بيان
الآيات تقتص رجوع إخوة يوسف (عليه السلام) من عنده إلى أبيهم و إرضاءهم أباهم أن يرسل معهم أخا يوسف من أمه للاكتيال ثم مجيئهم ثانيا إلى يوسف و أخذ يوسف أخاه إليه عن حيلة احتالها لذلك.
قوله تعالى: «فلما رجعوا إلى أبيهم قالوا يا أبانا منع منا الكيل فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون» الاكتيال أخذ الطعام كيلا إن كان مما يكال، قال الراغب: الكيل كيل الطعام يقال: كلت له الطعام إذا توليت له ذلك، و كلته الطعام إذا أعطيته كيلا، و اكتلت عليه إذا أخذت منه كيلا، قال تعالى: «ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس - يستوفون - و إذا كالوهم».
و قوله: «قالوا يا أبانا منع منا الكيل» أي لو لم نذهب بأخينا و لم يذهب معنا إلى مصر، بدليل قوله: «فأرسل معنا أخانا» فهو إجمال ما جرى بينهم و بين عزيز مصر من أمره بمنعهم من الكيل أن لم يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم، يقصونه لأبيهم و يسألونه أن يرسله معهم ليكتالوا و لا يحرموا.
و قولهم: «أخانا» إظهار رأفة و إشفاق لتطييب نفس أبيهم من أنفسهم كقولهم: «و إنا له لحافظون» بما فيه من التأكيد البالغ.
قوله تعالى: «قال هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل فالله خير حافظا و هو أرحم الراحمين» قال في المجمع،: الأمن اطمئنان القلب إلى سلامة الأمر يقال: أمنه يأمنه أمنا انتهى فقوله: «هل آمنكم عليه» إلخ، أي هل اطمأن إليكم في ابني هذا إلا مثل ما اطمأننت إليكم في أخيه يوسف من قبل هذا فكان ما كان.
و محصله أنكم تتوقعون مني أن أثق فيه بكم و تطمئن نفسي إليكم كما وثقت بكم و اطمأننت إليكم في أخيه من قبل و تعدونني بقولكم: «و إنا له لحافظون» أن تحفظوه كما وعدتم في يوسف بقولكم: «و إنا له لحافظون» و قد أمنتكم بمثل هذا الأمن على يوسف فلم تغنوا عني شيئا و جئتم بقميصه الملطخ بالدم أن الذئب أكله و أمني لكم على هذا الأخ مثل أمني على أخيه من قبل أمن لمن لا يغني أمنه و الاطمئنان إليه شيئا و لا بيده حفظ ما سلم إليه و اؤتمن له.
و قوله: «فالله خير حافظا و هو أرحم الراحمين» تفريع على سابق كلامه: «هل آمنكم عليه» إلخ، و تفيد الاستنتاج أي إذا كان الاطمئنان إليكم في أمره لغا لا أثر له و لا يغني شيئا فخير الاطمئنان و الاتكال ما كان اطمئنانا إلى الله سبحانه من حيث حفظه، و إذا تردد الأمر بين التوكل عليه و التفويض إليه و بين الاطمئنان إلى غيره كان الوثوق به تعالى هو المختار المتعين.
و قوله: «و هو أرحم الراحمين» في موضع التعليل لقوله: «فالله خير حافظا» أي إن غيره تعالى ربما أمن في أمر و اؤتمن عليه في أمانة سلم له فلم يرحم المؤتمن و ضيع الأمانة لكنه سبحانه أرحم الراحمين لا يترك الرحمة في محل الرحمة و يترحم العاجز الضعيف الذي فوض إليه أمرا و توكل عليه، و من يتوكل على الله فهو حسبه.
و من هنا يظهر أن مراده (عليه السلام) ليس بيان لزوم اختياره تعالى في الاعتماد عليه من جهة أنه سبب مستقل في سببيته غير مغلوب البتة بخلاف سائر الأسباب و إن كان الأمر كذلك قال تعالى: «و من يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره»: الطلاق: 3 كيف و الاطمئنان إلى غيره تعالى بهذا المعنى من الشرك الذي يتنزه عنه ساحة الأنبياء، و قد نص تعالى على أن يعقوب (عليه السلام) من المخلصين أهل الاجتباء و أنه من الأئمة الهداة المهديين، و هو (عليه السلام) يعترف في قوله: «إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل» أنه أمنهم على يوسف و لو كان من الشرك لم يقدم عليه البتة.
على أنه أمنهم على أخي يوسف أيضا بعد ما أعطوه موثقا من الله تعالى كما تدل عليه الآيات التالية.
بل يريد بيان لزوم اختياره تعالى في الاطمئنان إليه دون غيره من جهة أنه تعالى متصف بصفات كريمة يؤمن معها أن يستغش عباده المتوكلين عليه المسلمين له أمورهم فإنه رءوف بعباده رحيم غفور ودود كريم حكيم عليم و يجمع الجميع أنه أرحم الراحمين على أنه لا يغلب في أمره لا يقهر في مشيته، و أما الناس إذا أمنوا على أمر و اطمأن إليهم في شيء فإنهم أسراء الأهواء و ملاعب الهوسات النفسانية ربما أخذتهم كرامة النفس و شيمة الوفاء و صفة الرحمة فحفظوا ما في اختيارهم أن يحفظوه و لا يخونوه و ربما خانوا و لم يحفظوا.
على أنهم لا استقلال لهم في قدرة و لا استغناء لهم في قوة و إرادة.
