بيان
تتضمن الآيات قصة خروجه (عليه السلام) من السجن و نيله عزة مصر و الأسباب المؤدية إلى ذلك، و فيها تحقيق الملك ثانيا في اتهامه و ظهور براءته التام.
قوله تعالى: «و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف» إلى آخر الآية.
رؤيا للملك يخبر بها الملأ و الدليل عليه قوله: «يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي» و قوله: «إني أرى» حكاية حال ماضية، و من المحتمل أنها كانت رؤيا متكررة كما يحتمل مثله في قوله سابقا: «إني أراني أعصر خمرا» «إني أراني أحمل» إلخ.
و السمان جمع سمينة و العجاف جمع عجفاء بمعنى المهزولة، قال في المجمع: و لا يجمع فعلاء على فعال غير العجفاء على عجاف و القياس في جمعه العجف بضم العين و سكون الجيم كالحمراء و الخضراء و البيضاء على حمر و خضر و بيض، و قال غيره: إن ذلك من قبيل الاتباع و الجمع القياسي عجف.
و الإفتاء إفعال من الفتوى و الفتيا، قال في المجمع،: الفتيا الجواب عن حكم المعنى و قد يكون الجواب عن نفس المعنى فلا يكون فتيا انتهى.
و قوله: «تعبرون» من العبر و هو بيان تأويل الرؤيا و قد يسمى تعبيرا، و هو على أي حال مأخوذ من عبور النهر و نحوه كان العابر يعبر من الرؤيا إلى ما وراءها من التأويل، و هو حقيقة الأمر التي تمثلت لصاحب الرؤيا في صورة خاصة مألوفة له.
قال في الكشاف، في قوله: «سبع بقرات سمان» إلخ فإن قلت: هل من فرق بين إيقاع سمان صفة للمميز و هو بقرات دون المميز و هو سبع و إن يقال: سبع بقرات سمانا؟ قلت: إذا أوقعتها صفة لبقرات فقد قصدت إلى أن تميز السبع بنوع من البقرات و هي السمان منهن لا بجنسهن، و لو وصفت بها السبع لقصدت إلى تمييز السبع بجنس البقرات لا بنوع منها ثم رجعت فوصفت المميز بالجنس بالسمن.
فإن قلت: هلا قيل: سبع عجاف على الإضافة؟ قلت: التمييز موضوع لبيان الجنس و العجاف وصف لا يقع البيان به وحده فإن قلت: فقد يقال: ثلاثة فرسان و خمسة أصحاب قلت: الفارس و الصاحب و الراكب و نحوها صفات جرت مجرى الأسماء فأخذت حكمها و جاز فيها ما لم يجز في غيرها، أ لا تراك لا تقول: عندي ثلاثة ضخام و أربعة غلاظ.
انتهى.
و قال أيضا: فإن قلت: هل في الآية دليل على أن السنبلات اليابسة كانت سبعا كالخضر؟ قلت: الكلام مبني على انصبابه إلى هذا العدد في البقرات السمان و العجاف و السنابل الخضر فوجب أن يتناول معنى الآخر السبع، و يكون قوله: «و أخر يابسات» بمعنى و سبعا أخر.
فإن قلت: هل يجوز أن يعطف قوله: «و أخر يابسات» على «سنبلات خضر» فيكون مجرور المحل؟ قلت: يؤدي إلى تدافع و هو أن عطفها على سنبلات خضر يقتضي أن يدخل في حكمها فيكون معها مميزا للسبع المذكورة، و لفظ الأخر يقتضي أن يكون غير السبع بيانه أنك تقول: عندي سبعة رجال قيام و قعود بالجر فيصح لأنك ميزت السبعة برجال موصوفين بقيام و قعود على أن بعضهم قيام و بعضهم قعود فلو قلت: عنده سبعة رجال قيام و آخرين قعود تدافع ففسد.
انتهى، و كلامه على اشتماله على نكتة لطيفة لا ينتج أزيد من الظن بكون السنبلات اليابسات سبعا كغيرها أما وجوب الدلالة من الكلام فلا البتة.
و معنى الآية: و قال ملك مصر لملئه إني أرى في منامي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع بقرات مهازيل و أرى سبع سنبلات خضر و سنبلات أخر يابسات يا أيها الملأ بينوا لي ما عندكم من حكم رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون.
قوله تعالى: «قالوا أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» الأحلام جمع حلم بضمتين و قد يسكن وسطه هو ما يراه النائم في منامه و كان الأصل في معناه ما يتصور للإنسان من داخل نفسه من غير توصله إليه بالحس، و منه تسمية العقل حلما لأنه استقامة التفكر، و منه أيضا الحلم لزمان البلوغ قال تعالى.
«و إذا بلغ الأطفال منكم الحلم»: النور: 59 أي زمان البلوغ، بلوغ العقل، و منه الحلم بكسر الحاء بمعنى الأناءة ضد الطيش و هو ضبط النفس و الطبع عن هيجان الغضب و عدم المعاجلة في العقوبة فإنه إنما يكون عن استقامة التفكر.
و ذكر الراغب: أن الأصل في معناه الحلم بكسر الحاء، و لا يخلو من تكلف.
و قال الراغب: الضغث قبضة ريحان أو حشيش أو قضبان و جمعه أضغاث، قال تعالى: «و خذ بيدك ضغثا» و به شبه الأحلام المختلفة التي لا تتبين حقائقها «قالوا أضغاث أحلام» حزم أخلاط من الأحلام انتهى.
و تسمية الرؤيا الواحدة بأضغاث الأحلام كأنه بعناية دعوى كونها صورا متفرقة مختلطة مجتمعة من رؤى مختلفة لكل واحد منها تأويل على حدة فإذا اجتمعت و اختلطت عسر للمعبر الوقوف على تأويلها، و الإنسان كثيرا ما ينتقل في نومة واحدة من رؤيا إلى أخرى و منهما إلى ثالثة و هكذا فإذا اختلطت أبعاضها كانت أضغاث أحلام و امتنع الوقوف على حقيقتها و يدل على ما ذكرنا من العناية التعبير بأضغاث أحلام بتنكير المضاف و المضاف إليه معا كما لا يخفى.
على أن الآية أعني قوله: «و قال الملك إني أرى» إلخ، غير صريحة في كونه رؤيا واحدة و في التوراة أنه رأى البقرات السمان و العجاف في رؤيا و السنبلات الخضر و اليابسات في رؤيا أخرى.
و قوله: «و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين» إن كان الألف و اللام للعهد فالمعنى و ما نحن بتأويل هذه المنامات التي هي أضغاث أحلام بعالمين.
و إن كان لغير العهد و الجمع المحلى باللام يفيد العموم فالمعنى و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعبر غير أضغاث الأحلام منها، و على أي حال لا تدافع بين عدهم رؤياه أضغاث أحلام و بين نفيهم العلم بتأويل الأحلام عن أنفسهم، و لو كان المراد بالأحلام الأحلام الصحيحة فحسب كان كل من شطري كلامهم يغني عن الآخر.
