بيان
الآيات مفتتح قبيل من الآيات سموها سورة التوبة أو سورة البراءة، و قد اختلفوا في كونها سورة مستقلة أو جزء من سورة الأنفال، و اختلاف المفسرين في ذلك ينتهي إلى اختلاف الصحابة ثم التابعين فيه، و قد اختلف في ذلك الحديث عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) غير أن الأرجح بحسب الصناعة ما يدل من حديثهم على أنها ملحقة بسورة الأنفال.
و البحث عن معاني آياتها و ما اشتملت عليه من المضامين لا يهدي إلى غرض واحد متعين على حد سائر السور المشتملة على أغراض مشخصة تؤمها أوائلها و تنعطف إليها أواخرها، فأولها آيات تؤذن بالبراءة و فيها آيات القتال مع المشركين، و القتال مع أهل الكتاب، و شطر عظيم منها يتكلم في أمر المنافقين، و آيات في الاستنهاض على القتال و ما يتعرض لحال المخلفين، و آيات ولاية الكفار، و آيات الزكاة و غير ذلك، و معظمها ما يرجع إلى قتال الكفار و ما يرجع إلى المنافقين.
و على أي حال لا يترتب من جهة التفسير على هذا البحث فائدة مهمة و إن أمكن ذلك من جهة البحث الفقهي الخارج عن غرضنا.
قوله تعالى: «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين» قال الراغب: أصل البرء و البراء و التبري -: التفصي مما يكره مجاورته، و لذلك قيل: برأت من المرض و برئت من فلان و تبرأت، و أبرأته من كذا و برأته، و رجل بريء و قوم براء و بريئون قال تعالى: براءة من الله و رسوله.
انتهى.
و الآية بالنسبة إلى الآيات التالية كالعنوان المصدر به الكلام المشير إلى خلاصة القول على نهج سائر السور المفصلة التي تشير الآية و الآيتان من أولها على إجمال الغرض المسرود لأجل بيانه آياتها.
و الخطاب في الآية للمؤمنين أو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لهم على ما يدل عليه قوله: «عاهدتم» و قد أخذ الله تعالى و منه الخطاب و رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو الواسطة، و المشركون و هم الذين أريدت البراءة منهم، و وجه الخطاب ليبلغ إليهم جميعا في الغيبة، و هذه الطريقة في الأحكام و الفرامين المراد إيصالها إلى الناس نوع تعظيم لصاحب الحكم و الأمر.
و الآية تتضمن إنشاء الحكم و القضاء بالبراءة من هؤلاء المشركين و ليس بتشريع محض بدليل تشريكه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في البراءة فإن دأب القرآن أن ينسب الحكم التشريعي المحض إلى الله سبحانه وحده، و قد قال تعالى: «و لا يشرك في حكمه أحدا:» الكهف: - 26 و لا ينسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا الحكم بالمعنى الذي في الولاية و السياسة و قطع الخصومة.
فالمراد بالآية القضاء برفع الأمان عن الذين عاهدوهم من المشركين و ليس رفعا جزافيا و إبطالا للعهد من غير سبب يبيح ذلك فإن الله تعالى سيذكر بعد عدة آيات أنهم لا وثوق بعهدهم الذي عاهدوه و قد فسق أكثرهم و لم يراعوا حرمة العهد و نقضوا ميثاقهم، و قد أباح تعالى عند ذلك إبطال العهد بالمقابلة نقضا بنقض حيث قال: «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين:» الأنفال: - 58 فأباح إبطال العهد عند مخافة الخيانة و لم يرض مع ذلك إلا بإبلاغ النقض إليهم لئلا يؤخذوا على الغفلة فيكون ذلك من الخيانة المحظورة.
و لو كان إبطالا لعهدهم من غير سبب مبيح لذلك من قبل المشركين لم يفرق بين من دام على عهده منهم و بين من لم يدم عليه، و قد قال تعالى مستثنيا: «إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين».
و لم يرض تعالى بنقض عهد هؤلاء المعاهدين الناقضين لعهدهم دون أن ضرب لهم أجلا ليفكروا في أمرهم و يرتئوا رأيهم و لا يكونوا مأخوذين بالمباغتة و المفاجأة.
فمحصل الآية الحكم ببطلان العهد و رفع الأمان عن جماعة من المشركين كانوا قد عاهدوا المسلمين ثم نقضه أكثرهم و لم يبق إلى من بقي منهم وثوق تطمئن به النفس إلى عهدهم و تعتمد على يمينهم و تأمن شرهم و أنواع مكرهم.
قوله تعالى: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و اعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله مخزي الكافرين» السياحة هي السير في الأرض و الجري و لذلك يقال للماء الدائم الجرية في ساحة: السائح.
و أمرهم بالسياحة أربعة أشهر كناية عن جعلهم في مأمن في هذه البرهة من الزمان و تركهم بحيث لا يتعرض لهم بشر حتى يختاروا ما يرونه أنفع بحالهم من البقاء أو الفناء مع ما في قوله: «و اعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله مخزي الكافرين» من إعلامهم أن الأصلح بحالهم رفض الشرك، و الإقبال إلى دين التوحيد، و موعظتهم أن لا يهلكوا أنفسهم بالاستكبار و التعرض للخزي الإلهي.
و قد وجه في الآية الخطاب إليهم بالالتفات من الغيبة إلى الخطاب لما في توجيه الخطاب القاطع و الإرادة الجازمة إلى الخصم من الدلالة على بسط الاستيلاء و الظهور عليه و استذلاله و استحقار ما عنده من قوة و شدة.
و قد اختلفت أقوال المفسرين في المراد بقوله: «أربعة أشهر» و الذي يدل عليه السياق و يؤيده اعتبار إصدار الحكم و ضرب الأجل ليكونوا في فسحة لاختيار ما وجدوه من الحياة أو الموت أنفع بحالهم: أن تبتدأ الأربعة الأشهر من يوم الحج الأكبر الذي يذكره الله تعالى في الآية التالية فإن يوم الحج الأكبر هو يوم الإبلاغ و الإيذان و الأنسب بضرب الأجل الذي فيه نوع من التوسعة للمحكوم عليهم و إتمام الحجة، أن تبتدأ من حين الإعلام و الإيذان.
و قد اتفقت كلمة أهل النقل أن الآيات نزلت سنة تسع من الهجرة فإذا فرض أن يوم الحج الأكبر هو يوم النحر العاشر من ذي الحجة كانت الأربعة الأشهر هي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و ربيع الأول و عشرة أيام من ربيع الآخر.
و عند قوم أن الأربعة الأشهر تبتدأ من يوم العشرين من ذي القعدة و هو يوم الحج الأكبر عندهم فالأربعة الأشهر هي عشرة أيام من ذي القعدة و ذو الحجة و المحرم و صفر و عشرون من ربيع الأول، و سيأتي ما فيه.
و ذكر آخرون: أن الآيات نزلت أول شوال سنة تسع من الهجرة فتكون الأربعة الأشهر هي شوال و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فتنقضي بانقضاء الأشهر الحرم، و قد حدأهم إلى ذلك القول بأن المراد بقوله تعالى فيما سيأتي: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا» الأشهر الحرم المعروفة: ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم فيوافي انسلاخ الأشهر الحرم انقضاء الأربعة الأشهر، و هذا قول بعيد عن الصواب لا يساعد عليه السياق و قرينة المقام كما عرفت.
قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر أن الله بريء من المشركين و رسوله» الأذان هو الإعلام، و ليست الآية تكرارا لقوله تعالى السابق «براءة من الله و رسوله» فإن الجملتين و إن رجعتا إلى معنى واحد و هو البراءة من المشركين إلا أن الآية الأولى إعلام البراءة و إبلاغه إلى المشركين بدليل قوله في ذيل الآية: «إلى الذين عاهدتم من المشركين» بخلاف الآية الثانية فإن وجه الخطاب فيه إلى الناس ليعلموا براءة الله و رسوله من المشركين، و يستعدوا و يتهيئوا لإنفاذ أمر الله فيهم بعد انسلاخ الأشهر الحرم بدليل قوله: «إلى الناس و قوله تفريعا: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» إلى آخر الآية.
و قد اختلفوا في تعيين المراد بيوم الحج الأكبر على أقوال: منها: أنه يوم النحر من سنة التسع من الهجرة لأنه كان يوما اجتمع فيه المسلمون و المشركون و لم يحج بعد ذلك العام مشرك، و هو المؤيد بالأحاديث المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الأنسب بأذان البراءة، و الاعتبار يساعد عليه لأنه كان أكبر يوم اجتمع فيه المسلمون و المشركون من أهل الحج عامة بمنى و قد ورد من طرق أهل السنة روايات في هذا المعنى غير أن مدلول جلها أن الحج الأكبر اسم يوم النحر فيتكرر على هذا كل سنة و لم يثبت من طريق النقل تسمية على هذا النحو.
و منها: أنه يوم عرفة لأن فيه الوقوف، و الحج الأصغر هو الذي ليس فيه وقوف و هو العمرة، و هو استحسان لا دليل عليه، و لا سبيل إلى تشخيص صحته.
و منها: أنه اليوم الثاني ليوم النحر لأن الإمام يخطب فيه و سقم هذا الوجه ظاهر.
و منها: أنه جميع أيام الحج كما يقال: يوم الجمل، و يوم صفين، و يوم بغاث، و يراد به الحين و الزمان، و هذا القول لا يقابل سائر الأقوال كل المقابلة فإنه إنما يبين أن المراد باليوم جميع أيام الحج، و أما وجه تسمية هذا الحج بالحج الأكبر فيمكن أن يوجه ببعض ما في الأقوال السابقة كما في القول الأول.
و كيف كان فالاعتبار لا يساعد على هذا القول لأن وجود يوم بين أيام الحج يجتمع فيه عامة أهل الحج يتمكن فيه من أذان براءة كل التمكن كيوم النحر يصرف قوله: «يوم الحج الأكبر» إلى نفسه، و يمنع شموله لسائر أيام الحج التي لا يجتمع فيها الناس ذاك الاجتماع.
ثم التفت سبحانه إلى المشركين ثانيا و ذكرهم أنهم غير معجزين لله ليكونوا على بصيرة من أمرهم كما ذكرهم بذلك في الآية السابقة بقوله: «و اعلموا أنكم غير معجزي الله و أن الله مخزي الكافرين» غير أنه زاد عليه في هذه الآية قوله: «فإن تبتم فهو خير لكم» ليكون تصريحا بما لوح إليه في الآية السابقة فإن التذكير بأنهم غير معجزي الله إنما كان بمنزلة العظة و بذل النصح لهم لئلا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة باختيار البقاء على الشرك و التولي عن الدخول في دين التوحيد ففي الترديد تهديد و نصيحة و عظة.
ثم التفت سبحانه إلى رسوله فخاطبه أن يبشر الذين كفروا بعذاب أليم فقال: «و بشر الذين كفروا بعذاب أليم» و الوجه في الالتفات الذي في قوله: «فإن تبتم فهو خير لكم» إلخ ما تقدم في قوله: «فسيحوا في الأرض» إلخ، و في الالتفات الذي في قوله: «و بشر الذين كفروا» إلخ إنه رسالة لا تتم إلا من جهة مخاطبة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئا و لم يظاهروا عليكم أحدا» إلخ، استثناء من عموم البراءة من المشركين، و المستثنون هم المشركون الذين لهم عهد لم ينقضوه لا مستقيما و لا غير مستقيم فمن الواجب الوفاء بميثاقهم و إتمام عهدهم إلى مدتهم.
و قد ظهر بذلك أن المراد من إضافة قوله: «و لم يظاهروا عليكم أحدا» إلى قوله: «لم ينقصوكم شيئا» استيفاء قسمي النقض و هما النقض المستقيم كقتلهم بعض المسلمين، و النقض غير المستقيم نظير مظاهرتهم بعض أعداء المسلمين عليهم كإمداد مشركي مكة بني بكر على خزاعة بالسلاح، و كانت بنو بكر في عهد قريش و خزاعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحاربوا فأعانت قريش بني بكر على خزاعة و نقضت بذلك عهد حديبية الذي عقدوه بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان ذلك من أسباب فتح مكة سنة ثمان.
و قوله تعالى: «إن الله يحب المتقين» في مقام التعليل لوجوب الوفاء بالعهد ما لم ينقضه المعاهد المشرك، و ذلك يجعل احترام العهد و حفظ الميثاق أحد مصاديق التقوى المطلق الذي لا يزال يأمر به القرآن و قد صرح به في نظائر هذا المورد كقوله تعالى: «و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى:» المائدة: - 8 و قوله: «و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان و اتقوا الله:» المائدة: - 2.
و بذلك يظهر ما في قول بعضهم: إن المراد بالمتقين الذين يتقون نقض العهد من غير سبب، و ذلك أن التقوى بمعنى الورع عن محارم الله عامة كالحقيقة الثانية في القرآن فيحتاج إرادة خلافه إلى قرينة صارفة.
قوله تعالى: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم و احصروهم و اقعدوا لهم كل مرصد» أصل الانسلاخ من سلخ الشاة و هو نزع جلدها عنها، و انسلاخ الشهر نوع كناية عن خروجه، و الحصر هو المنع من الخروج عن محيط، و المرصد اسم مكان من الرصد بمعنى الاستعداد للرقوب.
قال الراغب: الرصد الاستعداد للترقب يقال: رصد له و ترصد و أرصدته له، قال عز و جل: «و إرصادا لمن حارب الله و رسوله من قبل»، و قوله عز و جل: «إن ربك لبالمرصاد تنبيها أنه لا ملجأ و لا مهرب، و الرصد يقال للراصد الواحد و الجماعة الراصدين و للمرصود واحدا كان أو جمعا، و قوله تعالى: «يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا» يحتمل كل ذلك، و المرصد موضع الرصد.
انتهى.
و المراد بالأشهر الحرم هي الأربعة الأشهر: أشهر السياحة التي ذكرها الله سبحانه في قوله: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» و جعلها أجلا مضروبا للمشركين لا يتعرض فيها لحالهم و أما الأشهر الحرم المعروفة أعني ذا القعدة و ذا الحجة و المحرم فإنها لا تنطبق على أذان براءة الواقع في يوم النحر عاشر ذي الحجة بوجه كما تقدمت الإشارة إليه.
و على هذا فاللام في الأشهر الحرم للعهد الذكري أي إذا انسلخ هذه الأشهر التي ذكرناها و حرمناها للمشركين لا يتعرض لحالهم فيها فاقتلوا المشركين إلخ.
و يظهر بذلك أن لا وجه لحمل قوله: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم» على انسلاخ ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم بأن يكون انسلاخ الأربعة الأشهر بانسلاخ الأشهر الثلاثة منطبقا عليه أو يكون انسلاخ الأشهر الحرم مأخوذا على نحو الإشارة إلى انقضاء الأربعة الأشهر و إن لم ينطبق الأشهر على الأشهر فإن ذلك كله مما لا سبيل إليه بحسب السياق و إن كان لفظ الأشهر الحرم في نفسه ظاهرا في شهور رجب و ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم.
و قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» محقق للبراءة منهم و رفع الاحترام عن نفوسهم بإهدار الدماء فلا مانع من أي نازلة نزلت بهم، و في قوله: «حيث وجدتموهم» تعميم للحكم فلا مانع حاجب عن وجوب قتلهم حيثما وجدوا في حل أو حرم بل و لو ظفر بهم في الشهر الحرام - بناء على تعميم «حيث» للزمان و المكان كليهما - فيجب على المسلمين كائنين من كانوا إذا ظفروا بهم أن يقتلوهم، كان ذلك في الحل أو الحرم في الشهر الحرام أو غيره.
و إنما أمر بقتلهم حيث وجدوا للتوسل بذلك إلى إيرادهم مورد الفناء و الانقراض، و تطييب الأرض منهم، و إنجاء الناس من مخالطتهم و معاشرتهم بعد ما سمح و أبيح لهم ذلك في قوله: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر».
و لازم ذلك أن يكون كل من قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» و قوله: «و خذوهم» و قوله: «و احصروهم» و قوله: «و اقعدوا لهم كل مرصد» بيانا لنوع من الوسيلة إلى إفناء جمعهم و إنفاد عددهم، ليتفصى المجتمع من شرهم.
فإن ظفر بهم و أمكن قتلهم قتلوا، و إن لم يمكن ذلك قبض عليهم و أخذوا، و إن لم يمكن أخذهم حصروا و حبسوا في كهفهم و منعوا من الخروج إلى الناس و مخالطتهم و إن لم يعلم محلهم قعد لهم في كل مرصد ليظفر بهم فيقتلوا أو يؤخذوا.
