بيان
تشير الآيات إلى قصة غزوة حنين و تمتن بما نصر الله فيه المؤمنين كسائر المواطن من الغزوات التي نصرهم الله بعجيب نصرته على ضعفهم و قلتهم، و أظهر أعاجيب آياته بتأييد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنزال جنود لم يروها و إنزال السكينة على رسوله و المؤمنين و تعذيب الكافرين بأيدي المؤمنين.
و فيها الآية التي تحرم على المشركين أن يدخلوا المسجد الحرام بعد عام تسع من الهجرة، و هي العام الذي أذن فيه علي (عليه السلام) ببراءة، و منع طواف البيت عريانا، و دخول المشركين في المسجد الحرام.
قوله تعالى: «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة و يوم حنين - إلى قوله - ثم وليتم مدبرين» المواطن جمع موطن و هو الموضع الذي يسكنه الإنسان و يتوطن فيه.
و حنين اسم واد بين مكة و الطائف وقع فيه غزوة حنين قاتل فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هوازن و ثقيف و كان يوما شديدا على المسلمين انهزموا أولا ثم أيدهم الله بنصره فغلبوا.
و الإعجاب الإسرار و العجب سرور النفس بما يشاهده نادرا، و الرحب السعة في المكان و ضده الضيق.
و قوله: «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة» ذكر لنصرته تعالى لهم في مواطن كثيرة و مواضع متعددة يدل السياق على أنها مواطن الحروب كوقائع بدر و أحد و الخندق و خيبر و غيرها، و يدل السياق أيضا أن الجملة كالمقدمة الممهدة لقوله: «و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم» الآية فإن الآيات الثلاث مسوقة لتذكير قصة وقعة حنين، و عجيب ما أفاض الله عليهم من نصرته و خصهم به من تأييده فيها.
و قد استظهر بعض المفسرين كون الآية و ما يتلوها إلى تمام الآيات الثلاث تتمة لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمره ربه أن يواجه به المؤمنين في قوله: «قل إن كان آباؤكم» الآية و تكلف في توجيه الفصل الذي في قوله: «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة».
و لا دليل من جهة اللفظ على ذلك بل الدليل على خلافه فإن قصة حنين و ما يشتمل عليه من الامتنان بنصر الله و إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الكافرين و التوبة على من يشاء أمر مستقل في نفسه ذو أهمية في ذاته و هو أهم هدفا من قوله تعالى: «قل إن كان آباؤكم و أبناؤكم» الآية أو هو مثله لا يقصر عنه فلا معنى لاتباعه إياه و عطفه عليه في المعنى.
و حينئذ لو كان مما يجب أن يخاطب به القوم لكان من الواجب أن يقال.
و قل لهم لقد نصركم الله في مواطن كثيرة الآية، على ما جرى عليه القرآن في نظائره كقوله تعالى: «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد - إلى أن قال - قل أ إنكم لتكفرون بالذي خلق الأرض في يومين:» حم السجدة: - 9 و غيره من الموارد.
على أن سياق الآيات و ما يجب أن تشتمل عليه من الالتفات و غيره - لو كانت الآيات مقولة للقول - لا تلائم كونها مقولة للقول السابق.
و الخطاب في قوله: «لقد نصركم الله» و ما يتلوه من قوله: «إذ أعجبتكم كثرتكم» الآية، للمسلمين و هم الذين يؤلفون مجتمعا إسلاميا واحدا حضروا بوحدتهم هذه الوحدة أمثال وقائع بدر و أحد و الخندق و خيبرا و حنينا و غيرها.
و هؤلاء فيهم المنافقون و الضعفاء في الإيمان و المؤمنون صدقا على اختلافهم في المنازل إلا أن الخطاب متوجه إلى الجميع باعتبار اشتماله على من يصح أن يخاطب بمثل قوله: «إذ أعجبتكم كثرتكم» إلى آخر الآية.
و قوله: «و يوم حنين» أي و يوما وقعت فيه القتال بينكم و بين أعدائكم بوادي حنين، و إضافة اليوم إلى أمكنة الوقائع العظيمة شائع في العرف كما يقال: يوم بدر و يوم أحد و يوم الخندق نظير إضافته إلى الجماعة المتلبسين بذلك كيوم الأحزاب و يوم تميم، و إضافته إلى نفس الحادثة كيوم فتح مكة.
و قوله: «إذ أعجبتكم كثرتكم» أي أسرتكم الكثرة التي شاهدتموها في أنفسكم فانقطعتم عن الاعتماد بالله و الثقة بأيده و قوته و استندتم إلى الكثرة فرجوتم أن ستدفع عنكم كيد العدو و تهزم جمعهم، و إنما هو سبب من الأسباب الظاهرية لا أثر فيها إلا ما شاء الله الذي إليه تسبيب الأسباب.
و بالنظر إلى هذا المعنى أردف قوله: «إذ أعجبتكم كثرتكم» بقوله: «فلم تغن عنكم شيئا» أي اتخذتموها سببا مستقلا دون الله فأنساكم الاعتماد بالله، و ركنتم إليها فبان لكم ما في وسع هذا السبب الموهوم و هو أن لا غنى عنده حتى يغنيكم فلم يغن عنكم شيئا لا نصرا و لا شيئا آخر.
و قوله: «و ضاقت عليكم الأرض بما رحبت» أي مع ما رحبت، و هو كناية عن إحاطة العدو بهم إحاطة لا يجدون مع ذلك مأمنا من الأرض يستقرون فيه و لا كهفا يأوون إليه فيقيهم من العدو، أي فررتم فرارا لا تلوون على شيء.
فهو قريب المعنى من قوله تعالى في قصة الأحزاب: «إذ جاءوكم من فوقكم و من أسفل منكم و إذ زاغت الأبصار و بلغت القلوب الحناجر و تظنون بالله الظنونا»: الأحزاب: - 10.