و بالجملة مراده (عليه السلام) أن الاطمئنان إلى حفظ الله سبحانه خير من الاطمئنان إلى حفظ غيره لأنه تعالى أرحم الراحمين لا يخون عبده فيما أمنه عليه و اطمأن فيه إليه بخلاف الناس فإنهم ربما لم يفوا لعهد الأمانة و لم يرحموا المؤتمن المتوسل بهم فخانوه، و لذلك لما كلف بنيه ثانيا أن يؤتوه موثقا من الله قال: «إن تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم» فاستثنى ما ليس في اختيارهم من الحفظ و هو حفظه إذا أحيط بهم فإنه فوق استطاعتهم و مقدرتهم و ليسوا بمسئولين عنه، و إنما سألهم الموثق في إتيانه فيما لا يخرج من اختيارهم كالقتل و النفي و نحو ذلك فافهم ذلك.
و مما تقدم يظهر أن في قوله (عليه السلام): «و هو أرحم الرحمين» نوع تعريض لهم و تلويح إلى أنهم لم يستوفوا الرحم - أو لم يرحموه أصلا - في أمر يوسف حين أمنهم عليه، و الآية على أي حال في معنى الرد لما سألوه.
قوله تعالى: «و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم» إلى آخر الآية.
البغي هو الطلب و يستعمل كثيرا في الشر و منه البغي بمعنى الظلم و البغي بمعنى الزنا، و قال في المجمع،: الميرة الأطعمة التي تحمل من بلد إلى بلد و يقال: مرتهم أميرهم ميرا: إذا أتيتهم بالميرة، و مثله: امترتهم امتيارا.
انتهى.
و قوله: «يا أبانا ما نبغي» استفهام أي لما فتحوا متاعهم و وجدوا بضاعتهم ردت إليهم و كان ذلك دليلا على إكرام العزيز لهم و أنه غير قاصد بهم سوءا و قد سلم إليهم الطعام و رد إليهم الثمن فكان ذهابهم إلى مصر للامتيار خير سفر نفعا و درا راجعوا أباهم و قالوا: يا أبانا ما الذي نطلب من سفرنا إلى مصر وراء هذا؟ فقد أوفى لنا الكيل و رد إلينا ما بذلناه من البضاعة ثمنا.
فقولهم: «يا أبانا ما نبغي هذه بضاعتنا ردت إلينا» أرادوا به تطييب نفس أبيهم ليرضى بذهاب أخيهم معهم لأنه في أمن من العزيز و هم يحفظونه كما وعدوه و «لذلك عقبوه بقولهم: «و نمير أهلنا و نحفظ أخانا و نزداد كيل بعير ذلك كيل يسير» أي سهل.
و ربما قيل: إن «ما» في قوله: «ما نبغي» للنفي أي ما نطلب بما أخبرناك من العزيز و إكرامه لنا الكذب فهذه بضاعتنا ردت إلينا، و كذا قيل: إن اليسير بمعنى القليل أي إن الذي جئنا به إليك من الكيل قليل لا يقنعنا فنحتاج إلى أن نضيف إليه كيل بعير أخينا.
قوله تعالى: «قال لن أرسله معكم حتى تؤتون موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم فلما آتوه موثقهم قال الله على ما نقول وكيل» الموثق بكسر الثاء ما يوثق به و يعتمد عليه، و الموثق من الله هو أمر يوثق به و يرتبط مع ذلك بالله و إيتاء موثق إلهي و إعطاؤه هو أن يسلط الإنسان على أمر إلهي يوثق به كالعهد و اليمين بمنزلة الرهينة، و المعاهد و المقسم بقوله عاهدت الله أن أفعل كذا أو بالله لأفعلن كذا يراهن كرامة الله و حرمته فيضعها رهينة عند من يعاهده أو يقسم له، و لو لم يف بما قال خسر في رهينته و هو مسئول عند الله لا محالة.
و الإحاطة من حاط بمعنى حفظ و منه الحائط للجدار الذي يدور حول المكان ليحفظه و الله سبحانه محيط بكل شيء أي مسلط عليه حافظ له من كل جهة لا يخرج و لا شيء من أجزائه من قدرته، و أحاط به البلاء و المصيبة أي نزل به على نحو انسدت عليه جميع طرق النجاة فلا مناص له منه، و منه قولهم: أحيط به أي هلك أو فسد أو انسدت عليه طرق النجاة و الخلاص قال تعالى: «و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها»: الكهف: 42، و قال: «و ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين»: يونس: 22 و منه قوله في الآية: «إلا أن يحاط بكم» أي أن ينزل بكم من النازلة ما يسلب منكم كل استطاعة و قدرة فلا يسعكم الإتيان به إلي.
و الوكالة نوع تسلط على أمر يعود إلى الغير ليقوم به، و توكيل الإنسان غيره في أمر تسليطه عليه ليقوم في إصلاحه مقامه، و التوكل عليه اعتماده و الاطمئنان إليه في أمر، و توكيله تعالى و التوكل عليه في الأمور ليس بعناية أنه خالق كل شيء و مالكه و مدبره بل بعناية أنه أذن في نسبة الأمور إلى مصادرها و الأفعال إلى فواعلها و ملكها إياها بنحو من التمليك و هي فاقدة للأصالة و الاستقلال في التأثير و الله سبحانه هو السبب المستقل القاهر لكل سبب الغالب عليه فمن الرشد إذا أراد الإنسان أمرا و توصل إليه بالأسباب العادية التي بين يديه أن يرى الله سبحانه هو السبب الوحيد المستقل بتدبير الأمر و ينفي الاستقلال و الأصالة عن نفسه و عن الأسباب التي استعملها في طريق الوصول إليه فيتوكل عليه سبحانه.
فليس التوكل هو قطع الإنسان أو نفيه نسبة الأمور إلى نفسه أو إلى الأسباب بل هو نفيه دعوى الاستقلال عن نفسه و عن الأسباب و إرجاع الاستقلال و الأصالة إليه تعالى مع إبقاء أصل النسبة غير المستقلة التي إلى نفسه و إلى الأسباب.
