بيان
تشتمل الآيات على الأمر بتخميس الغنائم و بالثبات عند اللقاء و تذكرهم، و تقص عليهم بعض ما نكب الله به أعداء الدين و أخزاهم بالمكر الإلهي، و أجرى فيهم سنة آل فرعون و من قبلهم من المكذبين لآيات الله الصادين عن سبيله.
قوله تعالى: «و اعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه و للرسول» إلى آخر الآية.
الغنم و الغنيمة إصابة الفائدة من جهة تجارة أو عمل أو حرب و ينطبق بحسب مورد نزول الآية على غنيمة الحرب، قال الراغب: الغنم - بفتحتين - معروف قال: و من البقر و الغنم ما حرمنا عليهم شحومهما، و الغنم - بالضم فالسكون - إصابته و الظفر به ثم استعمل في كل مظفور به من جهة العدى و غيرهم قال: و اعلموا أنما غنمتم من شيء، فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا.
و المغنم ما يغنم و جمعه مغانم قال: فعند الله مغانم كثيرة، انتهى.
و ذو القربى القريب و المراد به قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو خصوص أشخاص منهم على ما يفسره الآثار القطعية، و اليتيم هو الإنسان الذي مات أبوه و هو صغير، قالوا: كل حيوان يتيم من قبل أمه إلا الإنسان فإن يتمه من قبل أبيه.
و قوله: «فأن لله خمسه» إلخ قرىء بفتح أن، و يمكن أن يكون بتقدير حرف الجر و التقدير: و اعلموا أن ما غنمتم من شيء فعلى أن لله خمسه أي هو واقع على هذا الأساس محكوم به، و يمكن أن يكون بالعطف على أن الأولى، و حذف خبر الأولى لدلالة الكلام عليه، و التقدير: اعلموا أن ما غنمتم من شيء يجب قسمته فاعلموا أن خمسه لله، أو يكون الفاء لاستشمام معنى الشرط فإن مآل المعنى إلى نحو قولنا: إن غنمتم شيئا فخمسه لله إلخ فالفاء من قبيل فاء الجزاء، و كرر أن للتأكيد، و الأصل: اعلموا أن ما غنمتم من شيء أن خمسه لله إلخ، و الأصل الذي تعلق به العلم هو: ما غنمتم من شيء خمسه لله و للرسول إلخ، و قد قدم لفظ الجلالة للتعظيم.
و قوله: «إن كنتم آمنتم بالله» إلخ قيد للأمر الذي يدل عليه صدر الآية أي أدوا خمسه إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا، و ربما قيل: إنه متصل بقوله تعالى في الآية السابقة: «فاعلموا أن الله مولاكم» هذا و السياق الذي يتم بحيلولة قوله: «و اعلموا أنما غنمتم من شيء» إلخ لا يلائم ذلك.
و قوله تعالى: «و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان» الظاهر أن المراد به القرآن بقرينة تخصيص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالإنزال، و لو كان المراد به الملائكة المنزلون يوم بدر - كما قيل - لكان الأنسب أولا: أن يقال: و من أنزلنا على عبدنا، أو ما يؤدي هذا المعنى و ثانيا: أن يقال: عليكم لا على عبدنا فإن الملائكة كما أنزلت لنصرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزلت لنصرة المؤمنين معه كما يدل عليه قوله: «فاستجاب لكم أني ممدكم بألف من الملائكة مردفين:» الأنفال: - 9.
و قوله بعد ذلك: «إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم فثبتوا الذين آمنوا» إلخ: الأنفال: - 12.
و نظيرهما قوله: «إذ تقول للمؤمنين أ لن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكين منزلين بلى أن تصبروا و تتقوا و يأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين:» آل عمران: - 125.
و في الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله: «إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزلنا على عبدنا» من بسط اللطف على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و اصطفائه بالقرب ما لا يخفى.
و يظهر بالتأمل فيما قدمناه من البحث في قوله تعالى في أول السورة: «يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله و الرسول» الآية أن المراد بقوله: «و ما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان» هو قوله تبارك و تعالى: «فكلوا مما غنمتم حلالا طيبا» بما يحتف به من الآيات.
و المراد بقوله: «يوم الفرقان» يوم بدر كما يشهد به قوله بعده: «يوم التقى الجمعان» فإن يوم بدر هو اليوم الذي فرق الله فيه بين الحق و الباطل فأحق الحق بنصرته، و أبطل الباطل بخذلانه.
و قوله تعالى: «و الله على كل شيء قدير» بمنزلة التعليل لقوله: «يوم الفرقان» بما يدل عليه من تمييزه تعالى بين الحق و الباطل كأنه قيل: و الله على كل شيء قدير فهو قادر أن يفرق بين الحق و الباطل بما فرق.
فمعنى الآية - و الله أعلم - و اعلموا أن خمس ما غنمتم أي شيء كان هو لله و لرسوله و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل فردوه إلى أهله إن كنتم آمنتم بالله و ما أنزله على عبده محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر، و هو أن الأنفال و غنائم الحرب لله و لرسوله لا يشارك الله و رسوله فيها أحد، و قد أجاز الله لكم أن تأكلوا منها و أباح لكم التصرف فيها فالذي أباح لكم التصرف فيها يأمركم أن تئودوا خمسها إلى أهله.
و ظاهر الآية أنها مشتملة على تشريع مؤبد كما هو ظاهر التشريعات القرآنية، و أن الحكم متعلق بما يسمى غنما و غنيمة سواء كان غنيمة حربية مأخوذة من الكفار أو غيرها مما يطلق عليه الغنيمة لغة كأرباح المكاسب و الغوص و الملاحة و المستخرج من الكنوز و المعادن، و إن كان مورد نزول الآية هو غنيمة الحرب فليس للمورد أن يخصص.
و كذا ظاهر ما عد من موارد الصرف بقوله: «لله خمسه و للرسول و لذي القربى و اليتامى و المساكين و ابن السبيل» انحصار الموارد في هؤلاء الأصناف، و أن لكل منهم سهما بمعنى استقلاله في أخذ السهم كما يستفاد مثله من آية الزكاة من غير أن يكون ذكر الأصناف من قبيل التمثيل.
فهذا كله مما لا ريب فيه بالنظر إلى المتبادر من ظاهر معنى الآية، و عليه وردت الأخبار من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و قد اختلفت كلمات المفسرين من أهل السنة في تفسير الآية و سنتعرض لها في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «إذ أنتم بالعدوة الدنيا و هم بالعدوة القصوى و الركب أسفل منكم و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا» العدوة بالضم و قد يكسر شفير الوادي، و الدنيا مؤنث أدنى كما أن القصوى و قد يقال: القصيا مؤنث أقصى و الركب كما قيل هو العير الذي كان عليه أبو سفيان بن حرب.