و قول بعضهم: أي ضاقت عليكم الأرض فلم تجدوا موضعا تفرون إليه.
غير سديد.
و قوله: «ثم وليتم مدبرين» أي جعلتم العدو يلي أدباركم و هو كناية عن الانهزام و هذا هو الفرار من الزحف ساقهم إليه اطمئنانهم بكثرتهم و الانقطاع من ربهم، قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار و من يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله و مأواه جهنم و بئس المصير:» الأنفال: - 16 و قال: «و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا:» الأحزاب: - 15.
فهذا كله أعني ضيق الأرض عليهم بما رحبت ثم انهزامهم و فرارهم من الزحف على ما فيه من كبير الإثم، و وقوفهم هذا الموقف الذي يستتبع العتاب من ربهم إنما ساقهم إليه اعتمادهم و اطمئنانهم إلى هذه الأسباب السرابية التي لا تغني عنهم شيئا.
و الله سبحانه بسعة رحمته و عظم منه امتن عليهم بنصره و إنزال سكينته و إنزال جنود لم يروها، و تعذيب الكافرين و وعد مجمل بمغفرته وعدا ليس بالمقطوع وجوده حتى تبطل به صفة الخوف من قلوبهم، و لا بالمقطوع عدمه حتى تزول صفة الرجاء من نفوسهم بل وعدا يحفظ فيهم الاعتدال و التوسط بين صفتي الخوف و الرجاء، و يربيهم تربية حسنة تعدهم و تهيئهم للسعادة الواقعية.
و قد أغرب بعض المفسرين في تفسير الآية مستظهرا بما جمع به بين الروايات على اختلافها فأصر على ما ملخصه أن المسلمين لم يفروا على جبن، و إنما انكشفوا عن موضعهم لما فاجأهم من شد كتائب ثقيف و هوازن عليهم شد رجل واحد فاضطربوا اضطرابة زلزلتهم و كشفتهم عن موضعهم دفعة واحدة و هذا أمر طبيعي في الإنسان إذا فاجأه الخطر و دهمته بلية دفعة و من غير مهل اضطربت نفسه و خلي عن موضعه.
و يشهد به نزول السكينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و عليهم جميعا فقد كان الاضطراب شمله و إياهم جميعا، غير أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أصابه ما أصابه من الاضطراب و القلق حزنا و أسفا مما وقع، و المسلمون شملهم ذلك لما فوجئوا به من حملة الكتائب حملة رجل واحد.
و من الشواهد أنهم بمجرد ما سمعوا نداء الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و نداء العباس بن عبد المطلب رجعوا من فورهم و هزموا الكفار بالسكينة النازلة عليهم من عند الله تعالى.
ثم ذكر ما نزل من الآيات في صفة الصحابة كآية بيعة الرضوان، و قوله تعالى: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار» الآية، و قوله: «إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم و أموالهم بأن لهم الجنة» الآية، و ما ورد من طريق الرواية في مدح صحابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
انتهى.
و الذي أورده من الخلط بين البحث التفسيري الذي لا هم له إلا الكشف عما يدل عليه الآيات الكريمة، و بين البحث الكلامي الذي يرام به إثبات ما يدعيه المتكلم في شيء من المذاهب من أي طريق أمكن من عقل أو كتاب أو سنة أو إجماع أو المختلط منها و البحث التفسيري لا يبيح لباحثه شيئا من ذلك، و لا تحميل أي نظر من الأنظار العلمية على الكتاب الذي أنزله الله تبيانا.
أما قوله: إنهم لم يفروا جبنا و لا خذلانا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما كان انكشافا لأمر فاجأهم فاضطربوا و زلزلوا ففروا ثم كروا فهذا مما لا يندفع به صريح قوله تعالى: «ثم وليتم مدبرين» مع اندراج هذا الفعل منهم تحت كلية قوله تعالى في آية تحريم الفرار من الزحف: «فلا تولوهم الأدبار و من يولهم يومئذ دبره - إلى أن قال - فقد باء بغضب من الله» الآية.
و لم يقيد سبحانه النهي عن تولية الأدبار بأنه يجب أن يكون عن جبن أو لغرض الخذلان، و لا أستثني من حكم التحريم كون الفرار عن اضطراب مفاجىء، و لا أورد في استثنائه إلا ما ذكره بقوله: «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة» و ليس هذان المستثنيان في الحقيقة من الفرار من الزحف.
و لم يورد تعالى أيضا فيما حكي من عهدهم شيئا من الاستثناء إذ قال: «و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا:» الأحزاب: - 15.
و أما استشهاده على ذلك بأن الاضطراب كان مشتركا بينهم و بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و استدلاله على ذلك بقوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» حيث إن نزول السكينة بعد انكشافهم بزمان - على ما تدل عليه كلمة ثم - يلازم نزول الاضطراب عند ذلك على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إن كان عن حزن و أسف إذ لا يتصور في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) التزلزل في ثباته و شجاعته.
فلننظر فيما اعتبره للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحزن و الأسف هل كان ذلك حزنا و أسفا على ما وقع من الأمر من انهزام المسلمين و ما ابتلاهم الله به من الفتنة و المحنة جزاء لما أعجبوا من كثرة عددهم، و بالجملة حزنا مكروها عند الله؟ فقد نزهه الله عن ذلك و أدبه بما نزل عليه من كتابه و علمه من علمه، و قد أنزل عليه مثل قوله عز من قائل: «ليس لك من الأمر شيء:» آل عمران: - 128، و قال: «سنقرئك فلا تنسى:» الأعلى: - 6.
و لم يرد في شيء من روايات القصة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) زال عن مكانه يومئذ أو اضطرب اضطرابا مما نزل على المسلمين من الوهن و الانهزام.
