بيان
في الآيتين بيان حرمة الأشهر الحرم ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم و رجب الفرد و تثبيت حرمتها و إلغاء نسيء الجاهلية، و فيها الأمر بقتال المشركين كافة.
قوله تعالى: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض» الشهر كالسنة و الأسبوع مما يعرفه عامة الناس منذ أقدم أعصار الإنسانية، و كان لبعضها تأثيرا في تنبههم للبعض فقد كان الإنسان يشاهد تحول السنين و مرورها بمضي الصيف و الشتاء و الربيع و الخريف و تكررها بالعود ثم العود ثم تنبهوا لانقسامها إلى أقسام هي أقصر منها مدة حسب ما ساقهم إليه مشاهدة اختلاف أشكال القمر من الهلال إلى الهلال، و ينطبق على ما يقرب من ثلاثين يوما و تنقسم بذلك السنة إلى اثني عشر شهرا.
و السنة التي ينالها الحس شمسية تتألف من ثلاثمائة و خمسة و ستين يوما و بعض يوم لا تنطبق على اثني عشر شهرا قمريا هي ثلاثمائة و أربعة و خمسون يوما تقريبا إلا برعاية حساب الكبيسة غير أن ذلك هو الذي يناله الحس و ينتفع به عامة الناس من الحاضر و البادي و الصغير و الكبير و العالم و الجاهل.
ثم قسموا الشهر إلى الأسابيع و إن كان هو أيضا لا ينطبق عليها تمام الانطباق لكن الحس غلب هناك أيضا الحساب الدقيق، و هو الذي أثبت اعتبار الأسبوع و أبقاه على حاله من غير تغيير مع ما طرأ على حساب السنة من الدقة من جهة الإرصاد، و على حساب الشهور من التغيير فبدلت الشهور القمرية شمسية تنطبق عليها السنة الشمسية تمام الانطباق.
و هذا بالنسبة إلى النقاط الاستوائية و ما يليها من النقاط المعتدلة أو ما يتصل بها من الأرض إلى عرض سبع و ستين الشمالي و الجنوبي تقريبا، و فيها معظم المعمورة و أما ما وراء ذلك إلى القطبين الشمالي و الجنوبي فيختل فيها حساب السنة و الشهر و الأسبوع، و السنة في القطبين يوم و ليلة، و قد اضطر ارتباط بعض أجزاء المجتمع الإنساني ببعض سكان هذه النقاط - و هم شرذمة قليلون - أن يراعوا في حساب السنة و الشهر و الأسبوع و اليوم ما يعتبره عامة سكان المعمورة فحساب الزمان الدائر بيننا إنما هو بالنسبة إلى جل سكان المعمورة من الأرض.
على أن هذا إنما هو بالنسبة إلى أرضنا التي نحن عليها، و أما سائر الكواكب فالسنة - و هي زمان الحركة الانتقالية من الكوكب حول الشمس دورة واحدة كاملة - فيها تختلف و تتخلف عن سنتنا نحن، و كذلك الشهر القمري فيما كان له قمر أو أقمار منها على ما فصلوه في فن الهيئة.
فقوله تعالى: «إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرا» إلخ ناظر إلى الشهور القمرية التي تتألف منها السنون و هي التي لها أصل ثابت في الحس و هو التشكلات القمرية بالنسبة إلى أهل الأرض.
و الدليل على كون المراد بها الشهور القمرية - أولا - قوله بعد: «منها أربعة حرم» لقيام الضرورة على أن الإسلام لم يحرم إلا أربعة من الشهور القمرية التي هي ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب، و الأربعة من القمرية دون الشمسية.