و لعل هذا المعنى هو مراد من قال: إن المراد: فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم أو خذوهم و احصروهم على وجه التخيير في اعتبار الأصلح من الأمرين، و إن كان لا يخلو عن تكلف من جهة اعتبار الأخذ و الحصر و القعود في كل مرصد أمرا واحدا في قبال القتل، و كيف كان فالسياق إنما يلائم ما قدمناه من المعنى.
و أما قول من قال: إن في قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم و خذوهم، تقديما و تأخيرا، و التقدير: فخذوا المشركين حيث وجدتموهم و اقتلوهم فهو من التصرف في معنى الآية من غير دليل مجوز، و الآية و خاصة ذيلها يدفع ذلك سياقا.
و معنى الآية: فإذا انسلخ الأشهر الحرم و انقضى الأربعة الأشهر التي أمهلناهم بها بقولنا: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» فأفنوا المشركين بأي وسيلة ممكنة رأيتموها أقرب و أوصل إلى إفناء جمعهم و إمحاء رسمهم من قتلهم أينما وجدتموهم من حل أو حرم و متى ما ظفرتم بهم في شهر حرام أو غيره و من أخذهم أو حصرهم أو القعود لهم في كل مرصد حتى يفنوا عن آخرهم.
قوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة فخلوا سبيلهم إن الله غفور رحيم» اشتراط في معنى الغاية للحكم السابق، و المراد بالتوبة معناها اللغوي و هو الرجوع أي إن رجعوا من الشرك إلى التوحيد بالإيمان و نصبوا لذلك حجة من أعمالهم و هي الصلاة و الزكاة و التزموا أحكام دينكم الراجعة إلى الخالق جميعا فخلوا سبيلهم.
و تخلية السبيل كناية عن عدم التعرض لسالكيه و إن عادت مبتذلة بكثرة التداول كان سبيلهم مسدودة مشغولة بتعرض المتعرضين فإذا خلي عنها كان ذلك ملازما أو منطبقا على عدم التعرض لهم.
و قوله: «إن الله غفور رحيم» تعليل لقوله: «فخلوا سبيلهم» إما من جهة الأمر الذي يدل عليه بصورته أو من جهة المأمور به الذي يدل عليه بمادته أعني تخلية سبيلهم.
و المعنى على الأول: و إنما أمر الله بتخلية سبيلهم لأنه غفور رحيم يغفر لمن تاب إليه و يرحمه.
و على الثاني: خلوا سبيلهم لأن تخليتكم سبيلهم من المغفرة و الرحمة، و هما من صفات الله العليا فتتصفون بذلك بصفة ربكم و أظهر الوجهين هو الأول.
قوله تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله» إلى آخر الآية، الآية تتضمن حكم الإجارة لمن استجار من المشركين لأن يسمع كلام الله، و هي بما تشتمل عليه من الحكم و إن كانت معترضة أو كالمعترضة بين ما يدل على البراءة و رفع الأمان عن المشركين إلا أنها بمنزلة دفع الدخل الواجب الذي لا يجوز إهماله فإن أساس هذه الدعوة الحقة و ما يصاحبها من الوعد و الوعيد و التبشير و الإنذار، و ما يترتب عليه من عقد العقود و إبرام العهود أو النقض و البراءة و أحكام القتال كل ذلك إنما هو لصرف الناس عن سبيل الغي و الضلال إلى صراط الرشد و الهدى، و إنجائهم من شقاء الشرك إلى سعادة التوحيد.
و لازم ذلك الاعتناء التام بكل طريق يرجى فيه الوصول إلى هداية ضال و الفوز بإحياء حق و إن كان يسيرا قليلا فإن الحق حق و إن كان يسيرا، و المشرك غير المعاهد و إن أبرأ الله منه الذمة و أهدر دمه و رفع الحرمة عن كل ما يعود إليه من مال و عرض لكنه تعالى إنما فعل به ذلك ليحيي حق و يبطل باطل فإذا رجي منه الخير منع ذلك من أي قصد سيىء يقصد به حتى يحصل اليأس من هدايته و إنجائه.
فإذا استجار المشرك لينظر فيما تندب إليه الدعوة الحقة و يتبعها إن اتضحت له كان من الواجب إجارته حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل و تتم عليه الحجة فإذا تمادى بعد ذلك في ضلاله و أصر في استكباره صار ممن ارتفع عنه الأمان و برئت منه الذمة و وجب تطييب الأرض من قذارة وجوده بأية وسيلة أمكنت و أي طريق كان أقرب و أسهل و هذا هو الذي يفيده قوله تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون» الآية بما يكتنف به من الآيات.
فمعنى الآية: إن طلب منك بعض هؤلاء المشركين الذين رفع عنهم الأمان أن تأمنه في جوارك ليحضر عندك و يكلمك فيما تدعو إليه من الحق الذي يتضمنه كلام الله فأجره حتى يسمع كلام الله و يرتفع عنه غشاوة الجهل ثم أبلغه مأمنه حتى يملك منك أمنا تاما كاملا، و إنما شرع الله هذا الحكم و بذل لهم هذا الأمن التام لأنهم قوم جاهلون و لا بأس على جاهل إذا رجي منه الخير بقبول الحق لو وضح له.
و هذا غاية ما يمكن مراعاته من أصول الفضيلة و حفظ الكرامة و نشر الرحمة و الرأفة و شرافة الإنسانية اعتبره القرآن الكريم، و ندب إليه الدين القويم.
و قد بان بما قدمناه أولا: أن الآية مخصصة لعموم قوله في الآية السابقة: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم».
و ثانيا: أن قوله: «حتى يسمع كلام الله» غاية للاستجارة و الإجارة فيتغيا به الحكم، فالاستئمان إنما كان لسمع كلام الله و استفسار ما عند الرسول من مواد الرسالة فيتقدر الأمان الذي يعطاه المستجير المستأمن بقدره فإذا سمع من كلام الله ما يتبين به الرشد من الغي و يتميز به الهدى من الضلال انتهت مدة الاستجارة و حان أن يرد المستجير إلى مأمنه و المكان الخاص به الذي هو في أمن فيه، لا يهدده فيه سيوف المسلمين ليرجع إلى حاله الذي فارقه، و يختار لنفسه ما يشاء على حرية من المشية و الإرادة.
و ثالثا: أن المراد بكلام الله مطلق آيات القرآن الكريم، نعم يتقيد بما ينفع المستجير من الآيات التي توضح له أصول المعارف الإلهية و معالم الدين و الجواب عما يختلج في صدره من الشبهات كل ذلك بدلالة المقام و السياق.
و بذلك يظهر فساد ما قيل: إن المراد بكلام الله آيات التوحيد من القرآن، و كذا ما قيل: إن المراد به سورة براءة أو خصوص ما بلغوه في الموسم من آيات صدر السورة فإن ذلك كله تخصيص من غير مخصص.
و رابعا: أن المراد بسمع كلام الله الوقوف على أصول الدين و معالمه و إن أمكن أن يقال: إن لاستماع نفس كلام الله فيما إذا كان المستجير عربيا يفهم الكلام الإلهي دخلا في ذلك أما إذا كان غير عربي و لا يفهم الكلام العربي فالمستفاد من السياق أن الغاية في حقه مجرد تفقه أصول الدين و معالمه.
و خامسا: أن الآية محكمة غير منسوخة و لا قابلة له لأن من الضروري البين من مذاق الدين، و ظواهر الكتاب و السنة أن لا مؤاخذة قبل تمام الحجة، و لا تشديد أي تشديد كان إلا بعد البيان فالجاهل السالك في سبيل الفحص أو المستعلم للحق المستفهم للحقيقة لا يرد خائبا و لا يؤخذ غافلا فعلى الإسلام و المسلمين أن يعطوا كل الأمان لمن استأمنهم ليستحضر معارف الدين و يستعلم أصول الدعوة حتى يتبعها إن لاحت له فيها لوائح الصدق، و هذا أصل لا يقبل بطلانا و لا تغييرا ما دام الإسلام إسلاما فالآية محكمة غير قابلة للنسخ إلى يوم القيامة.
و من هنا يظهر فساد قول من قال: إن قوله: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله» الآية منسوخة بالآية الآتية: «و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» الآية.
و سادسا: أن الآية إنما توجب إجارة المستجير إذا استجار لأمر ديني يرجى فيه خير الدين، و أما مطلق الاستجارة لا لغرض ديني و لا نفع عائد إليه فلا دلالة لها عليه أصلا بل الآيات السابقة الآمرة بالتشديد عليهم في محلها.
و سابعا: أن قوله في تتميم الأمر بالإجارة: «ثم أبلغه مأمنه» مع تمام قوله: «فأجره حتى يسمع» بدونه في الدلالة على المقصد يدل على كمال العناية بفتح باب الهداية على وجوه الناس، و التحفظ على حرية الناس في حياتهم و أعمالهم الحيوية، و الإغماض في طريقه عن كل حكم حتمي و عزيمة قاطعة ليهلك من هلك عن بينة و يحيا من حي عن بينة، و لا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل.
و ثامنا: أن الآية - كما قيل - تدل على أن الاعتقاد بأصل الدين يجب أن يكون عن علم يقيني لا يداخله شك و لا يمازجه ريب و لا يكفي فيه غيره و لو كان الظن الراجح، و قد ذم الله تعالى اتباع الظن، و ندب إلى اتباع العلم في آيات كثيرة كقوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم:» إسراء: - 36 و قوله: «إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغني من الحق شيئا:» النجم: - 28 و قوله: «ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون:» الزخرف: - 20.
و لو كفى في أصل الدين الاعتقاد التقليدي لم يستقم الحكم بإجارة من استجار لتفهم أصول الدين و معارفه لجواز أن يكلف بالتقليد و الكف عن البحث عن أنه حق أو باطل هذا.
و لكن المقدار الواجب في ذلك أن يكون عن علم قطعي سواء كان حاصلا عن الاستدلال بطرق فنية أو بغير ذلك من الوجوه المفيدة للعلم و لو على سبيل الاتفاق، و هذا غير القول بأن الاستدلال على أصول المعارف لا يصح إلا من طريق العقل فإن صحة الاستدلال أمر، و جواز الاعتماد على العلم بأي طريق حصل أمر آخر.
قوله تعالى: «كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله» الآية، تبيين و توضيح لما مر إجمالا من الحكم بنقض عهد المشركين ممن لا وثوق بوفائه بعهده، و قتلهم إلى أن يؤمنوا بالله و يخضعوا لدين التوحيد، و استثناء من لم ينقض العهد و بقي على الميثاق حتى ينقضي مدة عهدهم.
فالآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات تبين ذلك و توضح الحكم و استثناء ما استثني منه و الغاية و المغيا جميعا.
فقوله: «كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله» استفهام في مقام الإنكار، و قد بادرت الآية إلى استثناء الذين عاهدوهم من المشركين عند المسجد الحرام لكونهم لم ينقضوا عهدا و لم يساهلوا فيما واثقوا به بدليل قوله تعالى: «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم» و ذلك أن الاستقامة لمن استقام و السلم لمن يسالم من لوازم التقوى الديني، و لذلك علل قوله ذلك بقوله: «إن الله يحب المتقين» كما جاء مثله بعينه في الآية السابقة: «فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب المتقين».
قوله تعالى: «كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة» إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات:، الإل كل حالة ظاهرة من عهد حلف، و قرابة تئل: تلمع فلا يمكن إنكاره، قال تعالى: لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة، و آل الفرس: أسرع، حقيقته لمع، و ذلك استعارة في باب الإسراع نحو برق و طار.
انتهى.
و قال أيضا: الذمام - بكسر الذال - ما يذم الرجل على إضاعته من عهد، و كذلك الذمة و المذمة، و قيل: لي مذمة فلا تهتكها، و أذهب مذمتهم بشيء: أي أعطهم شيئا لما لهم من الذمام.
انتهى.
و هو ظاهر في أن الذمة مأخوذة من الذم بالمعنى الذي يقابل المدح.
و لعل إلقاء المقابلة في الآية بين الإل و الذمة للدلالة على أنهم لا يحفظون في المؤمنين شيئا من المواثيق التي يجب رقوبها و حفظها سواء كانت مبنية على أصول واقعية تكوينية كالقرابة التي توجب بوجه على القريب رعاية حال قريبه، أو على الجعل و الاصطلاح كالعهود و المواثيق المعقودة بحلف و نحوه.
و قد كررت لفظة «كيف» للتأكيد و لرفع الإبهام في البيان الناشىء من تخلل قوله: «إلا الذين عاهدتم» الآية بطولها بين قوله: «كيف يكون للمشركين» الآية و قوله: «و إن يظهروا عليكم» الآية.
فمعنى الآية: كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله و الحال أنهم إن يظهروا عليكم و يغلبوكم على الأمر لا يحفظوا و لا يراعوا فيكم قرابة و لا عهدا من العهود يرضونكم بالكلام المدلس و القول المزوق، و يأبى ذلك قلوبهم، و أكثرهم فاسقون.
و من هنا ظهر أن قوله: «يرضونكم بأفواههم» من المجاز العقلي نسب فيه الإرضاء إلى الأفواه و هو في الحقيقة منسوب إلى القول و الكلام الخارج من الأفواه المكون فيها.
و قوله: «يرضونكم» الآية تعليل لإنكار وجود العهد للمشركين و لذلك جيء به بالفصل، و التقدير: كيف يكون لهم عهد و هم يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون.
و أما قوله: «و أكثرهم فاسقون» ففيه بيان أن أكثرهم ناقضون للعهد و الميثاق بالفعل من غير أن ينتظروا ظهورهم جميعا عليكم فالآية توضح حال آحادهم و جميعهم بأن أكثرهم فاسقون بنقض العهد من غير أن يرقبوا في مؤمن إلا و لا ذمة، و لو أنهم ظهروا عليكم جميعا لم يرقبوا فيكم الإل و الذمة.
قوله تعالى: «اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا» إلى آخر الآيتين، بيان و تفسير لقوله في الآية السابقة: «و أكثرهم فاسقون» و كان قوله: «اشتروا بآيات الله ثمنا قليلا» إلى آخر الآية توطئة و تمهيد لقوله في الآية الثانية: «لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة».
و بذلك يظهر أن الأقرب أن المراد بالفسق الخروج عن العهد و الذمة دون الفسق بمعنى الخروج عن زي عبودية الله سبحانه و إن كان الأمر كذلك.
و قوله: «و أولئك هم المعتدون» كالتفسير لجميع ما مر من أحوالهم الروحية و أعمالهم الجسمية، و تفيد الجملة مع ذلك جوابا عن سؤال مقدر أو ما يجري مجراه و المعنى: إذا كان هذا حالهم و هذه أفعالهم فلا تحسبوا أن لو نقضتم عهدهم اعتديتم عليهم فأولئك هم المعتدون عليكم لما أضمروه من العداوة و البغضاء و لما أظهره أكثرهم في مقام العمل من الصد عن سبيل الله، و عدم رعاية قرابة و لا عهد في المؤمنين.
قوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة» إلى آخر الآيتين، الآيتان بيان تفصيلي لقوله فيما تقدم: «فإن تبتم فهو خير لكم و إن توليتم فاعلموا أنكم غير معجزي الله».
و المراد بالتوبة بدلالة السياق الرجوع إلى الإيمان بالله و آياته، و لذلك لم يقتصر على التوبة فقط بل عطف عليها إقامة الصلاة التي هي أظهر مظاهر عبادة الله، و إيتاء الزكاة الذي هو أقوى أركان المجتمع الديني، و قد أشير بهما إلى نوع الوظائف الدينية التي بإتيانها يتم الإيمان بآيات الله بعد الإيمان بالله عز اسمه فهذا معنى قوله: «تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة».
و أما قوله: «فإخوانكم في الدين» فالمراد به بيان التساوي بينهم و بين سائر المؤمنين في الحقوق التي يعتبرها الإسلام في المجتمع الإسلامي: لهم ما للمسلمين و عليهم ما على المسلمين.
و قد عبر في الآية عن ذلك بالأخوة في الدين، و قال في موضع آخر: «إنما المؤمنون إخوة:» الحجرات: - 10 اعتبارا بما بينهم من التساوي في الحقوق الدينية فإن الأخوين شقيقان اشتقا من مادة واحدة و هما لذلك متساويان في الشئون الراجعة إلى ذلك في مجتمع المنزل عند والدهما الذي هو رب البيت، و في مجتمع القرابة عند الأقرباء و العشيرة.