و معنى الآية قالوا أي قال الملأ للملك: ما رأيته أضغاث أحلام و أخلاط من منامات مختلفة و ما نحن بتأويل هذا النوع من المنامات بعالمين أو و ما نحن بتأويل جميع المنامات بعالمين و إنما نعلم تأويل الرؤى الصالحة.
قوله تعالى: «و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون» الأمة الجماعة التي تقصد لشأن و يغلب استعمالها في الإنسان، و المراد بها هاهنا الجماعة من السنين و هي المدة التي نسي فيها هذا القائل و هو ساقي الملك أن يذكر يوسف عند ربه و قد سأله يوسف ذلك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث يوسف في السجن بضع سنين.
و المعنى: و قال الذي نجا من السجن من صاحبي يوسف فيه و ادكر بعد جماعة من السنين ما سأله يوسف في السجن حين أول رؤياه: أنا أنبئكم بتأويل ما رآه الملك في منامه فأرسلوني إلى يوسف في السجن حتى أخبركم بتأويل ذلك.
و خطاب الجمع في قوله: «أنبئكم» و قوله «فأرسلون» تشريك لمن حضر مع الملك و هم الملأ من أركان الدولة و أعضاد المملكة الذين يلون أمور الناس، و الدليل عليه قوله الآتي: «لعلي أرجع إلى الناس» كما سيأتي.
قوله تعالى: «يوسف أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان» إلى آخر الآية، في الكلام حذف و تقدير إيجازا، و التقدير: فأرسلوه فجاء إلى يوسف في السجن فقال: يا يوسف أيها الصديق أفتنا في رؤيا الملك و ذكر الرؤيا و ذكر أن الناس في انتظار تأويله و هذا الأسلوب من لطائف أساليب القرآن الكريم.
سمى يوسف صديقا و هو كثير الصدق المبالغ فيه لما كان رأى من صدقه فيما عبر به منامه و منام صاحبه في السجن و أمور أخرى شاهدها من فعله و قوله في السجن، و قد أمضى الله سبحانه كونه صديقا بنقله ذلك من غير رد.
و قد ذكر متن الرؤيا من غير أن يصرح أنه رؤيا فقال: «أفتنا في سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات» لأن قوله: «أفتنا» و هو سؤال الحكم الذي يؤدي إليه نظره، و كون المعهود فيما بينه و بين يوسف تأويل الرؤيا، و كذا ذيل الكلام يدل على ذلك و يكشف عنه.
و قوله: «لعلي أرجع إلى الناس لعلهم يعلمون» لعل الأول تعليل لقوله: «أفتنا» و لعل الثاني تعليل لقوله «أرجع» و المراد أفتنا في أمر هذه الرؤيا ففي إفتائك رجاء أن أرجع به إلى الناس و أخبرهم بها و في رجوعي إليهم رجاء أن يعلموا به فيخرجوا به من الحيرة و الجهالة.
و من هنا يظهر أن قوله: «أرجع» في معنى أرجع بذلك فمن المعلوم أنه لو أفتى فيه فرجع المستفتي إلى الناس كان رجوعه رجوع عالم بتأويله خبير بحكمه فرجوعه عندئذ إليهم رجوع بمصاحبة ما ألقي إليه من التأويل فافهم ذلك.
و في قوله أولا: «أفتنا» و ثانيا: «لعلي أرجع إلى الناس» دلالة على أنه كان يستفتيه بالرسالة عن الملك و الملأ و لم يكن يسأله لنفسه حتى يعلمه ثم يخبرهم به بل ليحمله إليهم و لذلك لم يخصه يوسف بالخطاب بل عم الخطاب له و لغيره فقال: «تزرعون» إلخ.
و في قوله: «إلى الناس» إشعار أو دلالة على أن الناس كانوا في انتظار أن يرتفع بتأويله حيرتهم، و ليس إلا أن الملأ كانوا هم أولياء أمور الناس و خيرتهم في الأمر خيرة الناس أو أن الناس أنفسهم كانوا على هذا الحال لتعلقهم بالملك و اهتمامهم برؤياه لأن الرؤيا ناظرة غالبا إلى ما يهتم به الإنسان من شئون الحياة و الملوك إنما يهتمون بشئون المملكة و أمور الرعية.
قوله تعالى: «قال تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون» قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا قال تعالى: «و سخر لكم الشمس و القمر دائبين» و الدأب العادة المستمرة دائما على حاله قال تعالى: «كدأب آل فرعون» أي كعادتهم التي يستمرون عليها.
انتهى و عليه فالمعنى تزرعون سبع سنين زراعة متوالية مستمرة، و قيل: هو من دأب بمعنى التعب أي تزرعون بجد و اجتهاد، و يمكن أن يكون حالا أي تزرعون دائبين مستمرين أو مجدين مجتهدين فيه.
ذكروا أن «تزرعون» خبر في معنى الإنشاء، و كثيرا ما يؤتى بالأمر في صورة الخبر مبالغة في وجوب الامتثال كأنه واقع يخبر عنه كقوله تعالى: «تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله»: الصف: 11، و الدليل عليه قوله بعد: «فما حصدتم فذروه في سنبله»، قيل: و إنما أمر بوضعه و تركه في سنبله لأن السنبل لا يقع فيه سوس و لا يهلك و إن بقي مدة من الزمان، و إذا ديس و صفي أسرع إليه الهلاك.
و المعنى: ازرعوا سبع سنين متواليات فما حصدتم فذروه في سنبله لئلا يهلك و احفظوه كذلك إلا قليلا و هو ما تأكلون في هذه السنين.
قوله تعالى: «ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون» الشداد جمع شديد من الشدة بمعنى الصعوبة لما في سني الجدب و المجاعة من الصعوبة و الحرج على الناس أو هو من شد عليه إذا كر، و هذا أنسب لما بعده من توصيفها بقوله: «يأكلن ما قدمتم لهن».
و عليه فالكلام يشتمل على تمثيل لطيف كان هذه السنين سباع ضارية تكر على الناس لافتراسهم و أكلهم فيقدمون إليها ما ادخروه عندهم من الطعام فتأكله و تنصرف عنهم.
و الإحصان الإحراز و الإدخار، و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السنين الخصبة سبع سنين شداد يشددن عليكم يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحرزون و تدخرون.
قوله تعالى: «ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون» يقال: غاثه الله و أغاثه أي نصره، و يغيثه بفتح الياء و ضمها أي ينصره و هو من الغوث بمعنى النصرة و غاثهم الله يغيثهم من الغيث و هو المطر، فقوله: «فيه يغاث الناس» إن كان من الغوث كان معناه: ينصرون فيه من قبل الله سبحانه بكشف الكربة و رفع الجدب و المجاعة و إنزال النعمة و البركة، و إن كان من الغيث كان معناه: يمطرون فيرتفع الجدب من بينهم.
