بيان
الآيات تتضمن محاورة يعقوب بنيه بعد رجوعهم ثانيا من مصر و إخبارهم إياه خبر أخي يوسف و أمره برجوعهم ثالثا إلى مصر و تحسسهم من يوسف و أخيه إلى أن عرفهم يوسف (عليه السلام) نفسه.
قوله تعالى: «قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم» في المقام حذف كثير يدل عليه قوله: «ارجعوا إلى أبيكم فقولوا» إلى آخر الآيتين و التقدير و لما رجعوا إلى أبيهم و قالوا ما وصاهم به كبيرهم قال أبوهم بل سولت لكم أنفسكم أمرا «إلخ».
و قوله: «قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا» حكاية ما أجابهم به يعقوب (عليه السلام) و لم يقل (عليه السلام) هذا القول تكذيبا لهم فيما أخبروه به و حاشاه أن يكذب خبرا يحتف بقرائن الصدق و تصاحبه شواهد يمكن اختباره بها، و لا رماهم بقوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا» رميا بالمظنة بل ليس إلا أنه وجد بفراسة إلهية أن هذه الواقعة ترتبط و تتفرع على تسويل نفساني منهم إجمالا و كذلك كان الأمر فإن الواقعة من أذناب واقعة يوسف و كانت واقعته من تسويل نفساني منهم.
و من هنا يظهر أنه (عليه السلام) لم ينسب إلى تسويل أنفسهم عدم رجوع أخي يوسف فحسب بل عدم رجوعه و عدم رجوع كبيرهم الذي توقف بمصر و لم يرجع إليه، و يشهد لذلك قوله: «عسى الله أن يأتيني بهم جميعا» فجمع في ذلك بين يوسف و أخيه و كبير الإخوة فلم يذكر أخا يوسف وحده و لا يوسف و أخاه معا، فظاهر السياق أن ترجيه رجوع بنيه الثلاثة مبني على صبره الجميل قبال ما سولت لهم أنفسهم أمرا.
فالمعنى - و الله أعلم - أن هذه الواقعة مما سولت لكم أنفسكم كما قلت ذلك في واقعة يوسف فصبر جميل قبال تسويل أنفسكم عسى الله أن يأتيني بأبنائي الثلاثة جميعا.
و من هنا يظهر أن قولهم: إن المعنى: ما عندي أن الأمر على ما تصفونه بل سولت لكم أنفسكم أمرا فيما أظن، ليس في محله.
و قوله: «عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم» ترج مجرد لرجوعهم جميعا مع ما فيه من الإشارة إلى أن يوسف حي لم يمت - على ما يراه - و ليس مشربا معنى الدعاء، و لو كان في معنى الدعاء لم يختمه بقوله: «إنه هو العليم الحكيم» بل بمثل قولنا: إنه هو السميع العليم أو الرءوف الرحيم أو ما يناظرهما كما هو المعهود في الأدعية المنقولة في القرآن الكريم.
بل هو رجاء لثمرة الصبر فهو يقول: إن واقعة يوسف السابقة و هذه الواقعة التي أخذت مني ابنين آخرين إنما هما لأمر ما سولته لكم أنفسكم فسأصبر صبرا و أرجو به أن يأتيني الله بأبنائي جميعا و يتم نعمته على آل يعقوب كما وعدنيه أنه هو العليم بمورد الاجتباء و إتمام النعمة حكيم في فعله يقدر الأمور على ما تقتضيه الحكمة البالغة فلا ينبغي للإنسان أن يضطرب عند البلايا و المحن بالطيش و الجزع و لا أن ييأس من روحه و رحمته.
و الاسمان: العليم الحكيم هما اللذان ذكرهما يعقوب ليوسف (عليهما السلام) لأول مرة أول رؤياه فقال: «إن ربك عليم حكيم» ثم ذكرهما يوسف ليعقوب (عليهما السلام) ثانيا حيث رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا فقال: «يا أبت هذا تأويل رؤياي - إلى أن قال - هو العليم الحكيم».
