشيطان فإنما هي نقمة و ليست بنعمة، و الآيات في ذلك كثيرة.
نعم إذا نسبت إلى الله سبحانه فهي نعمة منه و فضل و رحمة لأنه خير يفيض الخير و لا يريد في موهبته شرا و لا سوء، و هو رءوف رحيم غفور ودود، قال تعالى: «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها»: إبراهيم: 34 و الخطاب في الآية لعامة الناس، و قال تعالى: «و ذرني و المكذبين أولي النعمة و مهلهم قليلا»: المزمل: 11، و قال تعالى: «ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيته على علم»: الزمر: 49 فهذه و أمثالها نعمة إذا نسبت إليه تعالى لكنها نقمة إذا نسبت إلى الكافر بها قال تعالى «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7.
و بالجملة إذا كان الإنسان في ولاية الله كان جميع الأسباب التي يتسبب بها في استبقاء الحياة و التوصل إلى السعادة نعما إلهية بالنسبة إليه، و إن كان في ولاية الشيطان تبدلت الجميع نقما و هي جميعا من الله سبحانه نعم و إن كانت مكفورا بها.
ثم إن وسائل الحياة إن كانت ناقصة لا تفي بجميع جهات السعادة في الحياة كانت نعمة كمن أوتي مالا و سلب الأمن و السلام فلا يتمكن من أن يتمتع به كما يريده و متى و أينما يريده، و إذا كان له من ذلك ما يمكنه التوصل به إلى سعادة الحياة من غير نقص فيه فذلك تمام النعمة.
فقوله: «و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب» يريد أن الله أنعم عليكم بما تسعدون به في حياتكم لكنه يتم ذلك في حقك و في حق آل يعقوب و هم يعقوب و زوجه و سائر بنيه كما كان رآه في رؤياه.
و قد جعل يوسف (عليه السلام) أصلا و آل يعقوب معطوفا عليه إذ قال: «عليك و على آل يعقوب» كما يدل عليه الرؤيا إذ رأى يوسف نفسه مسجودا له و رأى آل يعقوب في هيئة الشمس معها القمر و أحد عشر كوكبا سجدا له.
و قد ذكر الله تعالى مما أتم به النعمة على يوسف (عليه السلام) أنه آتاه الحكم و النبوة و الملك و العزة في مصر مضافا إلى أن جعله من المخلصين و علمه من تأويل الأحاديث، و مما أتم به النعمة على آل يعقوب أنه أقر عين يعقوب بابنه يوسف (عليهما السلام)، و جاء به و بأهله جميعا من البدو و رزقهم الحضارة بنزول مصر.
و قوله: «كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق» أي نظير ما أتم النعمة من قبل على إبراهيم و إسحاق و هما أبواك فإنه آتاهما خير الدنيا و الآخرة فقوله: «من قبل» متعلق بقوله: «أتمها» و ربما احتمل كونه ظرفا مستقرا وصفا لقوله «أبويك» و التقدير كما أتمها على أبويك الكائنين من قبل.
و «إبراهيم و إسحاق» بدل أو عطف بيان لقوله «أبويك» و فائدة هذا السياق الإشعار بكون النعمة مستمرة موروثة في بيت إبراهيم من طريق إسحاق حيث أتمها الله على إبراهيم و إسحاق و يعقوب و يوسف (عليه السلام) و سائر آل يعقوب.
و معنى الآية: و كما رأيت في رؤياك يخلصك ربك لنفسه بإنقائك من الشرك فلا يكون فيك نصيب لغيره، و يعلمك من تأويل الأحاديث و هو ما يئول إليه الحوادث المصورة في نوم أو يقظة و يتم نعمته هذه و هي الولاية الإلهية بالنزول في مصر و اجتماع الأهل و الملك و العزة عليك و على أبويك و إخوتك و إنما يفعل ربك بك ذلك لأنه عليم بعباده خبير بحالهم حكيم يجري عليهم ما يستحقونه فهو عليم بحالك و ما يستحقونه من غضبه.
و التدبر في الآية الكريمة يعطي: أولا: أن يعقوب أيضا كان من المخلصين و قد علمه الله من تأويل الأحاديث فإنه (عليه السلام) أخبر كما في هذه الآية بتأويل رؤيا يوسف و ما كان ليخبر عن خرص و تخمين دون أن يعلمه الله ذلك.
على أن الله بعد ما حكى عنه لبنيه «يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة» إلخ قال في حقه: «و إنه لذو علم لما علمناه و لكن أكثر الناس لا يعلمون».
على أنه بعد ما حكى عن يوسف في السجن فيما يحاور صاحبيه أنه قال: «لا يأتيكما طعام ترزقانه إلا نبأتكما بتأويله قبل أن يأتيكما ذلكما مما علمني ربي» فأخبر أنه من تأويل الحديث و قد علمه ذلك ربه ثم علل التعليم بقوله: «إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و بالآخرة هم كافرون و اتبعت ملة آبائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء» إلخ فأخبر أنه مخلص - بفتح اللام - لله كآبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب نقي الوجود سليم القلب من الشرك مطلقا و لذلك علمه ربه فيما علمه تأويل الأحاديث، و الاشتراك في العلة - كما ترى - يعطي أن آباءه الكرام إبراهيم و إسحاق و يعقوب كهو مخلصون لله معلمون من تأويل الأحاديث.
