بيان
تتعرض الآيات لقولهم: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» و ترده عليهم أن الرسول ليس له إلا أنه منذر أرسله الله على سنة الهداية إلى الحق ثم تسوق الكلام فيما يعقبه.
قوله تعالى: «و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه» إلى آخر الآية ليس المراد بهذه الآية الآية القاضية بين الحق و الباطل المهلكة للأمة و هي المذكورة في الآية السابقة بقوله: «و يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة» بأن يكون تكرارا لها و ذلك لعدم إعانة السياق على ذلك، و لو أريد ذلك لكان من حق الكلام أن يقال: و يقولون لو لا «إلخ».
بل المراد أنهم يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية أخرى غير القرآن تدل على صدقه في دعوى الرسالة و كانوا يحقرون أمر القرآن الكريم و لا يعبئون به و يسألون آية أخرى معجزة كما أوتي موسى و عيسى و غيرهما (عليهم السلام) فكان في قولهم: «لو لا أنزل عليه آية» تعريض منهم للقرآن.
و أما قوله: «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» فإعطاء جواب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في توجيه الخطاب إليه دونهم و عدم أمره أن يبلغ الجواب إياهم تعريض لهم أنهم لا يستحقون جوابا لعدم فقههم به و فقدهم القدر اللازم من العقل و الفهم و ذلك أن اقتراحهم الآية مبني على زعمهم - كما يدل عليه كثير مما حكى عنهم القرآن في هذا الباب على أن من الواجب أن يكون للرسول قدرة غيبية مطلقة على كل ما يريد فله أن يوجد ما أراد و عليه أن يوجد ما أريد منه.
و الحال أن الرسول ليس إلا بشرا مثلهم أرسله الله إليهم لينذرهم عذاب الله و يحذرهم أن يستكبروا عن عبادته و يفسدوا في الأرض بناء على السنة الإلهية الجارية في خلقه أنه يهدي كل شيء إلى كماله المطلوب و يدل عباده على ما فيه صلاح معاشهم و معادهم.
فالرسول بما هو رسول بشر مثلهم لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا و ليس عليه إلا تبليغ رسالة ربه و أما الآيات فأمرها إلى الله ينزلها إن شاء و كيف شاء فاقتراحها على الرسول جهل محض.
فالمعنى: أنهم يقترحون عليك آية - و عندهم القرآن أفضل آية - و ليس إليك شيء من ذلك و إنما أنت هاد تهديهم من طريق الإنذار و قد جرت سنة الله في عباده أن يبعث في كل قوم هاديا يهديهم.
و الآية تدل على أن الأرض لا تخلو من هاد يهدي الناس إلى الحق إما نبي منذر و إما هاد غيره يهدي بأمر الله و قد مر بعض ما يتعلق بالمقام في أبحاث النبوة في الجزء الثاني و في أبحاث الإمامة في الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد و كل شيء عنده بمقدار» قال في المفردات،: غاض الشيء و غاضه غيره نحو نقص و نقصه غيره قال تعالى: «و غيض الماء» «و ما تغيض الأرحام» أي تفسده الأرحام فتجعله كالماء الذي تبتلعه الأرض و الغيضة المكان الذي يقف فيه الماء فيبتلعه و ليلة غائضة أي مظلمة انتهى.
و على هذا فالأنسب أن تكون الأمور الثلاثة المذكورة في الآية أعني قوله: «ما تحمل كل أنثى» و «ما تغيض الأرحام» و «ما تزداد» إشارة إلى ثلاثة من أعمال الأرحام في أيام الحمل فما تحمله كل أنثى هو الجنين الذي تعيه و تحفظه و ما تغيضه الأرحام هو دم الحيض تنصب فيها فتصرفه الرحم في غذاء الجنين، و ما تزداده هو الدم التي تدفعها إلى خارج كدم النفاس و الدم أو الحمرة التي تراها أيام الحمل أحيانا و هو الذي يظهر من بعض ما روي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و ربما ينسب إلى ابن عباس.