و الظرف في قوله: «إذ أنتم بالعدوة» بيان ثان لقوله في الآية السابقة: «يوم الفرقان كما أن قوله: «يوم التقى الجمعان» بيان أول له متعلق بقوله: «أنزلنا على عبدنا» و أما ما يظهر من بعضهم أنه بيان لقوله: «و الله على كل شيء قدير» بما يفيده بحسب المورد، و المعنى: و الله قدير على نصركم و أنتم أذلة إذ أنتم نزول بشفير الوادي الأقرب، فلا يخفى بعده و وجه التكلف فيه.
و قوله تعالى: «و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد» سياق ما تقدمه من الجمل الكاشفة عن تلاقي الجيشين، و كون الركب أسفل منهم، و أن الله بقدرته التي قهرت كل شيء فرق بين الحق و الباطل، و أيد الحق على الباطل، و كذا قوله بعد: «و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا» كل ذلك يشهد على أن المراد بقوله: «و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد» بيان أن التلاقي على هذا الوجه لم يكن إلا بمشية خاصة من الله سبحانه حيث نزل المشركون و هم ذوو عدة و شدة بالعدوة القصوى و فيها الماء و الأرض الصلبة، و المؤمنون على قلة عددهم و هوان أمرهم بالعدوة الدنيا و لا ماء فيها و الأرض رملية لا تثبت تحت أقدامهم، و تخلص العير منهم إذ ضرب أبو سفيان في الساحل أسفل، و تلاقى الفريقان لا حاجز بينهما و لا مناص عندئذ عن الحرب، فالتلاقي و المواجهة على هذا الوجه ثم ظهور المؤمنين على المشركين، لم يكن عن أسباب عادية بل لمشية خاصة إلهية ظهرت بها قدرته و بانت بها عنايته الخاصة و نصره و تأييده للمؤمنين.
فقوله: «و لو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد» بيان أن هذا التلاقي لم يكن عن سابق قصد و عزيمة، و لا روية أو مشورة، و لهذا المعنى عقبه بقوله: «و لكن ليقضي الله أمرا كان مفعولا» بما فيه من الاستدراك.
و قوله «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة» لتعليل ما قضي به من الأمر المفعول أي إن الله إنما قضى هذا الذي جرى بينكم من التلاقي و المواجهة ثم تأييد المؤمنين و خذلان المشركين ليكون ذلك بينة ظاهرة على حقية الحق و بطلان الباطل فيهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة.
و بذلك يظهر أن المراد بالهلاكة و الحياة هو الهدى و الضلال لأن ذلك هو الذي يرتبط به وجود الآية البينة ظاهرا.
و كذا قوله: «و إن الله لسميع عليم» عطف على قوله: «ليهلك من هلك عن بينة» إلخ، أي و إن الله إنما قضى ما قضى و فعل ما فعل لأنه سميع يسمع دعاءكم عليم يعلم ما في صدوركم، و فيه إشارة إلى ما ذكره في صدر الآيات: «إذ تستغيثون ربكم فاستجاب لكم» إلى آخر الآيات.
و على هذا السياق - أي لبيان أن مرجع الأمر في هذه الواقعة هو القضاء الخاص الإلهي دون الأسباب العادية - سيق قوله تعالى بعد: «إذ يريكهم الله في منامك قليلا» إلخ، و قوله: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم» إلخ، و قوله: «إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم» إلخ.
و معنى الآية يوم الفرقان هو الوقت الذي أنتم نزول بالعدوة الدنيا و هم نزول بالعدوة القصوى، و قد توافق نزولكم بها و نزولهم بها بحيث لو تواعدتم بينكم أن تلتقوا بهذا الميعاد لاختلفتم فيه و لم تتلاقوا على هذه الوتيرة فلم يكن ذلك منكم و لا منهم و لكن ذلك كان أمرا مفعولا و الله قاضيه و حاكمه، و إنما قضى ما قضى ليظهر آية بينة فتتم بذلك الحجة، و لأنه قد استجاب بذلك دعوتكم بما سمع من استغاثتكم و علم به من حاجة قلوبكم.
قوله تعالى: «إذ يريكهم الله في منامك قليلا» إلى آخر الآية، الفشل هو الضعف مع الفزع، و التنازع هو الاختلاف و هو من النزع نوع من القلع كأن المتنازعين ينزع كل منهما الآخر عما هو فيه، و التسليم هو النتيجة.
و الكلام على تقدير اذكر أي اذكر وقتا يريكهم الله في منامك قليلا، و إنما أراكهم قليلا ليربط بذلك قلوبكم و تطمئن نفوسكم و لو أراكهم كثيرا ثم ذكرتها للمؤمنين أفزعكم الضعف و اختلفتم في أمر الخروج إليهم و لكنه تعالى نجاكم بإراءتهم قليلا عن الفشل و التنازع إنه عليم بذات الصدور و هي القلوب يشهد ما يصلح به حال القلوب في اطمئنانها و ارتباطها و قوتها.
و الآية تدل على أن الله سبحانه أرى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا مبشرة رأى فيها ما وعده الله من إحدى الطائفتين أنها لهم و قد أراهم قليلا لا يعبأ بشأنهم، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر ما رآه للمؤمنين و وعدهم وعد تبشير فعزموا على لقائهم.
و الدليل على ذلك قوله: «و لو أراكهم كثيرا لفشلتم» إلخ و هو ظاهر.
قوله تعالى: «و إذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلا و يقللكم في أعينهم إلى آخر» الآية.
معنى الآية ظاهر، و لا تنافي بين هذه الآية و قوله تعالى: «قد كان لكم آية في فئتين التقتا فئة تقاتل في سبيل الله و أخرى كافرة يرونهم مثليهم رأي العين و الله يؤيد بنصره من يشاء:» آل عمران: - 13 بناء على أن الآية تشير إلى وقعة بدر.
و ذلك أن التقليل الذي يشير إليه في الآية المبحوث عنها مقيد بقوله: «إذ التقيتم» و بذلك يرتفع التنافي كأن الله سبحانه أرى المؤمنين قليلا في أعين المشركين في بادىء الالتقاء ليستحقروا جمعهم و يشجعهم ذلك على القتال و النزال حتى إذا زحفوا و اختلطوا، كثر المؤمنين في أعينهم فرأوهم مثليهم رأي العين فأوهن بذلك عزمهم و أطار قلوبهم فكانت الهزيمة فآية الأنفال تشير إلى أول الوقعة، و آية آل عمران إلى ما بعد الزحف و الاختلاط و قوله: «ليقضي الله أمرا كان مفعولا» متعلق بقوله: «يريكموهم» و تعليل لمضمونه.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا و اذكروا الله كثيرا لعلكم تفلحون» إلى آخر الآيات الثلاث.