و هذا المعنى الثاني أنسب بالنظر إلى قوله بعده: «و فيه يعصرون» و لا يصغى إلى قول من يدعي: أن المعنى الأول هو المتبادر من سياق الآية إلا على قراءة «يعصرون» بالبناء للمجهول و معناه يمطرون.
و ما أورده بعض المستشرقين على المعنى الثاني أنه لا ينطبق على مورد الآية فإن خصب مصر إنما يكون بفيضان النيل لا بالمطر فالأمطار لا تؤثر فيها أثرا.
رد عليه بأن الفيضان نفسه لا يكون إلا بالمطر الذي يمده في مجاريه من بلاد السودان.
على أن من الجائز أن يكون «يغاث» مأخوذا من الغيث بمعنى النبات، قال في لسان العرب،: و الغيث الكلاء ينبت من ماء السماء انتهى، و هذا أنسب من المعنيين السابقين بالنظر إلى قوله: «و فيه يعصرون».
و قوله: «و فيه يعصرون» من العصر و هو إخراج ما في الشيء من ماء أو دهن بالضغط كإخراج ماء العنب و التمر للدبس و غيره و إخراج دهن الزيت و السمسم للائتدام و الاستصباح و غيرهما، و يمكن أن يراد بالعصر الحلب أي يحلبون ضروع أنعامهم كما فسره بعضهم به.
و المعنى ثم يأتي من بعد ذلك أي ما ذكر من السبع الشداد عام فيه تنبت أراضيهم - أو يمطرون أو ينصرون - و فيه يتخذون الأشربة و الأدهنة من الفواكه و البقول أو يحلبون ضروع أنعامهم.
و فيه كناية عن توفر النعمة عليهم و على أنعامهم و مواشيهم.
قال البيضاوي في تفسيره،: و هذه بشارة بشرهم بها بعد أن أول البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة، و لعله علم ذلك بالوحي أو بأن انتهاء الجدب بالخصب أو بأن السنة الإلهية أن يوسع على عباده بعد ما ضيق عليهم.
انتهى و ذكر غيره نحوا مما ذكره.
و قال صاحب المنار في تفسيره، في الآية: و المراد أن هذا العام عظيم الخصب و الإقبال يكون للناس فيه كل ما يبغون من النعمة و الإتراف، و الإنباء بهذا زائد على تأويل الرؤيا لجواز أن يكون العام الأول بعد سني الشدة و الجدب دون ذلك فهذا التخصيص و التفصيل لم يعرفه يوسف إلا بوحي من الله عز و جل لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.
انتهى.
و الذي أرى أنهم سلكوا تفسير آيات الرؤيا و تأويلها سبيل المساهلة و المسامحة و ذلك أنا إذا تدبرنا في كلامه (عليه السلام) في التأويل أعني قوله: «تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحصنون» وجدناه (عليه السلام) لم يبن كلامه على أساس إخبارهم بما سيستقبلهم من السنين السبع المخصبة ثم السنين السبع المجدبة، و لو أنه أراد ذلك لكان من حق الكلام أن يقول مثلا: يأتي عليكم سبع مخصبات ثم يأتي من بعدها سبع شداد يذهبن بما عندكم من الذخائر ثم إذا سئل عن دفع هذه المخمصة و طريق النجاة من هذه المهلكة العامة، قال: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلى آخر ما قال.
بل بنى كلامه على ذكر ما يجب عليهم من العمل و بين أن أمره بذلك توطئة و تقدمة للتخلص عما يهددهم من المجاعة و المخمصة و هو ظاهر، و هذا دليل على أن الذي رآه الملك من الرؤيا إنما كان مثال ما يجب عليه من اتخاذ التدبير لإلجاء الناس من مصيبة الجدب، و إشارة إلى ما هو وظيفته قبال مسئوليته في أمر رعيته و هو أن يسمن بقرات سبعا لتأكلهن بقرات مهازيل ستشد عليهم و يحفظ السنابل الخضر السبع بعد ما يبست على حالها من غير دوس و تصفية لذلك.
فكأن نفس الملك شاهدت في المنام ما يجب عليه من العمل قبال ما يهدد الأرض من سنة الجدب فحكت السنين المخصبة و المجدبة أي الرزق الذي يرتزقون به فيها في صورة البقرة ثم حكت ما في السبع الأول من تكثير المحصول بزرعها دأبا في صورة السمن و ما في السبع الآخر في صورة الهزال، و حكت نفاد ما ادخروه في السبع الأولى في السبع الثانية بأكل العجاف للسمان، و حكت ما يجب عليهم في حفظ ذخائر الرزق بالسنبلات اليابسة قبال السنبلات الخضر.
و لم يزد يوسف (عليه السلام) في تأويله على ذلك شيئا إلا أمورا ثلاثة: أحدها ما استثناه بقوله: «إلا قليلا مما تأكلون» و ليس جزء من التأويل و إنما هو إباحة و بيان لمقدار التصرف الجائز فيما يجب أن يذروه في سنبله.
و ثانيها: قوله: «إلا قليلا مما تحصنون» و هو الذي يجب أن يدخروه للعام الذي فيه يغاث الناس و فيه يعصرون ليتخذ بذرا و مددا احتياطيا، و كأنه (عليه السلام) أخذه من قوله في حكاية الرؤيا: «يأكلهن سبع عجاف» حيث لم يقل: أكلتهن بل عبر عن اشتغالهن بأكلهن و لما يفنيهن بأكل كلهن و لو كانت ذخائرهم تنفد في السنين السبع الشداد لرأى أنهن أكلتهن عن آخرهن.
و ثالثها: قوله: «ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون» و الظاهر أنه (عليه السلام) استفاده من عدد السبع الذي تكرر في البقرات السمان و العجاف و السنبلات الخضر، و قوله: «ثم يأتي من بعد ذلك عام» و إن كان إخبارا صورة عن المستقبل لكنه كناية عن أن هذا العام الذي سيستقبلهم بعد مضي السبع الشداد في غنى عن اجتهادهم في أمر الزرع و الإدخار، و لا تكليف فيه يتوجه إليهم بالنسبة إلى أرزاق الناس.
و لعله لهذه الثلاثة غير السياق فقال: «فيه يغاث الناس و فيه يعصرون» و لم يقل: فيه تغاثون و فيه تعصرون بالجري على نحو الخطاب في الآيتين السابقتين ففيه إشارة إلى أن الناس في هذا العام في غنى عن اجتهادكم في أمر معاشهم و تصديكم لإدارة أرزاقهم بل يغاثون و يعصرون لنزول النعمة و البركة في سنة مخصبة.
و من هنا يظهر اندفاع ما ذكره صاحب المنار، في كلامه المتقدم أن هذا التخصيص لم يعرفه يوسف (عليه السلام) إلا بوحي من الله لا مقابل له في رؤيا الملك و لا هو لازم من لوازم تأويلها بهذا التفصيل.