و أكثر المفسرين على أن المراد بما تغيض الأرحام الوقت الذي تنقصه الأرحام من مدة الحمل و هي تسعة أشهر، و المراد بما تزداد ما تزيد على ذلك.
و فيه خلوة عن شاهد يشهد عليه فإن الغيض بهذا المعنى نوع من الاستعارة التي لا غنى لها عن القرينة.
و يروى عن بعضهم أن المراد بما تغيض الأرحام ما تنقص عن أقل مدة الحمل و هي ستة أشهر و هو السقط و بما تزداد ما يولد لأقصى مدة الحمل، و عن بعض آخر أن الغيض النقصان من الأجل و الإزدياد الإزدياد فيه.
و يرد على الوجهين ما أوردناه على سابقهما، و قد عرفت أن الأنسب بسياق الآية النقص و الزيادة فيما يقذف في الرحم من الدم.
و قوله: «و كل شيء عنده بمقدار» المقدار هو الحد الذي يحد به الشيء و يتعين و يمتاز به من غيره إذ لا ينفك الشيء الموجود عن تعين في نفسه و امتياز من غيره و لو لا ذلك لم يكن موجدا البتة.
و هذا المعنى أعني كون كل شيء مصاحبا لمقدار و قرينا لحد لا يتعداه حقيقة قرآنية تكرر ذكرها في كلامه تعالى كقوله: «قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق: 3، و قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21 و غير ذلك من الآيات.
فإذا كان الشيء محدودا بحد لا يتعداه و هو مضروب عليه ذلك الحد عند الله و بأمره و لن يخرج من عنده و إحاطته و لا يغيب عن علمه شيء كما قال: «إن الله على كل شيء شهيد»: الحج: 17 و قال: «ألا إنه بكل شيء محيط»: حم السجدة: 54، و قال: «لا يعزب عنه مثقال ذرة»: السبأ: 3 فمن المحال أن لا يعلم تعالى ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام و ما تزداد.
فذيل الآية أعني قوله: «و كل شيء عنده بمقدار» تعليل لصدرها أعني قوله: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» إلخ و الآية و ما يتلوها كالتذييل للآية السابقة أن الله يعلم بكل شيء و يقدر على كل شيء و يجيب الدعوة و يخضع له كل شيء فهو أحق بالربوبية فإليه أمر الآيات لا إليك و إنما أنت منذر.
قوله تعالى: «عالم الغيب و الشهادة الكبير المتعال» الغيب و الشهادة كما سمعت مرارا معنيان إضافيان فالشيء الواحد يمكن أن يكون غيبا بالنسبة إلى شيء و شهادة بالنسبة إلى آخر و ذلك أن الأشياء - كما تقدم - لا تخلو من حدود تلزمها و لا تنفك عنها فما كان من الأشياء داخلا في حد الشيء غير خارج عنه فهو شهادة بالنسبة إليه مشهود لإدراكه و ما كان خارجا عن حد الشيء غير داخل فيه فهو غيب بالنسبة إليه غير مشهود لإدراكه.
و من هنا يظهر أن الغيب لا يعلم به إلا الله سبحانه أما أنه لا يصير معلوما لشيء فلأن العلم نوع إحاطة و لا معنى لإحاطة الشيء بما هو خارج عن حد وجوده أجنبي عن إحاطته، و أما أنه تعالى يعلم الغيب فلأنه تعالى غير محدود الوجود بحد و هو بكل شيء محيط فلا يمتنع شيء عنه بحده فلا يكون غيبا بالنسبة إليه و إن فرض أنه غيب بالنسبة إلى غيره.
فيرجع معنى علمه بالغيب و الشهادة بالحقيقة إلى أنه لا غيب بالنسبة إليه بل الغيب و الشهادة اللذان يتحققان فيما بين الأشياء بقياس بعضها إلى بعض هما معا شهادتان بالنسبة إليه تعالى، و يصير معنى قوله: «عالم الغيب و الشهادة» أن الذي يمكن أن يعلم به أرباب العلم و هو الذي لا يخرج عن حد وجودهم و الذي لا يمكن أن يعلموا به لكونه غيبا خارجا عن حد وجودهم هما معا معلومان مشهودان له تعالى لإحاطته بكل شيء.