قوله تعالى: «و تولى عنهم و قال يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم» قال الراغب في المفردات،: الأسف الحزن و الغضب معا، و قد يقال لكل واحد منهما على الانفراد و حقيقته ثوران دم القلب شهوة الانتقام فمتى كان ذلك على من دونه انتشر فصار غضبا، و متى كان على من فوقه انقبض فصار حزنا - إلى أن قال - و قوله تعالى: «فلما آسفونا انتقمنا منهم» أي أغضبونا قال أبو عبد الله الرضا: إن الله لا يأسف كأسفنا و لكن له أولياء يأسفون و يرضون فجعل رضاهم رضاه و غضبهم غضبه. قال: و على ذلك قال: من أهان لي وليا فقد بارزني بالمحاربة.
انتهى.
و قال: الكظم مخرج النفس يقال: أخذ بكظمه، و الكظوم احتباس النفس و يعبر به عن السكوت كقولهم: فلان لا يتنفس إذا وصف بالمبالغة في السكوت، و كظم فلان حبس نفسه قال تعالى: «إذ نادى و هو مكظوم» و كظم الغيظ حبسه قال تعالى: «و الكاظمين الغيظ»، و منه كظم البعير إذا ترك الاجترار و كظم السقاء شده بعد ملئه مانعا لنفسه.
انتهى.
و قوله: «و ابيضت عيناه من الحزن» ابيضاض العين أي سوادها هو العمى و بطلان الإبصار و ربما يجامع قليل إبصار لكن قوله الآتي: «اذهبوا بقميصي هذا فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا»: الآية 93 من السورة يشهد بأنه كناية عن ذهاب البصر.
و معنى الآية: «ثم تولى» و أعرض يعقوب (عليه السلام) «عنهم» أي عن أبنائه بعد ما خاطبهم بقوله: بل سولت لكم أنفسكم أمرا «و قال: يا أسفى» و يا حزني «على يوسف و ابيضت عيناه» و ذهب بصره «من الحزن» على يوسف «فهو كظيم» حابس غيظه متجرع حزنه لا يتعرض لبنيه بشيء.
قوله تعالى: «قالوا تالله تفتؤا تذكر يوسف حتى تكون حرضا أو تكون من الهالكين» الحرض و الحارض المشرف على الهلاك و قيل: هو الذي لا ميت فينسى و لا حي فيرجي، و المعنى الأول أنسب بالنظر إلى مقابلته الهلاك، و الحرض لا يثنى و لا يجمع لأنه مصدر.
و المعنى: نقسم بالله لا تزال تذكر يوسف و تديم ذكره منذ سنين لا تكف عنه حتى تشرف على الهلاك أو تهلك، و ظاهر قولهم هذا أنهم إنما قالوه رقة بحاله و رأفة به، و لعلهم إنما تفوهوا به تبرما ببكائه و سأمة من طول نياحه ليوسف، و خاصة من جهة أنه كان يكذبهم في ما كانوا يدعونه من أمر يوسف، و كان ظاهر بكائه و تأسفه أنه يشكوهم كما ربما يؤيده قوله: «إنما أشكوا» إلخ.
قوله تعالى: «قال إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون» قال في المجمع،: البث الهم الذي لا يقدر صاحبه على كتمانه فيبثه أي يفرقه، و كل شيء فرقته فقد بثثته و منه قوله: «و بث فيها من كل دابة» انتهى فهو من المصدر بمعنى المفعول أي المبثوث.
و الحصر الذي في قوله: «إنما أشكوا» إلخ، من قصر القلب فيكون مفاده أني لست أشكو بثي و حزني إليكم معاشر ولدي و أهلي، و لو كنت أشكوه إليكم لانقطع في أقل زمان كما يجري عليه دأب الناس في بثهم و حزنهم عند المصائب، و إنما أشكو بثي و حزني إلى الله سبحانه، و لا يأخذه ملل و لا سأمة فيما يسأله عنه عباده و يبرمه أرباب الحوائج و يلحون عليه و أعلم من الله ما لا تعلمون فلست أيأس من روحه و لا أقنط من رحمته.