و إن كان ذلك حزنا و أسفا على المسلمين لما أصابهم من ناحية خطئهم في الاعتماد بغير الله و الركون إلى سراب الأسباب الظاهرة، و الذهول عن الاعتصام بالله سبحانه حتى أوقعهم في خطيئة الفرار من الزحف لما كان هو (صلى الله عليه وآله وسلم) عليه من الرأفة و الرحمة بالمؤمنين فهذا أمر يحبه الله سبحانه و قد مدح رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) به إذ قال: «بالمؤمنين رءوف رحيم:» التوبة: - 128.
و ليس يزول مثل هذا الأسف و الحزن بنزول السكينة عليه، و لا أن السكينة لو فرض نزولها لأجله مما حدث بعد وقوع الانهزام حتى يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاليا عنها قبل ذلك بل كان (صلى الله عليه وآله وسلم) على بينة من ربه منذ بعثه الله إلى أن قبضه إليه، و كانت السكينة بهذا المعنى نازلة عليه حينا بعد حين.
ثم السكينة التي نزلت على المؤمنين ما هي؟ و ما ذا يحسبها؟ أ كانت هي الحالة النفسانية التي تحصل من السكون و الطمأنينة كما فسرها بها و استشهد عليه بقول صاحب المصباح: أنها تطلق على الرزانة و المهابة و الوقار حتى كانت ثبات الكفار و سكونهم في مواقفهم الحربية عن سكينة نازلة إليهم؟ فإن كانت السكينة هي هذه فقد كانت في أول الوقعة عند كفار هوازن و ثقيف خصماء المسلمين ثم تركتهم و نزلت على عامة جيش المسلمين من مؤمن ثبت مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و من مؤمن لم يثبت و اختار الفرار على القرار، و من منافق و من ضعيف الإيمان مريض القلب فإنهم جميعا رجعوا ثانيا إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ثبتوا معه حتى هزموا العدو فهم جميعا أصحاب السكينة أنزلها الله إليهم فما باله تعالى يقصر إنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين إذ يقول: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين».
على أنه إن كانت السكينة هي هذه، و هي مبتذلة مبذولة لكل مؤمن و كافر فما معنى ما امتن الله به على المؤمنين بما ظاهره أنها عطية خاصة غير مبتذلة؟ و لم يذكرها في كلامه إلا في موارد معدودة - بضعة موارد - لا تبلغ تمام العشرة.
و بذلك يظهر أن السكينة أمر وراء السكون و الثبات لا أن لها معنى في اللغة أو العرف وراء مفهوم الحالة النفسانية الحاصلة من السكون و الطمأنينة بل بمعنى أن الذي يريده تعالى من السكينة في كلامه له مصداق غير المصداق الذي نجده عند كل شجاع باسل له نفس ساكنة و جاش مربوط، و إنما هي نوع خاص من الطمأنينة النفسانية له نعت خاص و صفة مخصوصة.
كيف؟ و كلما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتنانا بها على رسوله و على المؤمنين خصها بالإنزال من عنده فهي حالة إلهية لا ينسى العبد معها مقام ربه لا كما عليه عامة الشجعان أولوا الشدة و البسالة المعجبون ببسالتهم المعتمدون على أنفسهم.
و قد احتفت في كلامه بأوصاف و آثار لا تعم كل وقار و طمأنينة نفسانية كما قال في حق رسوله: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها:» التوبة: - 40 و قال تعالى في المؤمنين «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم:» الفتح: - 18 فذكر أنه إنما أنزل السكينة عليهم لما علمه من قلوبهم فنزولها يحتاج إلى حالة قلبية طاهرة سابقة يدل السياق على أنها الصدق و نزاهة القلب عن إبطان نية الخلاف.
و قال أيضا: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السماوات و الأرض:» الفتح: - 4 فذكر أن من أثرها زيادة الإيمان مع الإيمان و قال أيضا: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها: الفتح: - 26،.
و الآية - كما ترى - تذكر أن نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق و أهلية و أحقية قبلية و هو الذي أشير إليه في الآية السابقة بقوله: «فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة».
و تذكر أن من آثارها لزوم كلمة التقوى، و طهارة ساحة الإنسان عن مخالفة الله و رسوله باقتراف المحارم و ورود المعاصي.
و هذا كالمفسر يفسر قوله في الآية الأخرى: «ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم» فازدياد الإيمان مع الإيمان بنزول السكينة هو أن يكون الإنسان على وقاية إلهية من اقتراف المعاصي و هتك المحارم مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقة.
و هذا نعم الشاهد يشهد أولا: أن المراد بالمؤمنين في قوله في الآية المبحوث عنها «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» غير المنافقين و غير مرضى القلوب و ضعفاء الإيمان، و لا يبقى إلا من ثبت من المؤمنين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هم ثلاثة أو أربعة أو تسعة أو عشرة أو ثمانون أو دون المائة على اختلاف الروايات في إحصائهم، و من فر و انكشف عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا ثم رجع و قاتل ثانيا و فيهم جل أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و عدة من خواصهم.
فهل المراد بالمؤمنين الذين نزلت عليهم، جميع من ثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من فر أولا ثم رجع ثانيا، أو أنهم هم الذين ثبتوا معه من المؤمنين حتى نزل النصر؟.
الذي يستفاد من آيات السكينة أن نزولها متوقف على طهارة قلبية و صفاء نفسي سابق حتى يقرها الله تعالى بالسكينة، و هؤلاء كانوا مقترفين لكبيرة الفرار من الزحف آثمين قلوبا، و لا محل لنزول السكينة على من هذا شأنه فإن كانوا ممن نزلت عليهم السكينة كان من الواجب أن يندموا على ما فعلوا، و يتوبوا إلى ربهم توبة نصوحا بقلوب صادقة حتى يعلم الله ما في قلوبهم فينزل السكينة عليهم فيكونون أذنبوا أولا ثم تابوا و رجعوا ثانيا، فأنزل الله سكينته عليهم و نصرهم على عدوهم، و لعل هذا هو الذي يشير إليه التراخي المفهوم من قوله تعالى «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» حيث عبر بثم».