و قوله «الكبير المتعال» اسمان من أسمائه تعالى الحسنى، و الكبر و يقابله الصغر من المعاني المتضائفة فإن الأجسام إذا قيس بعضها إلى بعض من حيث حجمها المتفاوت فما احتوى على مثل حجم الآخر و زيادة كان كبيرا و ما لم يكن كذلك كان صغيرا ثم توسعوا فاعتبروا ذلك في غير الأجسام، و الذي يناسب ساحة قدسه تعالى من معنى الكبرياء أنه تعالى يملك كل كمال لشيء و يحيط به فهو تعالى كبير أي له كمال كل ذي كمال و زيادة.
و المتعال صفة من التعالي و هو المبالغة في العلو كما يدل عليه قوله: «تعالى عما يقولون علوا كبيرا»: أسرى: 43 فإن قوله: «علوا كبيرا» مفعول مطلق لقوله: «تعالى» و موضوع في محل قولنا: «تعاليا» فهو سبحانه علي و متعال أما أنه علي فلأنه علا كل شيء و تسلط عليه و العلو هو التسلط، و أما أنه متعال فلأن له غاية العلو لأن علوه كبير بالنسبة إلى كل علو فهو العالي المتسلط على كان عال من كل جهة.
و من هنا تظهر النكتة في تعقيب قوله: «عالم الغيب و الشهادة» بقوله: «الكبير المتعال» لأن مفاد مجموع الاسمين أنه سبحانه محيط بكل شيء متسلط عليه و لا يتسلط عليه و لا يغلبه شيء من جهة البتة فهو يعلم الغيب كما يعلم الشهادة و لا يتسلط عليه و لا يغلبه غيب حتى يعزب عن علمه بغيبته كما لا يتسلط عليه شهادة فهو عالم الغيب و الشهادة لأنه كبير متعال.
قوله تعالى: «سواء منكم من أسر القول و من جهر به و من هو مستخف بالليل و سارب بالنهار» السرب بفتحتين و السروب الذهاب في حدور و سيلان الدمع و الذهاب في مطلق الطريق يقال سرب سربا و سروبا نحو مر مرا و مرورا.
كذا في المفردات، فالسارب هو الذاهب في الطريق المعلن بنفسه.
و الآية كالتفريع على الآية السابقة أي إذا كان الله سبحانه عالما بالغيب و الشهادة على سواء فسواء منكم من أسر القول و من جهر به أي بالقول و الله سبحانه يعلم بقولهما و يسمع حديثهما من غير أن يخفى عليه إسرار من أسر بقوله، و سواء منكم من هو مستخف بالليل يستمد بظلمة الليل و إرخاء سدولها لأن يخفى من أعين الناظرين و من هو سارب بالنهار ذاهب في طريقه متبرز غير مخف لنفسه فالله يعلم بهما من غير أن يخفى المستخفي بالليل بمكيدته.
قوله تعالى: «له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله» إلخ ظاهر السياق أن الضمائر الأربع «له» «يديه» «خلفه» «يحفظونه» مرجعها واحد و لا مرجع يصلح لها جميعا إلا ما في الآية السابقة أعني الموصول في قوله: «من أسر القول» إلخ، فهذا الإنسان الذي يعلم به الله سبحانه في جميع أحواله هو الذي له معقبات من بين يديه و من خلفه.
و تعقيب الشيء إنما يكون بالمجيء بعده و الإتيان من عقبه فتوصيف المعقبات بقوله: «من بين يديه و من خلفه» إنما يتصور إذا كان سائرا في طريق، ثم طاف عليه المعقبات حوله و قد أخبر سبحانه عن كون الإنسان سائرا هذا السير بقوله: «يا أيها الإنسان إنك كادح إلى ربك كدحا فملاقيه»: الانشقاق: 6 و في معناه سائر الآيات الدالة على رجوعه إلى ربه كقوله: «و إليه ترجعون»: يس: 83 «و إليه تقلبون»: العنكبوت: 21 فللإنسان و هو سائر إلى ربه معقبات تراقبه من بين يديه و من خلفه.
