بيان
تعرض للمنافقين و فيه بيان لجمل أوصافهم و علائمهم، و شرح ما لقي الإسلام و المسلمون من كيدهم و مكرهم و ما قاسوه من المصائب من جهة نفاقهم، و في مقدمها عتاب المؤمنين في تثاقلهم عن الجهاد، و حديث خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مكة و ذكر الغار.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض» الآية اثاقلتم أصله تثاقلتم على وزان اداركوا و غيره، و كأنه أشرب معنى الميل و نحوه فعدي بإلى و قيل: اثاقلتم إلى الأرض أي ملتم إلى الأرض متثاقلين أو تثاقلتم مائلين إلى الأرض و المراد بالنفر في سبيل الله الخروج إلى الجهاد.
و قوله: «أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة» كان الرضا أشرب معنى القناعة فعدي بمن كما يقال: رضيت من المال بطيبه، و رضيت من القوم بخلة فلان، و على هذا ففي الكلام نوع من العناية المجازية كأن الحياة الدنيا نوع حقير من الحياة الآخرة قنعوا بها منها، و يشعر بذلك قوله بعده: «فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة إلا قليل».
فمعنى الآية: يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قال لكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - لم يصرح باسمه صونا و تعظيما - اخرجوا إلى الجهاد أبطأتم كأنكم لا تريدون الخروج أقنعتم بالحياة الدنيا راضين بها من الآخرة فما متاع الحياة الدنيا بالنسبة إلى الحياة الآخرة إلا قليل.
و في الآية و ما يتلوها عتاب شديد للمؤمنين و تهديد عنيف و هي تقبل الانطباق على غزوة تبوك كما ورد ذلك في أسباب النزول.
قوله تعالى: «إلا تنفروا يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم» إلى آخر الآية العذاب الذي أنذروا به مطلق غير مقيد فلا وجه لتخصيصه بعذاب الآخرة بل هو على إبهامه، و ربما أيد السياق كون المراد به عذاب الدنيا أو عذاب الدنيا و الآخرة جميعا.
و قوله: «يستبدل قوما غيركم» أي يستبدل بكم قوما غيركم لا يتثاقلون في امتثال أوامر الله و النفر في سبيل الله إذا قيل لهم: انفروا، و الدليل على هذا المعنى قرينة المقام.
و قوله: «و لا تضروه شيئا» إشارة إلى هوان أمرهم على الله سبحانه لو أراد أن يذهب بهم و يأتي بآخرين فإن الله لا ينتفع بهم بل نفعهم لأنفسهم فضررهم على أنفسهم، و قوله: «و الله على كل شيء قدير» تعليل لقوله: «يعذبكم عذابا أليما و يستبدل قوما غيركم».
قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار» ثاني اثنين أي أحدهما، و الغار الثقبة العظيمة في الجبل، و المراد به غار جبل ثور قرب مني و هو غير غار حراء الذي ربما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يأوي إليه قبل البعثة للأخبار المستفيضة، و المراد بصاحبه هو أبو بكر للنقل القطعي.
و قوله: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» أي لا تحزن خوفا مما تشاهده من الوحدة و الغربة و فقد الناصر و تظاهر الأعداء و تعقيبهم إياي فإن الله سبحانه معنا ينصرني عليهم.
و قوله: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها» أي أنزل الله سكينته على رسوله و أيد رسوله بجنود لم تروها يصرفون القوم عنهم بوجوه من الصرف بجميع العوامل التي عملت في انصراف القوم عن دخول الغار و الظفر به (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد روي في ذلك أشياء ستأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
و الدليل على رجوع الضمير في قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا: رجوع الضمائر التي قبله و بعده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) كقوله: «إلا تنصروه» و «نصره» و «أخرجه» و «يقول» و «لصاحبه» و «أيده» فلا سبيل إلى رجوع ضمير «عليه» من بينها وحده إلى غيره من غير قرينة قاطعة تدل عليه.
و ثانيا: أن الكلام في الآية مسوق لبيان نصر الله تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث لم يكن معه أحد ممن يتمكن من نصرته إذ يقول تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله إذ» الآية و إنزال السكينة و التقوية بالجنود من النصر فذاك له (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة.
و يدل على ذلك تكرار «إذ» و ذكرها في الآية ثلاث مرات كل منها بيان لما قبله بوجه فقوله «إذ أخرجه الذين كفروا» بيان لوقت قوله: «فقد نصره الله» و قوله: «إذ هما في الغار» بيان لتشخيص الحال الذي هو قوله: «ثاني اثنين» و قوله: «إذ يقول لصاحبه» بيان لتشخيص الوقت الذي يدل عليه قوله: «إذ هما في الغار».
و ثالثا: أن الآية تجري في سياق واحد حتى يقول: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا» و لا ريب أنه بيان لما قبله، و أن المراد بكلمة الذين كفروا هي ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إطفاء نور الله، و بكلمة الله هي ما وعده من نصره و إتمام نوره، و كيف يجوز أن يفرق بين البيان و المبين و جعل البيان راجعا إلى نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المبين راجعا إلى نصره غيره.
فمعنى الآية: إن لم تنصروه أنتم أيها المؤمنون فقد أظهر الله نصره إياه في وقت لم يكن له أحد ينصره و يدفع عنه و قد تظاهرت عليه الأعداء و أحاطوا به من كل جهة و ذلك إذ هم المشركون به و عزموا على قتله فاضطر إلى الخروج من مكة في حال لم يكن إلا أحد رجلين اثنين، و ذلك إذ هما في الغار إذ يقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لصاحبه و هو أبو بكر: لا تحزن مما تشاهده من الحال إن الله معنا بيده النصر فنصره الله.
حيث أنزل سكينته عليه و أيده بجنود غائبة عن أبصاركم، و جعل كلمة الذين كفروا - و هي قضاؤهم بوجوب قتله و عزيمتهم عليه - كلمة مغلوبة غير نافذة و لا مؤثرة، و كلمة الله - و هي الوعد بالنصر و إظهار الدين و إتمام النور - هي العليا العالية القاهرة و الله عزيز لا يغلب حكيم لا يجهل و لا يغلط في ما شاءه و فعله.
و قد تبين مما تقدم أولا أن قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» متفرع على قوله: «فقد نصره الله» في عين أنه متفرع على قوله: «إذ يقول لصاحبه لا تحزن» فإن الظرف ظرف للنصرة على ما تقدم، و الكلام مسوق لبيان نصره تعالى إياه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا غيره فالتفريع تفريع على الظرف بمظروفه الذي هو قوله: «فقد نصره الله» لا على قوله: «يقول لصاحبه لا تحزن».
و ربما استدل لذلك بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه فإنزال السكينة في هذا الظرف خاصة يكشف عن نزوله على صاحبه.
و يدفعه أولا قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» في قصة حنين، و القول بأن نفسه الشريفة اضطربت بعض الاضطراب في وقعة حنين فناسب نزول السكينة بخلاف الحال في الغار.
يدفعه أنه من الافتعال بغير علم فالآية لا تذكر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) حزنا و لا اضطرابا و لا غير ذلك إلا ما تذكر من فرار المؤمنين.
على أنه يبطل أصل الاستدلال أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل على سكينة من ربه لا يتجدد له شيء منها فكيف جاز له أن يضطرب في حنين فتنزل عليه سكينة جديدة اللهم إلا أن يريدوا به أنه لم يزل في الغار كذلك.
و نظيرتها الآية الناطقة بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و على المؤمنين في سورة الفتح: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الفتح: - 26.
و يدفعه ثانيا: لزوم تفرع قوله: «و أيده بجنود لم تروها» على أثر تفرع قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» لأنهما في سياق واحد، و لازمه عدم رجوع التأييد بالجنود إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) أو التفكيك في السياق الواحد من غير مجوز يجوزه.