انتهى.
فإن تبدل سني الجدب بسنة الخصب مما يستفاد من الرؤيا بلا ريب فيه، و أما ما ذكره من كون هذه السنة ذات مزية بالنسبة إلى سائر سني الخصب تزيد عليها في وفور الرزق فلا دليل عليها من جهة اللفظ البتة.
و مما ذكرنا أيضا تظهر النكتة في ترك توصيف السنبلات اليابسات في الآية بالسبع حيث قيل: «و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات» حيث عرفت أن الرؤيا لا تجلي نفس حادثة الخصب و الجدب، و إنما تجلي ما هو التكليف العملي قبال الحادثة فيكون توصيف السنابل اليابسة بالسبع مستدركا مستغنى عنه بخلاف ما لو كان ذلك إشارة إلى نفس السنين المجدبة فافهم ذلك.
و مما تقدم يظهر أيضا أن الأنسب أن يكون المراد بقوله: «يغاث» و قوله: «يعصرون» الإمطار أو إعشاب الكلاء و حلب المواشي لأن ذلك هو المناسب لما رآه في منامه من البقرات السبع سمانا و عجافا فإن هذا هو المعهود، و منه يظهر وجه تخصيص الغيث و العصر بالذكر في هذه الآية، و الله أعلم.
قوله تعالى: «و قال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن إن ربي بكيدهن عليم» في الكلام حذف و إضمار إيجازا، و التقدير - على ما يدل عليه السياق و الاعتبار بطبيعة الأحوال - و جاء الرسول و هو الساقي فنبأهم بما ذكره يوسف من تأويل الرؤيا و قال الملك بعد ما سمعه: ائتوني به.
و ظاهر أن الذي أنبأهم به من جدب سبع سنين متوالية كان أمرا عظيما، و الذي أشار إليه من الرأي البين الصواب أعظم منه و أغرب عند الملك المهتم بأمر أمته المعتني بشئون مملكته، و قد أفزعه ما سمع و أدهشه، و لذلك أمر بإحضاره ليكلمه و يتبصر بما يقوله مزيد تبصر، و يشهد بهذا ما حكاه الله تعالى من تكليمه إياه بقوله: «فلما جاءه و كلمه» إلخ.
و لم يكن أمره بإتيانه به إشخاصا له بل إطلاقا من السجن و إشخاصا للتكليم و، لو كان إشخاصا و إحضارا لمسجون يعود إلى السجن بعد التكليم لم يكن ليوسف (عليه السلام) أن يستنكف عن الحضور بل أجبر عليه إجبارا بل كان إحضارا عن عفو و إطلاق فوسعه أن يأتي الحضور و يسأله أن يقضي فيه بالحق، و كانت نتيجة هذا الإباء و السؤال أن يقول الملك ثانيا: ائتوني به أستخلصه لنفسي بعد ما قال أولا: ائتوني به.
و قد راعى (عليه السلام) أدبا بارعا في قوله للرسول: «ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» فلم يذكر امرأة العزيز بما يسوؤه و ليس يريد إلا أن يقضي بينه و بينها، و إنما أشار إلى النسوة اللاتي راودنه، و لم يذكرهن أيضا بسوء إلا بأمر يظهر بالتحقيق فيه براءته و لا براءته من مراودة امرأة العزيز بل نزاهته من أي مراودة و فحشاء تنسب إليه فقد كان بلاؤه عظيما.
و لم يذكرهن بشيء من المكروه إلا ما في قوله: «إن ربي بكيدهن عليم» و ليس إلا نوعا من بث الشكوى لربه.
و ما ألطف قوله في صدر الآية و ذيلها حيث يقول للرسول: «ارجع إلى ربك فاسأله» ثم يقول: «إن ربي بكيدهن عليم» و فيه نوع من تبليغ الحق، و ليكن فيه تنبه لمن يزعم أن مراده من «ربي» فيما قال لامرأة العزيز: «إنه ربي أحسن مثواي» هو زوجها، و أنه يسميه ربا لنفسه.
و ما ألطف قوله: «ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن» و البال هو الأمر الذي يهتم به يقول: ما هو الأمر العظيم و الشأن الخطير الذي أوقعهن فيما وقعن فيه، و ليس إلا هواهن فيه و ولههن في حبه حتى أنساهن أنفسهن فقطعن الأيدي مكان الفاكهة تقطيعا فليفكر الملك في نفسه أن الابتلاء بمثل هذه العاشقات الوالهات عظيم جدا، و الكف عن معاشقتهن و الامتناع من إجابتهن بما يردنه و هن يفدينه بالأنفس و الأموال أعظم، و لم يكن المراودة بالمرة و المرتين و لا الإلحاح و الإصرار يوما أو يومين و لن تتيسر المقاومة و الاستقامة تجاه ذلك إلا لمن صرف الله عنه السوء و الفحشاء ببرهان من عنده.
قوله تعالى: «قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء» الآية، قال الراغب: الخطب الأمر العظيم الذي يكثر فيه التخاطب قال تعالى: «فما خطبك يا سامري» «فما خطبكم أيها المرسلون».
انتهى.
و قال أيضا: حصحص الحق أي وضح و ذلك بانكشاف ما يظهره، و حص و حصحص نحو كف و كفكف و كب و كبكب، و حصة قطع منه إما بالمباشرة و إما بالحكم - إلى أن قال - و الحصة القطعة من الجملة، و يستعمل استعمال النصيب.
انتهى.
و قوله: «قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟» جواب عن سؤال مقدر على ما في الكلام من حذف و إضمار إيجازا - كل ذلك يدل عليه السياق - و التقدير: كان سائلا يسأل فيقول: فما الذي كان بعد ذلك؟ و ما فعل الملك؟ فقيل: رجع الرسول إلى الملك و بلغه ما قاله يوسف و سأله من القضاء فأحضر النسوة و سألهن عما يهم من شأنهن في مراودتهن ليوسف: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: «حاش لله ما علمنا عليه من سوء» فنزهنه عن كل سوء، و شهدن أنهن لم يظهر لهن منه ما يسوء فيما راودنه عن نفسه.
و ذكرهن كلمة التنزيه: «حاش لله» نظير تنزيههن حينما رأينه لأول مرة: «حاش لله ما هذا بشرا» يدل على بلوغه (عليه السلام) النهاية في النزاهة و العفة فيما علمنه كما أنه كان بالغا في الحسن.
و الكلام في فصل قوله: «قالت امرأة العزيز» نظير الكلام في قوله «قال ما خطبكن» و قوله: «قلن حاش لله» فعند ذلك تكلمت امرأة العزيز و هي الأصل في هذه الفتنة و اعترفت بذنبها و صدقت يوسف (عليه السلام) فيما كان يدعيه من البراءة قالت: الآن حصحص و وضح الحق و هو أنه: أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فنسبت المراودة إلى نفسها و كذبت نفسها في اتهامه بالمراودة، و لم تقنع بذلك بل برأته تبرئة كاملة أنه لم يراود و لا أجابها في مراودتها بالطاعة.