و في قوله: «و أعلم من الله ما لا تعلمون» إشارة إجمالية إلى علمه بالله لا يستفاد منه إلا ما يساعد على فهمه المقام كما أشرنا إليه.
قوله تعالى: «يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيئسوا من روح الله إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» قال في المجمع،: التحسس - بالحاء - طلب الشيء بالحاسة و التجسس - بالجيم - نظيره و في الحديث: لا تحسسوا و لا تجسسوا، و قيل إن معناهما واحد و نسق أحدهما على الآخر لاختلاف اللفظين كقول الشاعر «متى ادن منه ينأى عنه و يبعد».
و قيل: التجسس بالجيم البحث عن عورات الناس، و بالحاء الاستماع لحديث قوم و سئل ابن عباس عن الفرق بينهما؟ قال: لا يبعد أحدهما عن الآخر: التحسس في الخير و التجسس في الشر.
انتهى.
و قوله: «و لا تيئسوا من روح الله» الروح بالفتح فالسكون النفس أو النفس الطيب و يكنى به عن الحالة التي هي ضد التعب و هي الراحة و ذلك أن الشدة التي فيها انقطاع الأسباب و انسداد طرق النجاة تتصور اختناقا و كظما للإنسان و بالمقابلة الخروج إلى فسحة الفرج و الظفر بالعافية تنفسا و روحا لقولهم يفرج الهم و ينفس الكرب فالروح المنسوب إليه تعالى هو الفرج بعد الشدة بإذن الله و مشيته، و على من يؤمن بالله أن يعتقد أن الله يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد لا قاهر لمشيته و لا معقب لحكمه، و ليس له أن ييأس من روح الله و يقنط من رحمته فإنه تحديد لقدرته و في معنى الكفر بإحاطته و سعة رحمته كما قال تعالى حاكيا عن لسان يعقوب (عليه السلام): «أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» و قال حاكيا عن لسان إبراهيم (عليه السلام): «و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون»: الحجر: 56، و قد عد اليأس من روح الله في الأخبار المأثورة من الكبائر الموبقة.
و معنى الآية - ثم قال يعقوب لبنيه آمرا لهم - «يا بني اذهبوا فتحسسوا» من يوسف و أخيه» الذي أخذ بمصر و ابحثوا عنهما لعلكم تظفرون بهما «و لا تيئسوا من روح الله» و الفرج الذي يرزقه الله بعد الشدة «أنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون» الذين لا يؤمنون بأن الله يقدر أن يكشف كل غمة و ينفس عن كل كربة.
قوله تعالى: «فلما دخلوا عليه قالوا يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة» إلخ، البضاعة المزجاة المتاع القليل، و في الكلام حذف و التقدير فساروا بني يعقوب إلى مصر و لما دخلوا على يوسف قالوا «إلخ».
كانت لهم - على ما يدل عليه السياق - حاجتان إلى العزيز و لا مطمع لهم بحسب ظاهر الأسباب إلى قضائهما و استجابته عليهم فيهما.
إحداهما: أن يبيع منهم الطعام و لا ثمن عندهم يفي بما يريدونه من الطعام على أنهم عرفوا بالكذب و سجل عليهم السرقة من قبل و هان أمرهم على العزيز لا يرجى منه أن يكرمهم بما كان يكرمهم به في الجيئة الأولى.
و ثانيتهما: أن يخلي عن سبيل أخيهم المأخوذ بالسرقة، و قد استيأسوا منه بعد ما كانوا ألحوا عليه فأبى العزيز حتى عن تخلية سبيله بأخذ أحدهم مكانه.
و لذلك لما حضروا عند يوسف العزيز و كلموه و هم يريدون أخذ الطعام و إعتاق أخيهم أوقفوا أنفسهم موقف التذلل و الخضوع و بالغوا في رقة الكلام استرحاما و استعطافا فذكروا أولا ما مسهم و أهلهم من الضر و سوء الحال ثم ذكروا قلة ما أتوا به من البضاعة ثم سألوه إيفاء الكيل، و أما حديث أخيهم المأخوذ فلم يصرحوا بسؤال تخلية سبيله بل سألوه أن يتصدق عليهم و إنما يتصدق بالمال و الطعام مال و أخوهم المسترق مال العزيز ظاهرا ثم حرضوه بقولهم: «إن الله يجزي المتصدقين» و هو في معنى الدعاء.