و ربما التزم بعضهم - فرارا من شناعة لزوم التفكيك - أن الضمير في قوله تعالى: «و أيده» أيضا راجع إلى صاحبه، و لازمه كون إنزال السكينة و التأييد بالجنود عائدين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ربما أيده بعض آخر بأن الوقائع التي تذكر الآيات فيها نزول جنود لم يروها كوقعة حنين و الأحزاب و كذا نزول الملائكة لوقعة بدر و إن لم تذكر نزولهم على المؤمنين و لم تصرح بتأييدهم بهم لكنهم حيث كانوا إنما نزلوا للنصر و فيه نصر المؤمنين و إمدادهم فلا مانع من القول بأن الجنود التي لم يروها إنما أيدت أبا بكر، و تأييدهم المؤمنين جميعا أو أبا بكر خاصة تأييد منهم في الحقيقة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و الأولى على هذا البيان أن يجعل الفرع الثالث الذي هو قوله: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى» الآية مترتبا على ما تقدمه من الفرعين لئلا يلزم التفكيك في السياق.
و لا يخفى عليك أن هذا الذي التزموا به يخرج الآية عن مستقر معناها الوحداني إلى معنى متهافت الأطراف يدفع آخره أوله، و ينقض ذيله صدره فقد بدئت الآية بأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أكرم على الله و أعز من أن يستذله و يحوجه إلى نصرة هؤلاء بل هو تعالى وليه القائم بنصره حيث لم يكن أحد من هؤلاء الحافين حوله المتبعين أثره ثم إذا شرعت في بيان نصره تعالى إياه بين نصره غيره بإنزال السكينة عليه و تأييده بجنود لم يروها إلى آخر الآية.
هب أن نصره تعالى بعض المؤمنين به (صلى الله عليه وآله وسلم) أو جميعهم نصر منه له بالحقيقة لكن الآية في مساق يدفعه البتة فإن الآية السابقة يجمع المؤمنين في خطاب واحد - يا أيها الذين آمنوا - و يعاتبهم و يهددهم على التثاقل عن إجابة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى ما أمرهم به من النفر في سبيل الله و الخروج إلى الجهاد ثم الآية الثانية تهددهم بالعذاب و الاستبدال إن لم ينفروا و تبين لهم أن الله و رسوله في غنى عنهم و لا يضرونه شيئا، ثم الآية الثالثة توضح أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غنى عن نصرهم لأن ربه هو وليه الناصر له، و قد نصره حيث لم يكن لأحد منهم صنع فيه و هو نصره إياه إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
و من البين الذي لا مرية فيه أن مقتضى هذا المقام بيان نصره (صلى الله عليه وآله وسلم) الخاص به المتعلق بشخصه من الله سبحانه خاصة من دون صنع لأحد من المؤمنين في ذلك لا بيان نصره إياه بالمؤمنين أو ببعضهم و قد جمعهم في خطاب المعاتبة، و لا بيان نصره بعض المؤمنين به ممن كان معه.
و لا أن المقام مقام يصلح لأن يشار بقوله: «إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين» إشارة إجمالية إلى نصره العزيز لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يؤخذ في تفصيل ما خص به صاحبه من الخصيصة بإنزال السكينة و التأييد بالجنود فإن المقام على ما تبين لك يأبى ذلك.
و يدفعه ثالثا: أن فيه غفلة عن حقيقة معنى السكينة و قد تقدم الكلام فيها في ذيل قوله تعالى: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين:» الآية: - 26 من السورة.
و الأمر الثاني: أن المراد بتأييده (صلى الله عليه وآله وسلم) بجنود لم يروها تأييده بذلك يومئذ على ما يفيده السياق، و أما قول بعضهم: إن المراد به ما أيده بالجنود يوم الأحزاب و يوم حنين على ما نطقت به الآيات فمما لا دليل عليه من اللفظ البتة.
و الأمر الثالث: أن المراد بالكلمة في قوله: «و جعل كلمة الذين كفروا السفلى، هو ما قضوا به في دار الندوة و عزموا عليه من قتله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إبطال دعوته الحقة بذلك، و بقوله: «و كلمة الله هي العليا» هو ما وعد الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من النصر و إظهار دينه على الدين كله.
و ذلك أن هذه الآية بما تتضمنه من قوله: «فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا» تشير إلى ما يقصه قوله تعالى: «و إذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك و يمكرون و يمكر الله و الله خير الماكرين: «الأنفال: - 30، و الذي في ذيل الآية من إبطال كلمتهم و إحقاق الكلمة الإلهية مرتبط بما في صدر الآية من حديث الإخراج أي الاضطرار إلى الخروج لا محالة، و الذي اضطره (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الخروج هو عزمهم على قتله حسب ما اتفقوا عليه من القضاء بقتله فهذه هي الكلمة التي أبطلها الله سبحانه و جعلها السفلى و تقابلها كلمة الله و ليست إلا النصر و الإظهار.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن المراد بكلمة الذين كفروا الشرك و الكفر، و بكلمة الله تعالى التوحيد و الإيمان غير سديد فإن الشرك و إن كان كلمة لهم، و التوحيد كلمة لله لكنه لا يستلزم كونهما المرادين كلما ذكرت الكلمتان حتى مع وجود القرينة على الخلاف.
قوله تعالى: «انفروا خفافا و ثقالا و جاهدوا بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون» الخفاف و الثقال جمعا خفيف و ثقيل، و الثقل بقرينة المقام كناية عن وجود الموانع الشاغلة الصارفة للإنسان عن الخروج إلى الجهاد نظير كثرة المشاغل المالية و حب الأهل و الولد و الأقرباء و الأصدقاء الذي يوجب كراهة مفارقتهم، و فقد الزاد و الراحلة و السلاح و نحو ذلك، و الخفة كناية عن خلاف ذلك.
فالأمر بالنفر خفافا و ثقالا و هما حالان متقابلان في معنى الأمر بالخروج على أي حال، و عدم اتخاذ شيء من ذلك عذرا يعتذر به لترك الخروج كما أن الجمع بين الأموال و الأنفس في الذكر في معنى الأمر بالجهاد بأي وسيلة أمكنت.
و قد ظهر بذلك أن الأمر في الآية مطلق لا يأبى التقييد بالأعذار التي يسقط معها وجوب الجهاد كالمرض و العمى و العرج و نحو ذلك فإن المراد بالخفة و الثقل أمر وراء ذلك.
قوله تعالى: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك» إلى آخر الآية.
العرض ما يسرع إليه الزوال و يطلق على المال الدنيوي و هو المراد في الآية بقرينة السياق، و المراد بقربه كونه قريبا من التناول، و القاصد من القصد و هو التوسط في الأمر، و المراد بكون السفر قاصدا كونه غير بعيد المقصد سهلا على المسافر، و الشقة: المسافة لما في قطعها من المشقة.
و الآية كما يلوح من سياقها تعيير و ذم للمنافقين المتخلفين عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الجهاد في غزوة تبوك إذ الغزوة التي خرج فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تخلف عنه المنافقون و هي على بعد من المسافة هي غزوة تبوك لا غيرها.
و معنى الآية: لو كان ما أمرتهم به و دعوتهم إليه عرضا قريب التناول و غنيمة حاضرة و سفرا قاصدا قريبا هينا لاتبعوك يا محمد و خرجوا معك طمعا في الغنيمة و لكن بعدت عليهم الشقة و المسافة فاستصعبوا السير و تثاقلوا فيه.
و سيحلفون بالله إذا رجعتم إليهم و لمتموهم على تخلفهم: لو استطعنا الخروج لخرجنا معكم يهلكون أنفسهم بما أخذوه من الطريقة: من الخروج إلى القتال طمعا في عرض الدنيا إذا استيسروا القبض عليه، و التخلف عنه إذا شق عليهم ثم الاعتذار بالعذر الكاذب على نبيهم و الحلف في ذلك بالله كاذبين، أو يهلكون أنفسهم بهذا الحلف الكاذب، و الله يعلم إنهم لكاذبون.