قال الراغب في المفردات: الثبات - بفتح الثاء - ضد الزوال انتهى فهو في المورد ضد الفرار من العدو، و هو بحسب ما له من المعنى أعم من الصبر الذي يأمر به في قوله: «و اصبروا إن الله مع الصابرين» فالصبر ثبات قبال المكروه بالقلب بأن لا يضعف و لا يفزع و لا يجزع، و بالبدن بأن لا يتكاسل و لا يتساهل و لا يزول عن مكانه و لا يعجل فيما لا يحمد فيه العجل فالصبر ثبات خاص.
و الريح على ما قيل، العز و الدولة، و قد ذكر الراغب أن الريح في الآية بمعنى الغلبة استعارة كأن من شأن الريح أن تحرك ما هبت عليه و تقلعه و تذهب به، و الغلبة على العدو يفعل به ما تفعله الريح بالشيء كالتراب فاستعيرت لها.
و قال الراغب: البطر دهش يعتري الإنسان من سوء احتمال النعمة و قلة القيام بحقها و صرفها إلى غير وجهها قال عز و جل: «بطرا و رئاء الناس» و قال: «بطرت معيشتها» و أصله: بطرت معيشته فصرف عنه الفعل و نصب، و يقارب البطر الطرب، و هو خفة أكثر ما يعتري من الفرح و قد يقال ذلك في الترح، و البيطرة معالجة الدابة.
انتهى.
و الرئاء المراءاة.
و قوله: «فاثبتوا» أمر بمطلق الثبوت أمام العدو، و عدم الفرار منه فلا يتكرر بالأمر ثانيا بالصبر كما تقدمت الإشارة إليه.
و قوله: «و اذكروا الله كثيرا» أي في جنانكم و لسانكم فكل ذلك ذكر، و من المعلوم أن الأحوال القلبية الباطنة من الإنسان هي التي تميز مقاصده و تشخصها سواء وافقها اللفظ كالفقير المستغيث بالله من فقره و هو يقول: يا غني و المريض المستغيث به من مرضه و هو يقول: يا شافي و لو قال الفقير في ذلك: يا الله أو قال المريض فيه ذلك لكان معناه: يا غني و يا شافي لأنهما بمقتضى الحال الباعث لهما على الاستغاثة و الدعوة لا يريدان إلا ذلك كما هو ظاهر.
و الذي يخرج إلى قتال عدوه، ثم لقيه و استعد الظرف للقتال، و ليس فيه إلا زهاق النفوس، و سفك الدماء و نقص الأطراف و كل ما يهدد الإنسان بالفناء في ما يحبه فإن حاله يحول فكرته و يصرف إرادته إلى الظفر بما يريده بالقتال، و الغلبة على العدو الذي يهدده بالفناء، و الذي حاله هذا الحال و تفكيره هذا التفكير إنما يذكر الله سبحانه بما يناسب حاله و تنصرف إليه فكرته.
و هذا أقوى قرينة على أن المراد بذكر الله كثيرا أن يذكر المؤمن ما علمه تعالى من المعارف المرتبطة بهذا الشأن و هو أنه تعالى إلهه و ربه الذي بيده الموت و الحياة و هو على نصره لقدير، و أنه هو مولاه نعم المولى و نعم النصير، و قد وعده النصر إذ قال: إن تنصروا الله ينصركم و يثبت أقدامكم، و إن الله لا يضيع أجر المحسنين و إن مآل أمره في قتاله إلى إحدى الحسنيين إما الظفر على عدوه و رفع راية الإسلام و إخلاص الجو لسعادته الدينية، و إما القتل في سبيل الله و الانتقال بالشهادة إلى رحمته، و الدخول في حظيرة كرامته، و مجاورة المقربين من أوليائه، و ما في هذا الصف من المعارف الحقيقية التي تدعو إلى السعادة الواقعية و الكرامة السرمدية.
و قد قيد الذكر بالكثير لتتجدد به روح التقوى كلما لاح للإنسان ما يصرف نفسه إلى حب الحياة الفانية و التمتع بزخارف الدنيا الغارة و الخطورات النفسانية التي يلقيها الشيطان بتسويله.
و قوله: «و أطيعوا الله و رسوله» ظاهر السياق أن المراد بها إطاعة ما صدر من ناحيته تعالى و ناحية رسوله من التكاليف و الدساتير المتعلقة بالجهاد و الدفاع عن حومة الدين و بيضة الإسلام مما تشتمل عليه آيات الجهاد و السنة النبوية كالابتداء بإتمام الحجة و عدم التعرض للنساء و الذراري و الكف عن تبييت العدو و غير ذلك من أحكام الجهاد.
و قوله: «و لا تنازعوا فتفشلوا و تذهب ريحكم» أي و لا تختلفوا بالنزاع فيما بينكم حتى يورث ذلكم ضعف إرادتكم و ذهاب عزتكم و دولتكم أو غلبتكم فإن اختلاف الآراء يخل بالوحدة و يوهن القوة.
و قوله: «و اصبروا إن الله مع الصابرين» أي الزموا الصبر على ما يصيبكم من مكاره القتال مما يهددكم به العدو، و على الإكثار من ذكر الله، و على طاعة الله و رسوله من غير أن يهزهزكم الحوادث أو يزجركم ثقل الطاعة أو تغويكم لذة المعصية أو يضلكم عجب النفس و خيلاؤها.
و قد أكد الأمر بالصبر بقوله: «إن الله مع الصابرين» لأن الصبر أقوى عون على الشدائد و أشد ركن تجاه التلون في العزم و سرعة التحول في الإرادة، و هو الذي يخلي بين الإنسان و بين التفكير الصحيح المطمئن حيث يهجم عليه الخواطر المشوشة و الأفكار الموهنة لإرادته عند الأهوال و المصائب من كل جانب فالله سبحانه مع الصابرين.
و قوله: «و لا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم بطرا و رئاء الناس» الآية نهي عن اتخاذ طريقة هؤلاء البطرين المرائين الصادين عن سبيل الله، و هم على ما يفيده سياق الكلام في الآيات، كفار قريش، و ما ذكره من أوصافهم أعني البطر و رئاء الناس و الصد عن سبيل الله هو الذي أوجب النهي عن التشبه بهم و اتخاذ طريقتهم بدلالة السياق، و قوله: «و الله بما يعملون محيط» ينبىء عن إحاطته تعالى بأعمالهم و سلطنته عليها و ملكه لها، و من المعلوم أن لازم ذلك كون أعمالهم داخلة في قضائه متمشية بإذنه و مشيته و ما هذا شأنه لا يكون مما يعجز الله سبحانه فالجملة كالكناية عما يصرح به بعد عدة آيات بقوله: «و لا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون:» الأنفال: - 59.