و لذلك نرى أن يعقوب (عليه السلام) فيما تحكيه الآيات من توكله على الله لم يلغ الأسباب و لم يهملها بل تمسك بالأسباب العادية فكلم أولا بنيه في أخيهم ثم أخذ منهم موثقا من الله ثم توكل على الله و كذا فيما وصاهم في الآية الآتية بدخولهم من أبواب متفرقة ثم توكله على ربه تعالى.
فالله سبحانه على كل شيء وكيل من جهة الأمور التي لها نسبة إليها كما أنه ولي لها من جهة استقلاله بالقيام على الأمور المنسوبة إليها و هي عاجزة عن القيام بها بحول و قوة، و أنه رب كل شيء من جهة أنه المالك المدبر لها.
و معنى الآية: «قال» يعقوب لبنيه: «لن أرسله» أي أخاكم من أم يوسف «معكم حتى تؤتون» و تعطوني «موثقا من الله» أثق به و أعتمد عليه من عهد أو يمين «لتأتنني به» و اللام للقسم و لما كان إيتاؤهم موثقا من الله إنما كان يمضي و يفيد فيما كان راجعا إلى استطاعتهم و قدرتهم استثنى فقال «إلا أن يحاط بكم» و تسلبوا الاستطاعة و القدرة «فلما آتوه موثقهم» من الله «قال» يعقوب «الله على ما نقول وكيل» أي إنا قاولنا جميعا فقلت و قلتم و توسلنا بذلك إلى هذه الأسباب العادية للوصول إلى غرض نبتغيه فليكن الله سبحانه وكيلا على هذه الأقاويل يجريها على رسلها فمن التزم بشيء فليأت به كما التزم و إن تخلف فليجازه الله و ينتصف منه.
قوله تعالى: «و قال يا بني لا تدخلوا من باب واحد و ادخلوا من أبواب متفرقة» إلى آخر الآية، هذه كلمة ألقاها يعقوب (عليه السلام) إلى بنيه حين آتوه موثقا من الله و تجهزوا و استعدوا للرحيل، و من المعلوم من سياق القصة أنه خاف على بنيه و هم أحد عشر عصبة - لا من أن يراهم عزيز مصر مجتمعين صفا واحدا لأنه كان من المعلوم أنه سيشخصهم إليه فيصطفون عنده صفا واحدا و هم أحد عشر إخوة لأب واحد - بل إنما كان يخاف عليهم أن يراهم الناس فيصيبهم عين على ما قيل أو يحسدون أو يخاف منهم فينالهم ما يتفرق به جمعهم من قتل أو أي نازلة أخرى.
و قوله بعده: «و ما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله» لا يخلو من دلالة أو إشعار بأنه كان يخاف ذلك جدا فكأنه (عليه السلام) - و الله أعلم - أحس حينما تجهزوا للسفر و اصطفوا أمامه للوداع إحساس إلهام أن جمعهم و هم على هذه الهيئة الحسنة سيفرق و ينقص من عددهم فأمرهم أن لا يتظاهروا بالإجماع كذلك و حذرهم عن الدخول من باب واحد و عزم عليهم أن يدخلوا من أبواب متفرقة رجاء أن يندفع بذلك عنهم بلاء التفرقة بينهم و النقص في عددهم.
ثم رجع إلى إطلاق كلامه الظاهر في كون هذا السبب الذي ركن إليه في دفع ما خطر بباله من المصيبة سببا أصيلا مستقلا - و لا مؤثر في الوجود بالحقيقة إلا الله سبحانه - فقيد كلامه بما يصلحه فقال مخاطبا لهم: «و ما أغنى عنكم من الله من شيء» ثم علله بقوله «إن الحكم إلا لله» أي لست أرفع حاجتكم إلى الله سبحانه بما أمرتكم به من السبب الذي تتقون به نزول النازلة و تتوسلون به إلى السلامة و العافية و لا أحكم بأن تحفظوا بهذه الحيلة فإن هذه الأسباب لا تغني من الله شيئا و لا لها حكم دون الله سبحانه فليس الحكم مطلقا إلا لله بل هذه أسباب ظاهريه إنما تؤثر إذا أراد الله لها أن تؤثر.
و لذلك عقب كلامه هذا بقوله: «عليه توكلت و عليه فليتوكل المتوكلون» أي إن هذا سبب أمرتكم باتخاذه لدفع ما أخافه عليكم من البلاء و توكلت مع ذلك على الله في أخذ هذا السبب و في سائر الأسباب التي أخذتها في أموري، و على هذا المسير يجب أن يسير كل رشيد غير غوي يرى أنه لا يقوى باستقلاله لإدارة أموره و لا أن الأسباب العادية باستقلالها تقوى على إيصاله إلى ما يبتغيه من المقاصد بل عليه أن يلتجىء في أموره إلى وكيل يصلح شأنه و يدبر أمره أحسن تدبير فذلك الوكيل هو الله سبحانه القاهر الذي لا يقهره شيء الغالب الذي لا يغلبه شيء يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد.
و قد تبين بالآية أولا معنى التوكل و أنه تسليط الغير على أمر له نسبة إلى المتوكل و الموكل.
و ثانيا: أن هذه الأسباب العادية لما لم تكن مستقلة في تأثيرها و لا غنية في ذاتها غير مفتقرة إلى ما وراءها كان من الواجب على من يتوسل إليها في مقاصده الحيوية أن يتوكل مع التوسل إليها على سبب وراءها ليتم لها التأثير و يكون ذلك منه جريا في سبيل الرشد و الصواب لا أن يهمل الأسباب التي بنى الله نظام الكون عليها فيطلب غاية من غير طريق فإنه من الغي و الجهل.