و ثانيا: قوله: «عند الله» و قوله: «في كتاب الله يوم خلق السموات و الأرض» فإن هذه القيود تدل على أن هذه العدة لا سبيل للتغير و الاختلاف إليها لكونها عند الله كذلك و لا يتغير علمه، و كونها في كتاب الله كذلك يوم خلق السماوات و الأرض فجعل الشمس تجري لمستقر لها، و القمر قدره منازل حتى عاد كالعرجون القديم لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر و لا الليل سابق النهار و كل في فلك يسبحون فهو الحكم المكتوب في كتاب التكوين، و لا معقب لحكمه تعالى.
و من المعلوم أن الشهور الشمسية وضعية اصطلاحية و إن كانت الفصول الأربعة و السنة الشمسية على غير هذا النعت فالشهور الاثنا عشر التي هي ثابتة ذات أصل ثابت هي الشهور القمرية.
فمعنى الآية إن عدة الشهور اثنا عشر شهرا تتألف منها السنون، و هذه العدة هي التي في علم الله سبحانه، و هي التي أثبتها في كتاب التكوين يوم خلق السماوات و الأرض و أجرى الحركات العامة التي منها حركة الشمس و حركة القمر حول الأرض و هي الأصل الثابت في الكون لهذه العدة.
و من هنا يظهر فساد ما ذكره بعض المفسرين أن المراد بكتاب الله في الآية القرآن أو كتاب مكتوب فيه عدة الشهور على حد الكتب و الدفاتر التي عندنا المؤلفة من قراطيس و أوراق يضبط فيها الألفاظ بخطوط خاصة وضعية.
قوله تعالى: «منها أربعة حرم ذلك الدين القيم فلا تظلموا فيهن أنفسكم» الحرم جمع حرام و هو الممنوع منه، و القيم هو القائم بمصلحة الناس المهيمن على إدارة أمور حياتهم و حفظ شئونها.
و قوله: «منها أربعة حرم» هي الأشهر الأربعة: ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم و رجب بالنقل القطعي، و الكلمة كلمة تشريع بدليل قوله: «ذلك الدين القيم» إلخ.
و إنما جعل الله هذه الأشهر الأربعة حرما ليكف الناس فيها عن القتال و ينبسط عليهم بساط الأمن، و يأخذوا فيها الأهبة للسعادة، و يرجعوا إلى ربهم بالطاعات و القربات.
و كانت حرمتها من شريعة إبراهيم، و كانت العرب تحترمها حتى في الجاهلية حينما كانوا يعبدون الأوثان غير أنهم ربما كانوا يحولون الحرمة من شهر إلى شهر سنة أو أزيد منها بالنسيء الذي تتعرض له الآية التالية.
و قوله: «ذلك الدين القيم»، الإشارة إلى حرمة الأربعة المذكورة، و الدين كما تطلق على مجموع ما أنزله الله على أنبيائه تطلق على بعضها فالمعنى أن تحريم الأربعة من الشهور القمرية هو الدين الذي يقوم بمصالح العباد.
كما يشير إليه في قوله: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام» الآية: المائدة: - 97 و قد تقدم الكلام فيه في الجزء السادس من الكتاب.
و قوله: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» الضمير إلى الأربعة إذ لو كان راجعا إلى «اثنا عشر» المذكور سابقا لكان الظاهر أن يقال «فيها» كما نقل عن الفراء، و أيضا لو كان راجعا إلى «اثنا عشر» و هي تمام السنة لكان قوله: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» كما قيل في معنى قولنا: فلا تظلموا أبدا أنفسكم، و كان الكلام متفرعا على كون عدة الشهور عند الله اثني عشر شهرا، و لا تفرع له عليه ظاهرا فالمعنى لما كانت هذه الأربعة حرما تفرع على حرمتها عند الله أن تكفوا فيها عن ظلم أنفسكم رعاية لحرمتها و عظم منزلتها عند الله سبحانه.
فالنهي عن الظلم فيها يدل على عظم الحرمة و تأكدها لتفرعها على حرمتها أولا و لأنها نهي خاص بعد النهي العام كما يفيده قولنا: لا تظلم أبدا و لا تظلم في زمان كذا.