و إذ كان لهذا المعنى المسمى بلسان الدين أخوة أحكام و آثار شرعية اعتنى بها قانون الإسلام فهو اعتبار حقيقة لنوع من الأخوة بين أفراد المجتمع الإسلامي لها آثار مترتبة كما أن الأخوة الطبيعية فيما اعتبرها الإسلام لها آثار مترتبة عقلائية و دينية و ليست تسمية ذلك أخوة مجرد استعارة لفظية عن عناية مجازية، و فيما نقل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قوله: «المؤمنون إخوة يسعى بذمتهم أدناهم، و هم يد واحدة على من سواهم».
و قوله: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم» الآية يدل السياق أنهم غير المشركين الذين أمر الله سبحانه في الآية السابقة بنقض عهدهم و ذكر أنهم هم المعتدون لا يرقبون في مؤمن إلا و لا ذمة فإنهم ناكثون للأيمان ناقضون للعهد، فلا يستقيم فيهم الاشتراط الذي ذكره الله سبحانه بقوله: «و إن نكثوا أيمانهم» الآية.
فهؤلاء قوم آخرون لهم مع ولي الأمر من المسلمين عهود و أيمان ينكثون أيمانهم من بعد عهدهم، أي ينقضون عهودهم من بعد عقدها فأمر الله سبحانه بقتالهم و ألغى أيمانهم و سماهم أئمة الكفر لأنهم السابقون في الكفر بآيات الله يتبعهم غيرهم ممن يليهم، يقاتلون جميعا لعلهم ينتهون عن نكث الأيمان و نقض العهود.
قوله تعالى: «أ لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول» الآية و ما بعدها إلى تمام أربع آيات تحريض للمؤمنين و تهييج لهم على قتال المشركين ببيان ما أجرموا به في جنب الله و خانوا به الحق و الحقيقة، و عد خطاياهم و طغياناتهم من نكث الأيمان و الهم بإخراج الرسول و البدء بالقتال أول مرة.
ثم بتعريف المؤمنين أن لازم إيمانهم بالله الذي يملك كل خير و شر و نفع و ضر أن لا يخشوا إلا إياه إن كانوا مؤمنين به ففي ذلك تقوية لقلوبهم و تشجيعهم عليهم، و ينتهي إلى بيان أنهم ممتحنون من عند الله بإخلاص الإيمان له و القطع من المشركين حتى يؤجروا بما يؤجر به المؤمن المتحقق في إيمانه.
قوله تعالى: «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم» إلى آخر الآيتين.
أعاد الأمر بالقتال لأنه صار من جهة ما تقدم من التحريض و التحضيض أوقع في القبول فإن الأمر الأول كان ابتدائيا غير مسبوق بتمهيد و توطئة بخلاف الأمر الثاني الوارد بعد اشتداد الاستعداد و كمال التهيؤ من المأمورين.
على أن ما اتبع به الأمر من قوله: «يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم» إلى قوله: «و يذهب غيظ قلوبهم» يؤكد الأمر و يغري المأمورين على امتثاله و إجرائه على المشركين فإن تذكرهم إن قتل المشركين عذاب إلهي لهم بأيدي المؤمنين، و إن المؤمنين أياد مجرية لله سبحانه و إن في ذلك خزيا للمشركين و نصرة من الله للمؤمنين عليهم و شفاء لصدور قوم مؤمنين و إذهابا لغيظ قلوبهم، يجرئهم للعمل و ينشطهم و يصفي إرادتهم.
و قوله: «و يتوب الله على من يشاء» الآية بمنزلة الاستثناء لئلا يجري حكم القتال على إطلاقه.
قوله تعالى: «أم حسبتم أن تتركوا و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم» إلى آخر الآية بمنزلة تعليل آخر لوجوب قتالهم لينتج تحريضهم على القتال و فيه بيان حقيقة الأمر، و محصله أن الدار دار الامتحان و الابتلاء فإن نفوس الآدميين تقبل الخير و الشر و السعادة و الشقاوة فهي في أول كينونتها ساذجة مبهمة، و مراتب القرب و الزلفى إنما تبذل بإزاء الإيمان الخالص بالله و آياته، و لا يظهر صفاء الإيمان إلا بالامتحان الذي يورد المؤمن مقام العمل، ليميز الله بذلك الطيب من الخبيث، و الصافي الإيمان ممن ليس عنده إلا مجرد الدعوى أو المزعمة.
فمن الواجب أن يمتحن هؤلاء المدعون أنهم باعوا أنفسهم و أموالهم لله بأن لهم الجنة، و يبتلوا بمثل القتال الذي يميز به الصادق من الكاذب و يفصل الذي قطع روابط المحبة و الصلة من أعداء الله سبحانه ممن في قلبه بقايا من ولايتهم و مودتهم حتى يحيا هؤلاء و يهلك أولئك.
فعلى المؤمنين أن يمتثلوا أمر القتال بل يتسارعوا إليه و يتسابقوا فيه ليظهروا بذلك صفاء جوهرهم و حقيقة إيمانهم و يحتجوا به على ربهم يوم لا نجاح فيه إلا بحجة الحق.
فقوله: «أم حسبتم أن تتركوا» أي بل أظننتم أن تتركوا على ما أنتم عليه من الحال و لما تظهر حقيقة صدقكم في دعوى الإيمان بالله و بآياته.
و قوله: «و لما يعلم الله» الآية أي و لما يظهر في الخارج جهادكم و عدم اتخاذكم من دون الله و لا رسوله و لا المؤمنين وليجة فإن تحقق الأشياء علم منه تعالى بها و قد مر نظير الكلام مع بسط ما في تفسير قوله تعالى: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم» الآية: آل عمران: - 142 في الجزء الرابع من الكتاب.
و من الدليل على هذا الذي ذكرنا في معنى العلم قوله في ذيل الآية: «و الله خبير بما تعملون».
و الوليجة على ما في مفردات الراغب، كل ما يتخذه الإنسان معتمدا عليه و ليس من أهله.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «براءة من الله و رسوله»: حدثني أبي عن محمد بن الفضل عن ابن أبي عمير عن أبي الصباح الكناني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: نزلت هذه الآية بعد ما رجع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غزوة تبوك في سنة تسع من الهجرة. قال: و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة لم يمنع المشركين الحج في تلك السنة، و كان سنة من العرب في الحج أنه من دخل مكة و طاف البيت في ثيابه لم يحل له إمساكها، و كانوا يتصدقون بها و لا يلبسونها بعد الطواف فكان من وافى مكة يستعير ثوبا و يطوف فيه ثم يرده، و من لم يجده عارية و لا كرى و لم يكن له إلا ثوب واحد طاف بالبيت عريانا. فجاءت امرأة من العرب وسيمة جميلة فطلبت ثوبا عارية أو كرى فلم تجده فقالوا لها: إن طفت في ثيابك احتجت أن تتصدقي بها فقالت: كيف أتصدق و ليس لي غيرها؟ فطافت بالبيت عريانة و أشرف لها الناس فوضعت إحدى يديها على قبلها و الأخرى على دبرها و قالت شعرا: اليوم يبدو بعضه أو كله فما بدا منه فلا أحله فلما فرغت من الطواف خطبها جماعة فقالت: إن لي زوجا. و كانت سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل نزول سورة براءة أن لا يقاتل إلا من قاتله و لا يحارب إلا من حاربه و أراده، و قد كان أنزل عليه " في " ذلك «فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا» فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يقاتل أحدا قد تنحى عنه و اعتزله حتى نزلت عليه سورة براءة و أمره بقتل المشركين من اعتزله و من لم يعتزله إلا الذين قد عاهدهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة إلى مدة: منهم صفوان بن أمية و سهيل بن عمرو فقال الله عز و جل: «براءة من الله و رسوله - إلى الذين عاهدتم من المشركين - فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» ثم يقتلون حيثما وجدوا بعد. هذه أشهر السياحة: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر. فلما نزلت الآيات من سورة براءة دفعها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أبي بكر و أمره أن يخرج إلى مكة و يقرأها على الناس بمنى يوم النحر فلما خرج أبو بكر نزل جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد لا يؤدي عنك إلا رجل منك. فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمير المؤمنين (عليه السلام) في طلب أبي بكر فلحقه بالروحاء و أخذ منه الآيات فرجع أبو بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله، أنزل الله في شيئا؟ فقال: لا إن الله أمرني أن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني. و في تفسير العياشي، عن حرير عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن رسول الله بعث أبا بكر مع براءة إلى الموسم ليقرأها على الناس فنزل جبرئيل فقال: لا يبلغ عنك إلا علي فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و أمر أن يركب ناقته العضباء، و أمره أن يلحق أبا بكر فيأخذ منه براءة و يقرأها على الناس بمكة فقال أبو بكر: أ سخط؟ فقال: لا إلا أنه أنزل عليه أنه لا يبلغ إلا رجل منك. فلما قدم على مكة و كان يوم النحر بعد الظهر و هو يوم الحج الأكبر قام ثم قال: إني رسول رسول الله إليكم فقرأها عليهم: «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين - فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من شهر ربيع الآخر، و قال: لا يطوف بالبيت عريان و لا عريانة و لا مشرك بعد هذا العام، و من كان له عهد عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فمدته إلى هذه الأربعة أشهر.
أقول: المراد تعيين المدة للعهود التي لا مدة لها بقرينة ما سيأتي من الرواية، و أما العهود التي لها مدة فاعتبارها إلى مدتها مدلول لنفس الآيات الكريمة.
و في تفسيري العياشي، و المجمع، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: خطب علي (عليه السلام) بالناس و اخترط سيفه و قال: لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يحجن بالبيت مشرك، و من كانت له مدة فهو إلى مدته، و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر، و كان خطب يوم النحر، و كانت عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و قال: يوم النحر يوم الحج الأكبر.
أقول: و الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في هذه المعاني فوق حد الإحصاء.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد بن حنبل في زوائد المسند و أبو الشيخ و ابن مردويه عن علي رضي الله عنه قال: لما نزلت عشر آيات من براءة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا أبا بكر رضي الله عنه ليقرأها على أهل مكة ثم دعاني فقال: لي أدرك أبا بكر فحيثما لقيته فخذ الكتاب منه. و رجع أبو بكر رضي الله عنه فقال: يا رسول الله نزل في شيء؟ قال: لا و لكن جبرئيل جاءني فقال: لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك. و فيه، أخرج ابن مردويه عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى أهل مكة ثم بعث عليا رضي الله عنه على أثره فأخذها منه فكأن أبا بكر وجد في نفسه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا بكر إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني. و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي رافع رضي الله عنه قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر رضي الله عنه ببراءة إلى الموسم فأتى جبرئيل (عليه السلام) فقال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فبعث عليا رضي الله عنه على أثره حتى لحقه بين مكة و المدينة فأخذها فقرأها على الناس في الموسم. و فيه، أخرج ابن حبان و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري قال: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر رضي الله عنه يؤدي عنه براءة فلما أرسله بعث إلى علي رضي الله عنه فقال: يا علي لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت، فحمله على ناقته العضباء فسار حتى لحق بأبي بكر رضي الله عنه فأخذ منه براءة. فأتى أبو بكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد دخله من ذلك مخافة أن يكون قد أنزلت فيه شيء فلما أتاه قال: ما لي يا رسول الله؟ قال: خير أنت أخي و صاحبي في الغار و أنت معي على الحوض غير أنه لا يبلغ عني إلا رجل مني.
أقول: و هناك روايات أخرى في معنى ما تقدم، و قد نقل في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب أنه رواه الطبرسي، و البلاذري، و الترمذي، و الواقدي، و الشعبي، و السدي، و الثعلبي، و الواحدي، و القرطبي، و القشيري، و السمعاني، و أحمد بن حنبل، و ابن بطة، و محمد بن إسحاق، و أبو يعلى الموصلي، و الأعمش، و سماك بن حرب في كتبهم عن عروة بن الزبير، و أبي هريرة، و أنس، و أبي رافع، و زيد بن نفيع، و ابن عمر، و ابن عباس، و اللفظ له: أنه لما نزل: «براءة من الله و رسوله» إلى تسع آيات أنفذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا بكر إلى مكة لأدائها فنزل جبرئيل و قال: إنه لا يؤديها إلا أنت أو رجل منك فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأمير المؤمنين: اركب ناقتي العضباء و الحق أبا بكر و خذ براءة من يده. قال: و لما رجع أبو بكر إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جزع و قال: يا رسول الله إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق فيه فلما توجهت إليه رددتني منه؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): الأمين هبط إلي عن الله تعالى: أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك و علي مني و لا يؤدي عني إلا علي.
و فيما نقلناه من الروايات و ما تركناه منها و هو أكثر و فيما سيجيء في هذا الباب نكتتان أصليتان.
إحداهما: أن بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا ببراءة و عزله أبا بكر إنما كان بأمر من ربه بنزول جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و لم يقيد الحكم في شيء من الروايات ببراءة أو نقض العهد فلم يرد في شيء منها: لا يؤدي براءة أو لا ينقض العهد إلا أنت أو رجل منك فلا دليل على تقييده ببراءة على ما وقع في كثير من التفاسير و يؤيد الإطلاق ما سيأتي.
و ثانيتهما: أن عليا (عليه السلام) كما كان ينادي ببراءة، كذلك كان ينادي بحكم آخر و هو أن من كان له مدة فهو إلى مدته و من لم يكن له مدة فمدته أربعة أشهر: و هذا أيضا مما يدل عليه آيات براءة.
و بحكم آخر و هو أنه لا يطوفن بالبيت عريان، و هو أيضا حكم إلهي مدلول عليه بقوله تعالى: «يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد:» الأعراف: - 31 و قد ورد في بعض الروايات ذكر الآية مع الحكم كما سيجيء.
و حكم آخر أنه لا يطوف أو لا يحج البيت مشرك بعد هذا العام و هو مدلول قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا:» التوبة: - 28.
و هناك أمر خامس ذكر في بعض روايات الباب أنه (عليه السلام) كان ينادي به و هو أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن و هذا و إن لم يذكر في سائر الروايات، و الاعتبار لا يساعد على ذلك لنزول آيات كثيرة مكية و مدنية في ذلك و خفاء الأمر في ذلك على المشركين إلى سنة تسع من الهجرة كالمحال عادة لكن ذلك أيضا مدلول للآيات الكريمة، و على أي حال لم تكن رسالة علي (عليه السلام) مقصورا على تأدية آيات براءة بل لها و لتبليغ ثلاثة أو أربعة أحكام قرآنية أخرى، و الجميع مشمول لما أنزل به جبرئيل عن الله سبحانه على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك، إذ لا دليل على تقييد الكلام على إطلاقه أصلا.
و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن ابن عباس رضي الله عنه: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر رضي الله عنه و أمره أن ينادي بهؤلاء الكلمات ثم أتبعه عليا رضي الله عنه و أمره أن ينادي بها فانطلقا فحجا فقام علي رضي الله عنه في أيام التشريق فنادى: أن الله بريء من المشركين و رسوله فسيحوا في الأرض أربعة أشهر و لا يحجن بعد العام مشرك، و لا يطوفن بالبيت عريان، و لا يدخل الجنة إلا مؤمن فكان علي رضي الله عنه ينادي بها.
أقول: و الخبر قريب المضمون مما استفدناه من الروايات.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم من طريق سعيد بن المسيب عن أبي هريرة: أن أبا بكر رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة في حجة أبي بكر. قال أبو هريرة: ثم أتبعنا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا رضي الله عنه أمره أن يؤذن ببراءة و أبو بكر رضي الله عنه على الموسم كما هو أو قال: على هيئته -.