فمعنى الآية: «يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر» و أحاط بنا جميعا المضيقة و سوء الحال «و جئنا» إليك «ببضاعة مزجاة» و متاع قليل لا يعدل ما نسألك من الطعام غير أنه نهاية ما في وسعنا «فأوف لنا الكيل و تصدق علينا» و كأنهم يريدون به أخاهم أو إياه و الطعام «إن الله يجزي المتصدقين» خيرا.
و قد بدءوا القول بخطاب «يا أيها العزيز» و ختموه بما في معنى الدعاء و أتوا خلاله بذكر سوء حالهم و الاعتراف بقلة بضاعتهم و سؤاله أن يتصدق عليهم و هو من أمر السؤال و الموقف موقف الاسترحام ممن لا يستحق ذلك لسوء سابقته، و هم عصبة قد اصطفوا أمام عزيز مصر.
و عند ذلك تمت الكلمة الإلهية أنه سيرفع يوسف و أخاه و يضع عنده سائر بني يعقوب لظلمهم، و لذلك لم يلبث يوسف (عليه السلام) دون أن أجابهم بقوله: «هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه» و عرفهم نفسه، و قد كان يمكنه (عليه السلام) أن يخبر أباه و إخوته مكانه و أنه بمصر طول هذه المدة غير القصيرة لكن الله سبحانه شاء أن يوقف إخوته أمامه و معه أخوه المحسود موقف المذلة و المسكنة و هو متك على أريكة العزة.
قوله تعالى: «قال هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون» إنما يخاطب المخطىء المجرم بمثل هل علمت و أ تدري و أ رأيت و نحوها و هو عالم بما فعل لتذكيره جزاء عمله و وبال ذنبه لكنه (عليه السلام) أعقب استفهامه بقوله: «إذ أنتم جاهلون» و فيه تلقين عذر.
فقوله: «هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه» مجرد تذكير لعملهم بهما من غير توبيخ و مؤاخذة ليعرفهم من الله عليه و على أخيه و هذا من عجيب فتوة يوسف (عليه السلام)، و يا لها من فتوة.
قوله تعالى: «قالوا ء إنك لأنت يوسف قال أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا» إلى آخر الآية تأكيد الجملة المستفهم عنها للدلالة على أن الشواهد القطعية قامت على تحقق مضمونها و إنما يستفهم لمجرد الاعتراف فحسب.
و قد قامت الشواهد عندهم على كون العزيز هو أخاهم يوسف و لذلك سألوه بقولهم: «ء إنك لأنت يوسف» مؤكدا بإن و اللام و ضمير الفصل فأجابهم بقوله: «أنا يوسف و هذا أخي» و إنما ألحق أخاه بنفسه و لم يسألوا عنه و ما كانوا يجهلونه ليخبر عن من الله عليهما، و هما معا المحسودان و لذا قال: «قد من الله علينا».
ثم أخبر عن سبب المن الإلهي بحسب ظاهر الأسباب فقال: «إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين» و فيه دعوتهم إلى الإحسان و بيان أنه يتحقق بالتقوى و الصبر.
قوله تعالى: «قالوا تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين» الإيثار هو الاختيار و التفضيل، و الخطأ ضد الصواب و الخاطىء و المخطىء من خطأ خطأ و أخطأ إخطاء بمعنى واحد، و معنى الآية ظاهر و فيها اعترافهم بالخطإ و تفضيل الله يوسف عليهم.