ثم من المعلوم من مشرب القرآن أن الإنسان ليس هو هذا الهيكل الجسماني و البدن المادي فحسب بل هو موجود تركب من نفس و بدن و العمدة فيما يرجع إليه من الشئون هي نفسه فلها الشعور و الإرادة و إليها يتوجه الأمر و النهي و بها يقوم الثواب و العقاب و الراحة و الألم و السعادة و الشقاء، و عنها يصدر صالح الأعمال و طالحها، و إليها ينسب الإيمان و الكفر و إن كان البدن كالآلة التي يتوسل بها في مقاصدها و مآربها.
و على هذا يتسع معنى ما بين يدي الإنسان و ما خلفه فيعم الأمور الجسمانية و الروحية جميعا فجميع الأجسام و الجسمانيات التي تحيط بجسم الإنسان مدى حياته بعضها واقعة أمامه و بين يديه و بعضها واقعة خلفه، و كذلك جميع المراحل النفسانية التي يقطعها الإنسان في مسيره إلى ربه و الحالات الروحية التي يعتورها و يتقلب فيها من قرب و بعد و غير ذلك و السعادة و الشقاء و الأعمال الصالحة و الطالحة و ما ادخر لها من الثواب و العقاب كل ذلك واقعة خلف الإنسان أو بين يديه و لهذه المعقبات التي ذكرها الله سبحانه شأن فيها بما أن لها تعلقا بالإنسان.
و الإنسان الذي وصفه الله بأنه لا يملك لنفسه ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا لا يقدر على حفظ شيء من نفسه و لا آثار نفسه الحاضرة عنده و الغائبة عنه، و إنما يحفظها له الله سبحانه قال تعالى: «الله حفيظ عليهم»: الشورى: 6 و قال: «و ربك على كل شيء حفيظ»: السبأ: 21 و قال يذكر الوسائط في هذا الأمر «و إن عليكم لحافظين»: الانفطار: 10.
فلو لا حفظه تعالى إياها بهذه الوسائط التي سماها حافظين تارة و معقبات أخرى لشمله الفناء من جهاتها و أسرع إليها الهلاك من بين أيديها و من خلفها غير أنه كما أن حفظها بأمر من الله عز شأنه كذلك فناؤها و هلاكها و فسادها بأمر من الله لأن الملك لله لا يدبر أمره و لا يتصرف فيه إلا هو سبحانه فهو الذي يهدي إليه التعليم القرآني، و الآيات في هذه المعاني متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.
و الملائكة أيضا إنما يعملون ما يعملون بأمره قال تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2، و قال: «لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 27.
و من هنا يظهر أن هذه المعقبات الحفاظ كما يحفظون ما يحفظون بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله فإن جانب الفناء و الهلاك و الضيعة و الفساد بأمر الله كما أن جانب البقاء و الاستقامة و الصحة بأمر الله فلا يدوم مركب جسماني إلا بأمر الله كما لا ينحل تركيبه إلا بأمر الله، و لا تثبت حالة روحية أو عمل أو أثر عمل إلا بأمر من الله كما لا يطرقه الحبط و لا يطرأ عليه الزوال إلا بأمر من الله فالأمر كله لله و إليه يرجع الأمر كله.
و على هذا فهذه المعقبات كما يحفظونه بأمر الله كذلك يحفظونه من أمر الله، و على هذا ينبغي أن ينزل قوله في الآية المبحوث عنها: «يحفظونه من أمر الله».