و ثالثا: أن ذاك السبب الذي يجب التوكل عليه في الأمور هو الله سبحانه وحده لا شريك له فإنه الله لا إله إلا هو رب كل شيء و هذا هو المستفاد من الحصر الذي يدل عليه قوله: «و على الله فليتوكل المتوكلون».
قوله تعالى: «و لما دخلوا من حيث أمرهم أبوهم ما كان يغني عنهم من الله من شيء إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها» إلى آخر الآية.
الذي يعطيه سياق الآيات السابقة و اللاحقة و التدبر فيها - و الله أعلم - أن يكون المراد بدخولهم من حيث أمرهم أبوهم أنهم دخلوا مصر أو دار العزيز فيها من أبواب متفرقة كما أمرهم أبوهم حينما ودعوه للرحيل، و إنما اتخذ يعقوب (عليه السلام) هذا الأمر وسيلة لدفع ما تفرسه من نزول مصيبة بهم تفرق جمعهم و تنقص من عددهم كما أشير إليه في الآية السابقة لكن اتخاذ هذه الوسيلة و هي الدخول من حيث أمرهم أبوهم لم يكن ليدفع عنهم البلاء و كان قضاء الله سبحانه ماضيا فيهم و أخذ العزيز أخاهم من أبيهم لحديث سرقة الصواع و انفصل منهم كبيرهم فبقي في مصر و أدى ذلك إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم فلم يغن يعقوب أو الدخول من حيث أمرهم من الله من شيء.
لكن الله سبحانه قضى بذلك حاجة في نفس يعقوب (عليه السلام) فإنه جعل هذا السبب الذي تخلف عن أمره و أدى إلى تفرق جمعهم و نقص عددهم بعينه سببا لوصول يعقوب إلى يوسف (عليه السلام) فإن يوسف أخذ أخاه إليه و رجع سائر الإخوة إلا كبيرهم إلى أبيهم ثم عادوا إلى يوسف يسترحمونه و يتذللون لعزته فعرفهم نفسه و أشخص أباه و أهله إلى مصر فاتصلوا به.
فقوله: «ما كان يغني عنهم من الله من شيء» أي لم يكن من شأن يعقوب أو هذا الأمر الذي اتخذه وسيلة لتخلصهم من هذه المصيبة النازلة أن يغني عنهم من الله شيئا البتة و يدفع عنهم ما قضى الله أن يفارق اثنان منهم جمعهم بل أخذ منهم واحد و فارقهم و لزم أرض مصر آخر و هو كبيرهم.
و قوله: «إلا حاجة في نفس يعقوب قضاها» قيل: إن «إلا» بمعنى لكن أي لكن حاجة في نفس يعقوب قضاها الله فرد إليه ولده الذي فقده و هو يوسف.
و لا يبعد أن يكون «إلا» استثنائية فإن قوله: «ما كان يغني عنهم من الله من شيء» في معنى قولنا: لم ينفع هذا السبب يعقوب شيئا أو لم ينفعهم جميعا شيئا و لم يقض الله لهم جميعا به حاجة إلا حاجة في نفس يعقوب، و قوله: «قضاها» استئناف و جواب سؤال كان سائلا يسأل فيقول: ما ذا فعل بها؟ فأجيب بقوله: «قضاها».
و قوله: «و إنه لذو علم لما علمناه» الضمير ليعقوب أي إن يعقوب لذو علم بسبب ما علمناه من العلم أو بسبب تعليمنا إياه و ظاهر نسبة التعليم إليه تعالى أنه علم موهبي غير اكتسابي و قد تقدم أن إخلاص التوحيد يؤدي إلى مثل هذه العناية الإلهية، و يؤيد ذلك أيضا قوله تعالى بعده: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون» إذ لو كان من العلم الاكتسابي الذي يحكم بالأسباب الظاهرية و يتوصل إليه من الطرق العادية المألوفة لعلمه الناس و اهتدوا إليه.
و الجملة: «و إنه لذو علم لما علمناه» إلخ، ثناء على يعقوب (عليه السلام)، و العلم الموهبي لا يضل في هدايته و لا يخطىء في إصابته و الكلام كما يفيده السياق يشير إلى ما تفرس له يعقوب (عليه السلام) من البلاء و توسل به من الوسيلة و حاجته في يوسف في نفسه لا ينساها و لا يزال يذكرها، فمن هذه الجهات يعلم أن في قوله: «و إنه لذو علم لما علمناه» إلخ، تصديقا ليعقوب (عليه السلام) فيما قاله لبنيه و تصويبا لما اتخذه من الوسيلة لحاجته بأمرهم بما أمر و توكله على الله فقضى الله له حاجة في نفسه.
هذا ما يعطيه التدبر في سياق الآيات و للمفسرين أقوال عجيبة في معنى الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله: «ما كان يغني عنهم - إلى قوله - قضاها» إنه لم يكن دخولهم كما أمرهم أبوهم يغني عنهم أو يدفع عنهم شيئا أراد الله إيقاعه بهم من حسد أو أصابه عين و كان يعقوب (عليه السلام) عالما بأن الحذر لا يدفع القدر و لكن كان ما قاله لبنيه حاجة في نفسه فقضى يعقوب تلك الحاجة أي أزال به اضطراب قلبه و أذهب به القلق عن نفسه.
و قول بعضهم: إن المعنى أن الله لو قدر أن تصيبهم العين لإصابتهم و هم متفرقون كما تصيبهم مجتمعين.
و قول بعضهم: إن معنى قوله: «و إنه لذو علم لما علمناه» إلخ إنه لذو يقين و معرفة بالله لأجل تعليمنا إياه و لكن أكثر الناس لا يعلمون مرتبته.