و يؤيده قوله تعالى في موضع آخر: «و اذكر عبادنا إبراهيم و إسحاق و يعقوب أولي الأيدي و الأبصار إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار: ص: 46 و يعطي أن العلم بتأويل الأحاديث من فروع الإخلاص لله سبحانه.
و ثانيا: أن جميع ما أخبر به يعقوب (عليه السلام) منطبق على متن ما رآه يوسف (عليه السلام) من الرؤيا و هو سجدة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا له و ذلك أن سجدتهم له و فيهم يعقوب الذي هو من المخلصين و لا يسجد إلا لله وحده تكشف عن أنهم إنما سجدوا أمام يوسف لله و لم يأخذوا يوسف إلا قبلة كالكعبة التي يسجد إليها و لا يقصد بذلك إلا الله سبحانه فلم يكن عند يوسف و لا له إلا الله تعالى، و هذا هو كون العبد مخلصا - بفتح اللام - لربه مخصوصا به لا يشاركه تعالى فيه شيء كما يومىء إليه يوسف بقوله: «ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء» و قد تقدم آنفا أن العلم بتأويل الأحاديث متفرع على الإخلاص.
و من هنا قال يعقوب في تعبير رؤياه: «و كذلك - أي كما رأيت نفسك مسجودا لها - يجتبيك ربك - أي يخلصك لنفسه - و يعلمك من تأويل الأحاديث».
و كذلك رؤية آل يعقوب في صورة الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا و هي أجرام سماوية رفيعة المكان ساطعة الأنوار واسعة المدارات تدل على أنهم سترتفع مكانتهم و يعلوا كعبهم في حياتهم الإنسانية السعيدة، و هي الحياة الدينية العامرة للدنيا و الآخرة و يمتازون في ذلك من غيرهم.
و من هنا مضى يعقوب في حديثه و قال: «و يتم نعمته عليك - أي وحدك متميزا من غيرك كما رأيت نفسك كذلك - و على آل يعقوب - أي علي و على زوجي و ولدي جميعا كما رأيتنا مجمتمعين متقاربي الصور - كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق إن ربك عليم حكيم».
و ثالثا: أن المراد بإتمام النعمة تعقيب الولاية برفع سائر نواقص الحياة السعيدة و ضم الدنيا إلى الآخرة، و لا تنافي بين نسبة إتمام النعمة إلى الجميع و بين اختصاص الاجتباء و تعليم تأويل الأحاديث بيعقوب و يوسف (عليهما السلام) من بينهم لأن النعمة و هي الولاية مختلفة الدرجات متفاوتة المراتب، و حيث نسبت إلى الجميع يأخذ كل منهم نصيبه منها.
على أن من الجائز أن ينسب أمر إلى المجموع باعتبار اشتماله على أجزاء بعضها قائم بمعنى ذلك الأمر كما في قوله: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة و رزقناهم من الطيبات»: الجاثية: 16 و إيتاء الكتاب و الحكم و النبوة مختص ببعضهم دون جميعهم بخلاف الرزق من الطيبات.
و رابعا: أن يوسف كان هو الوسيلة في إتمام الله سبحانه نعمته على آل يعقوب و لذلك جعله يعقوب أصلا في الحديث و عطف عليه غيره حتى ميزه من بين آله و أفرده بالذكر حيث قال: «و يتم نعمته عليك و على آل يعقوب».
و لذلك أيضا نسب هذه العناية و الرحمة إلى ربه حيث قال مرة بعد مرة: «ربك» و لم يقل: «يجتبيك الله» و لا «أن الله عليم حكيم فهذا كله يشهد بأنه هو الأصل في إتمام النعمة على آل يعقوب، و أما أبواه إبراهيم و إسحاق فإن التعبير بما يشعر بالتنظير: «كما أتمها على أبويك من قبل إبراهيم و إسحاق» يخرجهما من تحت أصالة يوسف فافهم ذلك.
بحث روائي
في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تأويل هذه الرؤيا أنه سيملك مصر و يدخل عليه أبواه و إخوته. فأما الشمس فأم يوسف راحيل، و القمر يعقوب، و أما أحد عشر كوكبا فإخوته، فلما دخلوا عليه سجدوا شكرا لله وحده حين نظروا إليه، و كان ذلك السجود لله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن عباس: في قوله تعالى: «أحد عشر كوكبا» قال: إخوته «و الشمس» قال: أمه «و القمر» قال: أبوه، و لأمه راحيل ثلث الحسن.
أقول: و الروايتان - كما ترى - تفسران الشمس بأمه و القمر بأبيه و لا تخلوان من ضعف، و ربما روي أن التي دخلت عليه بمصر هي خالته دون أمه فقد ماتت أمه قبل ذلك، و كذلك وردت في التوراة.
و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): كان له أحد عشر أخا، و كان له من أمه أخ واحد يسمى بنيامين. قال: فرآى يوسف هذه الرؤيا و له تسع سنين فقصها على أبيه فقال: يا بني لا تقصص الآية.
أقول: و في بعض الروايات أنه كان يومئذ ابن سبع سنين و في التوراة أنه كان ابن ست عشر سنة.
و هو بعيد.
و في قصة الرؤيا روايات أخرى سيجيء بعضها في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
|