لكن يبقى عليه أولا: أنه كان من اللازم على هذا أن يتعرض في الكلام لتوبتهم فيختص حينئذ قوله: «ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم» على الكفار الذين أسلموا بعد منهم، و لا أثر من ذلك في الكلام و لا قرينة تخص قوله: «ثم يتوب الله» إلخ بالكافرين الذين أسلموا بعد، فافهم ذلك.
و ثانيا: أن في ذلك غمضا عن جميل المسعى و المحنة الحسنة التي امتحن بها أولئك النفر القليل الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حين تركه جموع المسلمين بين الأعداء و انهزموا فارين لا يلوون على شيء، و من المستبعد من دأب القرآن أن يهمل أمر من تحمل محنة في ذات الله، و ألقى نفسه في أشق المهالك ابتغاء مرضاته - و هو شاكر عليم - فلا يحمده و لا يشكر سعيه.
و المعهود من دأب القرآن أنه إذا عم قوما بعتاب أو توبيخ و ذم، و فيهم من هو بريء من استحقاق اللوم أو العتاب أو طاهر من دنس الإثم و الخطيئة أن يستثنيه منهم و يخصه بجميل الذكر، و يحمده على عمله و إحسانه كما نراه كثيرا في الخطابات التي تعمم اليهود أو النصارى عتابا أو ذما و توبيخا فإنه تعالى يخاطبهم بما يخاطب و يوبخهم و ينسب إليهم الكفر بآياته و التخلف عن أوامره و نواهيه، ثم يمدح منهم الأقلين الذين آمنوا به و بآياته و أطاعوه فيما أراد منهم.
و أوضح من ذلك ما يتعرض من الآيات لوقعة أحد، و تمتن على المؤمنين بما أنزل الله عليهم من النصرة و الكرامة، و يعاتبهم على ما أظهروه من الوهن و الفشل ثم يستثني الثابتين منهم على أقدام الصدق، و يعدهم وعدا حسنا إذ قال مرة بعد مرة: «و سيجزي الله الشاكرين:» آل عمران: - 144، «و سنجزي الشاكرين:» آل عمران: - 145.
و نجد مثله في ما يذكره الله سبحانه من أمر وقعة الأحزاب فإن في كلامه عتابا شديدا لجمع من المؤمنين، و توبيخا و ذما للمنافقين و الذين في قلوبهم مرض حتى قال فيما قال: «و لقد كانوا عاهدوا الله من قبل لا يولون الأدبار و كان عهد الله مسئولا»: الأحزاب: - 15، ثم إنه تعالى ختم القصة بمثل قوله: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه و منهم من ينتظر و ما بدلوا تبديلا:» الأحزاب: - 23.
فما باله تعالى لم يتعرض لحالهم في قصة حنين، و ليست بأهون من غيرها، و لا خصهم بشيء من الشكر، و لا حمدهم بما يمتنون به من لطيف حمده تعالى كغيرهم في غيرها.
فهذا الذي ذكرناه مما يقرب إلى الاعتبار أن يكون المراد بالمؤمنين الذين ذكر نزول السكينة عليهم هم الذين ثبتوا مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما سائر المؤمنين ممن رجع بعد الانكشاف فهم تحت شمول قوله: «ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم» يشمل من شملته العناية منهم كما يشمل من شملته العناية و التوفيق من كفار هوازن و ثقيف و من الطلقاء و الذين في قلوبهم مرض.
هذا ما يهدي إليه البحث التفسيري، و أما الروايات فلها شأنها و سيأتي طرف منها.
و أما ما ذكره من شهادة رجوعهم من فورهم حين سمعوا نداء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نداء العباس فذلك مما لا يبطل ما قدمناه من ظهور قوله تعالى: «ثم وليتم مدبرين» إذا انضم إلى قوله: «إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا تولوهم الأدبار» الآية في أن ما ظهر منهم في الوقعة من الفعل كان فرارا من الزحف فعلوه عن جبن أو تعمد في خذلان أو عن قلق و اضطراب و تزلزل.
و أما ما ذكره من الآيات التي تمدحهم و تذكر رضى الرب عنهم و استحقاقهم جزيل الأجر من ربهم.
ففيه أن هذه المحامد مقيدة فيها بقيود لا يتحتم معها لهم الأمر فإن الآيات إنما تحمد من تحمده منهم لما به من نعوت العبودية كالإيمان و الإخلاص و الصدق و النصيحة و المجاهدة الدينية فالحمد باق ما بقيت الصفات، و الوعد الحسن على اعتباره ما لبثت فيهم النعوت و الأحوال الموجبة له فإذا زالت لحادثة أو خطيئة زال بتبعه.
و ليس ما عندهم من مبادىء الخير و البركات بأعظم و لا أهم مما عند الأنبياء من صفة العصمة يستحيل معها صدور الذنب منهم، و قد قال الله تعالى بعد ثناء طويل عليهم: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون:» الأنعام: - 88 و قد قال تعالى قبال ما ظنوا أنهم مصونون عن ما يكرهونه من أقسام المجازاة كرامة لإسلامهم كما ظن نظيره أهل الكتاب: «ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوء يجز به:» النساء: - 123.