و قول بعضهم: إن اللام في «لما علمناه» للتقوية و المعنى أنه يعلم ما علمناه فيعمل به لأن من علم شيئا و هو لا يعمل به كان كمن لا يعلم.
إلى غير ذلك من أقاويلهم.
قوله تعالى: «و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه قال إني أنا أخوك فلا تبتئس بما كانوا يعملون» الإيواء إليه ضمه و تقريبه منه في مجلسه و نحوه، و الابتئاس اجتلاب البؤس و الاغتمام و الحزن، و ضمير الجمع للإخوة.
و معنى الآية: «و لما دخلوا على يوسف» بعد دخولهم مصر «آوى» و قرب «إليه أخاه» الذي أمرهم أن يأتوا به إليه و كان أخا له من أبيه و أمه «قال» له «إني أنا أخوك» أي يوسف الذي فقدته منذ سنين - و الجملة خبر بعد خبر أو جواب سؤال مقدر «فلا تبتئس» و لا تغتم «بما كانوا» أي الإخوة «يعملون» من أنواع الأذى و المظالم التي حملهم عليها حسدهم لي و لك و نحن أخوان من أم أو لا تبتئس بما كان غلماني يعملون فإنه كيد لحبسك عندي.
و ظاهر السياق أنه عرفه نفسه بإسرار القول إليه و سلاه على ما عمله الإخوة و طيب نفسه فلا يعبأ بقول بعضهم إن معنى قوله: إني أنا أخوك: أنا أخوك مكان أخيك الهالك - و قد كان أخبره أنه كان له أخ من أمه هلك من قبل فبقي وحده لا أخ له من أمه - و لم يعترف يوسف له بالنسب و لكنه أراد أن يطيب نفسه.
و ذلك أنه ينافيه ما في قوله: «إني أنا أخوك» من وجوه التأكيد و ذلك إنما يناسب تعريفه نفسه بالنسب ليستيقن أنه هو يوسف.
على أنه ينافي أيضا ما سيأتي من قوله لإخوته عند تعريفهم نفسه: «أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا» فإنه إنما يناسب ما إذا علم أخوه أنه أخوه فاعتز بعزته كما لا يخفى.
قوله تعالى: «فلما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون» السقاية الظرف الذي يشرب فيه، و الرحل ما يوضع على البعير للركوب، و العير القوم الذين معهم أحمال الميرة و ذلك اسم للرجال و الجمال الحاملة للميرة و إن كان قد يستعمل في كل واحد من دون الآخر، ذكر ذلك الراغب في مفرداته.
و معنى الآية ظاهر و هذه حيلة احتالها يوسف (عليه السلام) ليأخذ بها أخاه إليه كما قصة و فصله الله تعالى و جعل ذلك مقدمة لتعريفهم نفسه في حال التحق به أخوه و هما منعمان بنعمة الله مكرمان بكرامته.
و قوله: «ثم أذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون» الخطاب لإخوة يوسف و فيهم أخوه لأمه، و من الجائز توجيه الخطاب إلى الجماعة في أمر يعود إلى بعضهم إذا كان لا يمتاز عن الآخرين، و في القرآن منه شيء كثير، و هذا الأمر الذي سمي سرقة و هو وجود السقاية في رحل البعير كان قائما بواحد منهم و هو أخو يوسف لأمه لكن عدم تعينه بعد من بينهم كان مجوزا لخطابهم جميعا بأنكم سارقون فإن معنى هذا الخطاب في مثل هذا المقام أن السقاية مفقودة و هي عند بعضكم ممن لا يتعين إلا بعد الفحص و التفتيش.
و من المعلوم من السياق أن أخا يوسف لأمه كان عالما بهذا الكيد مستحضرا منه و لذلك لم يتكلم من أول الأمر إلى آخره و لا بكلمة و لا نفى عن نفسه السرقة و لا اضطرب كيف؟ و قد عرفه يوسف أنه أخاه و سلاه و طيب نفسه فليس إلا أن يوسف (عليه السلام) كان عرفه ما هو غرضه من هذا الصنع، و أنه إنما يريد بتسميته سارقا و إخراج السقاية من رحله أن يقبض عليه و يأخذه إليه فتسميته سارقا إنما كان اتهاما في نظر الإخوة و أما بالنسبة إليه و في نظره فلم يكن تسمية جدية و تهمة حقيقة بل توصيفا صوريا فحسب لمصلحة لازمة جازمة.
فنسبه السرقة إليهم - بالنظر إلى هذه الجهات - لم تكن من الافتراء المذموم عقلا المحرم شرعا، على أن القائل هو المؤذن الذي أذن بذلك.
و ذكر بعض المفسرين: أن القائل: «إنكم لسارقون.
بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غيره أمره و لم يعلم أن يوسف أمر بجعل الصاع في رحالهم.
و قال بعضهم: إن يوسف (عليه السلام) أمر المنادي أن ينادي به و لم يرد به سرقة الصاع، و إنما عنى به أنكم سرقتم يوسف من أبيه و ألقيتموه في الجب، و نسب ذلك إلى أبي مسلم المفسر.
و قال بعضهم: إن الجملة استفهامية، و التقدير: أ إنكم لسارقون؟ بحذف همزة الاستفهام، و لا يخفى ما في هذه الوجوه من البعد.
قوله تعالى: «قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون» الفقد - كما قيل - غيبة الشيء عن الحس بحيث لا يعرف مكانه، و الضمير في قوله: «قالوا» للإخوة و هم العير، و قوله: «ما ذا تفقدون» مقول القول و الضمير في قوله: «عليهم» ليوسف و فتيانه كما يدل عليه السياق.