أقول: و قد ورد في عدة من طرق أهل السنة: أن النبي استعمل أبا بكر على الحج عامه ذلك فكان هو أمير الحاج و علي ينادي ببراءة و قد روت الشيعة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) استعمل للإمارة عليا كما أنه حمله تأدية آيات براءة و قد ذكر ذلك الطبرسي في مجمع البيان و رواه العياشي عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و ربما تأيد ذلك بما ورد أن عليا كان يقضي في سفره ذلك و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دعا له في ذلك، إذ من المعلوم أن مجرد الرسالة بتأدية براءة لا تتضمن الحكم بالقضاء بين الناس، و أوفق ما يكون ذلك في تلك الأيام بالإمارة، و الرواية ما سيأتي: في تفسير العياشي، عن الحسن عن علي ع: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين بعثه ببراءة قال: يا نبي الله إني لست بلسن و لا بخطيب قال (صلى الله عليه وآله وسلم): يأبى الله ما بي إلا أن أذهب بها أو تذهب أنت قال: فإن كان لا بد فسأذهب أنا قال: فانطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك ثم وضع يده على فمه فقال: انطلق و اقرأها على الناس، و قال (صلى الله عليه وآله وسلم): الناس سيتقاضون إليك فإذا أتاك الخصمان فلا تقض لواحد حتى تسمع الآخر فإنه أجدر أن تعلم الحق.
أقول: و هذا المعنى مروي من طرق أهل السنة كما في الدر المنثور، عن أبي الشيخ عن علي رضي الله عنه قال: بعثني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى اليمن ببراءة فقلت: يا رسول الله تبعثني و أنا غلام حديث السن و أسأل عن القضاء و لا أدري ما أجيب؟ قال: ما بد من أن تذهب بها أو أذهب بها. قلت: إن كان لا بد أنا أذهب، قال: انطلق فإن الله يثبت لسانك و يهدي قلبك، ثم قال: انطلق و اقرأها على الناس.
إلا أن اشتمال الرواية على لفظ اليمن يسيء الظن بها إذ من البين من لفظ آيات براءة أنها مقرة على أهل مكة يوم الحج الأكبر بمكة و أين ذلك من اليمن و أهلها و كان لفظ الرواية كان: «إلى مكة» فوضع موضعه «إلى اليمن» تصحيحا لما اشتملت عليه من حديث القضاء.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي رضي الله عنه حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، بعث عليا بأربع: لا يطوف بالبيت عريان، و لا يجتمع المسلمون و المشركون بعد عامهم، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد فهو إلى عهده، و إن الله و رسوله بريء من المشركين.
أقول: و هذا المعنى مروي عن أبي هريرة بعدة طرق بألفاظ مختلفة لا تخلو من شيء في متنها - على ما سيجيء - و أمتن الروايات متنا هذه التي أوردناها.
و فيه، أخرج أحمد و النسائي و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي هريرة قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله إلى أهل مكة ببراءة فكنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد فإن أمره أو أجله إلى أربعة أشهر فإذا مضت الأربعة أشهر فإن الله بريء من المشركين و رسوله و لا يحج هذا البيت بعد العام مشرك.
أقول: و في متن الرواية اضطراب بين، أما أولا: فلاشتمالها على النداء بأنه لا يدخل الجنة إلا مؤمن، و قد سبق أنه نزلت في معناه آيات كثيرة مكية و مدنية منذ سنين و قد سمعها الحضري و البدوي و المشرك و المؤمن فأي حاجة متصورة إلى إبلاغها أهل الجمع.
و أما ثانيا: فلأن النداء الثاني أعني قوله: و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد إلخ، لا ينطبق لا على مضامين الآيات و لا على مضامين الروايات المتظافرة السابقة، على أنه قد جعل فيه البراءة بعد مضي أربعة أشهر.
و أما ثالثا: فلما سنذكره ذيلا.
و فيه، أخرج البخاري و مسلم و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أبي هريرة قال: بعثني أبو بكر رضي الله عنه في تلك الحجة في مؤذنين بعثهم يوم النحر يؤذنون بمنى أن لا يحج بعد هذا العام مشرك، و لا يطوف بالبيت عريان ثم أردف النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعلي بن أبي طالب رضي الله عنه فأمره أن يؤذن ببراءة فأذن معنا علي في أهل منى يوم النحر ببراءة، و أن لا يحج بعد العام مشرك و لا يطوف بالبيت عريان. و في تفسير المنار، عن الترمذي عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر إلى أن قال فقام علي أيام التشريق فنادى: ذمة الله و ذمة رسوله بريئة من كل مشرك فسيحوا في الأرض أربعة أشهر، و لا يحجن بعد العام مشرك، و لا يطوفن بالبيت عريان و لا يدخل الجنة إلا كل مؤمن فكان علي ينادي بها فإذا بح قام أبو هريرة فنادى بها. و فيه، أيضا عن أحمد و النسائي من طريق محرز بن أبي هريرة عن أبيه قال: كنت مع علي حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مكة ببراءة فكنا ننادي أن لا يدخل الجنة إلا كل نفس مسلمة، و لا يطوف بالبيت عريان، و من كان بينه و بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عهد فعهده إلى مدته، و لا يحج بعد العام مشرك فكنت أنادي حتى صحل صوتي.
أقول: قد عرفت أن الذي وقع في الروايات على كثرتها في قصة بعث علي و عزل أبي بكر من كلمة الوحي الذي نزل به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و كذا ما ذكره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين أجاب أبا بكر لما سأله عن سبب عزله، إنما هو متن ما أوحى إليه الله سبحانه، أو قوله - و هو في معناه -: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني».
و كيفما كان فهو كلام مطلق يشمل تأدية براءة و كل حكم إلهي احتاج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أن يؤديه عنه مؤد غيره، و لا دليل لا من متون الروايات و لا غيرها يدل على اختصاص ذلك ببراءة، و قد اتضح أن المنع عن طواف البيت عريانا و المنع عن حج المشركين بعد ذلك العام و كذا تأجيل من له عهد إلى مدة أو من غير مدة كل ذلك أحكام إلهية نزل بها القرآن فما معنى إرجاع أمرها إلى أبي بكر أو نداء أبي هريرة بها وحده أو ندائه ببراءة و سائر الأحكام المذكورة في الجمع إذا بح علي (عليه السلام) حتى يصحل صوته من كثرة النداء؟ و لو جاز لأبي هريرة أن يقوم بها و الحال هذه فلم لم يجز لأبي بكر ذلك؟.
نعم أبدع بعض المفسرين كابن كثير و أترابه هنا وجها وجهوا به ما تتضمنه هذه الروايات انتصارا لها و هو أن قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مخصوص بتأدية براءة فقط من غير أن يشمل سائر الأحكام التي كان ينادي بها علي (عليه السلام)، و أن تعيينه (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا بتبليغ آيات براءة أهل الجمع إنما هو لما كان من عادة العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته و مراعاة هذه العادة الجارية هي التي دعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأخذ براءة و فيها نقض ما للمشركين من عهد - من أبي بكر و يسلمها إلى علي ليستحفظ بذلك السنة العربية فيؤديها عنه بعض أهل بيته.
قالوا: و هذا معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما سأله أبو بكر قائلا: يا رسول الله هل نزل في شيء؟ قال: «لا و لكن لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» و معناه أني إنما عزلتك و نصبت عليا لذلك لئلا أنقض هذه السنة العربية الجارية.
و لذلك لم ينفصل أبو بكر من شأنه فقد كان قلده إمارة الحاج و كان لأبي بكر مؤذنون يؤذنون بهذه الأحكام كأبي هريرة و غيره من الرجال الذين لم يذكر أسماؤهم في الروايات، و كان على أحد من عنده لهذا الشأن، و لذا ورد في بعضها: أنه خطب بمنى و لما فرغ من خطبته التفت إلى علي و قال: قم يا علي و أد رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و هذا ما ذكروه و وجهوا به الروايات.
و الباحث الناقد إذا راجع هذه الآيات و الروايات ثم تأمل ما جرت من المشاجرات الكلامية بين الفريقين: أهل السنة و الشيعة في باب الأفضلية لم يرتب في أنهم خلطوا بين البحث التفسيري الذي شأنه تحصيل مداليل الآيات القرآنية، و البحث الروائي الذي شأنه نقد معاني الأحاديث و تمييز غثها من سمينها، و بين البحث الكلامي الناظر في أن أبا بكر أفضل من علي أو عليا أفضل من أبي بكر؟ و في أن إمارة الحاج أفضل أو الرسالة في تبليغ آيات براءة؟ و لمن كان إمارة الحج إذ ذاك لأبي بكر أو لعلي؟ أما البحث الكلامي فلسنا نشتغل به في هذا المقام فهو خارج عن غرضنا، و أما البحث الروائي أو التفسيري فيما يرتبط به الآيات إلى أسباب نزولها مما يتعلق بمعاني الآيات فالذي ينبغي أن يقال بالنظر إليه أنهم أخطئوا في هذا التوجيه.
فليت شعري من أين تسلموا أن هذه الجملة التي نزل بها جبرئيل: «أنه لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» مقيدة بنقض العهد لا يدل على أزيد من ذلك، و لا دليل عليه من نقل أو عقل فالجملة ظاهرة أتم ظهور في أن ما كان على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤديه لا يجوز أن يؤديه إلا هو أو رجل منه سواه، كان نقض عهد من جانب الله كما في مورد براءة أو حكما آخر إلهيا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يؤديه و يبلغه.
و هذا غير ما كان من أقسام الرسالة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) مما ليس عليه أن يؤديه بنفسه الشريفة كالكتب التي أرسل بها إلى الملوك و الأمم و الأقوام في الدعوة إلى الإسلام و كذا سائر الرسالات التي كان يبعث بها رجالا من المؤمنين إلى الناس في أمور يرجع إلى دينهم و الإمارات و الولايات و نحو ذلك.
ففرق جلي بين هذه الأمور و بين براءة و نظائرها فإن ما تتضمنه آيات براءة و أمثال النهي عن الطواف عريانا، و النهي عن حج المشركين بعد العام أحكام إلهية ابتدائية لم تبلغ بعد و لم تؤد إلى من يجب أن تبلغه، و هم المشركون بمكة و الحجاج منهم، و لا رسالة من الله في ذلك إلا لرسوله، و أما سائر الموارد التي كان يكتفي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعث الرسل للتبليغ فقد كانت مما فرغ (صلى الله عليه وآله وسلم) فيها من أصل التبليغ و التأدية، بتبليغه من وسعه تبليغه ممن حضر كالدعوة إلى الإسلام و سائر شرائع الدين و كان يقول: «ليبلغ الشاهد منكم الغائب» ثم إذا مست الحاجة إلى تبليغه بعض من لا وثوق عادة ببلوغ الحكم إليه أو لا أثر لمجرد البلوغ إلا أن يعتني لشأنه بكتاب أو رسول أو توسل عند ذلك إلى رسالة أو كتاب كما في دعوة الملوك.
و ليتأمل الباحث المنصف قوله «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فقد قيل: «لا يؤدي عنك إلا أنت» و لم يقل: «لا يؤدي إلا أنت أو رجل منك» حتى يفيد اشتراك الرسالة، و لم يقل: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» حتى يشمل سائر الرسالات التي كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يقلدها كل من كان من صالحي المؤمنين فإنما مفاد قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» أن الأمور الرسالية التي يجب عليك نفسك أن تقوم بها لا يقوم بها غيرك عوضا منك إلا رجل منك أي لا يخلفك فيما عليك كالتأدية الابتدائية إلا رجل منك.
ثم ليت شعري ما الذي دعاهم إلى أن أهملوا كلمة الوحي التي هي قول الله نزل به جبرئيل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و ذكروا مكانها أنه «كانت السنة الجارية عند العرب أن لا ينقض العهد إلا عاقده أو رجل من أهل بيته» تلك السنة العربية التي لا خبر عنها في أيامهم و مغازيهم و لا أثر إلا ما ذكره ابن كثير و نسبه إلى العلماء عند البحث عن آيات براءة!.
ثم لو كانت سنة عربية جاهلية على هذا النعت فما وزنها في الإسلام و ما هي قيمتها عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد كان ينسخ كل يوم سنة جاهلية و ينقض كل حين عادة قومية، و لم تكن من جملة الأخلاق الكريمة أو السنن و العادات النافعة بل سليقة قبائلية تشبه سلائق الأشراف و قد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم فتح مكة عند الكعبة على ما رواه أصحاب السير: «إلا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدمي هاتين إلا سدانة البيت و سقاية الحاج».
ثم لو كانت سنة عربية غير مذمومة فهل كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ذهل عنها و نسيها حين أسلم الآيات إلى أبي بكر و أرسله، و خرج هو إلى مكة حتى إذا كان في بعض الطريق ذكر (صلى الله عليه وآله وسلم) ما نسيه أو ذكره بعض من عنده بما أهمله و ذهل عنه من أمر كان من الواجب مراعاته؟ و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) المثل الأعلى في مكارم الأخلاق و اعتبار ما يجب أن يعتبر من الحزم و حسن التدبير، و كيف جاز لهؤلاء المذكرين أن يغفلوا عن ذلك و ليس من الأمور التي يغفل عنها و تخفى عادة فإنما الذهول عنه كغفلة المقاتل عن سلاحه؟.
و هل كان ذلك بوحي من الله إليه أنه يجب له أن لا يلغي هذه السنة العربية الكريمة، و أن ذلك أحد الأحكام الشرعية في الباب و أنه يحرم على ولي أمر المسلمين أن ينقض عهدا إلا بنفسه أو بيد أحد من أهل بيته؟ و ما معنى هذا الحكم؟.
أو أنه حكم أخلاقي اضطر إلى اعتباره لما أن المشركين ما كانوا يقبلون هذا النقض إلا بأن يسمعوه من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نفسه أو من أحد من أهل بيته؟ و قد كانت السيطرة يومئذ له (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم، و الزمام بيده دونهم، و الإبلاغ إبلاغ.
أو أن المؤمنين المخاطبين بقوله: «عاهدتم» و قوله: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس» و قوله: «فاقتلوا المشركين» ما كانوا يعتبرون هذا النقض نقضا دون أن يسمعوه منه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو من واحد من أهل بيته و إن علموا بالنقض إذا سمعوا الآيات من أبي بكر؟.
و لو كان كذلك فكيف قبله و اعتبره نقضا من سمعه من أبي هريرة الذي كان ينادي به حتى صحل صوته؟ و هل كان أبو هريرة أقرب إلى علي و أمس به من أبي بكر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فالحق أن هذه الروايات الحاكية لنداء أبي هريرة و غيره غير سديدة لا ينبغي الركون إليها.
قال صاحب المنار في تفسيره: جملة الروايات تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أبا بكر أميرا على الحج سنة تسع و أمره أن يبلغ المشركين الذين يحضرون الحج أنهم يمنعون منه بعد ذلك العام ثم أردفه بعلي ليبلغهم عنه نبذ عهودهم المطلقة و إعطاءهم مهلة أربعة أشهر لينظروا في أمرهم، و إن العهود الموقتة أجلها نهاية وقتها، و يتلو عليهم الآيات المتضمنة لمسألة نبذ العهود و ما يتعلق بها من أول سورة براءة.
و هي أربعون أو ثلاث و ثلاثون آية، و ما ذكر في بعض الروايات من التردد بين ثلاثين و أربعين فتعبير بالأعشار مع إلغاء كسرها من زيادة و نقصان.
و ذلك لأن من عادة العرب أن العهود و نبذها إنما تكون من عاقدها أو أحد عصبته القريبة، و أن عليا كان مختصا بذلك مع بقاء إمارة الحج لأبي بكر الذي كان يساعده على ذلك و يأمر بعض الصحابة كأبي هريرة بمساعدته.
انتهى.
و قال أيضا: إن بعض الشيعة يكبرون هذه المزية لعلي (عليه السلام) كعادتهم و يضيفون إليها ما لا تصح به رواية، و لا تؤيده دراية فيستدلون بها على تفضيله على أبي بكر رضي الله عنهما و كونه أحق بالخلافة منه، و يزعمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عزل أبا بكر من تبليغ سورة براءة لأن جبرئيل أمره بذلك، و أنه لا يبلغ عنه إلا هو أو رجل منه و لا يخصون هذا النفي بتبليغ نبذ العهود و ما يتعلق به بل يجعلونه عاما لأمر الدين كله.
مع استفاضة الأخبار الصحيحة بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة كالجهاد في حمايته و الدفاع عنه، و كونه فريضة لا فضيلة فقط و منها قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع على مسمع الألوف من الناس: «ألا فليبلغ الشاهد الغائب» و هو مكرر في الصحيحين و غيرهما، و في بعض الروايات عن ابن عباس: فوالذي نفسي بيده أنها لوصيته إلى أمته «فليبلغ الشاهد الغائب» إلخ و حديث: «بلغوا عني و لو آية» رواه البخاري في صحيحه و الترمذي، و لو لا ذلك لما انتشر الإسلام ذلك الانتشار السريع في العالم.
بل زعم بعضهم - كما قيل - إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا، و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها الخاص و العام.