و الذي ورد في بيعة الرضوان من قوله: «لقد رضي الله» فإنما رضاه تعالى من صفاته الفعلية التي هي عين أفعاله الخارجية منتزعة منها فهو عين ما أفاض عليهم من الحالات الطاهرة النفسية التي تستعقب بطباعها جزيل الجزاء و خير الثواب إن بقيت أعمالهم على ما هي عليها و إن تغيرت تغير الرضى سخطا و النعمة نقمة و لم يأخذ أحد عليه تعالى عهدا أن لا يخلف عهده فيحمله على السعادة و الكرامة أحسن أو أساء، أطاع أو عصى، آمن أو كفر.
و ليس رضى الرب من صفاته الذاتية التي يتصف بها في ذاته فلا يعرضه تغير أو تبدل و لا يطرأ عليه زوال أو دثور.
قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» إلى آخر الآية السكينة - كما تقدم - حالة قلبية توجب سكون النفس و ثبات القلب ملازمة لازدياد الإيمان مع الإيمان و لكلمة التقوى التي تهدي إلى الورع عن محارم الله على ما تفسرها الآيات.
و هي غير العدالة التي هي ملكة نفسانية تردع عن ركوب الكبائر و الإصرار على الصغائر فإن السكينة تردع عن الصغائر و الكبائر جميعا.
و قد نسب الله السكينة في كتابه إلى نفسه نسبة تشعر بنوع من الاختصاص كما نسب الروح إلى نفسه دون العدالة و وصفها بالإنزال فلها اختصاص عندي به تعالى بل ربما يشعر بعض الآيات بأنه عدها من جنوده كقوله تعالى: «هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيمانا مع إيمانهم و لله جنود السماوات و الأرض:» الفتح: - 4.
و في غير واحد من الآيات المشتملة على ذكر السكينة ذكر الجنود كقوله: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها:» التوبة: - 40، و كما في الآية المبحوث عنها: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين و أنزل جنودا لم تروها».
و الذي يفهم من السياق أن هذه الجنود هي الملائكة النازلة إلى المعركة، أو أن يقال من جملتها الملائكة النازلة و الذي ينتسب إلى السكينة و الملائكة أن يعذب بهم الكفار و يسدد و يسعد بهم المؤمنون كما اشتملت عليه آيات آل عمران القاصة قصة أحد، و آيات في أول سورة الفتح فراجعها حتى يتبين لك حقيقة الحال إن شاء الله تعالى.
و قد تقدم في قوله تعالى: «فيه سكينة من ربكم:» البقرة: - 248 في الجزء الثاني من الكتاب بعض ما يتعلق بالسكينة الإلهية من الكلام مما لا يخلو من نفع في هذا المقام.
قوله تعالى: «ثم يتوب الله من بعد ذلك على من يشاء و الله غفور رحيم» قد تقدم مرارا أن التوبة من الله سبحانه هي الرجوع إلى عبده بالعناية و التوفيق أولا ثم بالعفو و المغفرة ثانيا، و من العبد الرجوع إلى ربه بالندامة و الاستغفار، و لا يتوب الله على من لا يتوب إليه.
و الإشارة في قوله: «من بعد ذلك» على ما يعطيه السياق إلى ما ذكره في الآيتين السابقتين من خطيئتهم بالركون إلى غير الله سبحانه و معصيتهم بالفرار و التولي ثم إنزال السكينة و إنزال الجنود و تعذيب الذين كفروا.
و الملائم لذلك أن يكون الموصول في «من يشاء» شاملا للمسلمين و الكافرين جميعا فقد ذكر من الفريقين جميعا ما يصلح لأن يتوب الله عليهم فيه إن تابوا و هو من الكفار كفرهم و من المسلمين خطيئتهم و معصيتهم، و لا وجه لتخصيص التوبة على بعضهم مع ما في آيات التوبة من عموم الحكم و سعته و لم يقيد في هذه الآية المبحوث عنها بما يوجب اختصاصها بأحد الفريقين: المسلمين أو الكافرين مع وجود المقتضي فيهما جميعا.
و مما ذكرنا يظهر فساد ما فسر به بعضهم الآية مع قصر الإشارة على التعذيب إذ قال: إن معناها ثم يتوب الله تعالى بعد هذا التعذيب الذي يكون في الدنيا على من يشاء من الكافرين فيهديهم إلى الإسلام و هم الذين لم يحط بهم خطيئات جهالة الشرك و خرافاته من جميع جوانب أنفسهم، و لم يختم على نفوسهم بالإصرار على الجحود و التكذيب أو الجمود على ما ألفوا بمحض التقليد.
انتهى.
و قد عرفت أن تخصيص الآية بما ذكر و التصرف في سائر قيوده كقصر الإشارة على التعذيب و غير ذلك مما لا دليل عليه البتة.
و الوجه في التعبير بالاستقبال في قوله: «ثم يتوب الله» الإشارة إلى انفتاح باب التوبة دائما، و جريان العناية و فيضان العفو و المغفرة الإلهية مستمرا بخلاف ما يشير إليه قوله: «ثم أنزل الله سكينته» الآية، فإن ذلك أمور محدودة غير جارية.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا» قال في المجمع،: كل مستقذر نجس يقال: رجل نجس و امرأة نجس و قوم نجس لأنه مصدر، و إذا استعملت هذه اللفظة مع الرجس قيل: رجس نجس - بكسر النون - قال: و العيلة الفقر يقال عال يعيل إذا افتقر.
انتهى.
و النهي عن دخول المشركين المسجد الحرام بحسب المتفاهم العرفي يفيد أمر المؤمنين بمنعهم عن دخول المسجد الحرام، و في تعليله تعالى منع دخولهم المسجد بكونهم نجسا اعتبار نوع من القذارة لهم كاعتبار نوع من الطهارة و النزاهة للمسجد الحرام، و هي كيف كانت أمر آخر وراء الحكم باجتناب ملاقاتهم بالرطوبة و غير ذلك.
و المراد بقوله: «عامهم هذا» سنة تسع من الهجرة، و هي السنة التي أذن فيها علي (عليه السلام) بالبراءة، و منع طواف البيت عريانا، و حج المشركين البيت.