و اتضحت بذلك براءته (عليه السلام) من كل وجه، و في قول النسوة و قول امرأة العزيز جهات من التأكيد بالغة في ذلك كنفي السوء عنه بالنكرة في سياق النفي مع زيادة من: «ما علمنا عليه من سوء» مع كلمة التنزيه: «حاش لله» في قولهن، و اعترافها بالذنب في سياق الحصر: «أنا راودته عن نفسه» و شهادتها بصدقه مؤكدة بأن و اللام و الجملة الاسمية: «و إنه لمن الصادقين» و غير ذلك في قولها.
و هذا ينفي عنه (عليه السلام) كل سوء أعم من الفحشاء و المراودة لها و أي ميل و نزعة إليها و كذب و افتراء، بنزاهه من حسن اختياره.
قوله تعالى: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» من كلام يوسف (عليه السلام) على ما يدل عليه السياق، و كأنه قاله عن شهادة النسوة على براءة ساحته من كل سوء و اعتراف امرأة العزيز بالذنب و شهادتها بصدقه و قضاء الملك ببراءته.
و حكاية القول كثير النظير في القرآن كقوله: «آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه و المؤمنون كل آمن بالله و ملائكته و كتبه و رسله لا نفرق بين أحد من رسله»: البقرة: 285 أي قالوا لا نفرق «إلخ»، و قوله: «و إنا لنحن الصافون و إنا لنحن المسبحون»: الصافات: 166.
و على هذا فالإشارة بقوله: «ذلك» إلى إرجاع الرسول إلى الملك و سؤاله القضاء، و الضمير في «ليعلم» و «لم أخنه» عائد إلى العزيز و المعنى إنما أرجعت الرسول إلى الملك و سألته أن يحقق الأمر و يقضي بالحق ليعلم العزيز أني لم أخنه بالغيب بمراودة امرأته و ليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين.
يذكر (عليه السلام) لما فعله من الإرجاع و السؤال غايتين: أحدهما: أن يعلم العزيز أنه لم يخنه و تطيب نفسه منه و يزول عنها و عن أمره أي شبهة و ريبة.
و الثاني: أن يعلم أن الخائن مطلقا لا ينال بخيانته غايته و أنه سيفتضح لا محالة سنة الله التي قد خلت في عباده و لن تجد لسنة الله تبديلا فإن الخيانة من الباطل، و الباطل لا يدوم و سيظهر الحق عليه ظهورا، و لو اهتدى الخائن إلى بغيته لم تفتضح النسوة اللاتي قطعن أيديهن و أخذن بالمراودة و لا امرأة العزيز فيما فعلت و أصرت عليه فالله لا يهدي كيد الخائنين.
و كان الغرض من الغاية الثانية: «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» و تذكيره و تعليمه للملك، الحصول على لازم فائدة الخبر و هو أن يعلم الملك أنه (عليه السلام) عالم بذلك مذعن بحقيقته فإذا كان لم يخنه في عرضه بالغيب و لا يخون في شيء البتة كان جديرا بأن يؤتمن على كل شيء نفسا كان أو عرضا أو مالا.
و بهذا الامتياز البين يتهيأ ليوسف ما كان بباله أن يسأل الملك إياه و هو قوله بعد أن أشخص عند الملك: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم».
و الآية ظاهرة في أن هذا الملك هو غير عزيز مصر زوج المرأة الذي أشير إليه بقوله: «و ألفيا سيدها لدى الباب» و قوله: «و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه».
و قد ذكر بعض المفسرين أن هذه الآية و التي بعدها تتمة قول امرأة العزيز: «الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» و سيأتي الكلام عليه.
قوله تعالى: «و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم» تتمة كلام يوسف (عليه السلام) و ذلك أن قوله: «أني لم أخنه بالغيب» كان لا يخلو من شائبة دعوى الحول و القوة و هو (عليه السلام) من المخلصين المتوغلين في التوحيد الذين لا يرون لغيره تعالى حولا و لا قوة فبادر (عليه السلام) إلى نفي الحول و القوة عن نفسه و نسبة ما ظهر منه من عمل صالح أو صفة جميلة إلى رحمة ربه، و تسوية نفسه بسائر النفوس التي هي بحسب الطبع مائلة إلى الأهواء أمارة بالسوء فقال: «و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي» فقوله هذا كقول شعيب (عليه السلام): «إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت و ما توفيقي إلا بالله»: هود: 88.
فقوله: «و ما أبرىء نفسي» إشارة إلى قوله: «أني لم أخنه بالغيب» و أنه لم يقل هذا القول بداعي تنزيه نفسه و تزكيتها بل بداعي حكاية رحمة من ربه، و علل ذلك بقوله «إن النفس لأمارة بالسوء» أي إن النفس بطبعها تدعو إلى مشتهياتها من السيئات على كثرتها و وفورها فمن الجهل أن تبرأ من الميل إلى السوء، و إنما تكف عن أمرها بالسوء و دعوتها إلى الشر برحمة من الله سبحانه تصرفها عن السوء و توفقها لصالح العمل.
و من هنا يظهر أن قوله: «إلا ما رحم ربي» يفيد فائدتين؟.
إحداهما: تقييد إطلاق قوله: «إن النفس لأمارة بالسوء» فيفيد أن اقتراف الحسنات الذي هو برحمة من الله سبحانه من أمر النفس و ليس يقع عن إلجاء و إجبار من جانبه تعالى.
و ثانيتهما: الإشارة إلى أن تجنبه الخيانة كان برحمة من ربه.
و قد علل الحكم بقوله: «إن ربي غفور رحيم» فأضاف مغفرته تعالى إلى رحمته لأن المغفرة تستر النقيصة اللازمة للطبع و الرحمة يظهر بها الأمر الجميل، و مغفرته تعالى كما تمحو الذنوب و آثارها كذلك تستر النقائض و تبعاتها و تتعلق بسائر النقائص كما تتعلق بالذنوب، قال تعالى.
«فمن اضطر غير باغ و لا عاد فإن ربك غفور رحيم»: الأنعام: 145 و قد تقدم الكلام فيها في آخر الجزء السادس من الكتاب.
و من لطائف ما في كلامه من الإشارة تعبيره (عليه السلام) عن الله عز اسمه بلفظ «ربي» فقد كرره ثلاثا حيث قال: «إن ربي بكيدهن عليم» «إلا ما رحم ربي» «إن ربي غفور رحيم» لأن هذه الجمل تتضمن نوع إنعام من ربه بالنسبة إليه فأثنى على الرب تعالى بإضافته إلى نفسه لتبليغ مذهبه و هو التوحيد باتخاذ الله سبحانه ربا لنفسه معبودا خلافا للوثنيين، و أما قوله: «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» فهو خال عن هذه النسبة و لذلك عبر بلفظ الجلالة.