و الحق أن عليا كرم الله وجهه كان مكلفا بتبليغ أمر خاص، و كان في تلك الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته العامة في إقامة ركن الإسلام الاجتماعي العام حتى كان أبو بكر يعين له الوقت الذي يبلغ ذلك فيه فيقول: يا علي قم فبلغ رسالة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تقدم التصريح به في الروايات الصحيحة كما أمر بعض الصحابة بمساعدته على هذا التبليغ كما تقدم في حديث أبي هريرة في الصحيحين و غيرهما.
ثم ساق الكلام و استدل بإمارة أبي بكر في تلك الحجة و ضم إليها صلاته موضع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبيل وفاته - على تقدمه و أفضليته من جميع الصحابة على من سواه انتهى.
أما قوله: مع استفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة إلى آخر ما قال فيكشف عن أنه لم يحصل معنى كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» حق التحصيل، و لم يفرق بين قولنا: «لا يؤدي منك إلا رجل منك» و بين قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فزعم أن الكلام بإطلاقه يمنع عن كل تبليغ ديني يتصداه غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو رجل منه فدفع ذلك باستفاضة الأخبار بوجوب تبليغ الدين على المسلمين كافة و قيد به إطلاق قوله: «لا يؤدي عنك» إلخ فجعله خاصا بتبليغ نبذ العهد بعد تحويل الحكم الإلهي إلى سنة عربية جاهلية.
و قد ساقه اشتباه معنى الكلمة إلى أن زعم أن إبقاء الكلام على إطلاقه منشؤه الغفلة عن أمر هو كالضروري عند عامة المسلمين أعني وجوب التبليغ العام حتى استدل على ذلك بما في الصحيحين و غيرهما من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «فليبلغ الشاهد الغائب»، و قد عرفت ما هو حق المعنى لكلمة الوحي.
و أما قوله: «بل زعم بعضهم كما قيل إنه عزل أبا بكر من إمارة الحج و ولاها عليا و هذا بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام و الخاص» فليس ذلك زعما من البعض و لا بهتانا كما بهته بل رواية روتها الشيعة و قد أوردناها في ضمن الروايات المتقدمة.
و ليس التوغل في مسألة الإمارة مما يهمنا في تفهم معنى قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» فإمارة الحاج سواء صحت لأبي بكر أو لعلي، دلت على فضل أو لم تدل إنما هي من شعب الولاية الإسلامية العامة التي شأنها التصرف في أمور المجتمع الإسلامي الحيوية، و إجراء الأحكام و الشرائع الدينية، و لا حكومة لها على المعارف الإلهية و مواد الوحي النازلة من السماء في أمر الدين.
إنما هي ولاية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصب يوما أبا بكر أو عليا لإمارة الحاج، و يؤمر يوما أسامة على أبي بكر و عامة الصحابة في جيشه، و يولي يوما ابن أم مكتوم على المدينة و فيها من هو أفضل منه، و يولي هذا مكة بعد فتحها، و ذاك اليمن، و ذلك أمر الصدقات، و قد استعمل (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا دجانة الساعدي أو سباع بن عرفطة الغفاري على ما في سيرة ابن هشام على المدينة عام حجة الوداع، و فيها أبو بكر لم يخرج إلى الحج على ما رواه البخاري و مسلم و أبو داود و النسائي و غيرهم و إنما تدل على إذعانه (صلى الله عليه وآله وسلم) بصلاحية من نصبه لأمر لتصديه و إدارة رحاه.
و أما الوحي السماوي بما يشتمل عليه من المعارف و الشرائع فليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا لمن دونه صنع فيه و لا تأثير فيه مما له من الولاية العامة على أمور المجتمع الإسلامي بإطلاق أو تقييد أو إمضاء أو نسخ أو غير ذلك، و لا تحكم عليه سنة قومية أو عادة جارية حتى توجب تطبيقه على ما يوافقها أو قيام العصبة مقام الإنسان فيما يهمه من أمر.
و الخلط بين البابين يوجب نزول المعارف الإلهية من أوج علوها و كرامتها إلى حضيض الأفكار الاجتماعية التي لا حكومة فيها إلا للرسوم و العادات و الاصطلاحات، فيعود الإنسان يفسر حقائق المعارف بما يسعه الأفكار العامية و يستعظم ما استعظمه المجتمع دون ما عظمه الله، و يستصغر ما استصغره الناس حتى يقول القائل في معنى كلمة الوحي أنه عادة عربية محترمة.
و أنت إذا تأملت هذه القصة - أخذ آيات براءة من أبي بكر و إعطاءها عليا على ما تقصها الروايات - وجدت فيها من مساهلة الرواة و توسعهم في حفظ القصة بما لها من الخصوصيات - إن لم يستند إلى غرض آخر - أمرا عجيبا ففي بعضها - و هو الأكثر - أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر بالآيات ثم بعث عليا و أمره أن يأخذها منه و يتلوها على الناس فرجع أبو بكر إلخ، و في بعضها أنه بعث أبا بكر بإمارة الحج ثم بعث عليا بعده بآيات براءة و في بعضها: أن أبا بكر أمره بالتبليغ و أمر بعض الصحابة أن يشاركه في النداء حتى آل الأمر إلى مثل ما رواه الطبري و غيره عن مجاهد في قوله تعالى: «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين» إلى أهل العهد خزاعة و مدلج و من كان له عهد و غيرهم.
أقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من تبوك حين فرغ منها فأراد الحج ثم قال: إنه يحضر البيت مشركون يطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك فأرسل أبا بكر و عليا فطافا في الناس بذي المجاز و بأمكنتهم التي كانوا يبيعون بها و بالموسم كله فأذنوا أصحاب العهد أن يأمنوا أربعة أشهر و هي الأشهر الحرم المنسلخات المتواليات: عشرون من آخر ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الأول ثم عهد لهم و آذن الناس كلهم بالقتال إلى أن يموتوا.
و إذا كان هذا هو الحال فما معنى قوله: «بهتان صريح مخالف لجميع الروايات في مسألة عملية عرفها العام و الخاص»؟ فإن كان يعني: عرفها العام و الخاص في عصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن شاهد الأمر أو سمع ذلك ممن شاهده و وصفه فما ذا ينفعنا ذلك؟.
و إن كان يعني: أن العام و الخاص ممن يلي عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يلي من يليه عرفا ذلك و لم يشك أحد في ذلك فهذا حال الروايات المنقولة عنهم لا يجتمع على كلمة.
منها ما يحكى أن عليا اختص بتأدية براءة و أخرى تدل على أن أبا بكر شاركه فيه، و أخرى تدل على أن أبا هريرة شاركه في التأدية و رجال آخرون لم يسموا في الروايات.
و منها ما يدل على أن الآيات كانت تسع آيات، و أخرى عشرا، و أخرى ست عشرة، و أخرى ثلاثين، و أخرى ثلاثا و ثلاثين، و أخرى سبعا و ثلاثين، و أخرى أربعين، و أخرى سورة براءة.
و منها ما يدل على أن أبا بكر ذهب لوجهه أميرا على الحاج و أخرى على أنه رجع حتى أوله بعضهم كابن كثير أنه رجع بعد إتمام الحج، و آخرون أنه رجع ليسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن سبب عزله، و في رواية أنس الآتية أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا بكر ببراءة ثم دعاه فأخذها منه.
و منها ما يدل على أن الحجة وقعت في ذي الحجة و أن يوم الحج الأكبر تمام أيام تلك الحجة أو يوم عرفة أو يوم النحر أو اليوم التالي ليوم النحر أو غير ذلك و أخرى أن أبا بكر حج في تلك السنة في ذي القعدة.
و منها ما يدل على أن أشهر السياحة تأخذ من شوال، و أخرى من ذي القعدة، و أخرى من عاشر ذي الحجة، و أخرى من الحادي عشر من ذي الحجة و غير ذلك.
و منها ما يدل على أن الأشهر الحرم هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم من تلك السنة و، أخرى على أنها أشهر السياحة تبتدأ من يوم التبليغ أو يوم النزول.
فهذا حال اختلاف الروايات، و مع ذلك كيف يستقيم دعوى أنه أمر عرفه العام و الخاص، و بعض المحتملات السابقة و إن كان قولا من مفسري السلف إلا أن المفسرين يعاملون أقوالهم معاملة الروايات الموقوفة.
و أما قوله: و الحق أن عليا كان مكلفا بتبليغ أمر خاص و كان في تلك الحجة تابعا لأبي بكر في إمارته إلى آخر ما قال فلا ريب أن الذي بعث به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا من الأحكام كان أمرا خاصا و هو تلاوة آيات براءة و سائر ما يلحق بها من الأمور الأربعة المتقدمة غير أن الكلام في أن كلمة الوحي: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» لا تختص في دلالتها بتأدية آيات براءة على ما تقدم بيانه فلا ينبغي الخلط بين ما يدل عليه الكلمة و بين ما أمر به علي في خصوص تلك السفرة.
و أما قوله: و كان في تلك الحجة تابعا «إلخ» فأمر استفادة من كلام أبي هريرة و ما يشبه، و قد عرفت الكلام فيه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و الترمذي و حسنه و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أنس رضي الله عنه قال: بعث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببراءة مع أبي بكر رضي الله عنه ثم دعاه فقال: لا ينبغي لأحد أن يبلغ هذا إلا رجل من أهلي فدعا عليا فأعطاه إياه.
أقول: ذكر صاحب المنار في بعض كلامه: أن قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أو رجل مني في رواية السدي قد فسرتها الروايات الأخرى عند الطبري و غيره بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أو رجل من أهل بيتي» و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» بأن معناها أن نفس علي كنفس رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه مثله و أنه أفضل من كل أصحابه - انتهى -.
و الذي أشار إليه من الروايات هو ما رواه قبلا بقوله: و أخرج أحمد بسند حسن عن أنس أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث ببراءة مع أبي بكر فلما بلغ ذا الحليفة قال: لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي فبعث بها مع علي.
و هذه بعينها - على ما لا يخفى - هي الرواية السابقة التي أوردناها عن أنس، و قد وقع فيها «أو رجل من أهلي» و إن اختلف لفظا الروايتين بما عملت فيهما يد النقل بالمعنى.
و أول ما في كلامه: أن اللفظ: «أو رجل مني» لم يقع إلا في رواية واحدة موقوفة هي رواية السدي التي استضعفها قبيل ذلك بل الأصل في ذلك كلمة الوحي التي أثبتتها معظم الروايات الصحيحة على بلوغ كثرتها، و الروايات الآخر المشتملة على قوله: «من أهل بيتي» و هو يستكثرها إنما هي رواية أنس - على ما عثرنا عليها - و قد وقع في بعض ألفاظها قوله «من أهلي» مكان «من أهل بيتي».
و الثاني: أن الرواية - كما اتضح لك - منقولة بالمعنى، و مع ذلك لا يصلح ما وقع فيها من بعض الألفاظ لتفسير ما اتفقت عليه معظم الروايات الصحيحة الواردة من طرق الفريقين من لفظ الوحي المنقول فيها.
على أن قوله: «من أهل بيتي» في هذه لو صلح لتفسير ما وقع في سائر الروايات من «لفظ رجل منك» أو «رجل مني» لكان الواقع في رواية في سائر الروايات من لفظ رجل منك أو رجل مني لكان الواقع في رواية أبي سعيد الخدري السابقة من قوله (عليه السلام): «يا علي إنه لا يؤدي عني إلا أنا أو أنت» مفسرا لما في رواية أنس: «إلا رجل من أهل بيتي» أو «إلا رجل من أهلي» و ما في سائر الروايات: «إلا رجل منك» أو «إلا رجل مني».
فيعود هذه الألفاظ كناية عن شخص علي (عليه السلام)، بل الكناية بما لها من المعنى مشيرة إلى أنه من نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من أهله و من أهل بيته جميعا، و هذا عين ما فر منه و زيادة.
و الثالث: أن استفادة كونه (عليه السلام) بمنزلة نفسه (عليه السلام) ليست بمستندة إلى مجرد قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «رجل مني» كما حسبه فإن مجرد قول القائل: فلان مني لا يدل على تنزيله منزلته في جميع شئون وجوده و مماثلته إياه، و إنما يدل على نوع من الاتصال و الاتباع كما في قول إبراهيم (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني:» إبراهيم: - 36 إلا بنوع من القرينة الدالة على عناية كلامية كقوله تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم».
بل إنما استفيد ذلك من قوله: «رجل مني» أو «رجل منك» بمعونة قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت» على البيان الذي تقدم و على هذا فلو كان هناك قوله: «لا يؤدي عني إلا رجل من أهلي أو رجل من أهل بيتي» لاستفيد منه عين ما استفيد من قوله: «لا يؤدي عنك إلا أنت أو رجل منك» و قوله: «لا يؤدي عني إلا أنا أو رجل مني» مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) عده منه في خطابه أبا بكر و هو أيضا منه بالاتباع.
و الرابع: أنه أهمل في البحث الروايات الصحيحة المستفيضة أو المتواترة التي تدل على أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم: علي و فاطمة و الحسنان على ما تقدم في أخبار آية المباهلة و سيجيء معظمها في أخبار آية التطهير إن شاء الله تعالى.
و لا رجل في أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا علي (عليه السلام) فيئول الأمر إلى كون اللفظ كناية عن علي (عليه السلام) فيرجع إلى ما تقدم من الوجه.
و أما ما احتمله من المعنى فهو أن المراد بأهل بيته عامة أقربائه من بني هاشم أو بنو هاشم و نساؤه فينزل اللفظ منزلة عادية من غير أن يحمل شيئا من المزية، و المعنى لا يؤدي نبذ العهد عني إلا رجل من بني هاشم، و القوم يرجعون غالبا في مفاهيم أمثال هذه الألفاظ إلى ما يعطيه العرف اللغوي في ذلك من غير توجه إلى ما اعتبره الشرع، و قد تقدم نظير ذلك في معنى الابن و البنت حيث حسبوا أن كون ابن البنت ابنا للرجل و عدمه مرجعه إلى بحث لغوي يعين كون الابن يصدق بحسب الوضع اللغوي على ابن البنت مثلا أو لا يصدق عليه، و جميع ذلك يرجع إلى الخلط بين الأبحاث اللفظية و الأبحاث المعنوية، و كذا الخلط بين الأنظار الاجتماعية و الأنظار الدينية السماوية على ما تقدمت الإشارة إليه.
و أعجب من الجميع قوله: و هذا النص الصريح يبطل تأويل كلمة «مني» فإن مراده بدلالة السياق أن كلمة «من أهل بيتي» نص صريح في أن المراد برجل مني رجل من بني هاشم، و لا ندري أي نصوصية أو صراحة لكلمة «أهل البيت» في بني هاشم بعد ما تكاثرت الروايات أن أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هم علي و فاطمة و الحسنان (عليه السلام) ثم في قوله: «أهل بيتي» بمعنى بني هاشم أن المراد بكلمة «مني» هو ذلك!.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» قال: عشرين من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشرا من ربيع الآخر.
أقول: و قد استفاضت الروايات من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن المراد من الأربعة الأشهر هو ذلك، روى ذلك الكليني و الصدوق و العياشي و القمي و غيرهم في كتبهم، و روي ذلك من طرق أهل السنة، و هناك روايات أخرى من طرقهم في غير هذا المعنى حتى وقع في بعضها أن أبا بكر حج بالناس عام تسع في شهر ذي القعدة، و هي غير متأيدة و لذلك أغمضنا عنها.