و قوله: «و إن خفتم عيلة» الآية، أي و إن خفتم في إجراء هذا الحكم أن ينقطعوا عن الحج، و يتعطل أسواقكم، و تذهب تجارتكم فتفتقروا و تعيلوا فلا تخافوا فسوف يغنيكم الله من فضله، و يؤمنكم من الفقر الذي تخافونه.
و هذا وعد حسن منه تعالى فيه تطييب نفوس أهل مكة و من كان له تجارة هناك بالموسم، و كان حاضر العالم الإسلامي يبشرهم يومئذ بمضمون هذا الوعد فقد كان الإسلام تعلو كلمته، و ينتشر صيته حالا بعد حال، و كانت عامة المشركين في عتبة الاستئصال بعد إيذان براءة لم يبق لهم إلا أربعة أشهر إلا شرذمة قليلة من العرب كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عاهدهم عند المسجد الحرام إلى أجل ما بعده من مهل فالجميع كانوا في معرض قبول الإسلام.
بحث روائي
في الكافي، عن علي بن إبراهيم عن بعض أصحابه ذكره قال: لما سم المتوكل نذر إن عوفي أن يتصدق بمال كثير فلما عوفي سأل الفقهاء عن حد المال الكثير فاختلفوا عليه فقال بعضهم: مائة ألف، و قال بعضهم: عشرة آلاف فقالوا فيه أقاويل مختلفة فاشتبه عليه الأمر. فقال رجل من ندمائه يقال له صفوان: أ لا تبعث إلى هذا الأسود فتسأله عنه؟. فقال له المتوكل: من تعني ويحك؟ فقال: ابن الرضا. فقال له: و هو يحسن من هذا شيئا؟ فقال: إن أخرجك من هذا فلي عليك كذا و كذا و إلا فاضربني مائة مقرعة فقال المتوكل: رضيت، يا جعفر بن محمود اذهب إلى أبي الحسن علي بن محمد فاسأله عن حد المال الكثير، فسأله فقال له: الكثير ثمانون. فقال له جعفر بن محمود: يا سيدي إنه يسألني عن العلة فيه فقال له أبو الحسن (عليه السلام): إن الله عز و جل يقول: «لقد نصركم الله في مواطن كثيرة» فعددنا تلك المواطن فكان ثمانين: أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره و بعض أصحابه الذي ذكر في الرواية أنه سماه هو محمد بن عمرو على ما ذكره في التفسير.
و معنى الرواية أن الثمانين من مصاديق الكثير بدلالة من الكتاب لا أن الكثير معناه الثمانون و هو ظاهر.
و في المجمع، ذكر أهل التفسير و أصحاب السير: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما فتح مكة خرج منها متوجها إلى حنين لقتال هوازن و ثقيف في آخر شهر رمضان أو في شوال في سنة ثمان من الهجرة، و قد اجتمع رؤساء هوازن إلى مالك بن عوف النصري، و ساقوا معهم أموالهم و نساءهم و ذراريهم و نزلوا بأوطاس. قال: و كان دريد بن الصمة في القوم، و كان رئيس جشم، و كان شيخا كبيرا قد ذهب بصره من الكبر فقال: بأي واد أنتم؟ قالوا: بأوطاس. قال: نعم مجال الخيل، لا حزن ضرس، و لا سهل دهس، ما لي أسمع رغاء البعير و نهيق الحمير و خوار البقر و ثغاء الشاة و بكاء الصبيان؟ فقالوا: إن مالك بن عوف ساق مع الناس أبناءهم و أموالهم و نساءهم ليقاتل كل منهم عن أهله و ماله فقال دريد: راعي ضأن و رب الكعبة. ثم قال: ائتوني بمالك فلما جاءه قال: يا مالك إنك أصبحت رئيس قومك، و هذا يوم له ما بعده، رد قومك إلى عليا بلادهم، و ألق الرجال على متون الخيل فإنه لا ينفعك إلا رجل بسيفه و فرسه فإن كانت لك لحق بك من وراءك، و إن كانت عليك لا تكون قد فضحت في أهلك و عيالك فقال له مالك: إنك قد كبرت و ذهب علمك و عقلك. و عقد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لواءه الأكبر و دفعه إلى علي بن أبي طالب (عليه السلام)، و كل من دخل مكة براية أمره أن يحملها، و خرج بعد أن أقام بمكة خمسة عشر يوما و بعث إلى صفوان بن أمية فاستعار منه مائة درع فقال صفوان: عارية أم غصب؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): عارية مضمونة مؤداة، فأعاره صفوان مائة درع و خرج معه، و خرج من مسلمة الفتح ألفا رجل، و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل مكة في عشرة آلاف رجل و خرج منها في اثني عشر ألفا. و بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) رجلا من أصحابه فانتهى إلى مالك بن عوف و هو يقول لقومه: ليصير كل رجل منكم أهله و ماله خلف ظهره، و اكسروا جفون سيوفكم، و أكمنوا في شعاب هذا الوادي و في السحر فإذا كان في غبش الصبح فاحملوا حملة رجل واحد فهدوا القوم فإن محمدا لم يلق أحدا يحسن الحرب. و لما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأصحابه الغداة انحدر في وادي حنين فخرجت عليهم كتائب هوازن من كل ناحية، و انهزمت بنو سليم و كانوا على المقدمة و انهزم ما وراءهم، و خلى الله تعالى بينهم و بين عدوهم لإعجابهم بكثرتهم و بقي علي (عليه السلام) و معه الراية يقاتلهم في نفر قليل و مر المنهزمون برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يلوون على شيء. و كان العباس بن عبد المطلب أخذ بلجام بغلة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الفضل عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب عن يساره، و نوفل بن الحارث و ربيعة بن الحارث في تسعة من بني هاشم، و عاشرهم أيمن بن أم أيمن، و في ذلك يقول العباس: نصرنا رسول الله في الحرب تسعة. و قد فر من قد فر عنه فأقشعوا. و قولي إذا ما الفضل كر بسيفه. على القوم أخرى يا بني ليرجعوا. و عاشرنا لاقى الحمام بنفسه. لما ناله في الله لا يتوجع. و لما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هزيمة القوم عنه قال للعباس و كان جهوريا صيتا اصعد هذا الظرب فناد: يا معشر المهاجرين و الأنصار يا أصحاب سورة البقرة يا أهل بيعة الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. فلما سمع المسلمون صوت العباس تراجعوا و قالوا: لبيك لبيك، و تبادر الأنصار خاصة و قاتلوا المشركين حتى قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي الوطيس. أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب، و نزل النصر من عند الله، و انهزمت هوازن هزيمة قبيحة ففروا في كل وجه، و لم يزل المسلمون في آثارهم. و فر مالك بن عوف فدخل حصن الطائف، و قتل منهم زهاء مائة رجل، و أغنم الله المسلمين أموالهم و نساءهم، و أمر رسول الله بالذراري و الأموال أن تحدر إلى الجعرانة، و ولى على الغنائم بديل بن ورقاء الخزاعي. و مضى (صلى الله عليه وآله وسلم) في أثر القوم فوافى الطائف في طلب مالك بن عوف فحاصر أهل الطائف بقية الشهر فلما دخل ذو القعدة انصرف و أتى الجعرانة، و قسم بها غنائم حنين و أوطاس. قال سعيد بن المسيب: حدثني رجل كان في المشركين يوم حنين قال: لما التقينا نحن و أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقفوا لنا حلب شاة فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم حتى إذ انتهينا إلى صاحب البغلة الشهباء يعني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتلقانا رجال بيض الوجوه فقالوا لنا: شاهت الوجوه ارجعوا فرجعنا فركبوا أكتافنا فكانوا إياها يعني الملائكة. قال الزهري: و بلغني أن شيبة بن عثمان قال: استدبرت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أريد أن أقتله بطلحة بن عثمان و عثمان بن طلحة و كانا قد قتلا يوم أحد فأطلع الله رسوله على ما في نفسي فالتفت إلي و ضرب في صدري، و قال: أعيذك بالله يا شيبة فأرعدت فرائصي فنظرت إليه و هو أحب إلي من سمعي و بصري فقلت: أشهد أنك رسول الله، و أن الله أطلعك على ما في نفسي. و قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الغنائم بالجعرانة و كان معه من سبي هوازن ستة آلاف من الذراري و النساء، و من الإبل و الشاة ما لا يدرى عدته. قال أبو سعيد الخدري: قسم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للمتألفين من قريش و من سائر العرب ما قسم، و لم يكن في الأنصار منها شيء قليل و لا كثير فمشى سعد بن عبادة إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إن هذا الحي من الأنصار وجدوا عليك في قسمك هذه الغنائم في قومك و في سائر العرب و لم يكن فيهم من ذلك شيء فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فأين أنت من ذلك يا سعد؟ فقال: ما أنا إلا امرؤ من قومي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فاجمع لي قومك في هذه الحظيرة فجمعهم فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقام فيهم خطيبا فحمد الله و أثنى عليه ثم قال: يا معشر الأنصار أ و لم آتكم ضلالا فهداكم الله، و عالة فأغناكم الله و أعداء فألف بين قلوبكم؟ قالوا: بلى يا رسول الله. ثم قال: أ لا تجيبوني يا معشر الأنصار؟ فقالوا: و ما نقول؟ و بما ذا نجيبك؟ المن لله و لرسوله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما و الله لو شئتم لقلتم فصدقتم: جئتنا طريدا فآويناك، و عائلا فآسيناك، و خائفا فآمناك، و مخذولا فنصرناك. فقالوا: المن لله و لرسوله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): وجدتم في أنفسكم يا معشر الأنصار في لعاعة من الدنيا تألفت بها قوما ليسلموا و وكلتكم إلى ما قسم الله لكم من الإسلام. أ فلا ترضون يا معشر الأنصار أن تذهب الناس إلى رحالهم بالشاة و البعير، و تذهبون برسول الله إلى رحالكم؟ فوالذي نفسي بيده لو أن الناس سلكوا شعبا و سلكت الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار و لو لا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار اللهم ارحم الأنصار و أبناء الأنصار و أبناء أبناء الأنصار فبكى القوم حتى اخضلت لحاهم، و قالوا: رضينا بالله و رسوله قسما ثم تفرقوا. و قال أنس بن مالك: و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر مناديا فنادى يوم أوطاس: ألا لا توطأ الحبالى حتى يضعن، و لا غير الحبالى حتى يستبرأن بحيضة. ثم أقبلت وفود هوازن و قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجعرانة مسلمين فقام خطيبهم و قال: يا رسول الله إنما في الحظائر من السبايا خالاتك و حواضنك اللاتي كن يكفلنك فلو أنا ملحنا ابن أبي شمر أو النعمان بن المنذر ثم أصابنا منهما مثل الذي أصابنا منك رجونا عائدتهما و عطفهما و أنت خير المكفولين ثم أنشد أبياتا. فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أي الأمرين أحب إليكم: السبي أو الأموال؟ قالوا: يا رسول الله خيرتنا بين الحسب و بين الأموال، و الحسب أحب إلينا و لا نتكلم في شاة و لا بعير فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما الذي لبني هاشم فهو لكم و سأكلم لكم المسلمين و أشفع لكم فكلموهم و أظهروا إسلامكم. فلما صلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهاجرة قاموا فتكلموا فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قد رددت الذي لبني هاشم و الذي بيدي عليهم فمن أحب منكم أن يعطي غير مكره فليفعل و من كره أن يعطي فليأخذ الفداء و علي فداؤهم فأعطى الناس ما كان بأيديهم منهم إلا قليلا من الناس سألوا الفداء. و أرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى مالك بن عوف و قال: إن جئتني مسلما رددت إليك أهلك و مالك و لك عندي مائة ناقة فخرج إليه من الطائف فرد عليه أهله و ماله و أعطاه مائة من الإبل و استعمله على من أسلم من قومه.