و قد ذكر جمع من المفسرين أن الآيتين أعني قوله: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» «إلخ» من تمام كلام امرأة العزيز، و المعنى على هذا أن امرأة العزيز لما اعترفت بذنبها و شهدت بصدقه قالت: «ذلك» أي اعترافي بأني راودته عن نفسه و شهادتي بأنه من الصادقين «ليعلم» إذا بلغه عني هذا الكلام «أني لم أخنه بالغيب» بل اعترفت بأن المراودة كانت من قبلي أنا و أنه كان صادقا «و أن الله لا يهدي كيد الخائنين» كما أنه لم يهد كيدي أنا إذ كدته بأنواع المراودة و بالسجن بضع سنين حتى أظهر صدقه في قوله و طهارة ذيله و براءة نفسه و فضحني أمام الملك و الملأ و لم يهد كيد سائر النسوة في مراودتهن «و ما أبرىء نفسي» من السوء مطلقا فإني كدت له بالسجن ليلجأ به إلى أن يفعل ما آمره «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم».
و هذا وجه رديء جدا أما أولا: فلأن قوله: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» لو كان من كلام امرأة العزيز لكان من حق الكلام أن يقال: و ليعلم أني أخنه بالغيب - بصيغة الأمر - فإن قوله «ذلك» على هذا الوجه إشارة إلى اعترافها بالذنب و شهادتها بصدقه فقوله: «لم أخنه بالغيب» إن كان عنوانا لاعترافها و شهادتها مشارا به إلى ذلك خلى الكلام عن الفائدة فإن محصل معناه حينئذ: إنما اعترفت و شهدت ليعلم أني اعترفت و شهدت له بالغيب.
مضافا إلى أن ذلك يبطل معنى الاعتراف و الشهادة لدلالته على أنها إنما اعترفت و شهدت ليسمع يوسف ذلك و يعلم به، لا لإظهار الحق و بيان حقيقة الأمر.
و إن كان عنوانا لأعمالها طول غيبة إذ لبث بضع سنين في السجن أي إنما اعترفت و شهدت له ليعلم أني لم أخنه طول غيبته، فقد خانته إذ كادت به فسجن و لبث في السجن بضع سنين مضافا إلى أن اعترافها و شهادتها لا يدل على عدم خيانتها له بوجه من الوجوه و هو ظاهر.
و أما ثانيا: فلانه لا معنى حينئذ لتعليمها يوسف إن الله لا يهدي كيد الخائنين، و قد ذكرها يوسف به أول حين إذ راودته عن نفسه فقال: «إنه لا يفلح الظالمون».
و أما ثالثا: فلأن قولها: «و ما أبرىء نفسي فقد خنته بالكيد له بالسجن» يناقض قولها: «لم أخنه بالغيب» كما لا يخفى مضافا إلى أن قوله: «إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم» على ما فيه من المعارف الجليلة التوحيدية ليس بالحري أن يصدر من امرأة أحاطت بها الأهواء و هي تعبد الأصنام.
و ذكر بعضهم وجها آخر في معنى الآيتين بإرجاع ضمير «ليعلم» و «لم أخنه» إلى العزيز و هو زوجها فهي كأنها تقول: ذاك الذي حصل أقررت به ليعلم زوجي أني لم أخنه بالفعل فيما كان من خلواتي بيوسف في غيبته عنا، و أن كل ما وقع أني راودته عن نفسه فاستعصم و امتنع فبقي عرض زوجي مصونا و شرفه محفوظا، و لئن برئت يوسف من الإثم فما أبرىء منه نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي.
و فيه: أن الكلام لو كان من كلامها و هي تريد أن تطيب به نفس زوجها و تزيل أي ريبة عن قلبه أنتج خلاف المطلوب فإن قولها.
«الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» إنما يفيد العلم بأنها راودته عن نفسه، و أما شهادتها أنه امتنع و لم يطعها فيما أمرته به فهي شهادة لنفسها لا عليها، و كان من الممكن أنها إنما شهدت له لتطيب نفس زوجها و تزيل ما عنده من الشك و الريب فاعترافها و شهادتها لا توجب في نفسها علم العزيز أنها لم تخنه بالغيب.
مضافا إلى أن قوله: «و ما أبرىء نفسي» إلخ يكون حينئذ تكرارا لمعنى قولها: «أنا راودته عن نفسه» و ظاهر السياق خلافه.
على أن بعض الاعتراضات الواردة على الوجه السابق وارد عليه.
قوله تعالى: «و قال الملك ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما كلمه قال إنك اليوم لدينا مكين أمين» يقال: استخلصه أي جعله خالصا، و المكين صاحب المكانة و المنزلة، و في قوله: «فلما كلمه» حذف للإيجاز و التقدير: فلما أتي به إليه و كلمه قال إنك اليوم «إلخ» و في تقييد الحكم باليوم إشارة إلى التعليل، و المعنى أنك اليوم و قد ظهر من مكارم أخلاقك في التجنب عن السوء و الفحشاء و الخيانة و الظلم، و الصبر على كل مكروه و صغار في سبيل طهارة نفسك، و اختصاصك بتأييد من ربك غيبي و علم بالأحاديث و الرأي و الحزم و الحكمة و العقل لدينا ذو مكانة و أمانة، و قد أطلق قوله: «مكين أمين» فأفاد بذلك عموم الحكم.
و المعنى: و قال الملك ائتوني بيوسف أجعله خالصا لنفسي و خاصة لي فلما أتي به إليه و كلمه قال له إنك اليوم و قد ظهر من كمالك ما ظهر لدينا ذو مكانة مطلقة و أمانة مطلقة يمكنك من كل ما تريد و يأتمنك على جميع شئون الملك و في ذلك حكم صدارته.
قوله تعالى: «قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» لما عهد الملك ليوسف أنك اليوم لدينا مكين أمين و أطلق القول سأله يوسف (عليه السلام) أن ينصبه على خزائن الأرض و يفوض إليه أمرها، و المراد بالأرض أرض مصر.
و لم يسأله ما سأل إلا ليتقلد بنفسه إدارة أمر الميرة و أرزاق الناس فيجمعها و يدخرها للسنين السبع الشداد التي سيستقبل الناس و تنزل عليهم جدبها و مجاعتها و يقوم بنفسه لقسمة الأرزاق بين الناس و إعطاء كل منهم ما يستحقه من الميرة من غيره حيف.
و قد علل سؤاله ذلك بقوله: «إني حفيظ عليم» فإن هاتين الصفتين هما اللازم وجودهما فيمن يتصدى مقاما هو سائله و لا غنى عنهما له، و قد أجيب إلى ما سأل و اشتغل بما كان يريده كل ذلك معلوم من سياق الآيات و ما يتلوها.
قوله تعالى: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء نصيب برحمتنا من نشاء و لا نضيع أجر المحسنين» التمكين هو الإقدار و التبوء أخذ المكان.