قوله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين» الجملة الأولى دعاء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعفو نظير الدعاء على الإنسان بالقتل في قوله: «قتل الإنسان ما أكفره:» عبس: - 17، و قوله: «فقتل كيف قدر»: المدثر: - 19 و قوله: «قاتلهم الله أنى يؤفكون:» التوبة: - 30.
و الجملة متعلقة بقوله: «لم أذنت لهم» أي في التخلف و القعود، و لما كان الاستفهام للإنكار أو التوبيخ كان معناه: كان ينبغي أن لا تأذن لهم في التخلف و القعود، و يستقيم به تعلق الغاية التي يشتمل عليها قوله: «حتى يتبين لك الذين صدقوا» الآية.
بقوله: «لم أذنت لهم» فالتعلق إنما هو بالمستفهم عنه دون الاستفهام و إلا أفاد خلاف المقصود، و الكلام مسوق لبيان ظهور كذبهم و أن أدنى الامتحان كالكف عن إذنهم في القعود يكشف عن فصاحتهم.
و معنى الآية: عفا الله عنك لم أذنت لهم في التخلف و القعود؟ و لو شئت لم تأذن لهم - و كانوا أحق به - حتى يتبين لك الذين صدقوا و تعلم الكاذبين فيتميز عندك كذبهم و نفاقهم.
و الآية - كما ترى و تقدمت الإشارة إليه - في مقام دعوى ظهور كذبهم و نفاقهم و أنهم مفتضحون بأدنى امتحان يمتحنون به، و من مناسبات هذا المقام إلقاء العتاب إلى المخاطب و توبيخه و الإنكار عليه كأنه هو الذي ستر عليهم فضائح أعمالهم و سوء سريرتهم، و هو نوع من العناية الكلامية يتبين به ظهور الأمر و وضوحه لا يراد أزيد من ذلك فهو من أقسام البيان على طريق: «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
فالمراد بالكلام إظهار هذه الدعوى لا الكشف عن تقصير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سوء تدبيره في إحياء أمر الله، و ارتكابه بذلك ذنبا - حاشاه - و أولوية عدم الإذن لهم معناها كون عدم الإذن أنسب لظهور فضيحتهم و أنهم أحق بذلك لما بهم من سوء السريرة و فساد النية لا لأنه كان أولى و أحرى في نفسه و أقرب و أمس بمصلحة الدين.
و الدليل على هذا الذي ذكرنا قوله تعالى بعد ثلاث آيات: «لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة و فيكم سماعون لهم» إلى آخر الآيتين، فقد كان الأصلح أن يؤذن لهم في التخلف ليصان الجمع من الخبال و فساد الرأي و تفرق الكلمة، و المتعين أن يقعدوا فلا يفتنوا المؤمنين بإلقاء الخلاف بينهم و التفتين فيهم و فيهم ضعفاء الإيمان و مرضى القلوب و هم سماعون لهم يسرعون إلى المطاوعة لهم و لو لم يؤذن لهم فأظهروا الخلاف كانت الفتنة أشد و التفرق في كلمة الجماعة أوضح و أبين.
و يؤكد ذلك قوله تعالى بعد آيتين: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم و قيل اقعدوا مع القاعدين» فقد كان تخلفهم و نفاقهم ظاهرا لائحا من عدم إعدادهم العدة يتوسمه في وجوههم كل ذي لب، و لا يخفى مثل ذلك على مثل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نبأه الله بأخبارهم قبل نزول هذه السورة كرارا فكيف يصح أن يعاتب هاهنا عتابا جديا بأنه لم لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم حتى يتبين له نفاقهم و يميز المنافقين من المؤمنين، فليس المراد بالعتاب إلا ما ذكرناه.
و مما تقدم يظهر فساد قول من قال: إن الآية تدل على صدور الذنب عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لأن العفو لا يتحقق من غير ذنب، و إن الإذن كان قبيحا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) و من صغائر الذنوب لأنه لا يقال في المباح لم فعلته؟ انتهى.
و هذا من لعبهم بكلام الله سبحانه، و لو اعترض معترض على ما يهجون به في مثل المقام الذي سيقت الآية فيه لم يرضوا بذلك، و قد أوضحنا أن الآية مسوقة لغرض غير غرض الجد في العتاب.
على أن قولهم: إن المباح لا يقال فيه: لم فعلت؟ فاسد فإن من الجائز إذا شوهد من رجح غير الأولى على الأولى أن يقال له: لم فعلت ذلك و رجحته على ما هو أولى منه؟ على أنك قد عرفت أن الآية غير مسوقة لعتاب جدي.
و نظيره ما ذكره بعض آخر حيث قال: إن بعض المفسرين و لا سيما الزمخشري قد أساءوا الأدب في التعبير عن عفو الله تعالى عن رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية، و كان يجب أن يتعلموا أعلى الأدب معه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذ أخبره ربه و مؤدبه بالعفو قبل الذنب، و هو منتهى التكريم و اللطف.
و بالغ آخرون كالرازي في الطرف الآخر فأرادوا أن يثبتوا أن العفو لا يدل على الذنب، و غايته أن الإذن الذي عاتبه الله عليه هو خلاف الأولى.
و هو جمود مع الاصطلاحات المحدثة و العرف الخاص في معنى الذنب و هو المعصية، و ما كان ينبغي لهم أن يهربوا من إثبات ما أثبته الله في كتابه تمسكا باصطلاحاتهم و عرفهم المخالف له و المدلول اللغة أيضا.
فالذنب في اللغة كل عمل يستتبع ضررا أو فوت منفعة أو مصلحة، مأخوذ من ذنب الدابة، و ليس مرادفا للمعصية بل أعم منها.
و الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية و هي تبين الذين صدقوا و العلم بالكاذبين، و قد قال تعالى: «إنا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك و ما تأخر» الآية: الفتح: - 2.
ثم ذكر في كلام له طويل أن ذلك كان اجتهادا منه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما لا وحي فيه من الله و هو جائز و واقع من الأنبياء (عليهم السلام) و ليسوا بمعصومين من الخطإ فيه و إنما العصمة المتفق عليها خاصة بتبليغ الوحي ببيانه و العمل به فيستحيل على الرسول أن يكذب أو يخطىء فيما يبلغه عن ربه أو يخالفه بالعمل.
و منه ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة:» الأنفال: - 67 ثم بين أنه كان مقتضيا لنزول عذاب أليم لو لا كتاب من الله سبق فكان مانعا انتهى كلامه بنوع من التلخيص.
و ليث شعري ما الذي زاد في كلامه على ما تفصى به الرازي و غيره حيث ذكروا أن ذلك من ترك الأولى، و لا يسمونه ذنبا في عرف المتشرعين و هو الذي يستتبع عقابا، و ذكر هو أنه من ترك الأصلح و سماه ذنبا لغة.
على أنك قد عرفت فيما تقدم أنه لم يكن ذنبا لا عرفا و لا لغة بدلالة ناصة من الآيات على أن عدم خروجهم كان هو الأصلح لحال جيش المسلمين لتخلصهم بذلك عن غائلة وقوع الفتنة و اختلاف الكلمة، و كانت هذه العلة بعينها موجودة لو لم يأذن لهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ظهر منهم ما كانوا أبطنوه من الكفر و الخلاف و أن الذي ذكره الله بقوله: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة» إن عدم إعدادهم العدة كان يدل على عدم إرادتهم الخروج، كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أجل من أن يخفى عليه ذلك و هم بمرأى منه و مسمع.