و في تفسير العياشي، عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام): في قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله» قال: الأذان أمير المؤمنين (عليه السلام). أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و عن جابر عن جعفر بن محمد و أبي جعفر (عليه السلام)، و رواه القمي عن أبيه عن فضالة عن أبان بن عثمان عن حكيم بن جبير عن علي بن الحسين (عليهما السلام) قال: و في حديث آخر قال: كنت أنا الأذان في الناس:، و رواه الصدوق أيضا بإسناده عن حكيم عنه (عليه السلام)، و رواه في الدر المنثور عن ابن أبي حاتم عن حكيم بن حميد عن علي بن الحسين (عليهما السلام)، و قال في تفسير البرهان:، قال السدي و أبو مالك و ابن عباس و زين العابدين: الأذان هو علي بن أبي طالب فأدى به. و في تفسير البرهان، عن الصدوق بإسناده عن الفضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الحج الأكبر فقال: عندك فيه شيء؟ فقلت: نعم كان ابن عباس يقول: الحج الأكبر يوم عرفة يعني أنه من أدرك يوم عرفة إلى طلوع الشمس من يوم النحر فقد أدرك الحج و من فاته ذلك فاته الحج فجعل ليلة عرفة لما قبلها و لما بعدها، و الدليل على ذلك أنه من أدرك ليلة النحر إلى طلوع الفجر فقد أدرك الحج و أجزي عنه من عرفة. فقال أبو عبد الله (عليه السلام): قال أمير المؤمنين (عليه السلام) الحج الأكبر يوم النحر و احتج بقول الله عز و جل: «فسيحوا في الأرض أربعة أشهر» فهي عشرون من ذي الحجة و المحرم و صفر و شهر ربيع الأول و عشر من شهر ربيع الآخر، و لو كان الحج الأكبر يوم عرفة لكان السيح أربعة أشهر و يوما، و احتج بقوله عز و جل: «و أذان من الله و رسوله إلى الناس يوم الحج الأكبر» و كنت أنا الأذان في الناس. قلت: فما معنى هذه اللفظة: الحج الأكبر؟ فقال: إنما سمي الأكبر لأنها كانت سنة حج فيها المسلمون و المشركون، و لم يحج المشركون بعد تلك السنة.
و فيه، عنه بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن يوم الحج الأكبر فقال: يوم النحر و الأصغر العمرة.
أقول: و في الرواية مضافا إلى تفسير اليوم بيوم النحر إشارة إلى وجه تسمية الحج بالأكبر، و قد أطبقت الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) إلا ما شذ على أن المراد بيوم الحج الأكبر في الآية هو يوم الأضحى عاشر ذي الحجة و هو يوم النحر، و رووا ذلك عن علي (عليه السلام).
و روى هذه الرواية الكليني في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و روى ذلك أيضا بإسناده عن ذريح عنه (عليه السلام)، و كذا الصدوق بإسناده إلى ذريح عنه (عليه السلام)، و رواه العياشي عن عبد الرحمن و ابن أذينة و الفضيل بن عياض عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن أبي أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه قال يوم الأضحى: هذا يوم الحج الأكبر. و فيه، أيضا أخرج البخاري تعليقا و أبو داود و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و أبو نعيم في الحلية عن ابن عمر: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقف يوم النحر بين الجمرات في الحجة التي حج فقال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم النحر قال: هذا يوم الحج الأكبر.
أقول: و روي ذلك بطرق مختلفة عن علي (عليه السلام) و ابن عباس و مغيرة بن شعبة و أبي جحيفة و عبد الله بن أبي أوفى، و قد روي بطرق مختلفة أخرى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه يوم عرفة، و كذا روي ذلك عن علي و ابن عباس و ابن الزبير، و روي عن سعيد بن المسيب أنه اليوم التالي ليوم النحر، و روي أنه أيام الحج كلها، و روي أنه الحج في العام الذي حج فيها أبو بكر، و هذا الوجه الأخير لا يأبى الانطباق على ما تقدم من الحديث عن الصادق (عليه السلام): أنه سمي الحج الأكبر لما حج في تلك السنة المسلمون و المشركون جميعا. و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم - فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» قال: هي يوم النحر إلى عشر مضين من شهر ربيع الآخر. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «فإن تابوا و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة:» أخرج الحاكم و صححه عن مصعب بن عبد الرحمن عن أبيه رضي الله عنه قال: افتتح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة ثم انصرف إلى الطائف فحاصرهم ثمانية أو سبعة ثم ارتحل غدوة و روحة ثم نزل ثم هجر. ثم قال: أيها الناس إني لكم فرط، و إني أوصيكم بعترتي خيرا موعدكم الحوض، و الذي نفسي بيده لتقيمن الصلاة و لتؤتن الزكاة أو لأبعثن عليكم رجلا مني أو كنفسي فليضربن أعناق مقاتلهم و ليسبين ذراريهم. فرأى الناس أنه يعني أبا بكر أو عمر رضي الله عنهما فأخذ بيد علي رضي الله عنه فقال: هذا.
أقول: يعني (صلى الله عليه وآله وسلم) به الكفر.
و في تفسير العياشي، في حديث جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): «فإن تابوا» يعني فإن آمنوا فإخوانكم في الدين. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية قال: قال، اقرأ عليه و عرفه ثم لا تتعرض له حتى يرجع إلى مأمنه. و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن تفسير القشيري: أن رجلا قال لعلي يا ابن أبي طالب فمن أراد منا أن يلقي رسول الله في بعض الأمر من بعد انقضاء الأربعة فليس له عهد؟ قال علي: بلى لأن الله قال: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره» الآية. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم» الآية: أخرج ابن أبي شيبة و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن حذيفة رضي الله عنه: أنهم ذكروا عنده هذه الآية فقال: ما قوتل أهل هذه الآية بعد. و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و البخاري و ابن مردويه عن زيد بن وهب: في قوله: «فقاتلوا أئمة الكفر» قال: كنا عند حذيفة رضي الله عنه فقال: ما بقي من أصحاب هذه الآية إلا ثلاثة و لا من المنافقين إلا أربعة. فقال أعرابي: إنكم أصحاب محمد تخبروننا بأمور لا ندري ما هي؟ فما بال هؤلاء الذين يبقرون بيوتنا و يسرقون أعلاقنا؟ قال: أولئك الفساق، أجل لم يبق منهم إلا أربعة أحدهم شيخ كبير لو شرب الماء البارد لما وجد برده و في قرب الإسناد، للحميري: حدثني عبد الحميد و عبد الصمد بن محمد جميعا عن حنان بن سدير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: دخل علي أناس من أهل البصرة فسألوني عن طلحة و الزبير فقلت لهم: كانوا من أئمة الكفر أن عليا يوم البصرة لما صف الخيل قال لأصحابه لا تعجلوا على القوم حتى أعذر فيما بيني و بين الله و بينهم. فقام إليهم فقال: يا أهل البصرة هل تجدون علي جورا في حكم؟ قالوا: لا. قال: فحيفا في قسم؟ قالوا: لا. قال: فرغبه في دنيا أخذتها لي و لأهل بيتي دونكم فنقمتم علي فنكثتم بيعتي؟ قالوا: لا، قال فأقمت فيكم الحدود و عطلتها في غيركم؟ قالوا: لا. قال: فما بال بيعتي تنكث و بيعة غيري لا تنكث إني ضربت الأمر أنفه و عينه فلم أجد إلا الكفر أو السيف. ثم ثنى إلى أصحابه فقال إن الله تبارك و تعالى يقول في كتابه: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم و طعنوا في دينكم - فقاتلوا أئمة الكفر إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون» فقال أمير المؤمنين (عليه السلام): و الذي فلق الحبة و برأ النسمة و اصطفى محمدا بالنبوة إنهم لأصحاب هذه الآية و ما قوتلوا مذ نزلت: أقول: و رواه العياشي عن حنان بن سدير عنه (عليه السلام). و في أمالي المفيد، بإسناده عن أبي عثمان مؤذن بني قصي قال: سمعت علي بن أبي طالب (عليه السلام) حين خرج طلحة و الزبير على قتاله: عذرني الله من طلحة و الزبير، بايعاني طائعين غير مكرهين ثم نكثا بيعتي من غير حدث أحدثته ثم تلا هذه الآية: «و إن نكثوا أيمانهم من بعد عهدهم - و طعنوا في دينكم فقاتلوا أئمة الكفر - إنهم لا أيمان لهم لعلهم ينتهون:» أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن أبي عثمان المؤذن و أبي الطفيل و الحسن البصري: مثله، و رواه الشيخ في أماليه، عن أبي عثمان المؤذن. و في حديثه قال بكير: فسألت عنها أبا جعفر (عليه السلام) فقال: صدق الشيخ هكذا قال علي. هكذا كان. و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و البيهقي في الدلائل عن مروان بن الحكم و المسور بن مخرمة قال: كان في صلح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الحديبية بينه و بين قريش أن من شاء أن يدخل في عقد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده دخل فيه، و من شاء أن يدخل في عهد قريش و عقدهم دخل فيه فتواثبت خزاعة فقالوا: ندخل في عهد محمد و عقده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: ندخل في عقد قريش و عهدهم فمكثوا في تلك الهدنة نحو السبعة عشر أو الثمانية عشر شهرا. ثم إن بني بكر الذين كانوا دخلوا في عقد قريش و عهدهم وثبوا على خزاعة الذين دخلوا في عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عهده ليلا بماء لهم يقال له: الوتير قريب من مكة فقالت قريش ما يعلم بنا محمد و هذا الليل و ما يرانا أحد فأعانوهم عليهم بالكراع و السلاح فقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و ركب عمرو بن سالم عند ما كان من أمر خزاعة و بني بكر بالوتير حتى قدم المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأبيات أنشده إياها: يا رب إني ناشد محمدا. حلف أبينا و أبيه الأتلدا. قد كنتم ولدا و كنا والدا. ثمت أسلمنا فلم ننزع يدا. فانصر هداك الله نصرا أعتدا. و ادع عباد الله يأتوا مددا. فيهم رسول الله قد تجردا. إن سيم خسفا وجهه تربدا. في فيلق كالبحر يجري مزبدا. إن قريشا أخلفوك الموعدا. و نقضوا ميثاقك المؤكدا. و جعلوا لي في كداء رصدا. و زعموا أن لست أدعو أحدا. و هم أذل و أقل عددا. هم بيتونا بالوتير هجدا. و قتلونا ركعا و سجدا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): نصرت يا عمرو بن سالم فما برح حتى مرت غمامة في السماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن هذه السحابة لتشهد بنصر بني كعب، و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الناس بالجهاد و كتمهم مخرجه، و سأل الله أن يعمي على قريش خبره حتى يبغتهم في بلادهم.
أقول: أورد الرواية في الدر المنثور، بعد ما روي بطرق عن مجاهد و عكرمة أن قصة نقض قريش عهد الحديبية و إعانتهم بني بكر على خزاعة حلفاء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان هو السبب لنزول قوله تعالى: «أ لا تقاتلون قوما» إلى قوله: «و يشف صدور قوم مؤمنين» و هم خزاعة.
و لو كان الأمر على ما ذكروا كانت الآية: «أ لا تقاتلون قوما نكثوا أيمانهم» - إلى تمام ثلاث آيات بل أربع - على ما يعطيه السياق مما نزل قبل فتح مكة فتكون نازلة قبل آيات براءة لا محالة.
لكن القصة التي رواها ابن إسحاق و البيهقي على اعتبارها لمكان المسور بن مخرمة لا تصرح بنزول الآيات في ذلك، و ما رواها مجاهد و عكرمة لا اعتماد عليه لمكان الوقف و الانقطاع، و سياق الآيات لا يأبى نزولها مع ما تقدم عليها و اتصالها بها على ما لا يخفى.
و الذي ذكر فيها من قوله: «نكثوا أيمانهم و هموا بإخراج الرسول و هم بدءوكم أول مرة» و إن كان يشير إلى صفات قريش الخاصة بهم لكن من الجائز أن تكون الآية مشيرة إلى حلفاء قريش و جيرانهم ممن لم يؤمنوا بعد فتح مكة و هم لاتحادهم مع قريش و اتصالهم بهم وصفوا بما يوصف به قريش بالأصالة.
و اعلم أن هناك روايات متفرقة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) تطبق الآيات على ظهور المهدي (عليه السلام)، و هي من الجري.
كلام في معنى العهد و أقسامه و و هي من أحكامه
قدمنا في أوائل الجزء السادس من الكتاب كلاما في معنى العقد و العهد و نستأنف البيان هاهنا في معنى ما تقدم و ما يستتبعه من الأقسام و الأحكام بتقرير آخر في فصول: 1 - قد لاح لك من تضاعيف الأبحاث المتقدمة في هذا الكتاب أن الإنسان في مسير حياته لا يزال يصور أعماله و ما يتعلق به أعماله من المادة تصور الأمور الكونية و يمثلها بها و يجري بينها أحكام الأمور الكونية و آثارها من القوانين العامة الجارية في الكون بحسب ما يناسب أغراضه الحيوية كما أنه يأخذ مثلا أصواتا متفرقة هي الزاي و الياء و الدال، و يؤلفها بشكل مخصوص و يعمل لفظ «زيد» ثم يفترض أنه زيد الإنسان الخارجي فيسميه به ثم كلما أراد أن يحضر زيدا في ذهن مخاطبه ألقى إليه لفظ «زيد» فكان ممثلا لعين زيد عنده، و حصل بذلك غرضه.
و إذا أراد أن يدير أمرا لا يدور إلا بعمل عدة مؤتلفة من الناس اختار جماعة و افترضهم واحدا كالإنسان الواحد، و فرض واحدا منهم للباقين كما يفرض الرأس لبدن الإنسان و يسميه رئيسا، و فرض كلا من الباقين كما يفرض العضو من البدن ذي الأعضاء و يسميه عضوا ثم يرتب على الرأس أحكام الرأس الخارجي، و على العضو آثار العضو الخارجي و على هذا القياس.
و إلى هذا يئول جميع أفكار الإنسان الاجتماعية بلا واسطة أو بواسطة أو وسائط من التصورات و التصديقات إذا حللت تحليلا صحيحا كما تئول إليه أنظاره الفردية فيما يرتبط بأعماله و أفعاله.
الإنسان شديد الاهتمام بعقد العقود و تمثيل العهود و ما يرتبط بها من الحلف و اليمين و البيعة و نحو ذلك، و العامل الأولي في ذلك أن الإنسان لا هم له إلا التحفظ على حياته و الوصول إلى مزاياها و التمتع بالسعادة التي تستعقبها لو جرت على حقيقة مجراها.
فأي بغية من مبتغياته وجدها و سلط عليها أخذ في التمتع منها بما يناسبها من التمتع كالأكل و الشرب و غيرهما بما جهز به من أدوات التمتع، و دفع كل ما يمنعه من التمتع لو عرض هناك مانع عارض و رأى أنه إنما وفق لذلك في ضوء ما أوتيه من السلطة.
و قد أوتي الإنسان سلعة الفكر و بذلك يدبر أمر حياته و يصلح شأن معاشه فيعمل ليومه و يمهد لغده، و أعماله التي هي تصرفات منه في المادة أو عائدة إلى ذلك في عين أنها جميعا متوقفة على انبساط سلطته على الفعل و إحاطته بكل ما يتعلق به عمله، مختلفة في أن بعضها يتم بالسلطة المقصورة على الفعل مقدار زمانه كمن صادف غذاء و هو جوعان فتناوله فأكله، فإنه لا يتوقف على سلطة أوسع من زمان العمل، و لا على تمهيد و تقدمة.
و بعضها - و هو جل الأعمال الإنسانية الاجتماعية - يتوقف على سلطة وسيعة تنبسط على العمل في وقته و على زمان قبله فقط أو على زمان قبله و بعده، لحاجته إلى مقدمات يمهدها له، و تدبير سابق يقدمه لوجوده، فما كل عمل يعمله الإنسان بصدفة، بل جل الأمور الحيوية من شأنها أن يتهيأ الإنسان له قبل أوانه.
و من التهيؤ له أن يتهيأ لجمع أسبابه و نظم الوسائل التي يتوسل بها إليه و أن يتهيأ لرفع موانعه التي من شأنها أن تزاحمه في وجوده و عند حصوله، فالإنسان لا يوفق لعمل و لا ينجح في مسعاه إلا إذا كان في أمن من أن تفوته الأسباب أو تعارضه الموانع و المزاحمات.
و التنبه لهذه الحقيقة هو الذي بعث الإنسان إلى أن يأخذ أمنا من رقبائه في الحياة: أن يعينوه فيما يحتاج من الأمور إلى معين مشارك، أو أن لا يمانعوه من العمل فيما يتوقف إلى ارتفاع الموانع و زوالها.
فالإنسان و هو يريد أن يتخذ لباسا يلبسه من مادة بسيطة كالقطن أو الصوف، و الأمر متوقف على أعمال كثيرة يعملها الغزال و النساج و الخياط و من يصنع لهم أدوات الغزل و النسج و الخياطة، لا يتم له ما يريده من اتخاذ اللباس و لا ينجح سعيه إلا إذا كان في أمن من ناحية هؤلاء الرقباء: أن يعملوا على ما يريده و لا يخلوه وحده فيخيب سعيه و يخسر في عمله.
و كذا الإنسان القاطن في أرض أو الساكن في دار لا يتم له سكناه إلا مع الأمن من ممانعة الناس و مزاحمتهم له في سكناه و التصرف فيه بما يصلح به لذلك.