قوله تعالى: «قال لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين» التثريب التوبيخ و المبالغة في اللوم و تعديد الذنوب، و إنما قيد نفي التثريب باليوم ليدل على مكانة صفحه و إغماضه عن الانتقام منهم و الظرف هذا الظرف هو عزيز مصر أوتي النبوة و الحكم و علم الأحاديث و معه أخوه و هم أذلاء بين يديه معترفون بالخطيئة و إن الله آثره عليهم بالرغم من قولهم أول يوم: «ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين».
ثم دعا لهم و استغفر بقوله: «يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين» و هذا دعاء و استغفار منه لإخوته الذين ظلموه جميعا و إن كان الحاضرون عنده اليوم بعضهم لا جميعهم كما يستفاد من قوله تعالى الآتي: «قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم» و سيجيء إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يحدث: قال: لما فقد يعقوب يوسف (عليهما السلام) اشتد حزنه عليه و بكاؤه حتى ابيضت عيناه من الحزن و احتاج حاجة شديدة و تغيرت حالته، و كان يمتار القمح من مصر لعياله في السنة مرتين: للشتاء و الصيف، و إنه بعث عدة من ولده ببضاعة يسيرة إلى مصر فرفع لهم رفقة خرجت. فلما دخلوا على يوسف و ذلك بعد ما ولاه العزيز مصر فعرفهم يوسف و لم يعرفه إخوته لهيبة الملك و عزته فقال لهم: هلموا بضاعتكم قبل الرفاق، و قال لفتيانه عجلوا لهؤلاء الكيل و أوفهم فإذا فرغتم فاجعلوا بضاعتهم هذه في رحالهم و لا تعلموهم بذلك ففعلوا ثم قال لهم يوسف: قد بلغني أنه قد كان لكم أخوان من أبيكم فما فعلا؟ قالوا: أما الكبير منهما فإن الذئب أكله، و أما الصغير فخلفناه عند أبيه و هو به ضنين و عليه شفيق. قال: فإني أحب أن تأتوني به معكم إذا جئتم لتمتاروا فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون قالوا: سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون. فلما رجعوا إلى أبيهم و فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم في رحالهم قالوا: يا أبانا ما نبغي؟ هذه بضاعتنا ردت إلينا و كيل لنا كيل قد زاد حمل بعير فأرسل معنا أخانا نكتل و إنا له لحافظون قال: هل آمنكم عليه إلا كما أمنتكم على أخيه من قبل. فلما احتاجوا بعد ستة أشهر بعثهم يعقوب و بعث معهم بضاعة يسيرة و بعث معهم ابن يامين و أخذ عنهم بذلك موثقا من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم أجمعين فانطلقوا مع الرفاق حتى دخلوا على يوسف فقال: هل معكم ابن يامين؟ قالوا: نعم هو في الرحل قال لهم: فأتوني به و هو في دار الملك قد خلا وحده فأدخلوه عليه فضمه إليه و بكى و قال له: أنا أخوك يوسف فلا تبتئس بما تراني أعمل و اكتم ما أخبرتك به و لا تحزن و لا تخف. ثم أخرجه إليهم و أمر فتيانه أن يأخذوا بضاعتهم و يعجلوا لهم الكيل فإذا فرغوا جعلوا المكيال في رحل ابن يامين ففعلوا به ذلك و ارتحل القوم مع الرفقة فمضوا فلحقهم يوسف و فتيته فنادوا فيهم قال: أيتها العير إنكم لسارقون، قالوا و أقبلوا عليهم: ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين؟ قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه. قال: فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه قالوا: إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل فقال لهم يوسف: ارتحلوا عن بلادنا. قالوا: يا أيها العزيز إن له أبا شيخا كبيرا و قد أخذ علينا موثقا من الله لنرد به إليه فخذ أحدنا مكانه إنا نراك من المحسنين إن فعلت، قال: معاذ الله أن نأخذ إلا من وجدنا متاعنا عنده فقال كبيرهم: إني لست أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي. و مضى إخوة يوسف حتى دخلوا على يعقوب فقال لهم: فأين ابن يامين؟ قالوا: ابن يامين سرق مكيال الملك فأخذه الملك بسرقته فحبس عنده فاسأل أهل القرية و العير حتى يخبروك بذلك فاسترجع و استعبر و اشتد حزنه حتى تقوس ظهره.