و المعنى قال إخوة يوسف المقبلين ليوسف و فتيانه: ما ذا تفقدون؟ و في السياق دلالة على أن المنادي إنما ناداهم من ورائهم و قد أخذوا في السير.
قوله تعالى: «قالوا نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم» الصواع بالضم السقاية و قيل: إن الصواع هو الصاع الذي يكال به، و كان صواع الملك إناء يشرب فيه و يكال به و لذلك سمي تارة سقاية و أخرى صواعا، و يجوز فيه التذكير و التأنيث، و لذلك قال: «و لمن جاء به» و قال: «ثم استخرجها».
و الحمل ما يحمله الحامل من الأثقال، و قد ذكر الراغب أن الأثقال المحمولة في الظاهر كالشيء المحمول على الظهر تختص باسم الحمل بكسر الحاء، و الأثقال المحمولة في الباطن كالولد في البطن و الماء في السحاب و الثمرة في الشجرة تختص باسم الحمل بفتح الحاء.
و قال في المجمع،: الزعيم و الكفيل و الضمين نظائر و الزعيم أيضا القائم بأمر القوم و هو الرئيس.
و لعل القائل: «نفقد صواع الملك» هو فتيان يوسف و القائل: «و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم» يوسف (عليه السلام) نفسه لأنه هو الرئيس الذي يقوم بأمر الإعطاء و المنع و الضمانة و الكفالة و الحكم، و يعود معنى الكلام على هذا إلى نحو من قولنا: أجاب عنهم يوسف و فتيانه أما فتيانه فقالوا: نفقد صواع الملك، و أما يوسف فقال: و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم، و هذه جعالة.
و ظاهر بعض المفسرين: أن قوله: «و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم» تتمة قول المؤذن: «أيتها العير إنكم لسارقون» و على هذا فقوله: «قالوا و أقبلوا عليهم - إلى قوله - صواع الملك» معترض.
قوله تعالى: «قالوا تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين» المراد بالأرض أرض مصر و هي التي جاءوها و معنى الآية ظاهر.
و في قولهم: «لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض» دلالة على أنهم فتشوا و حقق في أمرهم أول ما دخلوا مصر للميرة بأمر يوسف (عليه السلام) بدعوى الخوف من أن يكونوا جواسيس و عيونا أو نازلين بها لأغراض فاسدة أخرى فسألوا عن شأنهم و محلهم و نسبهم و أمثال ذلك، و به يتأيد ما ورد في بعض الروايات أن يوسف أظهر لهم أنه في ريب من أمرهم فسألهم عن شأنهم و مكانهم و أهلهم و عند ذلك ذكروا أن لهم أبا شائخا و أخا من أبيهم فأمر بإتيانهم به، و سيأتي في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و قولهم: «و ما كنا سارقين» نفي أن يكونوا متصفين بهذه الصفة الرذيلة من قبل أو يعهد منهم أهل البيت ذلك.
قوله تعالى: «قالوا فما جزاؤه إن كنتم كاذبين» أي قال فتيان يوسف أو هو و فتيانه سائلين منهم عن الجزاء: ما جزاء السرق أو ما جزاء الذي سرق منكم إن كنتم كاذبين في إنكاركم.
و الكلام في قولهم: «إن كنتم كاذبين» في نسبة الكذب إليهم يقرب من الكلام في قولهم: «إنكم لسارقون» و قد تقدم.
قوله تعالى: «قالوا جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي الظالمين» مرادهم أن جزاء السرق نفس السارق أو جزاء السارق نفسه بمعنى أن من سرق مالا يصير عبدا لمن سرق ماله و هكذا كان حكمه في سنة يعقوب (عليه السلام) كما يدل عليه قولهم: «كذلك نجزي الظالمين» أي هؤلاء الظالمين و هم السراق لكنهم عدلوا عنه إلى قولهم: «جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه» للدلالة على أن السرقة إنما يجازى بها نفس السارق لا رفقته و صحبه و هم أحد عشر نسمة لا ينبغي أن يؤاخذ منهم لو تحققت السرقة إلا السارق بعينه من غير أن يتعدى إلى نفوس الآخرين و رحالهم ثم للمسروق منه أن يملك السارق نفسه يفعل به ما يشاء.
قوله تعالى: «فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه» فيه تفريع على ما تقدم أي أخذ بالتفتيش و الفحص بالبناء على ما ذكروه من الجزاء فبدأ بأوعيتهم و ظروفهم قبل وعاء أخيه للتعمية عليهم حذرا من أن يتنبهوا و يتفطنوا أنه هو الذي وضعها في رحل أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه و عند ذلك استقر الجزاء عليه لكونها في رحله.
قوله تعالى: «كذلك كدنا ليوسف ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله» إلى آخر الآية.
الإشارة إلى ما جرى من الأمر في طريق أخذ يوسف (عليه السلام) أخاه لأمه من عصبة إخوته، و قد كان كيدا لأنه يوصل إلى ما يطلبه منهم من غير أن يعلموا و يتفطنوا به و لو علموا لما رضوا به و لا مكنوه منه، و هذا هو الكيد غير أنه كان بإلهام من الله سبحانه أو وحي منه إليه علمه به طريق التوصل إلى أخذ أخيه.
و لذلك نسب الله سبحانه ذلك إلى نفسه مع توصيفه بالكيد فقال: «كذلك كدنا ليوسف».
و ليس كل كيد بمنفي عنه تعالى و إنما تتنزه ساحة قدسه عن الكيد الذي هو ظلم و نظيره المكر و الإضلال و الاستدراج و غيرها.