و الجملة أعني قوله: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» و إن كانت بحسب إطلاق لفظها نهيا عن كل ظلم و معصية لكن السياق يدل على كون المقصود الأهم منها النهي عن القتال في الأشهر الحرم.
قوله تعالى: «و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة و اعلموا أن الله مع المتقين» قال الراغب في المفردات،: الكف كف الإنسان و هي ما بها يقبض و يبسط، و كففته أصبت كفه، و كففته أصبته بالكف و دفعته بها، و تعورف الكف بالدفع على أي وجه كان، بالكف كان أو غيرها حتى قيل: رجل مكفوف لمن قبض بصره.
و قوله: «و ما أرسلناك إلا كافة للناس أي كافا لهم عن المعاصي، و الهاء فيه للمبالغة كقولهم: راوية و علامة و نسابة، و قوله: «و قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة» قيل: معناه كافين لهم كما يقاتلونكم كافين و قيل معناه جماعة كما يقاتلونكم جماعة، و ذلك أن الجماعة يقال لهم: الكافة كما يقال لهم: الوازعة لقوتهم باجتماعهم، و على هذا قوله: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة» انتهى.
و قال في المجمع،: كافة بمعنى الإحاطة مأخوذ من كفة الشيء و هي طرفه و إذا انتهى الشيء إلى ذلك كف عن الزيادة، و أصل الكف المنع.
انتهى.
و قوله: «كافة» في الموضعين حال عن الضمير الراجع إلى المسلمين أو المشركين أو في الأول عن الأول و في الثاني عن الثاني أو بالعكس فهناك وجوه أربعة، و المتبادر إلى الذهن هو الوجه الرابع للقرب اللفظي الذي بين الحال و ذي الحال حينئذ، و معنى الآية على هذا: و قاتلوا المشركين جميعهم كما يقاتلونكم جميعكم.
فالآية توجب قتال جميع المشركين فتصير نظيره قوله تعالى: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» الآية ينسخ هذه ما ينسخ تلك و تتخصص أو تتقيد بما تخصص أو تقيد به هي.
و الآية مع ذلك إنما تتعرض لحال القتال مع المشركين و هم عبدة الأوثان غير أهل الكتاب فإن القرآن و إن كان ربما نسب الشرك تصريحا أو تلويحا إلى أهل الكتاب لكنه لم يطلق المشركين على طريق التوصيف إلا على عبدة الأوثان، و أما الكفر فعلا أو وصفا فقد نسب إلى أهل الكتاب و أطلق عليهم كما نسب و أطلق إلى عبدة الأوثان.
فالآية أعني قوله: «و قاتلوا المشركين كافة» الآية لا هي ناسخة لآية أخذ الجزية من أهل الكتاب، و لا هي مخصصة أو مقيدة بها.
و قد قيل في الآية بعض وجوه أخر تركناه لعدم جدوى في التعرض له.
و قوله: «و اعلموا أن الله مع المتقين» تعليم و تذكير و فيه حث على الاتصاف بصفة التقوى يترتب عليه من الفائدة: أولا: الوعد الجميل بالنصر الإلهي و الغلبة و الظفر فإن حزب الله هم الغالبون.
و ثانيا: منعهم أن يتعدوا حدود الله في الحروب و المغازي بقتل النساء و الصبيان و من ألقى إليهم السلام كما قتل خالد في غزوة حنين مرأة فأرسل إليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ينهاه عن ذلك و قتل رجالا من بني جذيمة و قد أسلموا فوداهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تبرأ إلى الله من فعله ثلاثا، و قتل أسامة يهوديا أظهر له الإسلام فنزل قوله تعالى: «و لا تقولوا لمن ألقى إليكم السلام لست مؤمنا تبتغون عرض الحياة الدنيا فعند الله مغانم كثيرة: النساء: - 94 و قد تقدم.