مضافا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرفهم في لحن القول كما قال تعالى: «و لتعرفنهم في لحن القول:» سورة محمد: - 30 و كيف يخفى على من سمع من أحدهم مثل قوله: «ائذن لي و لا تفتني» أو يقول للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «هو أذن» أو يلمزه في الصدقات و لا ينصح له (صلى الله عليه وآله وسلم) إن ذلك من طلائع النفاق يطلع منهم و ما وراءه إلا كفر و خلاف.
فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتوسم منهم النفاق و الخلاف و يعلم بما في نفوسهم، و مع ذلك فعتابه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم لم يكف عن الإذن و لم يستعلم حالهم و لم يميزهم من غيرهم؟ ليس إلا عتابا غير جدي للغرض الذي ذكرناه.
و أما قوله: «إن الإذن المعفو عنه قد استتبع فوت المصلحة المنصوصة في الآية و هي تبين الذين صدقوا و العلم بالكاذبين» ففيه أن الذي تشتمل عليه الآية من المصلحة هو تبين الذين صدقوا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علمه هو بالكاذبين لا مطلق تبينهم و لا مطلق العلم بالكاذبين، و قد ظهر مما تقدم أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن يخفى عليه ذلك، و أن حقيقة المصلحة إنما كانت في الإذن و هي سد باب الفتنة و اختلاف الكلمة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعلم من حالهم أنهم غير خارجين البتة سواء أذن لهم في القعود أم لم يأذن فبادر إلى الإذن حفظا على ظاهر الطاعة و وحدة الكلمة.
و ليس لك أن تتصور أنه لو بان نفاقهم يومئذ و ظهر خلافهم بعدم إذن النبي لهم بالقعود لتخلص الناس من تفتينهم و إلقائهم الخلاف لما في الإسلام يومئذ - و هو يوم خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزوة تبوك - من الشوكة و القوة، و له (صلى الله عليه وآله وسلم) من نفوذ الكلمة.
فإن الإسلام يومئذ إنما كان يملك القوة و المهابة في أعين الناس من غير المسلمين كانوا يرتاعون شوكته و يعظمون سواد أهله و يخافون حد سيوفهم، و أما المسلمون في داخل مجتمعهم و بين أنفسهم فلم يخلصوا بعد من النفاق و مرض القلوب، و لم يستول عليهم بعد وحدة الكلمة و جد الهمة و العزيمة، و الدليل على ذلك نفس هذه الآيات و ما يتلوها إلى آخر السورة تقريبا.
و قد كانوا تظاهروا بمثل ذلك يوم أحد و قد هجم عليهم العدو في عقر دارهم فرجع ثلث الجيش الإسلامي من المعركة و لم يؤثر فيهم عظة و لا إلحاح حتى قالوا: لو نعلم قتالا لاتبعناكم، فكان ذلك أحد الأسباب العاملة في انهزام المسلمين.
و أما قوله: و من عتابه تعالى لرسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في خطئه في اجتهاده ما تقدم في سورة الأنفال من عتابه في أخذ الفدية من أسارى بدر حيث قال: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض» الآية.
ففيه أولا: أنه من سوء الفهم فمن البين الذي لا يرتاب فيه أن الآية بلفظها لا تعاتب على أخذ الفدية من الأسرى و إنما تعاتب على نفس أخذ الأسرى - ما كان لنبي أن يكون له أسرى - و لم تنزل آية و لا وردت رواية في أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان أمرهم بالأسر بل روايات القصة تدل على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أمر بقتل بعض الأسرى خاف الناس أن يقتلهم عن آخرهم فكلموه و ألحوا عليه في أخذ الفدية منهم ليتقووا بذلك على أعداء الدين و قد رد الله عليهم ذلك بقوله: «تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة».
و هذا من أحسن الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى المؤمنين خاصة من غير أن يختص به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو يشاركهم فيه و أن أكثر ما ورد من الأخبار في هذا المعنى موضوعة أو مدسوسة.
و ثانيا: أن العتاب في الآية لو اختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو شمله و غيره لم يكن من العتاب على ما ذكره على الذنب بمعناه اللغوي و هو تفويت المصلحة بوجه فإن هذا العتاب مذيل بقوله تعالى في الآية التالية: «لو لا كتاب من الله سبق لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم:» الأنفال: - 68 فلا يرتاب ذو لب في أن التهديد بالعذاب العظيم لا يتأتى إلا مع كون المهدد عليه من المعصية المصطلحة بل و من كبائر المعاصي، و هذا أيضا من الشواهد على أن العتاب في الآية متوجه إلى غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «لا يستأذنك الذين يؤمنون بالله و اليوم الآخر» إلى آخر الآيتين تذكر الآيتان أحد ما يعرف به المنافق و يتميز به من المؤمن و هو الاستيذان في التخلف عن الجهاد في سبيل الله.
و قد بين الله سبحانه ذلك بأن الجهاد في سبيل الله بالأموال و الأنفس من لوازم الإيمان بالله و اليوم الآخر بحقيقة الإيمان لما يورثه هذا الإيمان من صفة التقوى، و المؤمن لما كان على تقوى من قبل الإيمان بالله و اليوم الآخر كان على بصيرة من وجوب الجهاد في سبيل الله بماله و نفسه.
و لا يدعه ذلك أن يتثاقل عنه فيستأذن في القعود لكن المنافق لعدم الإيمان بالله و اليوم الآخر فقد صفة التقوى فارتاب قلبه و لا يزال يتردد في ريبة فيحب التطرف، و يستأذن في التخلف و القعود عن الجهاد.
قوله تعالى: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة» إلى آخر الآية، العدة الأهبة، و الانبعاث - على ما في المجمع، - الانطلاق بسرعة في الأمر، و التثبيط التوقيف عن الأمر بالتزهيد فيه.
و الآية معطوفة على ما تقدم من قوله: «و الله يعلم إنهم لكاذبون» بحسب المعنى أي هم كاذبون في دعواهم عدم استطاعتهم الخروج بل ما كانوا يريدونه و لو أرادوه لأعدوا له عدة لأن من آثار من يريد أمرا من الأمور أن يتأهب له بما يناسبه من العدة و الأهبة و لم يظهر منهم شيء من ذلك.
و قوله: «و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم» أي جزاء بنفاقهم و امتنانا عليك و على المؤمنين لئلا يفسدوا جمعكم، و يفرقوا كلمتكم بالتفتين و إلقاء الخلاف.
و قوله: «و قيل اقعدوا مع القاعدين» أمر غير تشريعي لا ينافي الأمر التشريعي بالنفر و الخروج، فقد أمرهم الله بلسان نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنفر و الخروج - و هو أمر تشريعي - و أمرهم من ناحية سريرتهم الفاسدة و الريب المتردد في قلوبهم و سجاياهم الباطنية الخبيثة بالقعود - و هو أمر غير تشريعي - و لا تنافي بينهما.
و لم ينسب قول: «اقعدوا مع القاعدين» إلى نفسه تنزيها لنفسه عن الأمر بما لا يرتضيه و هناك أسباب متخللة آمرة بذلك كالشيطان و النفس، و إنما ينسب إليه تعالى بالواسطة لانطباق معنى الجزاء و الامتنان على المؤمنين عليه.
و ليتوافق الأمران المتخالفان صورة في السياق أعني قوله: «قيل لكم انفروا في سبيل الله» و قوله: «قيل اقعدوا مع القاعدين».
قوله تعالى: «لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا و لأوضعوا خلالكم» الآية الخبال هو الفساد و اضطراب الرأي، و الإيضاح: الإسراع في الشر، و الخلال: البين! و البغي هو الطلب فمعنى يبغونكم الفتنة أي يطلبون لكم أو فيكم الفتنة على ما قيل، و الفتنة هي المحنة كالفرقة و اختلاف الكلمة على ما يناسب الآية من معانيها، و السماع السريع الإجابة و القبول.