و هذا هو الذي هدى الإنسان إلى اعتبار العقد و إبرام العهد، فهو يأخذ ما يريده من العمل و يربطه بما يعينه عليه من عمل غيره و يعقدهما: يمثل به عقد الحبال الذي يفيد اتصال بعض أجزائها ببعض و عدم تخلف بعضها عن بعض، و مثله العهد الذي يعهده إليه غيره أن يساعده في ما يريده من الأمر أو أن لا يمانعه في ذلك.
و إلى ذلك يئول أمر عامة العقود لعقد النكاح و عقد البيع و الشرى و عقد الإجارة، و يصدق عليها العهد بمعناها العام و هو أن يعطي الإنسان لغيره قولا أو كتابا أن يعينه على كذا أو أن لا يمنعه من كذا إلى أجل مضروب أو لا إلى أجل.
و الكلام في المقام في العهد الذي لم يختص باسم خاص كعقد البيع و النكاح و غيرهما من عقود المعاملات فهي خارجة من غرضنا و لها في المجتمعات الإنسانية أحكام خاصة و آثار و خواص مخصوصة بل الكلام في العهد بمعنى ما يعقده الإنسان لغيره من الإعانة أو عدم الممانعة في متفرقات المقاصد الاجتماعية، و ما يجعله لذلك من الآثار كمن يعاهد غيره أن يعطيه كل سنة كذا مالا ليستعين به على حوائجه، و يأخذ منه كذا مالا أو نفعا، أو يعاهده أن لا يزاحمه في عمله أو لا يمانعه في مسيره إلى أجل كذا أو لا إلى أجل، و هو نوع إحكام و إبرام لا ينتقض إلا بنقض أحد الطرفين أو بنقضهما معا.
و ربما زيد على إحكام العهد بالحلف و هو أن يقيد المعاهد ما يعطيه من العهد و يربطه بأمر عظيم شأنه يقدسه و يحترمه كأنه يجعل ما له من الحرمة و العزة رهنا يرهن به عهده يمثل به أنه لو نقضه فقد أذهب حرمته يقول المعاهد: و الله لا أخوننك، و لعمري لأساعدنك، و أقسم لأنصرنك، يمثل به أنه لو أخلف وعده و نقض عهده فقد أبطل حرمة ربه، أو حرمة عمره أو حرمة قسمه فلا مروة له.
و ربما أبرم العهد و الميثاق بالبيعة و الصفقة يضع المعاهد يده في يد معاهده يمثل به أنه أعطاه يده التي بها يفعل ما يفعل فلا يفعل ما يكره معاهده لأن يده قبضة يده.
2 - العهود و المواثيق كما تمسها حياة الإنسان الذي هو فرد المجتمع كذلك تمسها حياة المجتمع فليس المجتمع إلا المجتمع من أفراد الإنسان، حياته مجموع حياة أجزائه، و أعماله الحيوية مجموع أعمال أجزائه و له من الخير و الشر و النفع و الضر و الصحة و السقم و النشوء و الرشد و الاستقامة و الانحراف و السعادة و الشقاوة و البقاء و الزوال مجموع ما لأجزائه من ذلك.
فالمجتمع إنسان كبير له من مقاصد الحياة ما للإنسان الصغير، و نسبة المجتمع إلى المجتمع تقرب من نسبة الإنسان الفرد إلى الإنسان الفرد فهو يحتاج في ركوب مقاصده و إتيان أعماله من الأمن و السلامة إلى مثل ما يحتاج إليه الإنسان الفرد بل الحاجة فيه أشد و أقوى لأن العمل يعظم بعظمة فاعله و عظمة غرضه، و المجتمع في حاجة إلى الأمن و السلام من قبل أجزائه لئلا يتلاشى و يتفرق، و إلى الأمن و السلام من قبل رقبائه من سائر المجتمعات.
و على هذا جرى ديدن المجتمعات الإنسانية على ما بأيدينا من تاريخ الأمم و الأقوام الماضية، و ما نسمعه أو نشاهده من الملل الحاضرة فلم يزل و لا يزال المجتمع من المجتمعات الإنسانية في حاجة قائمة إلى أن يعاهد غيره في بعض شئون حياته السياسية و الاقتصادية أو الثقافية أو غيرها، فلا يصفو الجو للإقدام على شيء من مقاصد الحياة أو التقدم في شيء من مآربها إلا بالاعتضاد بالأعضاد و الأمن من معارضة الموانع.
3 - الإسلام بما أنه متعرض لأمر المجتمع كالفرد، و يهتم بإصلاح حياة الناس العامة كاهتمامه بإصلاح حياة الفرد الخاصة قنن فيه كليات ما يرجع إلى شئون الحياة الاجتماعية كالجهاد و الدفاع و مقاتلة أهل البغي و النكث و الصلح و السلم و العهود و المواثيق و غير ذلك.
و العهد الذي نتكلم فيه قد اعتبره اعتبارا تاما و أحكمه إحكاما يعد نقضه من طرف أهله من أكبر الإثم إلا أن ينقضه المعاهد الآخر فيقابل بالمثل فإن الله سبحانه أمر بالوفاء بالعهود و العقود، و ذم نقض العهود و المواثيق ذما بالغا في آيات كثيرة جدا قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود:» المائدة: - 1، و قال: «و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه - إلى أن قال - أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار:» الرعد: - 25، و قال: «و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا:» إسراء: - 34 إلى غير ذلك.
و لم يبح نقض العهود و المواثيق إلا فيما يبيحه حق العدل و هو أن ينقضه المعاهد المقابل نقضا بالبغي و العتو أو لا يؤمن نقضه لسقوطه عن درجة الاعتبار، و هذا مما لا اعتراض فيه لمعترض و لا لوم للائم، قال تعالى: «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين:» الأنفال: - 58 فأجاز نقض العهد عند خوف الخيانة و لم يرض بالنقض من غير إخبارهم به و اغتيالهم و هم غافلون دون أن قال: «فانبذ إليهم على سواء» فأوجب أن يخبروهم بالنقض المتقابل احترازا من رذيلة الخيانة.
و قال: «براءة من الله و رسوله إلى الذين عاهدتم من المشركين فسيحوا في الأرض أربعة أشهر:» براءة: - 2 فلم يرض بالبراءة دون أن وسع عليهم أربعة أشهر حتى يكونوا على مهل من التفكر في أمرهم و التروي في شأنهم فيروا رأيهم على حرية من الفكر فإن شاءوا آمنوا و نجوا و إن لم يشاءوا قتلوا و فنوا، و قد كان من حسن أثر هذا التأجيل أن آمنوا فلم يفنوا.
و قد تمم سبحانه هذه الفائدة أحسن إتمام بقوله بعد إعلام البراءة: «و إن أحد من المشركين استجارك فأجره حتى يسمع كلام الله ثم أبلغه مأمنه ذلك بأنهم قوم لا يعلمون:» التوبة: - 6.
و قال مستثنيا الموفين بعهدهم من المشركين: «كيف يكون للمشركين عهد عند الله و عند رسوله إلا الذين عاهدتم عند المسجد الحرام فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب المتقين، كيف و إن يظهروا عليكم لا يرقبوا فيكم إلا و لا ذمة يرضونكم بأفواههم و تأبى قلوبهم و أكثرهم فاسقون:» التوبة: - 8 و قد علل الاستقامة لمن استقام بأنه من التقوى - ذاك التقوى الذي لا دعوة في الدين إلا إليه - و إن الله يحب المتقين، و هذا تعليل حي إلى يوم القيامة.
و قال تعالى: «فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم:» البقرة: - 194 و قال: «و لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان:» المائدة: - 2.
و أما النقض الابتدائي من غير نقض من العدو المعاهد فلا مجوز له في هذا الدين الحنيف أصلا، و قد تقدم قوله تعالى: «فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم» الآية و قال: «و لا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين:» البقرة: - 190.
و على ذلك جرى عمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أيام حياته فقد عاهد بني قينقاع و بني قريظة و غيرهم من اليهود و لم ينقض إلا بعد ما نقضوا، و عاهد قريشا في الحديبية و لم ينقض حتى نقضوا بإظهار بني بكر على خزاعة و قد كانت خزاعة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و بنو بكر في عهد قريش.
و أما النقض من غير نقض فلا مبيح له في الإسلام و إن كان الوفاء مما يفوت على المسلمين بعض منافعهم، و يجلب إليهم بعض الضرر و هم على قدرة من حفظ منافعهم بالبأس و القوة أو أمكنهم الاعتذار ببعض ما تصور لهم الحجة ظاهرا و تصرف عنهم اللوم و العذل فإن مدار الأمر على الحق، و الحق لا يستعقب شرا و لا ضرا إلا على من انحرف عنه و آوى إلى غيره.
4 - المجتمعات الإنسانية سيما الراقية المتمدنة منها غير المجتمع الديني لا هدف لاجتماعهم و لا غرض لسننهم الجارية إلا التمتع من مزايا الحياة المادية ما قدروا عليه فلا موجب لهم للتحفظ على شيء أزيد مما بأيديهم من القوانين العملية الناظمة لشتات مقاصدهم الحيوية.
و من الضروري أن الظرف الذي هذا شأنه لا قيمة فيها للمعنويات إلا بمقدار ما يوافق المقاصد الحيوية المادية فالفضائل و الرذائل المعنوية كالصدق و الفتوة و المروة و نشر الرحمة و الرأفة و الإحسان و أمثال ذلك لا اعتبار لها إلا بمقدار ما درت بها منافع المجتمع، و لم يتضرروا بها لو لم تعتبر، و أما فيما ينافي منافع القوم فلا موجب للعمل بها بل الموجب لخلافها.
و لذلك ترى المؤتمرات الرسمية و أولياء الأمور في المجتمعات لا يرون لأنفسهم وظيفة إلا التحفظ على منافع المجتمع الحيوية، و ما يعقد فيها من العهود و المواثيق إنما يعقد على حسب مصلحة الوقت، و يوزن بزنة ما عليه الدولة المعاهدة من القوة و العدة، و ما عليه المعاهد المقابل من القوة و العدة في نفسه و بما يضاف إليه من سائر المقتضيات المنضمة إليه المعينة له.
فما كان التوازن على حالة التعادل كان العهد على حاله، و إذا مالت كفة الميزان للدولة المعاهدة على خصمه أبطلت اعتبار العهد بأعذار مصطنعة و اتهامات مفتعلة للتوسل إلى نقضه، و إنما يراد بتقديم الأعذار أن يتحفظ على ظاهر القوانين العالمية التي لا عقبى لنقضها و التخلف عنها إلا ما يهدد حياة المجتمع أو بعض منافع حياتهم، و لو لا ذلك لم يكن ما يمنع النقض و لو من غير عذر إذا اقتضته منافع المجتمع القوى الحيوية.
و أما الكذب أو الخيانة أو التعدي لما يتخذه الغير منافع لنفسه فليس مما يمنع مجتمعا من المجتمعات من حيازة ما يراه نافعا لشأنه إذ الأخلاق و المعنويات لا أصالة لها عندهم و إنما تعتبر على حسب ما تقدره غاية المجتمع و غرضه الحيوي و هو التمتع من الحياة.
و أنت إذا تتبعت الحوادث العامة بين المجتمعات سابقها و لاحقها و خاصة الحوادث العالمية الجارية في هذا العصر الأخير عثرت على شيء كثير من العهود الموثقة و نقوضها على ما وصفناه.
و أما الإسلام فلم يعد حياة الإنسان المادية حياة له حقيقية، و لا التمتع من مزاياها سعادة له واقعية، و إنما يرى حياته الحقيقية حياته الجامعة بين المادة و المعنى، و سعادته الحقيقية اللازم إحرازها ما يسعده في دنياه و أخراه.
و يستوجب ذلك أن يبنى قوانين الحياة على الفطرة و الخلقة دون ما يعده الإنسان صالحا لحال نفسه، و يؤسس دعوته الحقة على اتباع الحق و الاهتداء به دون اتباع الهوى و الاقتداء بما يميل إليه الأكثرية بعواطفهم و إحساساتهم الباطنة قال تعالى: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: - 30 و قال: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون:» التوبة: - 33، و قال: «بل أتيناهم بالحق:» المؤمنون: - 90، و قال: «و لو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات و الأرض و من فيهن:» المؤمنون: - 71.
و من لوازم ذلك أن يراعى حق الاعتقاد و فضيلة الخلق و صالح العمل جميعا فلا غنى للمادة عن المعنى و لا غنى للمعنى عن المادة فمن الواجب رعاية جانب الفضائل الإنسانية نفعت أو ضرت و التجنب عن الرذائل نفعت أو ضرت لأن ذلك من اتباع الحق، و حاشا أن يضر إلا من انحرف عن ميزانه و تخطى ما يخط له الحق.
و من هنا ما نرى أن الله سبحانه ينقض عهد المشركين لنقضهم عهده و يستعمل الرحمة بإمهالهم أربعة أشهر، و يأمر بالاستقامة لمن استقام في عهده من المشركين و قد استذلهم الحوادث يومئذ و ضعفوا دون شوكة الإسلام، و كذا يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إن خاف من قوم خيانة أن ينقض عهدهم لكن يأمره بإعلامهم ذلك و يعلله بأنه لا يحب الخيانة.
كلام في نسبة الأعمال إلى الأسباب طولا
تقدم في مواضع من هذا الكتاب أن الذي تنتجه الأبحاث العقلية أن الحوادث كما أن لها نسبة إلى أسبابها القريبة المتصلة بها كذلك لها نسبة إلى أسبابها القصوى التي هي أسباب لهذه الأسباب فالحوادث أفعال لها في عين أنها من أفعال أسبابها القريبة المباشرة للعمل فإن الفعل كالحركة مثلا يتوقف على فاعله المحرك و يتوقف على محرك محركه بعين ما يتوقف على محركه، نظير العجلة المحركة للأخرى المحركة لثالثة و ليست من الحركة بالعرض.
فللفعل نسبة إلى فاعله، و له انتساب إلى فاعل فاعله بعين هذه النسبة التي إلى فاعله لا بنسبة أخرى منفصلة عنها مستقلة بنفسها غير أنه إذا انتسب إلى فاعل الفاعل عاد الفاعل القريب بمنزلة الإله بالنسبة إلى فاعل الفاعل أي واسطة محضة لا استقلال لها في العمل بمعنى أنه لا يستغني في تأثيره عن فاعل الفاعل إذ فرض عدمه يساوق انعدام الفاعل و انعدام أثره.
و ليس من شرط الواسطة أن تكون غير ذات شعور بفعلها أو غير مختارة فإن الشعور الذي يؤثر به الفاعل الشاعر في فعله لم يوجده هو لنفسه و إنما أوجده فيه فاعله الذي أوجد الفاعل و شعوره، و كذلك الاختيار لم يوجده الفاعل المختار لنفسه و إنما أوجده الفاعل الذي أوجد الفاعل المختار، و كما يتوقف الفعل في غير موارد الشعور و الاختيار إلى فاعله، و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله، كذلك يتوقف الفعل الشعوري و الفعل الاختياري إلى فاعله و يتوقف بعين هذا التوقف إلى فاعل فاعله الذي أوجد لفاعله الشعور و الاختيار.
ففاعل الفاعل الشاعر أو المختار أراد من الفاعل الشاعر أو المختار أن يفعل من طريق شعوره فعلا كذا أو يفعل باختياره فعلا اختياريا كذا فقد أريد الفعل من طريق الاختيار لأنه أريد الفعل و أهمل الاختيار الذي ظهر به فاعله فافهم ذلك فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و على هذه الحقيقة يجري الناس بحسب فهمهم الغريزي فينسبون الفعل إلى السبب البعيد كما ينسبونه إلى السبب القريب المباشر بما أنه أثر مترشح منه يقال: بنى فلان دارا، و حفر بئرا و إنما باشر ذلك البناء و الحفار، و يقال: جلد الأمير فلانا، و قتل فلانا، و أسر فلانا، و حارب قوما كذا، و إنما باشر الجلد جلاده، و القتل سيافه، و الأسر جلاوزته، و المحاربة جنده، و يقال، أحرق فلان ثوب فلان، و إنما أحرقه النار، و شفى فلان مريضا كذا و إنما شفاه الدواء الذي ناوله و أمره بشربه و استعماله.