و قوله: «ما كان ليأخذ أخاه في دين الملك إلا أن يشاء الله» بيان للسبب الداعي إلى الكيد، و هو أنه كان يريد أن يأخذ أخاه إليه، و لم يكن في دين الملك أي سنته الجارية في أرض مصر طريق يؤدي إلى أخذه، و لا أن السرقة حكمها استعباد السارق و لذلك كادهم يوسف - بأمر من الله - بجعل السقاية في رحله ثم إعلام أنهم سارقون حتى ينكروه فيسألهم عن جزائه إن كانوا كاذبين فيخبروا أن جزاء السرق عندهم أخذ السارق و استعباده فيأخذهم بما رضوا به لأنفسهم.
و على هذا فلم يكن له أن يأخذ أخاه في دين الملك إلا في حال يشاء الله ذلك و هو هذا الحال الذي رضوا فيه أن يجازوا بما رضوا به لأنفسهم.
و من هنا يظهر أن الاستثناء يفيد أنه كان من دين الملك أن يؤخذ المجرم بما يرضاه لنفسه من الجزاء و هو أشق، و كان ذلك متداولا في كثير من السنن القومية و سياسات الملوك.
و قوله: «نرفع درجات من نشاء و فوق كل ذي علم عليم» امتنان على يوسف (عليه السلام) بما رفعه الله على إخوته، و بيان لقوله: «كذلك كدنا ليوسف» و كان امتنانا عليه.
و في قوله: «و فوق كل ذي علم عليم» بيان أن العلم من الأمور التي لا يقف على حد ينتهي إليه بل كل ذي علم يمكن أن يفرض من هو أعلم منه.
و ينبغي أن يعلم أن ظاهر قوله: «ذي علم» هو العلم الطارىء على العالم الزائد على ذاته لما في لفظة «ذي» من الدلالة على المصاحبة و المقارنة فالله سبحانه و علمه الذي هو صفة ذاته عين ذاته، و هو تعالى علم غير محدود كما أن وجوده أحدي غير محدود، خارج بذاته عن إطلاق الكلام.
على أن الجملة «و فوق كل ذي علم عليم» إنما تصدق فيما أمكن هناك فرض «فوق» و الله سبحانه لا فوق له و لا تحت له و لا وراء لوجوده و لا حد لذاته و لا نهاية.
و لا يبعد أن يكون قوله: «و فوق كل ذي علم عليم» إشارة إلى كونه تعالى فوق كل ذي علم بأن يكون المراد بعليم هو الله سبحانه أورد في هيئة النكرة صونا للسان عن تعريفه للتعظيم.
قوله تعالى: «قالوا إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» إلى آخر الآية، القائلون هم إخوة يوسف (عليه السلام) لأبيه، و لذلك نسبوا يوسف إلى أخيهم المتهم بالسرقة لأنهما كانا من أم واحدة، و المعنى أنهم قالوا: إن يسرق هذا صواع الملك فليس ببعيد منه لأنه كان له أخ و قد تحققت السرقة منه من قبل فهما يتوارثان ذلك من ناحية أمهما و نحن مفارقوهما في الأم.
و في هذا نوع تبرئة لأنفسهم من السرقة لكنه لا يخلو من تكذيب لما قالوه آنفا: «و ما كنا سارقين» لأنهم كانوا ينفون به السرقة عن أبناء يعقوب جميعا و إلا لم يكن ينفعهم البتة فقولهم: «فقد سرق أخ له من قبل» يناقضه و هو ظاهر.
على أنهم أظهروا بهذه الكلمة ما في نفوسهم من الحسد ليوسف و أخيه - و لعلهم لم يشعروا به - و هذا يكشف عن أمور مؤسفة كثيرة فيما بينهم.
و بهذا يتضح بعض الاتضاح معنى قول يوسف: «أنتم شر مكانا» كما أن الظاهر أن قوله: «أنتم شر مكانا» إلى آخر الآية كالبيان لقوله: «فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم» و كما أن قوله: «و لم يبدها لهم» عطف تفسير لقوله: «فأسرها يوسف في نفسه».
و المعنى - و الله أعلم - «فأسرها» أي أخفى هذه الكلمة التي قالوها أي لم يتعرض لما نسبوا إليه من السرقة و لم ينفه و لم يبين حقيقة الحال بل «أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم» و كان هناك قائلا يقول: كيف أسرها في نفسه فأجيب أنه «قال: أنتم شر مكانا» و أسوأ حالا لما في أقوالكم من التناقض و في نفوسكم من غريزة الحسد الظاهرة و اجترائكم على الكذب في حضرة العزيز بعد هذا الإكرام و الإحسان كله «و الله أعلم بما تصفون» إنه قد سرق أخ له من قبل فلم يكذبهم في وصفهم و لم ينفه.
و ذكر بعض المفسرين أن معنى قوله: «أنتم شر مكانا» إلخ: أنكم أسوأ حالا منه لأنكم سرقتم أخاكم من أبيكم و الله أعلم أ سرق أخ له من قبل أم لا.
و فيه: أن من الجائز أن يكون هذا المعنى بعض ما قصده يوسف بقوله: «أنتم شر مكانا» لكن الكلام فيما تلقاه إخوته من قوله هذا و الظرف هذا الظرف هم ينكرون يوسف (عليه السلام) و هو لا يريد أن يعرفهم نفسه، و لا ينطبق قوله في مثل هذا الظرف إلا بما تقدم.
و ربما ذكر بعضهم أن التي أسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم هي كلمته: «أنتم شر مكانا» فلم يخاطبهم بها ثم جهر بقوله: «و الله أعلم بما تصفون» و هذا بعيد غير مستفاد من السياق.