و الآية في مقام التعليل لقوله: «و لكن كره الله انبعاثهم فثبطهم» امتنانا، و لذا جيء بالفصل من غير عطف، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «لقد ابتغوا الفتنة من قبل و قلبوا لك الأمور حتى جاء الحق و ظهر أمر الله و هم كارهون» أي أقسم لقد طلبوا المحنة و اختلاف الكلمة و تفرق الجماعة من قبل هذه الغزوة - و هي غزوة تبوك - كما في غزوة أحد حين رجع عبد الله بن أبي بن سلول بثلث القوم و خذل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قلبوا لك الأمور بدعوة الناس إلى الخلاف و تحريضهم على المعصية و خذلانهم عن الجهاد و بعث اليهود و المشركين على قتال المؤمنين و التجسس و غير ذلك حتى جاء الحق - و هو الحق الذي يجب أن يتبع - و ظهر أمر الله - و هو الذي يريده من الدين - و هم كارهون لجميع ذلك.
و الآية تستشهد على الآية السابقة بذكر الأمثال كما يستدل على الأمر بمثله، و توجيه الخطاب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة بعد عمومه في الآية السابقة لاختصاص الأمر فيه بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعني تقليب الأمور عليه بخلاف ما في الآية السابقة من خروجهم في الناس.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «إلا تنصروه فقد نصره الله» الآية: أخرج ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس قال: لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الليل لحق بغار ثور قال: و تبعه أبو بكر فلما سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسه خلفه خاف أن يكون الطلب فلما رأى ذلك أبو بكر تنحنح فلما سمع ذلك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عرفه فقام له حتى تبعه فأتيا الغار. فأصبحت قريش في طلبه فبعثوا إلى رجل من قافة بني مدلج فتبع الأثر حتى انتهى إلى الغار و على بابه شجرة فبال في أصلها القائف ثم قال: ما جاز صاحبكم الذي تطلبون هذا المكان قال فعند ذلك حزن أبو بكر فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تحزن إن الله معنا. قال: فمكث هو و أبو بكر في الغار ثلاثة أيام يختلف إليهم بالطعام عامر بن فهيرة و علي يجهزهم فاشتروا ثلاثة أباعر من إبل البحرين و استأجر لهم دليلا فلما كان بعض الليل من الليلة الثالثة أتاهم علي بالإبل و الدليل فركب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) راحلته و ركب أبو بكر أخرى فتوجهوا نحو المدينة، و قد بعثت قريش في طلبه. و فيه، أخرج ابن سعد عن ابن عباس و علي و عائشة بنت أبي بكر و عائشة بنت قدامة و سراقة بن جعشم دخل حديث بعضهم في بعض قالوا: خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و القوم جلوس على بابه فأخذ حفنة من البطحاء فجعل يذرها على رءوسهم و يتلو: «يس و القرآن الحكيم» الآيات و مضى. فقال لهم قائل ما تنتظرون؟ قالوا: محمدا. قال: قد و الله مر بكم قالوا: و الله ما أبصرناه و قاموا ينفضون التراب من رءوسهم، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر إلى غار ثور فدخلاه و ضربت العنكبوت على بابه بعشاش بعضها على بعض. و طلبته قريش أشد الطلب حتى انتهوا إلى باب الغار فقال بعضهم: إن عليه لعنكبوتا قبل ميلاد محمد. و في إعلام الورى،: في حديث سراقة بن جعشم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الذي اشتهر في العرب يتقاولون فيه الأشعار و يتفاوضونه في الديار أنه تبعه و هو متوجه إلى المدينة طالبا لغرته (صلى الله عليه وآله وسلم) ليحظى بذلك عند قريش، حتى إذا أمكنته الفرصة في نفسه و أيقن أن قد ظفر ببغيته ساخت قوائم فرسه حتى تغيبت بأجمعها في الأرض و هو بموضع جدب و قاع صفصف فعلم أن الذي أصابه أمر سماوي فنادى يا محمد: ادع ربك يطلق لي فرسي و ذمة الله أن لا أدل عليك أحدا، فدعا له فوثب جواده كأنه أفلت من أنشوطة و كان رجلا داهية، و علم بما رأى أنه سيكون له نبأ فقال: اكتب لي أمانا فكتب له و انصرف. قال محمد بن إسحاق: إن أبا جهل قال في أمر سراقة أبياتا فأجابه سراقة نظما: أبا حكم و اللات لو كنت شاهدا. لأمر جوادي إذ تسيخ قوائمه. عجبت و لم تشكك بأن محمدا. نبي ببرهان فمن ذا يكاتمه؟. عليك بكف الناس عنه فإنني. أرى أمره يوما ستبدو معالمه: أقول: و رواه في الكافي، بإسناده عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام)، و في الدر المنثور، بعدة طرق، و أورده الزمخشري في ربيع الأبرار. و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد و ابن مردويه عن ابن مصعب قال: أدركت أنس بن مالك و زيد بن أرقم و المغيرة بن شعبة فسمعتهم يتحدثون: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته، و أمر الله العنكبوت فنسجت في وجه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسترته و أمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار. و أقبل فتيان قريش من كل بطن رجل بعصيهم و أسيافهم و هراويهم حتى إذا كانوا من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قدر أربعين ذراعا فعجل بعضهم فنظر في الغار فرجع إلى أصحابه فقالوا: ما لك لم تنظر في الغار؟ فقال: رأيت حمامتين بفم الغار فعرفت أن ليس فيه أحد. الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و ابن المنذر عن الزهري: في قوله: «إذ هما في الغار» قال: الغار الذي في الجبل الذي يسمى ثورا.
أقول: و قد استفاضت الروايات بكون الغار المذكور في القرآن الكريم هو غار جبل ثور، و هو على أربعة فراسخ من مكة تقريبا.
و في إعلام الورى، و قصص الأنبياء،: و بقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار ثلاثة أيام ثم أذن الله تعالى له بالهجرة، و قال: اخرج من مكة يا محمد فليس لك بها ناصر بعد أبي طالب فخرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و أقبل راع لبعض قريش يقال له: ابن أريقط فدعاه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له: يا ابن أريقط آتمنك على دمي؟ فقال: إذن و الله أحرسك و أحفظك و لا أدل عليك، فأين تريد يا محمد؟ قال: يثرب. قال: لأسلكن بك مسلكا لا يهتدي فيها أحد فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ائت عليا و بشره بأن الله قد أذن لي في الهجرة فهيىء لي زادا و راحلة. و قال له أبو بكر: ائت أسماء ابنتي و قل لها: تهيئي لي زادا و راحلتين، و أعلم عامر بن فهيرة أمرنا، و كان من موالي أبي بكر و كان قد أسلم، و قل له: ائتنا بالزاد و الراحلتين. فجاء ابن أريقط إلى علي (عليه السلام) فأخبره بذلك فبعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بزاد و راحلة، و بعث ابن فهيرة بزاد و راحلتين، و خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغار و أخذ به ابن أريقط على طريق نخلة بين الجبال فلم يرجعوا إلى الطريق إلا بقديد فنزلوا على أم معبد هناك. قال: و قد كانت الأنصار بلغهم خروج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إليهم و كانوا يتوقعون قدومه إلى أن وافى مسجد قبا و نزل فخرج الرجال و النساء يستبشرون بقدومه.
أقول: و الأخبار في تفاصيل قصص الهجرة بالغة في الكثرة رواها أصحاب النقل و أرباب السير من الشيعة و أهل السنة، و هي على كثرتها متدافعة مضطربة لا يسع نقدها و استخراج الصافي منها مجال هذا الكتاب، و للدلالة على إجمال القصة فيما أوردناه كفاية و هو كالمتفق عليه بين أخبار الفريقين.