و فيه، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سمعته يقول: صواع الملك الطاس الذي يشرب فيه.
أقول: و في بعض الروايات أنه كان قدحا من ذهب و كان يكتال به يوسف (عليه السلام).
و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) و في نسخة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قيل له و أنا عنده إن سالم بن حفصة روى عنك أنك تكلم على سبعين وجها لك منها المخرج. قال: ما يريد سالم مني؟ أ يريد أن أجيء بالملائكة فوالله ما جاء بهم النبيون، و لقد قال إبراهيم: إني سقيم و و الله ما كان سقيما و ما كذب، و لقد قال إبراهيم: بل فعله كبيرهم و ما فعله كبيرهم و ما كذب، و لقد قال يوسف: أيتها العير إنكم لسارقون و الله ما كانوا سرقوا و ما كذب.
و فيه، عن رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله في يوسف: «أيتها العير إنكم لسارقون قال: إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم حين قالوا و أقبلوا عليهم ما ذا تفقدون؟ قالوا: نفقد صواع الملك و لم يقولوا: سرقتم صواع الملك إنما عنى أنكم سرقتم يوسف من أبيه.
و في الكافي، بإسناده عن الحسن الصيقل قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): إنا قد روينا عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول يوسف «أيتها العير إنكم لسارقون» فقال: و الله ما سرقوا و ما كذب، و قال إبراهيم: «بل فعله كبيرهم هذا فاسألوهم إن كانوا ينطقون» فقال: و الله ما فعل و ما كذب. قال: فقال أبو عبد الله (عليه السلام): ما عندكم فيها يا صيقل؟ قلت: ما عندنا فيها إلا التسليم. قال: فقال: إن الله أحب اثنين و أبغض اثنين أحب الخطو فيما بين الصفين و أحب الكذب في الإصلاح، و أبغض الخطو في الطرقات و أبغض الكذب في غير الإصلاح، إن إبراهيم إنما قال: بل فعله كبيرهم إرادة الإصلاح و دلالة على أنهم لا يفعلون، و قال يوسف إرادة الإصلاح.
أقول: قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح لا ينافي ما في الرواية السابقة أنه أراد به سرقهم يوسف من أبيه فكون ظاهر الكلام مما لا يطابق الواقع غير كون المتكلم مريدا به معنى صحيحا في نفسه غير مفهوم منه في ظرف التخاطب، و الدليل على ذلك قوله (عليه السلام) إنه أراد الإصلاح و دل على أنهم لا يفعلون حيث جمع بين المعنيين و للفظ بحسب أحدهما - و هو الثاني - مطابق دون الآخر فافهمه و ارجع إلى ما قدمناه في البيان.
و في معنى الأحاديث الثلاثة الأخيرة أخبار أخر مروية في الكافي، و المعاني، و تفسيري العياشي، و القمي،.
و في تفسير العياشي، عن إسماعيل بن همام قال: قال الرضا (عليه السلام): في قول الله تعالى: «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل - فأسرها يوسف في نفسه و لم يبدها لهم» قال: كان لإسحاق النبي منطقة يتوارثها الأنبياء و الأكابر، و كانت عند عمة يوسف، و كان يوسف عندها و كانت تحبه فبعث إليه أبوه أن ابعثه إلي و أرده إليك فبعثت إليه أن دعه عندي الليلة لأشمه ثم أرسله إليك غدوة فلما أصبحت أخذت المنطقة فربطها في حقوه و ألبسته قميصا فبعثت به إليه و قالت: سرقت المنطقة فوجدت عليه، و كان إذا سرق أحد في ذلك الزمان دفع إلى صاحب السرقة فأخذته فكان عندها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله «إن يسرق فقد سرق أخ له من قبل» قال: سرق يوسف (عليه السلام) صنما لجده أبي أمه من ذهب و فضة فكسره و ألقاه في الطريق فعيره بذلك إخوته.