ففي جميع ذلك يعتبر أمر الآمر أو توسل المتوسل تأثيرا منه في الفاعل القريب ثم ينسب الفعل المنسوب إلى الفاعل القريب إلى الفاعل البعيد، و ليس أصل النسبة إلا نسبة حقيقة من غير مجاز قطعا.
و من قال من علماء الأدب و غيرهم إن ذلك كله من المجاز في الكلمة لصحة سلب الفعل عن الفاعل البعيد فإن مالك البناء لم يضع لبنة على لبنة و إنما هو شأن البناء الذي باشر العمل! إنما أراد الفعل بخصوصية صدوره عن الفعل المباشر و من المسلم أن المباشرة إنما هو شأن الفاعل القريب، و لا كلام لنا فيه، و إنما الكلام فيما يتصور له من الوجود المتوقف إلى فاعل موجد، و هذا المعنى كما يقوم بالفاعل المباشر كذلك يقوم بعين هذا القيام بفاعل الفاعل.
و اعتبار هذه النكتة هو الذي أوجب لهم أن يميزوا بين الأعمال و ينسبوا بعضها إلى الفاعل القريب و البعيد معا، و لا ينسبوا بعضها إلا إلى الفاعل القريب المباشر للعمل فما كان منها يكشف بمفهومه عن خصوصيات المباشرة و الاتصال بالعمل كالأكل بمعنى الالتقام و البلع و الشرب بمعنى المص و التجرع و القعود بمعنى الجلوس و نحو ذلك لم ينسب إلا إلى الفاعل المباشر فإذا أمر السيد خادمه أن يأكل غذاء كذا و يشرب شرابا كذا و يقعد على كرسي كذا، قيل: أكل الخادم و شرب و قعد و لا يقال: أكله سيده و شربه و قعد عليه، و إنما يقال: تصرف في كذا إذا استعمل كذا أو أنفق كذا و نحو ذلك لما ذكرناه.
و أما الأعمال التي لا تعتبر فيها خصوصيات المباشرة و الحركات المادية التي تقوم بالفاعل المباشر للحركة كالقتل و الأسر و الإحياء و الإماتة و الإعطاء و الإحسان و الإكرام و نظائر ذلك فإنها تنسب إلى الفاعل القريب و البعيد على السوية بل ربما كانت نسبتها إلى الفاعل البعيد أقوى منها إلى الفاعل القريب كما إذا كان الفاعل البعيد أقوى وجودا و أشد سلطة و إحاطة.
فهذا ما ينتجه البحث العقلي و يجري عليه الإنسان بفهمه الغريزي، و القرآن الكريم يصدق ذلك أوضح تصديق كقوله تعالى في الآيات السابقة: «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم و يخزهم و ينصركم عليهم و يشف صدور قوم مؤمنين و يذهب غيظ قلوبهم» الآيتان.
حيث نسب التعذيب الذي تباشره أيدي المؤمنين إلى نفسه بجعل أيديهم بمنزلة الآلة.
و نظيره قوله تعالى: «و الله خلقكم و ما تعملون:» الصافات: - 96 فإن المراد بما تعملون إما الأصنام التي كانوا يعملونها من الحجارة أو الأخشاب أو الفلزات فإنما أريد به المادة بما عليها من عمل الإنسان ففيه نسبة الخلق إلى الأعمال كنسبته إلى فواعلها، و أما نفس الأعمال فالأمر أوضح.
و يقرب من ذلك قوله تعالى: «و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون:» الزخرف - 12، ففيه نسبة الخلق إلى الفلك و الفلك بما هي من عمل الإنسان.
هذا فيما نسب فيه الخلق إلى الأعمال الصادرة عن الشعور و الإرادة، و أما الأفعال التي لا تتوقف في صدورها على شعور و إرادة كالأفعال الطبيعية فقد ورد نسبتها إلى الله سبحانه في آيات كثيرة جدا لا حاجة إلى إحصائها كإحياء الأرض و إنبات النبات و إخراج الحب و إمطار السماء و إجراء الأنهار و تسيير الفلك التي تجري في البحر بأمره إلى غير ذلك.
و لا منافاة في جميع هذه الموارد بين انتساب الأمر إليه تعالى و انتسابه إلى غيره من الأسباب و العلل الطبيعية و غيرها إذ ليست النسبة عرضية تزاحم إحدى النسبتين الأخرى بل هي طولية لا محذور في تعلقها بأزيد من طرف واحد.
و قد تقدم في مطاوي أبحاثنا السابقة دفع ما اشتبه على الماديين من إسناد الحوادث العامة كالسيول و الزلازل و الجدب و الوباء و الطاعون إلى الله سبحانه مع الحصول على أسبابها الطبيعية اليوم حيث خلطوا بين العلل و الأسباب العرضية و الطولية، و حسبوا أن استنادها إلى عللها الطبيعية يبطل ما أثبته الكتاب العزيز و أذعن به الإلهيون من استنادها إلى مسبب الأسباب الذي إليه يرجع الأمر كله.
و للأشاعرة و المعتزلة بحث غريب في الآية السابقة: «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم» و ما يناظرها من الآيات، أورده الرازي في تفسيره نورده ملخصا.
قال: استدلت الأشاعرة بقوله تعالى: «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم» الآية على أن أفعال العباد مخلوقة لله، و أن الناس مجبرون في أفعالهم غير مختارين فإن الله سبحانه يخبر فيها أنه هو الذي يعذب المشركين بقتل بعضهم و جرح آخرين بأيدي المؤمنين و يدل ذلك على أن أيدي المؤمنين كسيوفهم و رماحهم آلات محضة لا تأثير لها أصلا و إنما الفعل لله سبحانه، و أن الكسب الذي يعد مناطا للتكليف اسم لا مسمى له.
و هذه الآية أقوى دلالة على المطلوب من دلالة مثل قوله تعالى: «و ما رميت إذ رميت و لكن الله رمى» إذ فيه إثبات الرمي على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - و إن كان مع ذلك نفي عنه - و إثبات لإسناده إلى الله سبحانه لكن الآية أعني قوله: «قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم» إثبات للتعذيب على الله سبحانه و جعل أيدي المؤمنين التي لهم آلات في الفعل لا تأثير لها و فيها أصلا.
و أجاب عنه الجبائي من المعتزلة: بأنه لو جاز أن يقال: إن الله يعذب الكافرين بأيدي المؤمنين بحقيقة ما ادعي له من المعنى لجاز أن يقال: إنه يعذب المؤمنين بأيدي الكافرين، و أنه تعالى يكذب أنبياءه بألسنتهم، و يلعن المؤمنين و يسبهم بأفواههم لأنه تعالى خالق لذلك كله، و إذ لم يجز ذلك علمنا أنه تعالى لم يخلق أعمال العباد، و إنما أعمالهم خلق أنفسهم.
و بذلك يعلم أن إسناد التعذيب في الآية إليه تعالى بنوع من التوسع لأنه إنما تحقق عن أمره و لطفه كما أنه تعالى ينسب جميع الطاعات و الحسنات إلى نفسه لتحققها عن أمره و توفيقه.
و أجاب عنه الرازي بأن أصحابنا يلتزمون جميع ما ألزم به الجبائي و أصحابه من لزوم إسناد القبائح إليه تعالى و يعتقدون به لبا و إن كانوا لا ينطقون به لسانا أدبا مع الله سبحانه، انتهى ملخصا.
و الأبحاث التي قدمناها في هذا الكتاب حول هذه المعاني تكفي لإيضاح الحق و إنارته في هذا المقام، و الكشف عما وقع فيه الفريقان جميعا.
أما ما ذكرته الأشاعرة و التزموا به فإنما أوقعهم في ذلك ما ذهبوا إليه من نفي رابطة العلية و المعلولية من بين الأشياء و قصرها فيما بينه تعالى و بين خلقه عامة فلا سبب في الوجود لا استقلالا و لا بالوساطة غيره تعالى، و أما رابطة السببية التي بين الأشياء أنفسها فإنما هي سببية بالاسم فقط لا بالحقيقة، و إنما هي العادة الإلهية جرت بإيجاد ما نسميها مسببات عقيب ما نسميها أسبابا فما بينها و بينه تعالى سببية حقيقية، و ما بينها أنفسها يعود إلى الاتفاق الدائم أو الأكثري.
و لازم ذلك إبطال العلية و السببية من أصلها، و ببطلانها يبطل ما أثبتوه من انحصار السببية فيه تعالى إذ لو جاز أن يكون نسبة كل شيء إلى كل شيء نسبة واحدة من غير اختلاف بالتأثير و التأثر لم يبق للإنسان ما يتنبه به لأصل معنى السببية فلا سبيل له إلى إثبات سببيته تعالى لكل شيء.
على أن الإنسان يترقب حوادث من حوادث أخرى، و يقطع بالنتائج عن مقدماتها و يبني حياته على التعليم و التربية، و على تقديم الأسباب طمعا في مسبباتها سواء اعترف بالصانع أو لم يعترف، و لا يتم له شيء من ذلك إلا عن إذعان فطري بأصل العلية و المعلولية، و لو أجازت الفطرة الإنسانية بطلان ذلك و جريان الحوادث على مجرد الاتفاق اختل نظام حياته ببطلان سعيه الفكري و العملي، و انسد طريق إثبات سبب ما فوق طبيعة الحوادث.
على أن الكتاب العزيز يجري في بياناته على تصديق أصل العلية و المعلولية، و ينسب كل حسنة إليه تعالى و ينفي استناد السيئات و المعاصي إليه و يسميه بكل اسم أحسن و يصفه بكل وصف جميل، و ينفي عنه كل هزل و عبث و لغو و لهو و جزاف، و لا يتم شيء من ذلك إلا على أصل العلية و المعلولية، و قد تقدم في الأبحاث السابقة ما يتبين به ذلك كله.
و قد ذهب طائفة من الماديين و خاصة أصحاب المادية المتحولة إلى عين ما ذهب إليه الأشاعرة من ثبوت الجبر و نفي الاختيار عن الأفعال الإنسانية، و إنما الفارق بين قولي الطائفتين هو أن الأشاعرة بنوا ذلك على سببية الواجب تعالى المنحصرة و استنتجوا من ذلك بطلان السببية الاختيارية و انتفاءها عن الإنسان، و الماديون بنوه على معلولية الأفعال الإنسانية لمجموع الحوادث المحتفة بالفعل التي هي علة حدوثه، و لا معنى للعلية إلا بالإيجاب، فالإنسان موجب في فعله مجبر عليه.
و قد فات منهم أن الذي نسبة المعلول إليه بالإيجاب إنما هو العلة التامة، و هي مجموع الحوادث المتقدمة على المعلول التي لا يتوقف هو في وجوده على شيء وراءها، و بوجودها جميعا لا يبقى له إلا أن يوجد، و أما بعض أجزاء العلة التامة فإنما نسبة المعلول إليه بالإمكان لا بالوجوب لتوقف وجوده على أشياء أخر وراءه فلا يتحقق بوجود الجزء المفروض جميع ما يتوقف عليه وجوده حتى يعود واجبا وجوده.
و الأفعال الإنسانية يتوقف في وجودها على الإنسان و إرادته و على أمور غير محصورة أخرى من المادة و الشرائط الزمانية و المكانية فهي إذا نسب إليها جميعا كانت النسبة الحاصلة نسبة الوجوب و الضرورة، و أما إذا نسبت إلى الإنسان وحده أو إلى الإنسان المريد فقد نسبت إلى جزء العلة التامة و عادت النسبة إلى الإمكان دون الوجوب، فالأفعال الإرادية الإنسانية اختيارية أي أنه يمكنه أن يفعل و أن لا يفعل فإن فعل فبمشيته و إرادته، و إن لم يفعل فلم يختره و لم يرده و إنما اختار و أراد شيئا آخر، لكنها لا تقع في الخارج إلا واجبة لاستنادها حينئذ إلى جميع أجزاء عللها.
فهؤلاء خلطوا في كلامهم بين النسبتين فوضعوا النسبة الوجوبية التي للفعل إلى مجموع أجزاء علتها التامة موضع النسبة الإمكانية التي للفعل إلى بعض أجزاء علته التامة و هي التي تسمى في الإنسان بالاختيار على نحو من العناية.
و أما ما ذكره المعتزلة أنه لو جاز كونه تعالى هو الفاعل للفعل الذي أتى به المؤمنون و هو التعذيب، و ليس لهم إلا مقام الآلية المحضة من غير تأثير لجاز إسناد تعذيب الكفار للمؤمنين و تكذيبهم للأنبياء و لعنهم المؤمنين أيضا إليه، و هو باطل قطعا فأفعال العباد مخلوقة لهم لا صنع لله تعالى فيها.
ففيه أن الملازمة حقة لكن بطلان التالي لا يستلزم كون الأفعال مخلوقة لهم لا نسبة لها إلى الله سبحانه أصلا لجواز كونها منسوبة إليه تعالى بعين ما ينتسب به إليهم فإنهم فاعلون لها و هو فاعل الفاعلين فينتسب إليهم بالصدور عن الفاعل المباشر، و ينتسب إليه بالصدور عن الفاعل الذي هو فاعله و النسبتان في الحقيقة نسبة واحدة مختلفة بالقرب و البعد و انتفاء الواسطة و ثبوتها، و لا يستلزم ذلك اجتماع فاعلين مستقلين على فعل واحد لكونهما طوليين لا عرضيين.
فإن قلت: فيبقى محذور استناد الحسنات و السيئات و الإيمان و الكفر إليه تعالى في محله.
قلت: كلا و إنما ينتسب إليه أصل وجودها، و أما عنوان الفعل الذي يشير إلى جهة قيام الحركة و السكون بالموضوع المتحرك كالنكاح و الزنا و الأكل المحرم و المحلل فإنما ينسب إلى الإنسان لكونه هو الموضوع المادي الذي يتحرك بهذه الحركات: و أما الذي يوجد هذا المتحرك الذي من جملة آثاره حركته و ليس بنفسه متحركا بها و إنما يوجدها إيجادا إذا تمت شرائطها و أسبابها فلا يتصف بأنواع هذه الحركات حتى يتصف بفعل النكاح أو الزنا أو أي فعل قائم بالإنسان.
نعم هناك عناوين عامة لا تستتبع معنى الحركة و المادة، لا مانع من إسنادها إلى الإنسان و إليه سبحانه إذا لم يستلزم محذورا كالهداية و الإضلال إذا لم يكن إضلالا ابتدائيا، و كالتعذيب و الابتلاء، فقتل المؤمن للكافر تعذيب إلهي للكافر، و قتل الكافر للمؤمن بلاء حسن للمؤمن يستوجب به أجرا حسنا عند الله، و على هذا القياس.
على أن الذي ذهب إليه المعتزلة يوقعهم فيما وقعت فيه الأشاعرة و هو انسداد طريق إثبات الصانع عليهم فإنه لو جاز أن يوجد في العالم حادث من الحوادث عن سبب له و ينقطع عما وراء سببه ذلك انقطاعا تاما لا تأثير له فيه جاز في كل ما فرض من الحوادث أن يستند إلى ما يليه من غير أن يرتبط بشيء آخر وراءه، و من الجائز أن يفنى الفاعل و يبقى أثره فمن الجائز أن يستند كل ما فرض معلولا إلى فاعل له غير واجب الوجود و من الجائز أن يستند كل عالم مفروض إلى عالم قبله هو فاعله و قد فنى قبله على ما هو المشهود من حوادث هذا العالم المولد بعضها بعضا: و المتولد بعضها من بعض، و لا يلزم محذور التسلسل لعدم تحقق سلسلة ذات أجزاء في وقت من الأوقات إلا في الذهن.
و في كلامهم مفاسد كثيرة أخرى مبينة في المحل المربوط به، و قد تقدم في الكلام على نسبة الخلق إليه تعالى في الجزء السابع من الكتاب ما ينفع في هذا المقام.
و كيف يسع لمسلم موحد أن يثبت مع الله سبحانه خالقا آخر بحقيقة معنى الخلق و الإيجاد و قد قال الله سبحانه: «ذلكم الله ربكم خالق كل شيء لا إله إلا هو»: المؤمن: - 62 و قد كرر ذلك في كلامه، و ليس في تجاهه إلا نسبة أفعال الإنسان إليه من غير قطع رابطتها إليه تعالى بل مع إثبات النسبة بدليل آيات القدر و دلالة العقل على أن لفعل الفاعل نسبة إلى فاعل فاعله بحسب ما يليق بساحته.
فالحق أن للأفعال الإنسانية نسبة إلى فواعلها بالمباشرة، و نسبة إليه تعالى بما يليق بساحة قدسه، قال تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا: إسراء: - 20.
|