و بما تقدم يظهر وجه اتصال قوله تعالى: «إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم» و أنه في موضع التعليل لقوله: «يحفظونه من أمر الله» و المعنى أنه تعالى إنما جعل هذه المعقبات و وكلها بالإنسان يحفظونه بأمره من أمره و يمنعونه من أن يهلك أو يتغير في شيء مما هو عليه لأن سنته جرت أن لا يغير ما بقوم من الأحوال حتى يغيروا ما بأنفسهم من الحالات الروحية كأن يغيروا الشكر إلى الكفر و الطاعة إلى المعصية و الإيمان إلى الشرك فيغير الله النعمة إلى النقمة و الهداية إلى الإضلال و السعادة إلى الشقاء و هكذا.
و الآية أعني قوله: «إن الله لا يغير» إلخ، يدل بالجملة على أن الله قضى قضاء حتم بنوع من التلازم بين النعم الموهوبة من عنده للإنسان و بين الحالات النفسية الراجعة إلى الإنسان الجارية على استقامة الفطرة فلو جرى قوم على استقامة الفطرة و آمنوا بالله و عملوا صالحا أعقبهم نعم الدنيا و الآخرة كما قال.
«و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا»: الأعراف: 96 و الحال ثابتة فيهم دائمة عليهم ما داموا على حالهم في أنفسهم فإذا غيروا حالهم في أنفسهم غير الله سبحانه حالهم الخارجية بتغيير النعم نقما.
و من الممكن أن يستفاد من الآية العموم و هو أن بين حالات الإنسان النفسية و بين الأوضاع الخارجية نوع تلازم سواء كان ذلك في جانب الخير أو الشر فلو كان القوم على الإيمان و الطاعة و شكر النعمة عمهم الله بنعمه الظاهرة و الباطنة و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيكفروا و يفسقوا فيغير الله نعمه نقما و دام ذلك عليهم حتى يغيروا فيؤمنوا و يطيعوا و يشكروا فيغير الله نقمه نعما و هكذا.
هذا.
و لكن ظاهر السياق لا يساعد عليه و خاصة ما تعقبه من قوله «و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له» فإنه أصدق شاهد على أنه يصف معنى تغييره تعالى ما بقوم حتى يغيروا فالتغيير لما كان إلى السيئة كان الأصل أعني «ما بقوم» لا يراد به إلا الحسنة فافهم ذلك.
على أن الله سبحانه يقول: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى: 30 فيذكر أنه يعفو عن كثير من السيئات فيمحو آثارها فلا ملازمة بين أعمال الإنسان و أحواله و بين الآثار الخارجية في جانب الشر بخلاف ما في جانب الخير كما قال تعالى في نظير الآية: «ذلك بأن الله لم يك مغيرا نعمة أنعمها على قوم حتى يغيروا ما بأنفسهم»: الأنفال: 53.
و أما قوله تعالى: «و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له» فإنما دخل في الحديث لا بالقصد الأولي لكنه تعالى لما ذكر أن كل شيء عنده بمقدار و إن لكل إنسان معقبات يحفظونه بأمره من أمره و لا يدعونه يهلك أو يتغير أو يضطرب في وجوده و النعم التي أوتيها، و هم على حالهم من الله لا يغيرها عليهم حتى يغيروا ما بأنفسهم وجب أن يذكر أن هذا التغيير من السعادة إلى الشقاء و من النعمة إلى النقمة أيضا من الأمور المحكمة المحتومة التي ليس لمانع أن يمنع من تحققها، و إنما أمره إلى الله لا حظ فيه لغيره، و بذلك يتم أن الناس لا مناص لهم من حكم الله في جانبي الخير و الشر و هم مأخوذ عليهم و في قبضته.
فالمعنى: و إذا أراد الله بقوم سوء و لا يريد ذلك إلا إذا غيروا ما بأنفسهم من سمات معبودية و مقتضيات الفطرة فلا مرد لذلك السوء من شقاء أو نقمة أو نكال.
ثم قوله: «و ما لهم من دونه من وال» عطف تفسيري على قوله: «إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له» و يفيد معنى التعليل له فإنه إذا لم يكن لهم من وال يلي أمرهم إلا الله سبحانه لم يكن هناك أحد يرد ما أراد الله بهم من السوء.