و الإشارة بقوله: «كذلك» إلى ما ساقه من القصة بما انتهى إلى نيله (عليه السلام) عزة مصر، و هو حديث السجن و قد كانت امرأة العزيز هددته بالصغار بالسجن فجعله الله سببا للعزة، و على هذا النمط كان يجري أمره (عليه السلام) أكرمه أبوه فحسده إخوته فكادوا به بإلقائه في غيابة الجب و بيعه من السيارة ليذلوه فأكرم الله مثواه في بيت العزيز، و كادت به امرأة العزيز و نسوة مصر ليوردنه مورد الفجور فأبان الله عصمته ثم كادت به بالسجن لصغاره فتسبب الله بذلك لعزته.
و للإشارة إلى أمر السجن و حبسه و سلبه حرية الاختلاط و العشرة، قال تعالى: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء» أي رفعنا عنه حرج السجن الذي سلب منه إطلاق الإرادة فصار مطلق المشية له أن يتبوأ في أي بقعة يشاء فهذا الكلام بوجه يحاذي قوله تعالى السابق فيه حين دخل بيت العزيز و وصاه امرأته: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث و الله غالب على أمره».
و بهذه المقايسة يظهر أن قوله هاهنا: «نصيب برحمتنا من نشاء» في معنى قوله هناك: «و الله غالب على أمره» و إن المراد أن الله سبحانه إذا شاء أن يصيب برحمته أحدا لم يغلب في مشيته و لا يسع لأي مانع مفروض أن يمنع من إصابته.
و لو وسع لسبب أن يبطل مشية الله في أحد لوسع في يوسف الذي تعاضدت الأسباب القاطعة و تظاهرت لخفضه فرفعه الله و لإذلاله فأعزه الله، إن الحكم إلا لله.
و قوله: «و لا نضيع أجر المحسنين» إشارة إلى أن هذا التمكين أجر أوتيه يوسف (عليه السلام)، و وعد جميل للمحسنين جميعا أن الله لا يضيع أجرهم.
قوله تعالى: «و لأجر الآخرة خير للذين آمنوا و كانوا يتقون» أي لأولياء الله من عباده فهو وعد جميل أخروي لأوليائه تعالى خاصة و كان يوسف (عليه السلام) منهم.
و الدليل على أنه لا يعم عامة المؤمنين الجملة الحالية: «و كانوا يتقون» الدالة على أن هذا الإيمان و هو حقيقة الإيمان لا محالة كان منهم مسبوقا بتقوى مستمر حقيقي و هذا التقوى لا يتحقق من غير إيمان فهو إيمان بعد إيمان و تقوى و هو المساوق لولاية الله سبحانه قال تعالى «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون الذين آمنوا و كانوا يتقون لهم البشرى في الحياة الدنيا و في الآخرة»: يونس: 64.
بحث روائي
في تفسير القمي،: ثم إن الملك رأى رؤيا فقال لوزرائه إني رأيت في نومي سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف أي مهازيل و رأيت سبع سنبلات خضر و أخر يابسات و قال أبو عبد الله (عليه السلام): سبع سنابل ثم قال: يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون فلم يعرفوا تأويل ذلك. فذكر الذي كان على رأس الملك رؤياه التي رآها، و ذكر يوسف بعد سبع سنين، و هو قوله: «و قال الذي نجا منهما و ادكر بعد أمة» أي بعد حين «أنا أنبئكم بتأويله فأرسلون» فجاء إلى يوسف فقال: «، أيها الصديق أفتنا في سبع بقرات سمان - يأكلهن سبع عجاف - و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات». قال يوسف: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون أي لا تدوسوه فإنه يفسد في طول سبع سنين و إذا كان في سنبله لا يفسد ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن في السبع سنين الماضية قال الصادق (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون أي يمطرون. و قال أبو عبد الله (عليه السلام). قرأ رجل على أمير المؤمنين (عليه السلام) «ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون» على البناء للفاعل فقال ويحك أي شيء يعصرون يعصرون الخمر؟ قال الرجل: يا أمير المؤمنين كيف أقرؤها؟ فقال: إنما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون بعد سني المجاعة، و الدليل على ذلك قوله: «و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا». فرجع الرجل إلى الملك فأخبره بما قال يوسف فقال الملك ائتوني به فلما جاءه الرسول قال: ارجع إلى ربك يعني إلى الملك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن؟ إن ربي بكيدهن عليم. فجمع الملك النسوة فقال: ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه؟ قلن: حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالت امرأة العزيز: «الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه - و إنه لمن الصادقين ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب و أن الله لا يهدي كيد الخائنين أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل ثم قالت: و ما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء - إلا ما رحم ربي. فقال الملك: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما نظر إلى يوسف قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين فاسأل حاجتك قال: اجعلني على خزائن الأرض - إني حفيظ عليم يعني الكناديج و الأنابير فجعله عليها، و هو قوله: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض - يتبوأ منها حيث يشاء».
أقول: قوله: و قرأ الصادق (عليه السلام): «سبع سنابل» في رواية العياشي عن ابن أبي يعفور عنه (عليه السلام) أنه قرأ: «سبع سنبلات» و قوله (عليه السلام): إنما نزل ما قربتم لهن أي إن التقديم بحسب التنزيل بمعنى التقريب، و قوله (عليه السلام): إنما نزلت: و فيه يعصرون أي يمطرون، أي بالبناء للمفعول و منه يعلم أنه (عليه السلام) يأخذ قوله: يغاث من الغيث دون الغوث و روى هذا المعنى أيضا العياشي في تفسيره عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و قوله: «أي لا أكذب عليه الآن كما كذبت عليه من قبل» ظاهر في أخذ قوله: «ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب» إلى آخر الآيتين من كلام امرأة العزيز و قد عرفت الكلام عليه في البيان المتقدم.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه من طرق عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): عجبت لصبر أخي يوسف و كرمه و الله يغفر له حيث أرسل إليه ليستفتي في الرؤيا و إن كنت أنا لم أفعل حتى أخرج، و عجبت من صبره و كرمه و الله يغفر له أتي ليخرج فلم يخرج حتى أخبرهم بعذره و لو كنت أنا لبادرت الباب و لكنه أحب أن يكون له العذر.
أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق أخرى و من طرق أهل البيت (عليهم السلام) ما في تفسير العياشي عن أبان عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو كنت بمنزلة يوسف حين أرسل إليه الملك يسأله عنه رؤياه ما حدثته حتى أشترط عليه أن يخرجني من السجن و عجبت لصبره عن شأن امرأة الملك حتى أظهر الله عذره.