قوله تعالى: «إنما النسيء زيادة في الكفر» إلى آخر الآية يقال: نسأ الشيء ينسؤه نسأ و منسأة و نسيئا إذا أخره تأخيرا، و قد يطلق النسيء على الشهر الذي أخر تحريمه على ما كانت العرب تفعله في الجاهلية فإنهم ربما كانوا يؤخرون حرمة بعض الأشهر الحرم إلى غيره و أما أنه كيف كان ذلك فقد اختلف فيه كلام المفسرين كأهل التاريخ.
و الذي يظهر من خلال الكلام المسرود في الآية أنه كانت لهم فيما بينهم سنة جاهلية في أمر الأشهر الحرم و هي المسماة بالنسيء، و هو يدل بلفظه على تأخير الحرمة من شهر حرام إلى بعض الشهور غير المحرمة الذي بعده، و أنهم إنما كانوا يؤخرون الحرمة و لا يبطلونها برفعها من أصلها لإرادتهم بذلك أن يتحفظوا على سنة قومية ورثوها عن أسلافهم عن إبراهيم (عليه السلام).
فكانوا لا يتركون أصل التحريم لغي و إنما يؤخرونه إلى غير الشهر سنة أو أزيد ليواطئوا عدة ما حرم الله، و هي الأربعة ثم يعودون و يعيدون الحرمة إلى مكانها الأول.
و هذا نوع تصرف في الحكم الإلهي بعد كفرهم بالله باتخاذ الأوثان شركاء له تعالى و تقدس، و لذا عده الله سبحانه في كلامه زيادة في الكفر.
و قد ذكر الله سبحانه من الحكم الخاص بحرمة الأشهر الحرم النهي عن ظلم الأنفس حيث قال: «فلا تظلموا فيهن أنفسكم» و أظهر مصاديقه القتال كما أنه المصداق الوحيد الذي استفتوا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فحكاه الله سبحانه بقوله: «يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه» الآية: البقرة: - 217 و كذا ما في معناه من قوله: «لا تحلوا شعائر الله و لا الشهر الحرام:» المائدة: - 2 و قوله: «جعل الله الكعبة البيت الحرام قياما للناس و الشهر الحرام و الهدي و القلائد:» المائدة: - 97.
و كذلك الأثر الظاهر من حرمة البيت أو الحرم هو جعل الأمن فيه كما قال: «و من دخله كان آمنا:» آل عمران: - 97 و قال: «أ و لم نمكن لهم حرما آمنا: القصص: - 57.
فالظاهر أن النسيء الذي تذكره الآية عنهم إنما هو تأخير حرمة الشهر الحرام.
للتوسل بذلك إلى قتال فيه لا لتأخير الحج الذي هو عبادة دينية مختصة ببعضها.
و هذا كله يؤيد ما ذكروه أن العرب كانت تحرم هذه الأشهر الحرم، و كان ذلك مما تمسكت به من ملة إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام)، و هم كانوا أصحاب غارات و حروب فربما كان يشق عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر متوالية لا يغزون فيها فكانوا يؤخرون تحريم المحرم إلى صفر فيحرمونه و يستحلون المحرم فيمكثون بذلك زمانا ثم يعود التحريم إلى المحرم، و لا يفعلون ذلك أي إنساء حرمة المحرم إلى صفر إلا في ذي الحجة.
و أما ما ذكره بعضهم أن النسيء هو ما كانوا يؤخرون الحج من شهر إلى شهر فمها لا ينطبق على لفظ الآية البتة، و سيجيء تفصيل الكلام فيه في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و لنرجع إلى ما كنا فيه.
فقوله تعالى: «إنما النسيء زيادة في الكفر» أي تأخير الحرمة التي شرعها الله لهذه الأشهر الحرم من شهر منها إلى شهر غير حرام زيادة في الكفر لأنه تصرف في حكم الله المشروع و كفر بآياته بعد الكفر بالله من جهة الشرك فهو زيادة في الكفر.