و ظاهر أن أخذ هذه القيود أعني قوله: «بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله» يوجب تعلق النهي بها و التقدير: و لا تخرجوا من دياركم إلى قتل أعداء الدين بطرين و مرائين بالتجملات الدنيوية، و صد الناس عن سبيل الله بدعوتهم بأقوالكم و أفعالكم إلى ترك تقوى الله و التوغل في معاصيه و الانخلاع عن طاعة أوامره و دساتيره فإن ذلك يحبط أعمالكم و يطفىء نور الإيمان و يبطل أثره عن جمعكم فلا طريق إلى نجاح السعي و الفوز بالمقاصد الهامة إلا سوي الصراط الذي يمهده الدين القويم و تسهله الملة الفطرية و الله لا يهدي القوم الفاسقين إلى مقاصدهم الفاسدة.
و قد اشتملت الآيات الثلاث على أمور ستة أوجب الله سبحانه على المؤمنين رعايتها في الحروب الإسلامية عند اللقاء و هي الثبات، و ذكر الله كثيرا، و طاعة الله و رسوله، و عدم التنازع، و أن لا يخرجوا بطرا و رئاء الناس و يصدون عن سبيل الله.
و مجموع الأمور الستة دستور حربي جامع لا يفقد من مهام الدستورات الحربية شيئا، و التأمل الدقيق في تفاصيل الوقائع في تاريخ الحروب الإسلامية الواقعة في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كبدر و أحد و الخندق و حنين و غير ذلك يوضح أن الأمر في الغلبة و الهزيمة كان يدور مدار رعاية المسلمين مواد هذا الدستور الإلهي و عدم رعايتها، و المراقبة لها و المساهلة فيها.
قوله تعالى: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم» إلى آخر الآية، تزيين الشيطان للإنسان عمله هو إلقاؤه في قلبه كون العمل حسنا جميلا يستلذ به و ذلك بتهييج قواه الباطنة و عواطفه الداخلة المتعلقة بذلك العمل فينجذب إليه قلبه، و لا يجد فراغا يعقل ما له من سوء الأثر و شؤم العاقبة.
و ليس من البعيد أن يكون قوله: «و قال لا غالب لكم اليوم» الآية مفسرا أو بمنزلة المفسر للتزيين الشيطاني على أن يكون المراد بالأعمال نتائجها و هي ما هيئوه من قوة و سلاح و عدة و ما أخرجوه من القيان و المعازف و الخمور، و ما تظاهروا به من نظام الجيش و الجنائب تساق بين أيديهم، و يمكن أن يكون المراد بها نفس الأعمال و هي أنواع تماديهم في الغي و الضلال و إصرارهم في محادة الله و رسوله، و استرسالهم في الظلم و الفسق فيكون قوله المحكي: «لا غالب لكم اليوم من الناس» مما يتم به تزيين الشيطان، و تطيب به نفوسهم فيما اهتموا به من قتال المسلمين، و قد أكمل ذلك بقوله: «و إني جار لكم».
و الجوار من سنن العرب في الجاهلية التي كانت تعيش عيشة القبائل، و من حقوق الجوار نصرة الجار للجار إذا دهمه عدو، و له آثار مختلفة بحسب السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية.
و قوله: «فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه» النكوص الإحجام عن الشيء و «على عقبيه» حال و العقب مؤخر القدم أي أحجم و قد رجع القهقرى منهزما وراءه.
و قوله: «إني أرى ما لا ترون» الآية تعليل لقوله: «إني بريء منكم» و لعله إشارة إلى نزول الملائكة المردفين الذين نصر الله المسلمين بهم، و كذا قوله: «إني أخاف الله و الله شديد العقاب» تعليل لقوله: «إني بريء منكم» و مفسر للتعليل السابق.
و المعنى و يوم الفرقان هو الوقت الذي زين الشيطان للمشركين ما كانوا يعملونه لمحادة الله و رسوله و قتال المؤمنين، و يتلبسون به للتهيؤ على إطفاء نور الله، فزين ذلك في أنظارهم، و طيب نفوسهم بقوله: لا غالب لكم اليوم من الناس، و إني مجير لكم أذب عنكم فلما تراءت الفئتان فرأى المشركون المؤمنين و المؤمنون المشركين رجع الشيطان القهقرى منهزما وراءه و قال للمشركين إني بريء منكم إني أرى ما لا ترونه من نزول ملائكة النصر للمؤمنين و ما عندهم من العذاب الذي يهددكم إني أخاف عذاب الله و الله شديد العقاب.
و هذا المعنى - كما ترى - يقبل الانطباق على وسوسة الشيطان لهم في قلوبهم و تهييجهم على المؤمنين و تشجيعهم على قتالهم و تطييب نفوسهم بما استعدوا به حتى إذا تراءت الفئتان و نزل النصر و استولى الرعب على قلوبهم انتكست أوهامهم و تبدلت أفكارهم و عادت مزعمة الغلبة و أمنية الفتح و الظفر مخافة مستولية على نفوسهم و خيبة و يأسا شاملة لقلوبهم.
و يقبل الانطباق على تصور شيطاني يبدو لهم فتنجذب إليه حواسهم بأن يكون قد تصور لهم في صورة إنسان و يقول لهم ما حكاه الله من قوله: «لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم» فيغويهم و يسيرهم و يقربهم من القتال حتى إذا تقاربت الفئتان و تراءتا فلما تراءت الفئتان و رأى الوضع على خلاف ما كان يؤمله و يطمع فيه نكص على عقبيه و قال: إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون من نزول النصر و الملائكة إني أخاف الله و الله شديد العقاب، و قد ورد في روايات القصة من طرق الشيعة و أهل السنة ما يؤيد هذا الوجه.
و هو أن الشيطان تصور للمشركين في صورة سراقة بن مالك بن جشعم الكناني ثم المدلجي و كان من أشراف كنانة و قال لهم ما قال و حمل رايتهم حتى إذا تلاقى الفريقان فر منهزما و هو يقول: «إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون» إلى آخر ما حكاه الله تعالى، و ستجيء الرواية في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و قد أصر بعض المفسرين على الوجه الأول، و رد الثاني بتزييف الآثار المروية و تضعيف أسناد الأخبار، و هي و إن لم تكن متواترة و لا محفوفة ببعض القرائن القطعية الموجبة للوثوق التام لكن أصل المعنى ليس من المستحيل الذي يدفعه العقل السليم، و لا من القصص التي تدفعها آثار صحيحة، و لا مانع من أن يتمثل لهم الشيطان فيوردهم مورد الضلال و الغي حتى إذا تم له ما أراد تركهم في تهلكتهم أو حتى شاهد عذابا إلهيا نكص على عقبيه هاربا.
على أن سياق الآية الكريمة أقرب إلى إفادة هذا الوجه الثاني منه إلى الوجه الأول، و خاصة بالنظر إلى قوله: «و إني جار لكم» و قوله: «فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه» و قوله: «إني أرى ما لا ترون» الآية فإن إرجاع معنى قوله: «إني أرى» إلخ مثلا إلى الخواطر النفسانية بنوع من العناية الاستعارية بعيد جدا.