و في الدر المنثور، أخرج خيثمة بن سليمان الطرابلسي في فضائل الصحابة و ابن عساكر عن علي بن أبي طالب قال: إن الله ذم الناس كلهم و مدح أبا بكر فقال: إلا تنصروه فقد نصره الله - إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار - إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا.
أقول: نقد البحث في مضامين الآيات الحافة بالقصة و ما ينضم إليها من النقل الصحيح يوجب سوء الظن بهذه الرواية فإن الآيات التي تذم المؤمنين - أو الناس كلهم كما في الرواية - و إليها تشير آية الغار بما فيها من قوله: «إلا تنصروه» هي قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم إلى الأرض» الآية، و النقل القطعي يدل على أن التثاقل المذكور لم يكن من عامة المؤمنين و جميعهم، و إن كثيرا منهم سارع إلى إجابة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما أمر به من النفر، و إنما تثاقل جماعة من الناس من مؤمن و منافق.
فخطاب «يا أيها الذين آمنوا» الشامل لجميع المؤمنين، و الذم المتعقب له إنما هو من خطاب الجماعة بشأن بعضهم كخطاب اليهود بقوله: «فلم تقتلون أنبياء الله:» البقرة: - 91 و غيره، و هو كثير في القرآن غير أن ديدن القرآن في مثل هذه الموارد أن لا يضيع حق الصالحين و لا أجر المحسنين أعني الأقلين الذين تعمهم أمثال هذه الخطابات العامة بالذم و التوبيخ فيتدارك أمرهم و يستثنيهم و يذكرهم بالجميل كما فعل ذلك فيما سيأتي في هذه السورة من الآيات المادحة للمؤمنين الشاكرة لجميل مساعيهم بقوله: «و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولياء بعض» الآية، و غيره.
و إذا كانت الآيات - و قد نزلت في غزوة تبوك - تعم المؤمنين جميعا المسارعين في الخروج و المتثاقلين فيه من غير استثناء فهي تشمل عامة الصحابة و المؤمنين و فيهم أبو بكر نفسه غير أنه تعالى تدارك ما لحق بالمسارعين في الطاعة و الإجابة منهم في آيات تالية و شكر سعيهم.
فلو كان قوله في الآية: «إلا تنصروه» و هو يشير إلى ما تقدم من حديث التثاقل و يومىء إليه ذما للناس كلهم كان ذما لأبي بكر كما هو ذم لغيره بعدم نصرتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو تثاقلهم في نصره، و مع ذلك لا تسمح الآية بالدلالة على نصر أبي بكر له (صلى الله عليه وآله وسلم) بما فيها من قوله: «فقد نصره الله إذ أخرجه الذين كفروا ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا» بل لو دل لدل على نصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لأبي بكر حيث طيب قلبه و سلاه بقوله: «لا تحزن إن الله معنا».
على أنك قد عرفت في البيان السابق أن الآية بمقتضى المقام لا تتعرض إلا لنصر الله سبحانه وحده نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه و شخصه، قبال ما يفرض من عدم نصر كافة المؤمنين له و خذلانهم إياه فدلالة الآية على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم الغار لم ينصره إلا الله سبحانه وحده دلالة قطعية.
و هذا المعنى في نفسه أدل شاهد على أن الضمائر في تتمة جمل الآية: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و كلمة الله هي العليا» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الجمل مسوقة لبيان قيامه تعالى وحده بنصره نصرا عزيزا غيبيا لا صنع فيه لأحد من الناس، و هو إنزال السكينة عليه و تأييده بجنود غائبة عن الأبصار، و جعل كلمة الذين كفروا السفلى و إعلاء كلمة الحق و الله عزيز حكيم.
و أما غير نصره النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المناقب التي يمدح الإنسان عليها فلو كان هناك شيء من ذلك لكان هو ما في قوله: «ثاني اثنين» و ما في قوله: «لصاحبه» فلنسلم أن كون الإنسان ثانيا لاثنين أحدهما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كونه صاحبا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مذكورا في القرآن بالصحبة من المفاخر التي يتنفس لها لكنها من المناقب الاجتماعية التي تقدر لها في المجتمعات قيمة و نفاسة، و أما القرآن الكريم فللقيمة فيه ملاك آخر، و للفضل و الشرف في منطقه معنى آخر متكىء على حقيقة هي أعلى من المقاصد الوضعية الاجتماعية، و هي كرامة العبودية و درجات القرب و الزلفى.
و مجرد الصحابة الجسمانية و الدخول في العدد لا يدل على شيء من ذلك، و قد تكرر في كلامه تعالى أن التسمي بمختلف الأسماء و التلبس بما يتنفس فيه عامة الناس و يستعظمه النظر الاجتماعي لا قيمة له عند الله سبحانه، و أن الحساب على ما في القلوب دون ما يتراءى من ظواهر الأعمال و تقدمة الأحساب و الأنساب.
و قد أفصح عنه في مورد أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ملازميه خاصة بأبلغ الإفصاح قوله تعالى: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم تراهم ركعا سجدا - إلى أن قال - وعد الله الذين آمنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما:» الفتح: - 29 فانظر إلى ما في صدر الآية من المدح و ما في ذيله من القيد و تدبر.
هذه نبذة مما يتعلق بالآية و الرواية من البحث، و الزائد على هذا المقدار يخرجنا من البحث التفسيري إلى البحث الكلامي الذي هو خارج عن غرضنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل و ابن عساكر في تاريخه عن ابن عباس: في قوله: «فأنزل الله سكينته عليه» قال: على أبي بكر لأن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يزل السكينة معه. و فيه، أخرج الخطيب في تاريخه عن حبيب بن أبي ثابت: «فأنزل الله سكينته عليه» قال: على أبي بكر فأما النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد كانت عليه السكينة.
أقول: قد حقق فيما تقدم أن الضمير راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما يهدي إليه السياق، و الروايتان على ما بهما من الوقف ضعيفتان، و لا حجية لقول ابن عباس و لا حبيب لغيرهما.
و أما الحجة التي أورداهما فيهما و هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم تزل السكينة معه فمدخولة يدفعها قوله تعالى في قصة حنين: «ثم أنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» الآية: التوبة: - 26 و نظيرته آية سورة الفتح المشيرة إلى قصة الحديبية و هما تصرحان بنزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) في خصوص المورد فليكن الأمر على تلك الوتيرة في الغار.
و كان بعضهم أحس بالإشكال فحمل قولهما في الروايتين: أن السكينة لم تزل مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على معنى آخر و هو كون السكينة ملازمة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الغار فيكون قرينة على كون التي نزلت فيه إنما نزلت على صاحبه دونه، و لعل رواية حبيب أقرب دلالة على ما ذكره.
قال بعد إيراد رواية ابن عباس ثم رواية حبيب: و قد أخذ بهذه الرواية بعض مفسري اللغة و المعقول و وضحوا ما فيها من التعليل بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يحدث له وقتئذ اضطراب و لا خوف و لا حزن، و قواها بعضهم بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور.
و ليس هذا بشيء.
و ذهب آخرون إلى أن الضمير يعود إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن إنزال السكينة عليه لا يقتضي أن يكون خائفا أو مضطربا أو منزعجا.
و هذا ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه عليه، و أن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.
انتهى.
أما ما ذكروه من عدم طرو خوف و اضطراب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) وقتئذ فإن كانوا استفادوه من عدم ذكر شيء من ذلك في الآية أو في رواية معتمد عليها فكلامه تعالى في قصة حنين و الحديبية أيضا خال عن ذكر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بخوف أو حزن أو اضطراب، و لم ترد رواية معتمد عليها تدل على ذلك فكيف استقام ذكر نزول السكينة عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهما؟.