و قوله: «يضل به الذين كفروا» أي ضلوا فيه بإضلال غيرهم إياهم بذلك، و في الكلام إشعار أو دلالة على أن هناك من يحكم بالنسيء، و قد ذكروا أن المتصدي لذلك كان بعض بني كنانة، و سيجيء تفصيله في البحث الروائي إن شاء الله.
و قوله: «يحلونه عاما و يحرمونه عاما ليواطئوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في موضع التفسير للإنساء، و الضمير للشهر الحرام المعلوم من سياق الكلام أي و هو أنهم يحلون الشهر الحرام الذي نسئوه بتأخير حرمته عاما و يحرمونه عاما، أي يحلونه عاما بتأخير حرمته إلى غيره، و يحرمونه عاما بإعادة حرمته إليه.
و إنما يعملون على هذه الشاكلة بالتأخير سنة و الإثبات أخرى ليواطئوا و يوافقوا عدة ما حرم الله فيحلوا ما حرم الله في حال حفظهم أصل العدد أي إنهم يريدون التحفظ على حرمة الأشهر الأربعة بعددها مع التغيير في محل الحرمة ليتمكنوا مما يريدونه من الحروب و الغارات مع الاستنان بالحرمة.
و قوله: «زين لهم سوء أعمالهم و الله لا يهدي القوم الكافرين» المزين هو الشيطان كما وقع في آيات من الكتاب، و ربما نسب إلى الله سبحانه كما في آيات أخر، و لا ينسب الشر إليه سبحانه إلا ما قصد به الجزاء على الشر كما قال تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين:» البقرة: - 26.
و ذلك بأن يفسق العبد فيمنعه الله الهداية فيكون ذلك إذنا لداعي الضلال و هو الشيطان أن يزين له سوء عمله فيغويه و يضله، و لذلك قال تعالى: «زين لهم سوء أعمالهم» ثم عقبه بقوله: «و الله لا يهدي القوم الكافرين» كأنه لما قيل: زين لهم سوء أعمالهم قيل: كيف أذن الله فيه و لم يمنع ذلك قيل: إن هؤلاء كافرون و الله لا يهدي القوم الكافرين.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي خالد الواسطي في حديث ثم قال يعني أبا جعفر (عليه السلام) حدثني أبي عن علي بن الحسين عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما ثقل في مرضه قال: أيها الناس إن السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثم قال بيده: رجب مفرد و ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم ثلاث متواليات.
أقول: و قد ورد في عدة روايات تأويل الشهور الاثني عشر، بالأئمة الاثني عشر، و تأويل الأربعة الحرم بعلي أمير المؤمنين و علي بن الحسين و علي بن موسى و علي بن محمد (عليهما السلام)، و تأويل السنة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و انطباقها على الآية بما لها من السياق لا يخلو عن خفاء.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو داود و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بكرة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطب في حجته فقال: ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض السنة اثنا عشر شهرا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ذو القعدة و ذو الحجة و المحرم، و رجب مفرد الذي بين جمادى و شعبان.
أقول: و هي من خطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المشهورة، و قد رويت بطرق أخرى عن أبي هريرة و ابن عمر و ابن عباس و عن أبي حمزة الرقاشي عن عمه و كانت له صحبة و غيرهم.