قوله تعالى: «إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض غر هؤلاء دينهم «إلى آخر الآية، أي يقول المنافقون و هم الذين أظهروا الإيمان و أبطنوا الكفر، و الذين في قلوبهم مرض و هم الضعفاء في الإيمان ممن لا يخلو نفسه من الشك و الارتياب.
يقولون - مشيرين إلى المؤمنين إشارة تحقير و استذلال -: غر هؤلاء دينهم إذ لو لا غرور دينهم لم يقدموا على هذه المهلكة الظاهرة، و هم شرذمة أذلاء لا عدة لهم و لا عدة، و قريش على ما بهم من العدة و القوة و الشوكة.
قوله تعالى: «و من يتوكل على الله فإن الله عزيز حكيم» في مقام الجواب عن قولهم و إبانة غرورهم أنفسهم و قوله:: «فإن الله عزيز حكيم» من وضع السبب موضع المسبب، و المعنى: و قد أخطأ هؤلاء المنافقون و الذين في قلوبهم مرض في قولهم فإن المؤمنين توكلوا على الله و نسبوا حقيقة التأثير إليه و ضموا أنفسهم إلى قوته و حوله، و من يتوكل أمره على الله فإن الله يكفيه لأنه عزيز ينصر من استنصره حكيم لا يخطىء في وضع كل أمر موضعه الذي يليق به.
و في الآية دليل على حضور جمع من المنافقين و ضعفاء الإيمان ببدر حين تلاقي الفئتين.
أما المنافقون و هم الذين كانوا يظهرون الإسلام و يبطنون الكفر فلا معنى لكونهم بين المشركين فلم يكونوا إلا بين المسلمين لكن الشأن في العامل الذي أوجب منهم الثبات و اليوم يوم شديد.
و أما الضعفاء الإيمان أو الشاكون في حقيقة الإسلام فمن الممكن أن يكونوا بين المؤمنين أو في فئة المشركين و قد قيل إنهم كانوا فئة من قريش أسلموا بمكة و احتبسهم آباؤهم و اضطروا إلى الخروج مع المشركين إلى بدر حتى إذا حضروها و شاهدوا ما عليه المسلمون من القلة و الذلة قالوا: مساكين هؤلاء غرهم دينهم، و سيجيء في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
و على أي حال ينبغي إمعان النظر في البحث عما تفيده هذه الآية من حضور جمع من المنافقين و الذين في قلوبهم مرض يوم بدر عند القتال، و استخراج حقيقة السبب الذي أوجب لهؤلاء المنافقين و الضعفاء حضور هذه الغزوة، و الوقوف في ذلك الموقف الصعب الهائل الذي لا يساعد عليه الأسباب العادية و لا يقف فيه إلا رجال الحقيقة الذين امتحن الله قلوبهم للإيمان.
و أنهم لما ذا حضروها؟ و كيف و لما ذا صبروا مع الصابرين من فئة الإسلام؟ و لعلنا نوفق لبعض البحث في ذلك فيما سيوافي من آيات سورة التوبة في شأن المنافقين و الذين في قلوبهم مرض إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و لو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة» إلى تمام الآيتين.
التوفي أخذ الحق بتمامه، و يستعمل في كلامه تعالى كثيرا بمعنى قبض الروح، و نسبة قبض أرواحهم إلى الملائكة مع ما في بعض الآيات من نسبته إلى ملك الموت، و في بعض آخر إلى الله سبحانه كقوله: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم:» الم السجدة: - 11، و قوله: «الله يتوفى الأنفس حين موتها:» الزمر: - 42 دليل على أن لملك الموت أعوانا يتولون قبض الأرواح هم بمنزلة الأيدي العمالة له يصدرون عن إذنه و يعملون عن أمره، كما أنه يصدر عن إذن من الله و يعمل عن أمر منه، و بذلك يصح نسبة التوفي إلى الملائكة الأعوان، و إلى ملك الموت، و إلى الله سبحانه.
و قوله: «يضربون وجوههم و أدبارهم» ظاهره أنهم يضربون مقاديم أبدانهم و خلاف ذلك فيكنى به عن إحاطتهم و استيعاب جهاتهم بالضرب، و قيل: إن الأدبار كناية عن الأستاه فبالمناسبة يكون المراد بوجوههم مقدم رءوسهم، و ضرب الوجوه و الأدبار بهذا المعنى يراد به الإزراء و الإذلال.
و قوله: «و ذوقوا عذاب الحريق» أي يقول لهم الملائكة: ذوقوا عذاب الحريق و هو النار.
و قوله: «ذلك بما قدمت أيديكم» تتمة لقولهم المحكي أو إشارة إلى مجموع ما يفعل بهم و ما يقول لهم الملائكة، و المعنى إنما نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم أو: نضرب وجوهكم و أدباركم و نذيقكم عذاب الحريق بما قدمت أيديكم.
و قوله: «و أن الله ليس بظلام للعبيد» معطوف على موضع قوله «ما قدمت» أي و ذلك بأن الله ليس بظلام للعبيد أي لا يظلم أحدا من عبيده فإنه تعالى على صراط مستقيم لا تخلف و لا اختلاف في فعله فلو ظلم أحدا لظلم كل أحد، و لو كان ظالما لكان ظلاما للعبيد فافهم ذلك.
و سياق الآيات يشهد على أن المراد بهؤلاء الذين يصفهم الله سبحانه بأن الملائكة يتوفاهم و يعذبهم هم المقتولون ببدر من مشركي قريش.
قوله تعالى: «كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله» إلى آخر الآية.
الدأب و الديدن: العادة و هي العمل الذي يدوم و يجري عليه الإنسان، و الطريقة التي يسلكها، و المعنى كفر هؤلاء يشبه كفر آل فرعون و الذين من قبلهم من الأمم الخالية الكافرة كفروا بآيات الله و أذنبوا بذلك فأخذهم الله بذنوبهم إن الله قوي لا يضعف عن أخذهم شديد العقاب إذا أخذ.
قوله تعالى: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» إلخ أي إن العقاب الذي يعاقب به الله سبحانه إنما يعقب نعمة إلهية سابقة بسلبها و استخلافها، و لا تزول نعمة من النعم الإلهية و لا تتبدل نقمة و عقابا إلا مع تبدل محله و هو النفوس الإنسانية، فالنعمة التي أنعم بها على قوم إنما أفيضت عليهم لما استعدوا لها في أنفسهم، و لا يسلبونها و لا تتبدل بهم نقمة و عقابا إلا لتغييرهم ما بأنفسهم من الاستعداد و ملاك الإفاضة و تلبسهم باستعداد العقاب.
و هذا ضابط كلي في تبدل النعمة إلى النقمة و العقاب، و أجمع منه قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم:» الرعد: - 11 و إن كان ظاهره أظهر انطباقا على تبدل النعمة إلى النقمة.