و إن قالوا باستلزام إنزال السكينة الاضطراب و الخوف و الحزن فهو ممنوع كما تقدم كيف؟ و نزول نعمة من النعم الإلهية لا يتوقف على سبق الاتصاف بحالة مضادة لها و نقمة مقابلة لها كنزول الرحمة بعد الرحمة و النعمة بعد النعمة و الإيمان و الهداية بعد الإيمان و الهداية و غير ذلك، و قد نص القرآن الكريم بأمور كثيرة من هذا القبيل.
و أما قوله: إن رجوع الضمير إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ضعيف لعطف إنزال السكينة على ما قبلها الدال على وقوعه بعده و ترتبه عليه و أن نزولها وقع بعد قوله لصاحبه: لا تحزن.
انتهى.
ففيه: أنه لا ريب أن فاء التفريع تدل على ترتب ما بعدها على ما قبلها و وقوعه بعده لكن بعدية رتبية لا بعدية زمانية و لم يقل أحد بوجوب كونها زمانية دائما.
فمن الواجب فيما نحن فيه أن يترتب قوله: «فأنزل الله سكينته عليه و أيده» على ما تقدم عليه من الكلام لا على ما هو أقرب إليه من غيره إلا على القول بأن الأصل في الضمير أن يعود إلى أقرب مذكور، و قد ضعفه في سابق كلامه.
و الذي يصلح من سابق ليتعلق به التفريع المذكور هو قوله: فقد نصره الله في كذا و كذا وقتا و تفرع هذه الفروع عليه من قبيل تفرع التفصيل على الإجمال و السياق على استقامته: «فقد نصره الله في وقت كذا فأنزل سكينته عليه و أيده بجنود لم تروها و جعل كلمة الذين كفروا السفلى.
فظهر أن ما أجاب به أخيرا هو عين ما ضعفه أولا من حديث أصل قرب المرجع من الضمير - ذاك الأصل الذي لا أصل له - كرره ثانيا بتغيير ما في اللفظ.
و من هنا يظهر جهة المناقشة في رواية أخرى رواها في الدر المنثور، عن ابن مردويه عن أنس بن مالك «قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر غار حراء فقال أبو بكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو أن أحدهم يبصر موضع قدمه لأبصرني و إياك فقال: ما ظنك باثنين الله ثالثهما إن الله أنزل سكينته عليك و أيدني بجنود لم تروها.
على أن الرواية تذكر غار حراء و قد ثبت بالمستفيض المتكاثر من الأخبار أن الغار كان غار ثور لا غار حراء.
على أن الرواية مشتملة على تفكيك السياق صريحا بما فيها من قوله: أنزل سكينته عليك و أيدني بجنود، إلخ.
و قد أورد الآلوسي في روح المعاني، الرواية هكذا: «إن الله أنزل سكينته عليك و أيدك بجنود لم تروها، فأرجع الضميرين إلى أبي بكر دون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و لا ندري أي اللفظين هو الأصل و أيهما المحرف غير أنه يضاف على رواية «و أيدك بجنود لم تروها» إلى ما ذكر من الإشكال آنفا إشكالات أخرى تقدمت في البيان السابق مضافا إلى إشكال آخر جديد من جهة قوله: «لم تروها» بخطاب الجمع و لا مخاطب يومئذ جمعا.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا»: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا» يقول: غنيمة قريبة «لاتبعوك». و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لاتبعوك» الآية إنهم يستطيعون و قد كان في علم الله أنه لو كان عرضا قريبا و سفرا قاصدا لفعلوا: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين عن أبي عبد الله (عليه السلام) مثله.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لكن بعدت عليهم الشقة» يعني إلى تبوك و سبب ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يسافر سفرا أبعد منه و لا أشد منه. و كان سبب ذلك أن الصيافة كانوا يقدمون المدينة من الشام و معهم الدرموك و الطعام. و هم الأنباط فأشاعوا بالمدينة أن الروم قد اجتمعوا يريدون غزو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عسكر عظيم، و أن هرقل قد سار في جمع جنوده، و جلب معهم غسان و جذام و بهراء و عاملة، و قد قدم عساكره البلقاء و نزل هو حمص. فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصحابه إلى تبوك و هي من بلاد البلقاء، و بعث إلى القبائل حوله، و إلى مكة، و إلى من أسلم من خزاعة و مزينة و جهينة فحثهم على الجهاد. و أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعسكره فضرب في ثنية الوداع، و أمر أهل الجدة أن يعينوا من لا قوة به، و من كان عنده شيء أخرجه، و حملوا و قووا و حثوا على ذلك. و خطب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال بعد حمد الله و الثناء عليه: أيها الناس إن أصدق الحديث كتاب الله. و أولى القول كلمة التقوى، و خير الملل ملة إبراهيم، و خير السنن سنة محمد، و أشرف الحديث ذكر الله، و أحسن القصص هذا القرآن، و خير الأمور عزائمها و شر الأمور محدثاتها، و أحسن الهدى هدى الأنبياء، و أشرف القتلى الشهداء، و أعمى العمى الضلالة بعد الهدى، و خير الأعمال ما نفع، و خير الهدى ما اتبع، و شر العمى عمى القلب و اليد العليا خير من اليد السفلى، و ما قل و كفى خير مما كثر و ألهى، و شر المعذرة محضر الموت، و شر الندامة يوم القيامة، و من الناس من لا يأتي الجمعة إلا نزرا. و منهم من لا يذكر الله إلا هجرا، و من أعظم الخطايا اللسان الكذب، و خير الغنى غنى النفس، و خير الزاد التقوى، و رأس الحكمة مخافة الله، و خير ما ألقي في القلب اليقين، و الارتياب من الكفر، و التباعد من عمل الجاهلية، و الغلول من قيح جهنم، و السكر جمر النار، و الشعر من إبليس، و الخمر جماع الإثم، و النساء حبائل إبليس، و الشباب شعبة من الجنون، و شر المكاسب كسب الربا، و شر الأكل أكل مال اليتيم، و السعيد من وعظ بغيره، و الشقي من شقي في بطن أمه، و إنما يصير أحدكم إلى موضع أربعة أذرع، و الأمر إلى آخره و ملاك الأمر خواتيمه، و أربى الربا الكذب، و كلما هو آت قريب، و سباب المؤمن فسوق، و قتال المؤمن كفر، و أكل لحمه من معصية الله، و حرمة ماله كحرمة دمه، و من توكل على الله كفاه، و من صبر ظفر، و من يعف يعف الله عنه، و من كظم الغيظ آجره الله، و من يصبر على الرزية يعوضه الله، و من تبع السمعة يسمع الله به، و من يصم يضاعف الله له، و من يعص الله يعذبه، اللهم اغفر لي و لأمتي. اللهم اغفر لي و لأمتي أستغفر الله لي و لكم. قال: فرغب الناس في الجهاد لما سمعوا هذا من رسول الله، و قدمت القبائل من العرب ممن استنفرهم، و قعد عنه قوم من المنافقين و غيرهم، و لقي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الجد بن قيس فقال له: يا أبا وهب أ لا تنفر معنا في هذه الغزاة؟ لعلك إن تحتفد من بنات الأصفر فقال يا رسول الله: و الله إن قومي ليعلمون أن ليس فيهم أشد عجبا بالنساء مني و أخاف إن خرجت معك أن لا أصبر إذا رأيت بنات الأصفر فلا تفتني و ائذن لي أن أقيم. و قال للجماعة من قومه: لا تخرجوا في الحر. فقال ابنه: ترد على رسول الله و تقول له ما تقول ثم تقول لقومك: لا تنفروا في الحر و الله لينزلن الله في هذا قرآنا يقرؤه الناس إلى يوم القيامة فأنزل الله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك: «و منهم من يقول ائذن لي و لا تفتني - ألا في الفتنة سقطوا و إن جهنم لمحيطة بالكافرين». ثم قال الجد بن قيس: أ يطمع محمد أن حرب الروم مثل حرب غيرهم. لا يرجع من هؤلاء أحد أبدا.