أقول: و الرواية السابقة أقرب إلى الاعتماد، و قد رويت بطرق أخرى عن الأئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و يؤيدها ما روي بغير واحد من طرق أهل البيت و طرق غيرهم: أن السجان قال ليوسف: إني لأحبك فقال: لا تحبني فإن عمتي أحبتني فنسبت إلي السرقة و أبي أحبني فحسدني إخوتي و ألقوني في الجب، و امرأة العزيز أحبتني فألقوني في السجن.
و في الكافي، بإسناده عن ابن أبي عمير عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «إنا نراك من المحسنين» قال: كان يوسف يوسع المجلس و يستقرض المحتاج و يعين الضعيف.
و في تفسير البرهان، عن الحسين بن سعيد في كتاب التمحيص عن جابر قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): ما الصبر الجميل؟ قال: ذلك صبر ليس فيه شكوى إلى أحد من الناس إن إبراهيم بعث يعقوب إلى راهب من الرهبان عابد من العباد في حاجة فلما رآه الراهب حسبه إبراهيم فوثب إليه فاعتنقه ثم قال: مرحبا بخليل الرحمن فقال له يعقوب: لست بخليل الرحمن و لكن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، قال له الراهب: فما الذي بلغ بك ما أرى من الكبر؟ قال: الهم و الحزن و السقم. قال: فما جاز عتبة الباب حتى أوحى الله إليه: يا يعقوب شكوتني إلى العباد فخر ساجدا عند عتبة الباب يقول: رب لا أعود فأوحى الله إليه أني قد غفرت لك فلا تعد إلى مثلها فما شكى شيئا مما أصابه من نوائب الدنيا إلا أنه قال يوما: «إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله - و أعلم من الله ما لا تعلمون».
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن مسلم بن يسار يرفعه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: من بث لم يصبر ثم قرأ «إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله».
أقول: و رواه أيضا عن ابن عدي و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): و في الكافي، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له: أخبرني عن قول يعقوب لبنيه: «اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه» إنه كان يعلم أنه حي و قد فارقهم منذ عشرين سنة؟ قال: نعم. قلت: كيف علم؟ قال: إنه دعا في السحر و قد سأل الله أن يهبط عليه ملك الموت فهبط عليه تربال و هو ملك الموت فقال له تربال: ما حاجتك يا يعقوب؟ قال: أخبرني عن الأرواح تقبضها مجتمعة أو متفرقة؟ فقال: بل أقبضها متفرقة روحا روحا. قال: فمر بك روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي فعند ذلك قال لولده: «اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه».
أقول: و رواه في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبيه عنه (عليه السلام) و فيه: قال يعني يعقوب لملك الموت: أخبرني عن الأرواح تقبضها جملة أو تفاريق؟ قال: يقبضها أعواني متفرقة و تعرض علي مجتمعة قال: فأسألك بإله إبراهيم و إسحاق و يعقوب هل عرض عليك في الأرواح روح يوسف؟ قال: لا، فعند ذلك علم أنه حي.
و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن راهويه في تفسيره و ابن أبي الدنيا في كتاب الفرج بعد الشدة و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أنس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيه: أتى جبريل فقال: يا يعقوب إن الله يقرئك السلام و يقول لك: أبشر و ليفرح قلبك فوعزتي لو كانا ميتين لنشرتهما لك فاصنع طعاما للمساكين فإن أحب عبادي إلي الأنبياء و المساكين. و تدري لم أذهبت بصرك و قوست ظهرك و صنع إخوة يوسف به ما صنعوا؟ إنكم ذبحتم شاة فأتاكم مسكين و هو صائم فلم تطعموه منه شيئا. فكان يعقوب (عليه السلام) إذا أراد الغداء أمر مناديا ينادي ألا من أراد الغداء من المساكين فليتغد مع يعقوب و إذا كان صائما أمر مناديا فنادى ألا من كان صائما من المساكين فليفطر مع يعقوب.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «فالله خير حافظا» الآية: ورد في الخبر: أن الله سبحانه قال: فبعزتي لأردنهما إليك من بعد ما توكلت علي.
|