و كيف كان فقوله: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا» إلخ من قبيل التعليل بأمر عام و تطبيقه على مورده الخاص أي أخذ مشركي قريش بذنوبهم، و عقابهم بهذا العقاب الشديد، و تبديل نعمة الله عليهم عقابا شديدا إنما هو فرع من فروع سنة جارية إلهية هي أن الله لا يغير نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم.
و قوله: «و أن الله سميع عليم» تعليل آخر بعد التعليل بقوله: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا» إلخ و ظاهره - بمقتضى إشعار السياق - أن المراد به: و ذلك بأن الله سميع لدعواتكم عليم بحاجاتكم سمع استغاثتكم و علم بحاجتكم فاستجاب لكم فعذب أعداءكم الكافرين بآيات الله، و يحتمل أن يكون المراد: ذلك بأن الله سميع لأقوالهم عليم بأفعالهم فعذبهم على ذلك، و يمكن الجمع بين المحتملين.
قوله تعالى: «كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كذبوا بآيات ربهم فأهلكناهم بذنوبهم» إلخ كرر التنظير السابق لمشابهة الفرض مع ما تقدم فقوله: «كدأب آل فرعون» إلخ السابق تنظير لقوله: «ذلك بما قدمت أيديكم و أن الله ليس بظلام للعبيد» كما أن قوله: «كدأب آل فرعون - إلى قوله - و كل كانوا ظالمين» ثانيا تنظير لقوله: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة» إلخ.
غير أن التنظير الثاني يشتمل على نوع من الالتفات في قوله: «فأهلكناهم بذنوبهم» و قد وقع بحذائه في التنظير الأول: «فأخذهم الله بذنوبهم» من غير التفات و لعل الوجه فيه أن التنظير الثاني لما كان مسبوقا بإفادة أن الله هو المفيض بالنعم على عباده و لا يغيرها إلا عن تغييرهم ما بأنفسهم، و هذا شأن الرب بالنسبة إلى عبيده اقتضى ذلك أن يعد هؤلاء عبيدا غير جارين على صراط عبودية ربهم و لذلك غير بعض سياق التنظير فقال في الثاني: «كذبوا بآيات ربهم» و قد كان بحذائه في الأول قوله: «كفروا بآيات الله» و لذلك التفت هاهنا من الغيبة إلى التكلم مع الغير فقال: «فأهلكناهم بذنوبهم» للدلالة على أنه سبحانه هو ربهم و هو مهلكهم، و قد أخذ المتكلم مع الغير للدلالة على عظمة الشأن و جلالة المقام، و أن له وسائط يعملون بأمره و يجرون بمشيته.
و قوله: «و أغرقنا آل فرعون» أظهر المفعول و لم يقل: و أغرقناهم ليؤمن الالتباس برجوع الضمير إلى آل فرعون و الذين من قبلهم جميعا.
و قوله تعالى: «و كل كانوا ظالمين» أي جميع هؤلاء الذين أخذهم العذاب الإلهي من كفار قريش و آل فرعون و الذين من قبلهم كانوا ظالمين في جنب الله.
و فيه بيان أن الله سبحانه لا يأخذ بعقابه الشديد أحدا، و لا يبدل نعمته على أحد نقمة إلا إذا كان ظالما ظلما يبدل نعمة الله كفرا بآياته فهو لا يعذب بعذابه إلا مستحقه.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن الحسين بن عثمان عن سماعة قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمس فقال: في كل ما أفاد الناس من قليل أو كثير. و فيه، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن حماد بن عيسى عن بعض أصحابنا عن العبد الصالح قال: الخمس في خمسة أشياء: من الغنائم و الغوص و من الكنوز و من المعادن و الملاحة يؤخذ من كل هذه الصنوف الخمس فيجعل لمن جعل الله له، و يقسم أربعة أخماس بين من قاتل عليه و ولي ذلك. و يقسم بينهم الخمس على ستة أسهم: سهم لله، و سهم لرسوله، و سهم لذي القربى و سهم لليتامى، و سهم للمساكين، و سهم لأبناء السبيل فسهم الله و سهم رسوله لأولي الأمر من بعد رسول الله وراثة فله ثلاثة أسهم: سهمان وراثة، و سهم مقسوم له من الله فله نصف الخمس كلا، و نصف الخمس الثاني بين أهل بيته: فسهم ليتاماهم، و سهم لمساكينهم، و سهم لأبناء سبيلهم يقسم بينهم على الكتاب و السنة ما يستغنون به في سنتهم فإن فضل منهم شيء فهو للوالي، و إن عجز أو نقص عن استغنائهم كان على الوالي أن ينفق من عنده ما يستغنون به، و إنما صار عليه أن يمونهم لأن له ما فضل عنهم، و إنما جعل الله هذا الخمس خاصة لهم دون مساكين الناس و أبناء سبيلهم عوضا لهم عن صدقات الناس تنزيها من الله لقرابتهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و كرامة من الله لهم من أوساخ الناس فجعل لهم خاصة من عنده و ما يغنيهم به، أن يصيرهم في موضع الذل و المسكنة، و لا بأس بصدقة بعضهم على بعض. و هؤلاء الذين جعل الله لهم الخمس هم قرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذين ذكرهم الله فقال: «و أنذر عشيرتك الأقربين» و هم بنو عبد المطلب أنفسهم الذكر منهم و الأنثى ليس فيهم من أهل بيوتات قريش و لا من العرب أحد، و لا فيهم و لا منهم في هذا الخمس من مواليهم، و قد تحل صدقات الناس لمواليهم، و هم و الناس سواء. و من كانت أمه من بني هاشم و أبوه من سائر قريش فإن الصدقات تحل له، و ليس له من الخمس شيء لأن الله يقول، «ادعوهم لآبائهم».
و في التهذيب، بإسناده عن علي بن مهزيار قال: قال لي علي بن راشد: قلت له: أمرتني بالقيام بأمرك و أخذ حقك فأعلمت مواليك بذلك فقال لي بعضهم: و أي شيء حقه؟ فلم أدر ما أجيبه! فقال: يجب عليهم الخمس فقلت: ففي أي شيء؟ فقال: في أمتعتهم و ضياعهم قلت: و التاجر عليه و الصانع بيده؟ فقال: ذلك إذا أمكنهم بعد مئونتهم.
و فيه، بإسناده عن زكريا بن مالك الجعفي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه سئل عن قول الله: «و اعلموا أنما غنمتم من شيء - فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى - و اليتامى و المساكين و ابن السبيل» فقال: خمس الله عز و جل للإمام، و خمس الرسول للإمام، و خمس ذي القربى لقرابة الرسول للإمام، و اليتامى يتامى آل الرسول، و المساكين منهم، و أبناء السبيل منهم فلا يخرج منهم إلى غيرهم.