و المراد باستدارة الزمان كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض استقرار الأحكام الدينية على ما تقتضيه الفطرة و الخلقة و تمكن الدين القيم من الرقابة في أعمال الناس، و من ذلك حرمة الأشهر الأربعة الحرم و إلغاء النسيء الذي هو زيادة في الكفر.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن ابن عمر قال: وقف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعقبة فقال: إن النسيء من الشيطان زيادة في الكفر يضل به الذين كفروا يحلونه عاما و يحرمونه عاما فكانوا يحرمون المحرم عاما و يحرمون صفر عاما و يستحلون و هو النسيء. و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوفي الموسم كل عام و كان يكنى أبا ثمادة فينادي: ألا إن أبا ثمادة لا يخاف و لا يعاب ألا إن صفر الأول حلال. و كان طوائف من العرب إذا أرادوا أن يغيروا على بعض عدوهم أتوه فقالوا: أحل لنا هذا الشهر يعنون صفر، و كانت العرب لا تقاتل في الأشهر الحرم فيحله لهم عاما، و يحرمه عليهم في العام الآخر، و يحرم المحرم في قابل ليواطئوا عدة ما حرم الله يقول: ليجعلوا الحرم أربعة غير أنهم جعلوا صفر عاما حلالا و عاما حراما. و فيه، أخرج ابن المنذر عن قتادة: في قوله: «إنما النسيء زيادة في الكفر» الآية قال: عمد أناس من أهل الضلالة فزادوا صفر في الأشهر الحرم، و كان يقوم قائمهم في الموسم فيقول: إن آلهتكم قد حرمت صفر فيحرمونه ذلك العام و كان يقال لهما الصفران. و كان أول من نسأ النسيء بنو مالك من كنانة، و كانوا ثلاثة أبو ثمامة صفوان بن أمية و أحد بني فقيم بن الحارث، ثم أحد بني كنانة. و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: في الآية قال: كان رجل من بني كنانة يقال له جنادة بن عوف يكنى أبا أمامة ينسىء الشهور، و كانت العرب يشتد عليهم أن يمكثوا ثلاثة أشهر لا يغير بعضهم على بعض فإذا أراد أن يغير على أحد قام يوما بمنى فخطب فقال: إني قد أحللت المحرم و حرمت صفر مكانه فيقاتل الناس في المحرم فإذا كان صفر عمدوا و وضعوا الأسنة ثم يقوم في قابل فيقول: إني قد أحللت صفر و حرمت المحرم فيواطئوا أربعة أشهر فيحلوا المحرم. و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «يحلونه عاما و يحرمونه عاما» قال: هو صفر كانت هوازن و غطفان يحلونه سنة و يحرمونه سنة.
أقول: محصل الروايات - كما ترى - أن العرب كانت تدين بحرمة الأشهر الحرم الأربعة رجب و ذي القعدة و ذي الحجة و المحرم ثم إنهم ربما كانوا يتحرجون من القعود عن الحروب و الغارات ثلاثة أشهر متواليات فسألوا بعض بني كنانة أن يحل لهم ثالث الشهور الثلاثة فقام فيهم بعض أيام الحج بمنى و أحل لهم المحرم و نسأ حرمته إلى صفر فذهبوا لوجههم عامهم ذلك يقاتلون العدو ثم رد الحرمة إلى مكانه في قابل و هذا هو النسيء.
و كان يسمى المحرم صفر الأول و صفر الثاني و هما صفران كالربيعين و الجماديين و النسيء إنما ينال صفر الأول و لا يتعدى صفر الثاني فلما أقر الإسلام الحرمة لصفر الأول عبروا عنه بشهر الله المحرم ثم لما كثر الاستعمال خففت و قيل: المحرم، و اختص اسم صفر بصفر الثاني فالمحرم من الألفاظ الإسلامية كما ذكره السيوطي في المزهر.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد: في قوله: «إنما النسيء زيادة في الكفر» قال: فرض الله الحج في ذي الحجة، و كان المشركون يسمون الأشهر ذا الحجة و المحرم و صفر و ربيع و ربيع و جمادى و جمادى و رجب و شعبان و رمضان و شوال و ذا القعدة و ذا الحجة ثم يحجون فيه. ثم يسكتون عن المحرم فلا يذكرونه ثم يعودون فيسمون صفر صفر ثم يسمون رجب جمادى الآخرة ثم يسمون شعبان رمضان و رمضان شوال، و يسمون ذا القعدة شوال ثم يسمون ذا الحجة ذا القعدة ثم يسمون المحرم ذا الحجة ثم يحجون فيه و اسمه عندهم ذو الحجة. ثم عادوا إلى مثل هذه القصة فكانوا يحجون في كل شهر عاما حتى وافق حجة أبي بكر الآخرة من العام في ذي القعدة ثم حج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حجته التي حج فيها فوافق ذو الحجة فذلك حين يقول (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطبته: إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض.