أقول: و هذا النبوي لا يخلو من شيء فإن فيه أحد المحذورين إما الطعن في حسن تدبير يوسف (عليه السلام) و توصله إلى الخروج من السجن و قد أحسن التدبير في ذلك فلم يكن يريد مجرد الخروج منه و لا هم لامرأة العزيز و نسوة مصر إلا في مراودته عن نفسه و إلجائه إلى موافقة هواهن و هو القائل: رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه، و إنما كان يريد الخروج في جو يظهر فيه براءته و تيأس منه امرأة العزيز و النسوة، و يوضع في موضع يليق به من المكانة و المنزلة.
و لذا أنبأ و هو في السجن أولا: بما هو وظيفة الملك الواجبة إثر رؤياه من جمع الأرزاق العامة و ادخارها فتوصل به إلى قول الملك «ائتوني به» ثم لما أمر بإخراجه أبى إلا أن يحكم بينه و بين النسوة حكما بالقسط فتوصل به إلى قوله: «ائتوني به أستخلصه لنفسي» و هذا أحسن تدبير يتصور لما كان يبتغيه من العزة في مصر و بسط العدل و الإحسان في الأرض.
مضافا إلى ما ظهر للملك و ملئه في خلال هذه الأحوال من عظيم صبره و عزمه في الأمور و تحمله الأذى في جنب الحق و علمه الغزير و حكمه القويم.
و إما الطعن في النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حاشاه أن يقول: إنه لو كان مكان يوسف طاش و لم يصبر مع الاعتراف بأن الحق كان معه في صبره، و هو اعتراف بأن من شأنه أن لا يصبر فيما يجب الصبر فيه، و حاشاه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمر الناس بشيء و ينسى نفسه، و قد صبر و تحمل الأذى في جنب الله قبل الهجرة و بعدها من الناس حتى أثنى الله عليه بمثل قوله: «و إنك لعلى خلق عظيم».
و في الدر المنثور، أيضا أخرج الحاكم في تاريخه و ابن مردويه و الديلمي عن أنس قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية: «ذلك ليعلم - أني لم أخنه بالغيب» قال: لما قالها يوسف قال له جبريل: يا يوسف اذكر همك. قال: و ما أبرىء نفسي.
أقول: و هذا المعنى مروي في عدة روايات بألفاظ متقاربة ففي رواية ابن عباس: لما قالها يوسف «فغمزه جبريل فقال: و لا حين هممت بها؟» و في رواية عن حكيم بن جابر: «فقال له جبريل: و لا حين حللت السراويل؟» و نحو من ذلك في روايات أخر عن مجاهد و قتادة و عكرمة و الضحاك و ابن زيد و السدي و الحسن و ابن جريح و أبي صالح و غيرهم.
و قد تقدم في البيان السابق أن هذه و أمثالها من موضوعات الأخبار مخالفة لنص الكتاب، و حاشا مقام يوسف الصديق (عليه السلام) أن يكذب بقوله: «لم أخنه بالغيب ثم يصلح ما أفسده بغمز من جبريل.
قال في الكشاف،: و لقد لفقت المبطلة روايات مصنوعة فزعموا أن يوسف حين قال: إني لم أخنه بالغيب قال له جبريل: و لا حين هممت بها؟ و قالت له امرأة العزيز: و لا حين حللت تكة سراويلك يا يوسف؟ و ذلك لتهالكهم على بهت الله و رسوله.
انتهى.
و في تفسير العياشي، عن سماعة قال: سألته عن قول الله: «ارجع إلى ربك» الآية يعني العزيز.
أقول: و في تفسير البرهان، عن الطبرسي في كتاب النبوة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى عن الحسن بن علي بن إلياس قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام في السبع السنين المخصبة فكبسه في الخزائن فلما مضت تلك السنون و أقبلت السنون المجدبة أقبل يوسف على بيع الطعام فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير حتى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في ملك يوسف. و باعهم في السنة الثانية بالحلي و الجواهر حتى لم يبق بمصر و ما حولها حلي و لا جواهر إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الثالثة بالدواب و المواشي حتى لم يبق بمصر و ما حولها دابة و لا ماشية إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء حتى لم يبق. بمصر و ما حولها عبد و لا أمة إلا صار في ملكه و باعهم في السنة الخامسة بالدور و الفناء حتى لم يبق في مصر و ما حولها دار و لا فناء إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار حتى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في ملكه، و باعهم في السنة السابعة برقابهم حتى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حر إلا صار عبدا ليوسف. فملك أحرارهم و عبيدهم و أموالهم و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا، ثم قال يوسف للملك: ما ترى فيما خولني ربي من ملك مصر و ما حولها؟ أشر علينا برأيك فإني لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء ليكون بلاء عليهم و لكن الله أنجاهم بيدي قال الملك: الرأي رأيك. قال يوسف: إني أشهد الله و أشهدك أيها الملك إني قد أعتقت أهل مصر كلهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك الملك و خاتمك و سريرك و تاجك على أن لا تسير إلا بسيرتي و لا تحكم إلا بحكمي. قال له الملك: إن ذلك توبتي و فخري أن لا أسير إلا بسيرتك و لا أحكم إلا بحكمك و لولاك ما توليت عليك و لا اهتديت له و قد جعلت سلطاني عزيزا ما يرام، و أنا أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له و أنك رسوله فأقم على ما وليتك فإنك لدينا مكين أمين.
أقول: و الروايات في هذا المقام كثيرة أغلبها غير مرتبطة بغرض تفسير الآيات و لذلك تركنا نقلها.
و في تفسير العياشي، قال سليمان: قال سفيان: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يجوز أن يزكي الرجل نفسه؟ قال نعم إذا اضطر إليه أ ما سمعت قول يوسف: «اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم» و قول العبد الصالح: إني لكم ناصح أمين.
أقول: الظاهر أن المراد بالعبد الصالح هو هود إذ يقول لقومه: «و أبلغكم رسالات ربي و أنا لكم ناصح أمين»: الأعراف: 68.
و في العيون، بإسناده عن العياشي قال حدثنا محمد بن نصر عن الحسن بن موسى قال: روى أصحابنا عن الرضا (عليه السلام) أنه قال له رجل: أصلحك الله كيف صرت إلى ما صرت إليه من المأمون؟ فكأنه أنكر ذلك عليه. فقال له أبو الحسن الرضا (عليه السلام): أيما أفضل النبي أو الوصي: فقال: لا بل النبي. قال: فأيما أفضل مسلم أو مشرك؟ قال: لا بل مسلم. قال: فإن عزيز مصر كان مشركا و كان يوسف نبيا، و إن المأمون مسلم و أنا وصي و يوسف سأل العزيز أن يوليه حتى قال: استعملني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم، و المأمون أجبرني على ما أنا فيه. قال: و قال في قوله: «حفيظ عليم» قال: حافظ على ما في يدي عالم بكل لسان: أقول: و قوله: استعملني على خزائن الأرض نقل الآية بالمعنى، و رواه العياشي في تفسيره، و روي آخر الحديث في المعاني، أيضا عن فضل بن أبي قرة عن الصادق (عليه السلام).
|