و فيه، بإسناده عن أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له إبراهيم بن أبي البلاد: وجب عليك زكاة؟ قال: لا و لكن يفضل و نعطي هكذا، و سئل عن قول الله عز و جل: «و اعلموا أنما غنمتم من شيء - فأن لله خمسه و للرسول و لذي القربى» فقيل له: فما كان لله فلمن هو؟ قال: للرسول، و ما كان للرسول فهو للإمام. قيل: أ فرأيت إن كان صنف أكثر من صنف، و صنف أقل من صنف؟ فقال: ذلك للإمام. قيل أ فرأيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف يصنع؟ قال: إنما كان يعطي على ما يرى هو، و كذلك الإمام.
أقول: و الأخبار عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) متواترة في اختصاص الخمس بالله و رسوله و الإمام من أهل بيته و يتامى قرابته و مساكينهم و أبناء سبيلهم لا يتعداهم إلى غيرهم، و أنه يقسم ستة أسهم على ما مر في الروايات، و أنه لا يختص بغنائم الحرب بل يعم كل ما كان يسمى غنيمة لغة من أرباح المكاسب و الكنوز و الغوص و المعادن و الملاحة، و في رواياتهم - كما تقدم - أن ذلك موهبة من الله لأهل البيت بما حرم عليهم الزكوات و الصدقات.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر من وجه آخر عن ابن عباس رضي الله عنهما: أن نجدة الحروري أرسل يسأله عن سهم ذي القربى الذين ذكر الله فكتب إليه: أنا كنا نرى أنا هم فأبى ذلك علينا قومنا، و قالوا: و يقول لمن تراه؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما: هو لقربى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قسمه لهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و قد كان عمر رض عرض علينا من ذلك عرضا رأيناه دون حقنا فرددناه عليه و أبينا أن نقبله. و كان عرض عليهم أن يعين ناكحهم، و أن يقضي عن غارمهم، و أن يعطي فقيرهم، و أبى أن يزيدهم على ذلك.
أقول: و قوله في الرواية: «قالوا لمن تراه» معناه: قال الذين أرسلهم نجدة الحروري لابن عباس: و يقول نجدة لمن ترى الخمس أي يسألك عن فتواك فيمن يصرف إليه الخمس.
و قوله: هو لقربى رسول الله قسمها لهم «إلخ» ظاهره أنه فسر ذي القربى بأقرباء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ظاهر الروايات السابقة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم فسروا ذي القربى بالإمام من أهل البيت، و ظاهر الآية يؤيد ذلك حيث عبر بلفظ المفرد!.
و فيه، أخرج ابن المنذر عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: سألت عليا رضي الله عنه فقلت: يا أمير المؤمنين أخبرني كيف كان صنع أبي بكر و عمر رضي الله عنهما في الخمس نصيبكم؟ فقال: أما أبو بكر رض فلم يكن في ولايته أخماس، و أما عمر رض فلم يزل يدفعه إلي في كل خمس حتى كان خمس السوس و جنديسابور فقال و أنا عنده، هذا نصيبكم أهل البيت من الخمس و قد أحل ببعض المسلمين و اشتدت حاجتهم. فقلت، نعم، فوثب العباس بن عبد المطلب فقال، لا تعرض في الذي لنا. فقلت أ لسنا من أرفق المسلمين، و شفع أمير المؤمنين، فقبضه فوالله ما قبضناه و لا قدرت عليه في ولاية عثمان رضي الله عنه. ثم أنشأ علي رضي الله عنه يحدث فقال: إن الله حرم الصدقة على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) فعوضه سهما من الخمس عوضا مما حرم عليه، و حرمها على أهل بيته خاصة دون أمته فضرب لهم مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهما عوضا مما حرم عليهم.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رغبت لكم عن غسالة الأيدي لأن لكم في خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم.
أقول: و هو مبني على كون سهم أهل البيت هو ما لذي القربى فحسب.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال: قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سهم ذي القربى على بني هاشم و بني المطلب. قال: فمشيت أنا و عثمان بن عفان حتى دخلنا عليه فقلنا: يا رسول الله هؤلاء إخوانك من بني هاشم لا ينكر فضلهم لمكانك الذي وضعك الله به منهم. أ رأيت إخواننا من بني المطلب أعطيتهم دوننا، و إنما نحن و هم بمنزلة واحدة في النسب؟ فقال: إنهم لم يفارقونا في الجاهلية و الإسلام.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال: آل محمد الذين أعطوا الخمس: آل علي و آل عباس و آل جعفر و آل عقيل.
أقول: و الروايات في هذا الباب كثيرة من طرق أهل السنة و قد اختلفت الروايات الحاكية لعمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرقهم بين ما مضمونه أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسم الخمس على أربعة أسهم و بين ما مضمونه التقسيم على خمسة أسهم.
غير أنه يقرب من المسلم فيها أن من سهام الخمس ما يختص بقرابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم المعنيون بذي القربى في آية الخمس على خلاف ما في الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و مما يقرب من المسلم فيها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقسمه بين المطلبيين ما دام حيا، و أنه انقطع عنهم على هذا الوصف في زمن الخلفاء الثلاث ثم جرى على ذلك الأمر بعدهم.
و من المسلم فيها أيضا أن الخمس يختص بغنائم الحرب - على خلاف ما عليه الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و لا يتعداها إلى كل ما يصدق عليه اسم الغنيمة لغة.
و ما يتعلق بالآية من محصل البحث التفسيري هو الذي قدمناه و هناك أبحاث أخر كلامية أو فقهية خارجة عن غرضنا.
و هناك بحث حقوقي اجتماعي في ما يؤثره الخمس من الأثر في المجتمع الإسلامي سيوافيك في ضمن الكلام على الزكاة.
بقي الكلام فيما تتضمنه الروايات أن الله سبحانه أراد بتشريع الخمس إكرام أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أسرته و ترفيعهم من أن يأخذوا أوساخ الناس في أموالهم، و الظاهر أن ذلك مأخوذ من قوله تعالى في آية الزكاة خطابا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و تزكيهم بها و صل عليهم إن صلاتك سكن لهم:» التوبة: - 103 فإن التطهير و التزكية إنما يتعلق بما لا يخلو من دنس و وسخ و نحوهما و لم يقع في آية الخمس ما يشعر بذلك.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن جرير عن عروة بن الزبير رض قال: أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقتل في آي من القرآن فكان أول مشهد شهده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بدرا، و كان رئيس المشركين يومئذ عتبة بن ربيعة بن عبد شمس فالتقوا يوم الجمعة ببدر لسبع أو ست عشرة ليلة مضت من رمضان، و أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، و المشركون بين الألف و التسعمائة، و كان ذلك يوم الفرقان يوم فرق الله بين الحق و الباطل فكان أول قتيل قتل يومئذ مهجع مولى عمرو رجل من الأنصار، و هزم الله يومئذ المشركين فقتل منهم زيادة على سبعين رجلا، و أسر منهم مثل ذلك. و فيه، أخرج ابن مردويه عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال: كانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان في صبيحتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من رمضان. أقول: و روي مثل ذلك عن ابن جرير عن الحسن بن علي و عن ابن أبي شيبة عن جعفر عن أبيه، و أيضا عنه عن أبي بكر عن عبد الرحمن بن هشام و عنه عن عامر بن ربيعة البدري: مثله لكن فيه، كان يوم بدر يوم الإثنين لسبع عشرة من رمضان.