أقول: و روى القمي في تفسيره مثله و لم يرو ما نسب من الرجز إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا ما أسنده إلى راو معين كالمسيب و الزهري و أنس و أبي سعيد، و روي هذه المعاني بطرق كثيرة من طرق أهل السنة.
و في رواية علي بن إبراهيم القمي زيادة يسيرة هي ما يأتي: قال علي بن إبراهيم: فلما رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الهزيمة ركض يحوم على بغلته قد شهر سيفه فقال: يا عباس اصعد هذا الظرب و ناد: يا أصحاب " سورة " البقرة يا أصحاب الشجرة إلى أين تفرون؟ هذا رسول الله. ثم رفع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده و قال: اللهم لك الحمد و لك الشكر و إليك المشتكى و أنت المستعان فنزل إليه جبرئيل فقال: يا رسول الله دعوت بما دعا به موسى بن عمران حين فلق الله له البحر و نجاه من فرعون. ثم قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي سفيان بن الحارث: ناولني كفا من حصى فناوله فرماه في وجوه المشركين ثم قال: شاهت الوجوه. ثم رفع رأسه إلى السماء و قال: اللهم إن تهلك هذه العصابة لم تعبد و إن شئت أن لا تعبد لا تعبد. فلما سمعت الأنصار نداء العباس عطفوا و كسروا جفون سيوفهم و هم ينادون: لبيك و مروا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و استحيوا أن يرجعوا إليه و لحقوا بالراية فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) للعباس: من هؤلاء يا أبا الفضل؟ فقال: يا رسول الله هؤلاء الأنصار فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الآن حمي الوطيس فنزل النصر من السماء و انهزمت هوازن. و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن محمد بن عبيد الله بن عمير الليثي قال: كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة آلاف من الأنصار و ألف من جهينة، و ألف من مزينة و ألف من أسلم و ألف من غفار و ألف من أشجع و ألف من المهاجرين و غيرهم فكان معه عشرة آلاف و خرج باثني عشر ألفا و فيها قال الله تعالى في كتابه: «و يوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا» و في سيرة ابن هشام، عن ابن إسحاق قال: فلما انهزم الناس، و رأى من كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جفاة أهل مكة الهزيمة تكلم رجال منهم بما في أنفسهم من الضغن: فقال أبو سفيان بن حرب: لا تنتهي هزيمتهم دون البحر. و إن الأزلام لمعه في كنانته و صرخ جبلة بن الحنبل قال ابن هشام: كلدة بن الحنبل و هو مع أخيه صفوان بن أمية مشرك في المدة التي جعل له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ لا بطل السحر اليوم، فقال له صفوان اسكت فض الله فاك فوالله لأن يربني رجل من قريش أحب إلي من أن يربني رجل من هوازن. قال ابن إسحاق: و قال شيبة بن عثمان بن أبي طلحة أخو بني عبد الدار: قلت: اليوم أدرك ثاري و كان أبوه قتل يوم أحد اليوم أقتل محمدا قال: فأدرت برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأقتله فأقبل شيء حتى تغشى فؤادي فلم أطق ذاك فعلمت أنه ممنوع مني.
فهرس أسماء شهداء حنين
في سيرة ابن هشام، قال ابن إسحاق: و هذه تسمية من استشهد يوم حنين من المسلمين: من قريش ثم من بني هاشم أيمن بن عبيد و من بني أسد بن عبد العزى يزيد بن زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد جمح به فرس يقال له الجناح فقتل. و من الأنصار سراقة بن الحارث بن عدي من بني العجلان و من الأشعريين أبو عامر الأشعري.
أقول: و أما الثباة مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد عدوا في بعض الروايات ثلاثة و في بعضها أربعة و في بعضها تسعة عاشرهم أيمن بن عبيد - و هو ابن أم أيمن - و في بعضها ثمانين و في بعضها: دون المائة.
و المتعمد من بينها ما روي عن العباس أنهم كانوا تسعة عاشرهم أيمن و له في ذلك شعر تقدم نقله و ذلك أنه كان ممن ثبت مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) طول الوقعة و شاهد ما كان من الأمر و هو الذي كان ينادي المنهزمين و يستلحقهم بأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد باهى بما قاله من الشعر.
و من الممكن أن يثبت جمع بعد انهزام الناس هنيئة ثم يلحقوا بالمنهزمين أو يرجع جمع قبل رجوع غيرهم فيلحقوا بالراية فيعدوا ممن ثبت و قاتل فالحرب العوان لا يجري على ما يجري عليه السلم من النظم.
و من هنا يعلم ما في قول بعضهم: إن الأرجح رواية الثمانين كما عن عبد الله بن مسعود و إليها يرجع ما رواه ابن عمر أنهم كانوا دون المائة فإن الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ، انتهى ملخصا.
و ذلك أن كون الحجة لمن حفظ على من لم يحفظ حق لكن الحفظ في حال الحرب على ما فيه من التحول السريع في الأوضاع الحاضرة غير الحفظ في غيره فلا يعتمد إلا على ما شهدت القرائن لصحته و أيد الاعتبار وثاقة حفظه و قد كان العباس مأمورا بما من شأنه حفظ هذا الشأن و ما يرتبط به.
|