قوله تعالى: «قالوا يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين» سياق الآيات يدل على أنهم إنما قالوا هذا القول لما شاهدوا أنه استحق الأخذ و الاستعباد، و ذكروا أنهم أعطوا أباهم موثقا من الله أن يرجعوه إليه فلم يكن في مقدرتهم أن يرجعوا إلى أبيهم و لا يكون معهم، فعند ذلك عزموا أن يفدوه بواحد منهم إن قبل العزيز، و كلموا العزيز في ذلك أن يأخذ أي من شاء منهم، و يخلي عن سبيل أخيهم المتهم ليرجعوه إلى أبيه.
و معنى الآية ظاهر، و في اللفظ ترقيق و استرحام و إثارة لصفة الفتوة و الإحسان من العزيز.
قوله تعالى: «قال معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده إنا إذا لظالمون» رد منه (عليه السلام) لسؤالهم أن يأخذ أحدهم مكانه و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «فلما استيئسوا منه خلصوا نجيا» إلى آخر الآية قال في المجمع،: اليأس قطع الطمع من الأمر يقال يئس ييأس و أيس يأيس لغة، و استفعل مثل استيأس و استأيس.
قال: و يئس و استيأس بمعنى مثل سخر و استسخر و عجب و استعجب.
و النجي القوم يتناجون الواحد و الجمع فيه سواء قال سبحانه: «و قربناه نجيا» و إنما جاز ذلك لأنه مصدر وصف به، و المناجاة المسارة و أصله من النجوة هو المرتفع من الأرض فإنه رفع السر من كل واحد إلى صاحبه في خفية، و النجوى يكون اسما و مصدرا قال سبحانه: «و إذ هم نجوى» أي يتناجون، و قال في المصدر: «إنما النجوى من الشيطان» و جمع النجي أنجية قال: و برح الرجل براحا إذا تنحى عن موضعه.
انتهى.
و الضمير في قوله: «فلما استيئسوا منه» ليوسف و يمكن أن يكون لأخيه و المعنى «فلما استيئسوا» أي إخوة يوسف «منه» أي من يوسف أن يخلي عن سبيل أخيه و لو بأخذ أحدهم بدلا منه «خلصوا» و خرجوا من بين الناس إلى فراغ «نجيا» يتناجون في أمرهم أ يرجعون إلى أبيهم و قد أخذ منهم موثقا من الله أن يعيدوا أخاهم إليه أم يقيمون هناك و لا فائدة في إقامتهم؟ ما ذا يصنعون؟.
«قال كبيرهم» مخاطبا لسائرهم «أ لم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله» ألا ترجعوا من سفركم هذا إليه إلا بأخيكم، «و من قبل» هذه الواقعة «ما فرطتم» أي تفريطكم و تقصيركم «في» أمر «يوسف» عهدتم أباكم أن تحفظوه و تردوه إليه سالما فألقيتموه في الجب ثم بعتموه من السيارة ثم أخبرتم أباكم أنه أكله الذئب.
«فلن أبرح الأرض» أي فإذا كان الشأن هذا الشأن لن أتنحى و لن أفارق أرض مصر «حتى يأذن لي أبي» برفعه اليد عن الموثق الذي واثقته به «أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين» فيجعل لي طريقا إلى النجاة من هذه المضيقة التي سدت لي كل باب و ذلك إما بخلاص أخي من يد العزيز من طريق لا أحتسبه أو بموتي أو بغير ذلك من سبيل!!.
أما أنا فأختار البقاء هاهنا و أما أنتم فارجعوا إلى أبيكم إلى آخر ما ذكر في الآيتين التاليتين.
قوله تعالى: «ارجعوا إلى أبيكم فقولوا يا أبانا إن ابنك سرق و ما شهدنا إلا بما علمنا و ما كنا للغيب حافظين» قيل المراد بقوله: «و ما شهدنا إلا بما علمنا» إنا لم نشهد في شهادتنا هذه: «إن ابنك سرق» إلا بما علمنا من سرقته، و قيل المراد ما شهدنا عند العزيز أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق إلا بما علمنا من حكم المسألة، قيل و إنما قالوا ذلك حين قال لهم يعقوب: ما يدري الرجل أن السارق يؤخذ بسرقته و يسترق؟ و إنما علم ذلك بقولكم، و أقرب المعنيين إلى السياق أولهما.
و قوله: «و ما كنا للغيب حافظين» قيل أي لم نكن نعلم أن ابنك سيسرق فيؤخذ و يسترق و إنما كنا نعتمد على ظاهر الحال و لو كنا نعلم ذلك لما بادرنا إلى تسفيره معنا و لا أقدمنا على الميثاق.
و الحق أن المراد بالغيب كونه سارقا مع جهلهم بها و معنى الآية إن ابنك سرق و ما شهدنا في جزاء السرقة إلا بما علمنا و ما كنا نعلم أنه سرق السقاية و أنه سيؤخذ بها حتى نكف عن تلك الشهادة فما كنا نظن به ذلك.
قوله تعالى: «و أسأل القرية التي كنا فيها و العير التي أقبلنا فيها و إنا لصادقون» أي و أسأل جميع من صاحبنا في هذه السفرة أو شاهد جريان حالنا عند العزيز حتى لا يبقى لك أدنى ريب في أنا لم نفرط في أمره بل أنه سرق فاسترق.
فالمراد بالقرية التي كانوا فيها بلدة مصر - على الظاهر - و بالعير التي أقبلوا فيها القافلة التي كانوا فيها و كان رجالها يصاحبونهم في الخروج إلى مصر و الرجوع منها ثم أقبلوا مصاحبين لهم، و لذلك عقبوا عرض السؤال بقولهم: «و إنا لصادقون» أي فيما نخبرك من سرقته و استرقاقه لذلك، و نكلفك السؤال لإزالة الريب من نفسك.
|