و ربما أطلق في بعض أخبار أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على التسعة عشر من رمضان يوم يلتقي الجمعان لما عد ليلته في أخبارهم من ليلة القدر، و هذا معنى آخر غير ما أريد في الآية من «يوم الفرقان يوم التقى الجمعان» ففي تفسير العياشي، عن إسحاق بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في تسعة عشر من شهر رمضان يلتقي الجمعان. قلت: ما معنى قوله: يلتقي الجمعان؟ قال: يجتمع فيها ما يريد من تقديمه و تأخيره و إرادته و قضائه. و في تفسير العياشي، عن محمد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «و الركب أسفل منكم» قال: أبو سفيان و أصحابه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة - و يحيى من حي عن بينة» الآية قال: قال: يعلم من بقي أن الله نصره. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إذ يريكموهم إذ التقيتم» الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي: تراهم سبعين؟ قال: لا بل مائة. و فيه،: في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم» إلخ: أخرج الحاكم و صححه عن أبي موسى رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكره الصوت عند القتال. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن النعمان بن مقرن رضي الله عنه قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان عند القتال لم يقاتل أول النهار، و أخره إلى أن تزول الشمس و تهب الرياح و تنزل النصر. و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم» الآية: بإسناده عن يحيى بن الحسن بن فرات قال: حدثنا أبو المقدم ثعلبة بن زيد الأنصاري قال: سمعت جابر بن عبد الله بن حرام الأنصاري رحمه الله يقول: تمثل إبليس في أربع صور: تمثل يوم بدر في صورة سراقة بن مالك بن جشعم المدلجي فقال لقريش: لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم. و تصور يوم العقبة في صورة منبه بن الحجاج فنادى: أن محمدا و الصباة معه عند العقبة فأدركوهم. قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للأنصار: لا تخافوا فإن صوته لن يعدوه. و تصور في يوم اجتماع قريش في دار الندوة في صورة شيخ من أهل نجد و أشار عليهم في أمرهم فأنزل الله تعالى: «و إذ يمكر بك الذين كفروا - ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك - و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين. و تصور في يوم قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في صورة المغيرة بن شعبة فقال: أيها الناس لا تجعلوا كسروانية و لا قيصرانية و سعوها تتسع فلا تردوا إلى بني هاشم فينظر بها الحبالى. و في المجمع، قيل: إنهم لما التقوا كان إبليس في صف المشركين أخذ بيده الحارث بن هشام فنكص على عقبيه فقال له الحارث بن هشام: يا سراقة إلى أين؟ أ تخذلنا في هذه الحالة؟ فقال: إني أرى ما لا ترون، فقال: و الله ما نرى إلا جعاميس يثرب فدفع في صدر الحارث و انطلق و انهزم الناس. و فلما قدموا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: و الله ما شعرت بمسيركم حتى بلغني هزيمتكم فقالوا: إنك أتيتنا يوم كذا فحلف لهم فلما أسلموا علموا أن ذلك كان الشيطان. قال: و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أقول: و روى مثله ابن شهرآشوب عنهما (عليهما السلام)، و في معنى هاتين الروايتين روايات كثيرة من طرق أهل السنة عن ابن عباس و غيره.
و قد مر في البيان المتقدم استبعاد بعض المفسرين ذلك و تضعيفه ما ورد فيه من الروايات، و هي إنما تثبت أمرا ممكنا غير مستحيل، و الاستبعاد الخالي لا يبني عليه في الأبحاث العلمية، و التمثلات البرزخية ليست بشاذة نادرة فلا موجب للإصرار على النفي كما أن الإثبات كذلك غير أن ظاهر الآية أوفق للإثبات.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إذ زين لهم الشيطان» الآيتين أخرج ابن أبي حاتم عن ابن إسحاق في قوله: «إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض» قال: هم الفئة الذين خرجوا مع قريش احتبسهم آباؤهم فخرجوا و هم على الارتياب فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: غر هؤلاء دينهم حين قدموا على ما قدموا عليه من قلة عددهم و كثرة عدوهم. و هم فئة من قريش مسمون خمسة: قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو قيس بن الفاكه بن المغيرة المخزوميان، و الحارث بن زمعة، و علي بن أمية بن خلف، و العاصي بن منبه. أقول: و هذا يقبل الانطباق بوجه على قوله تعالى: «و الذين في قلوبهم مرض» فحسب، و في بعض التفاسير أن القائل: «غر هؤلاء دينهم» هم المنافقون و الذين في قلوبهم مرض من أهل المدينة، و لم يخرجوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و سياق الآية الظاهر في حضورهم و قولهم ذلك عند التقاء الفئتين يأبى ذلك.
و في رواية أبي هريرة على ما رواه في الدر المنثور عن الطبراني في الأوسط عنه ما لفظه: و قال عتبة بن ربيعة و ناس معه من المشركين يوم بدر، «غر هؤلاء دينهم» فأنزل الله، «إذ يقول المنافقون و الذين في قلوبهم مرض - غر هؤلاء دينهم». و الذي ذكره لا ينطبق على الآية البتة فالقرآن الكريم لا يسمي المشركين منافقين و لا الذين في قلوبهم مرض.
و في تفسير العياشي، عن أبي علي المحمودي عن أبيه رفعه: في قول الله، يضربون وجوههم و أدبارهم قال، إنما أراد أستاههم. إن الله كريم يكني. و في تفسير الصافي، عن الكافي عن الصادق (عليه السلام): أن الله بعث نبيا من أنبيائه إلى قومه، و أوحى إليه أن قل لقومك إنه ليس من أهل قرية و لا ناس كانوا على طاعتي فأصابهم فيها سراء فتحولوا عما أحب إلى ما أكره إلا تحولت لهم عما يحبون إلى ما يكرهون، و إنه ليس من أهل قرية و لا أهل بيت كانوا على معصيتي فأصابهم فيها ضراء فتحولوا عما أكره إلى ما أحب إلا تحولت لهم عما يكرهون إلى ما يحبون. و فيه، أيضا عنه (عليه السلام) أنه قال، كان أبي يقول،: إن الله عز و جل قضى قضاء حتما، لا ينعم على العبد بنعمة فيسلبها إياه حتى يحدث العبد ذنبا يستحق بذلك النقمة.
|