أقول: و قد روي هذه المعاني في روايات أخرى كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة.
و في العيون، بإسناده عن علي بن محمد بن الجهم قال: حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا علي بن موسى (عليهما السلام) فقال له: يا ابن رسول الله أ ليس من قولك: إن الأنبياء معصومون؟ قال: بلى، فقال له المأمون فيما سأله يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله تعالى: «عفا الله عنك لم أذنت لهم». قال الرضا (عليه السلام): «هذا مما نزل: إياك أعني و اسمعي يا جارة، خاطب الله تعالى بذلك نبيه و أراد به أمته، و كذلك قوله عز و جل: «لئن أشركت ليحبطن عملك و لتكونن من الخاسرين»، و قوله تعالى: «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا». قال: صدقت يا ابن رسول الله.
أقول: و مضمون الرواية ينطبق على ما قدمناه في بيان الآية، دون ما ذكروه من كون إذنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم في القعود من قبيل ترك الأولى فإنه لا يستقيم معه كون الآية من قبيل «إياك أعني و اسمعي يا جارة».
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق في المصنف و ابن جرير، عن عمرو بن ميمون الأودي قال: اثنتان فعلهما رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يؤمر فيهما بشيء: إذنه للمنافقين، و أخذه من الأسارى فأنزل الله: «عفا الله عنك لم أذنت لهم» الآية.
أقول: و قد تقدم الكلام على مضمون الرواية.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة» الآية و ما بعدها قال: و تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهل نيات و بصائر لم يكن يلحقهم شك و لا ارتياب و لكنهم قالوا: نلحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). منهم أبو خيثمة و كان قويا و كان له زوجتان و عريشان، و كانتا زوجتاه قد رشتا عريشتيه، و بردتا له الماء، و هيأتا له طعاما فأشرف على عريشتيه فلما نظر إليهما قال: لا و الله ما هذا بإنصاف، رسول الله قد غفر الله له ما تقدم من ذنبه و ما تأخر قد خرج في الفيح و الريح، و قد حمل السلاح يجاهد في سبيل الله، و أبو خيثمة قوي قاعد في عريشه و امرأتين حسناوين لا و الله ما هذا بإنصاف. ثم أخذ ناقته فشد عليها رحله و لحق برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنظر الناس إلى راكب على الطريق فأخبروا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا خيثمة فأقبل، و أخبر النبي بما كان منه فجزاه خيرا و دعا له. و كان أبو ذر تخلف عن رسول الله ثلاثة أيام و ذلك أن جمله كان أعجف، فلحق بعد ثلاثة أيام به و وقف عليه جمله في بعض الطريق فتركه و حمل ثيابه على ظهره فلما ارتفع النهار نظر المسلمون إلى شخص مقبل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كن أبا ذر فقالوا: هو أبو ذر فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أدركوه فإنه عطشان فأدركوه بالماء. و وافى أبو ذر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و معه إداوة فيها ماء فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر معك ماء و عطشت؟ قال: نعم يا رسول الله بأبي أنت و أمي انتهيت إلى صخرة عليها ماء السماء فذقته فإذا هو عذب بارد فقلت: لا أشربه حتى يشرب رسول الله. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا ذر رحمك الله، تعيش وحدك، و تموت وحدك، و تبعث وحدك، و تدخل الجنة وحدك، يسعد بك قوم من أهل العراق يتولون غسلك و تجهيزك و الصلاة عليك و دفنك. ثم قال: و قد كان تخلف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوم من المنافقين و قوم من المؤمنين مستبصرين لم يعثر عليهم في نفاق: منهم كعب بن مالك الشاعر و مرارة بن الربيع و هلال بن أمية الرافعي فلما تاب الله عليهم قال كعب. ما كنت قط أقوى مني في ذلك الوقت الذي خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى تبوك، و ما اجتمعت لي راحلتان قط إلا في ذلك اليوم، و كنت أقول: أخرج غدا بعد غد فإني مقوى، و توانيت و ثقلت بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أياما أدخل السوق و لا أقضي حاجة فلقيت هلال بن أمية و مرارة بن الربيع و قد كانا تخلفا أيضا فتوافقنا أن نبكر إلى السوق فلم نقض حاجة فما زلنا نقول: نخرج غدا و بعد غد حتى بلغنا إقبال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فندمنا. فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استقبلناه نهنئه السلامة فسلمنا عليه فلم يرد علينا السلام و أعرض عنا، و سلمنا على إخواننا فلم يردوا علينا السلام فبلغ ذلك أهلونا فقطعوا كلامنا و كنا نحضر المسجد فلا يسلم علينا أحد و لا يكلمنا فجاءت نساؤنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقلن: قد بلغنا سخطك على أزواجنا أ فنعتزلهم؟ فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تعتزلنهم و لكن لا يقربوكن. فلما رأى كعب بن مالك و صاحباه ما قد حل بهم قالوا: ما يقعدنا بالمدينة و لا يكلمنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا إخواننا و لا أهلونا؟ فهلموا نخرج إلى هذا الجبل فلا نزال فيه حتى يتوب الله علينا أو نموت. فخرجوا إلى ذباب جبل بالمدينة فكانوا يصومون و كان أهلوهم يأتونهم بالطعام فيضعونه ناحية ثم يولون عنهم و لا يكلمونهم. فبقوا على هذا أياما كثيرة يبكون بالليل و النهار و يدعون الله أن يغفر لهم فلما طال عليهم الأمر قال لهم كعب: يا قوم قد سخط الله علينا و رسوله، و قد سخط علينا أهلونا، و إخواننا قد سخطوا علينا فلا يكلمنا أحد فلم لا يسخط بعضنا على بعض؟ فتفرقوا في الجبل و حلفوا أن لا يكلم أحد منهم صاحبه حتى يموت أو يتوب الله عليه فبقوا على ذلك ثلاثة أيام، و كل واحد منهم في ناحية من الجبل لا يرى أحد منهم صاحبه و لا يكلمه. فلما كان في الليلة الثالثة، و رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيت أم سلمة نزلت توبتهم على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: «لقد تاب الله بالنبي على المهاجرين و الأنصار - الذين اتبعوه في ساعة العسرة» قال الصادق (عليه السلام): هكذا نزلت و هو أبو ذر و أبو خيثمة و عمير بن وهب الذين تخلفوا ثم لحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم قال في هؤلاء الثلاثة: «و على الثلاثة الذين خلفوا» فقال العالم (عليه السلام): إنما أنزل: على الثلاثة الذين خالفوا و لو خلفوا لم يكن عليهم عيب «حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت» حيث لا يكلمهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا إخوانهم و لا أهلوهم فضاقت عليهم المدينة حتى خرجوا منها «و ضاقت عليهم أنفسهم» حيث حلفوا أن لا يكلم بعضهم بعضا فتفرقوا و تاب الله عليهم لما عرف من صدق نياتهم.
أقول: و سيأتي الكلام في الآيتين و ما ورد فيهما من الروايات.
و في تفسير العياشي، عن المغيرة قال: سمعته يقول: في قول الله عز و جل: «و لو أرادوا الخروج لأعدوا له عدة» قال: يعني بالعدة النية «يقول: «لو كان لهم نية لخرجوا.
أقول: الرواية على ضعفها و إرسالها و إضمارها لا تنطبق على لفظ الآية و الله أعلم.
و في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر عن الحسن البصري قال: كان عبد الله بن أبي و عبد الله بن نبتل و رفاعة بن زيد بن تابوت من عظماء المنافقين، و كانوا ممن يكيد الإسلام و أهله، و فيهم أنزل الله: «لقد ابتغوا الفتنة من قبل - و قلبوا لك الأمور» إلى آخر الآية.
|