أقول: و محصله على ما فيه من التشويش و الاضطراب أن العرب كانت قبل الإسلام يحج البيت في ذي الحجة غير أنهم أرادوا أن يحجوا كل عام في شهر فكانوا يدورون بالحج الشهور شهرا بعد شهر و كل شهر وصلت إليه النوبة عامهم ذلك سموه ذا الحجة و سكتوا عن اسمه الأصلي.
و لازم ذلك أن يتألف كل سنة فيها حجة من ثلاثة عشر شهرا و أن يتكرر اسم بعض الشهور مرتين أو أزيد كما يشعر به الرواية، و لذا ذكر الطبري أن العرب كانت تجعل السنة ثلاثة عشر شهرا، و في رواية اثني عشر شهرا و خمسة و عشرين يوما.
و لازم ذلك أيضا أن تتغير أسماء الشهور كلها، و أن لا يواطىء اسم الشهر نفس الشهر إلا في كل اثنتي عشرة سنة مرة إن كان التأخير على نظام محفوظ، و ذلك على نحو الدوران.
و مثل هذا لا يقال له الإنساء و التأخير فإن أخذ السنة ثلاثة عشر و تسمية آخرها ذا الحجة تغيير لأصل التركيب لا تأخير لبعض الشهور بحسب الحقيقة.
على أنه مخالف لسائر الأخبار و الآثار المنقولة و لا مأخذ لذلك إلا هذه الرواية و ما ضاهاها كرواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: كانت العرب يحلون عاما شهرا و عاما شهرين، و لا يصيبون الحج إلا في كل ستة و عشرين سنة مرة و هو النسيء الذي ذكر الله تعالى في كتابه فلما كان عام الحج الأكبر ثم حج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من العام المقبل فاستقبل الناس الأهلة فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات و الأرض، و هو في الاضطراب كخبر مجاهد.
على أن الذي ذكره من حجة أبي بكر في ذي القعدة هو الذي ورد من طرق أهل السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل أبا بكر أميرا للحج عام تسع فحج بالناس، و قد ورد في بعض روايات أخر أيضا أن الحجة عامئذ كانت في ذي القعدة.
و هذه الحجة على أي نعت فرضت كانت بأمر من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إمضائه، و لا يأمر بشيء و لا يمضي أمرا إلا ما أمر به ربه تعالى، و حاشا أن يأمر الله سبحانه بحجة في شهر نسيء ثم يسميها زيادة في الكفر.
فالحق أن النسيء هو ما تقدم أنهم كانوا يتحرجون من توالي شهور ثلاثة محرمة فينسئون حرمة المحرم إلى صفر ثم يعيدونها مكانها في العام المقبل.
و أما حجهم في كل شهر سنة أو في كل شهر سنتين أو في شهر سنة و في شهر سنتين فلم يثبت عن مأخذ واضح يوثق به، و ليس من البعيد أن تكون عرب الجاهلية مختلفين في ذلك لكونهم قبائل شتى و عشائر متفرقة كل متبع لهوى نفسه غير أن الحج كان عبادة ذات موسم لا يتخلفون عنه لحاجتها إلى أمن لنفوسهم و حرمة لدمائهم، و ما كانوا يتمكنون من ذلك لو كان أحل الشهر بعضهم و حرمه آخرون على اختلاف في شاكلة التحريم، و هو ظاهر.
|