فقد بان من جميع ما تقدم أن معنى الآية - على ما يعطيه السياق - و الله أعلم - أن لكل من الناس على أي حال كان معقبات يعقبونه في مسيره إلى الله من بين يديه و من خلفه أي في حاضر حاله و ماضيه يحفظونه بأمر الله من أن يتغير حاله بهلاك أو فساد أو شقاء بأمر آخر من الله، و هذا الأمر الآخر الذي يغير الحال إنما يؤثر أثره إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما عندهم من نعمة و يريد بهم السوء و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له لأنهم لا والي لهم يلي أمرهم من دونه حتى يرد ما أراد الله بهم من سوء.
و قد تبين بذلك أمور: أحدها: أن الآية كالبيان التفصيلي لما تقدم في الآيات السابقة من قوله: «و كل شيء عنده بمقدار» فإن الجملة تفيد أن للأشياء حدودا ثابتة لا تتعداها و لا تتخلف عنها عند الله حتى تعزب عن علمه، و هذه الآية تفصل القول في الإنسان أن له معقبات من بين يديه و من خلفه موكلة عليه يحفظونه و جميع ما يتعلق به من أن يهلك أو يتغير عما هو عليه، و لا يهلك و لا يتغير إلا بأمر آخر من الله.
الثاني: أنه ما من شيء من الإنسان من نفسه و جسمه و أوصافه و أحواله و أعماله و آثاره إلا و عليه ملك موكل يحفظه، و لا يزال على ذلك في مسيره إلى الله حتى يغير فالله سبحانه هو الحافظ و له ملائكة حفظة عليها، و هذه حقيقة قرآنية.
الثالث: أن هناك أمرا آخر يرصد الناس لتغيير ما عندهم و قد ذكر الله سبحانه من شأن هذا الأمر أنه يؤثر فيما إذا غير قوم ما بأنفسهم فعند ذلك يغير الله ما بهم من نعمة بهذا الأمر الذي يرصدهم، و من موارد تأثيره مجيء الأجل المسمى الذي لا يختلف و لا يتخلف، قال تعالى: «ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى»: الأحقاف: 3 و قال: «إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر»: نوح: 4.
الرابع: أن أمره تعالى هو المهيمن المتسلط على متون الأشياء و حواشيها على أي حال و أن كل شيء حين ثباته و حين تغيره مطيع لأمره خاضع لعظمته، و أن الأمر الإلهي و إن كان مختلفا بقياس بعضه إلى بعض منقسما إلى أمر حافظ و أمر مغير ذو نظام واحد لا يتغير و قد قال تعالى: «إن ربي على صراط مستقيم»: هود 56، و قال: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس: 83.
الخامس: أن من القضاء المحتوم و السنة الجارية الإلهية التلازم بين الإحسان و التقوى و الشكر في كل قوم و بين توارد النعم و البركات الظاهرية و الباطنية و نزولها من عند الله إليهم و بقاؤها و مكثها بينهم ما لم يغيروا كما يشير إليه قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض و لكن كذبوا فأخذناهم بما كانوا يكسبون»: الأعراف: 96 و قوله: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7 و قال: «هل جزاء الإحسان إلا الإحسان»: الرحمن: 60.
هذا هو الظاهر من الآية في التلازم بين شيوع الصلاح في قوم و دوام النعمة عليهم، و أما شيوع الفساد فيهم أو ظهوره من بعضهم و نزول النقمة عليهم فالآية ساكتة عن التلازم بينهما و غاية ما يفيده قوله: «لا يغير ما بقوم حتى يغيروا» جواز تغيره تعالى عند تغييرهم و إمكانه لا وجوبه و فعليته، و لذلك غير السياق فقال: «و إذا أراد الله بقوم سوء فلا مرد له» و لم يقل: فيريد الله بهم من السوء ما لا مرد له.
و يؤيد هذا المعنى قوله: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم و يعفوا عن كثير»: الشورى: 30 حيث يدل صريحا على أن بعض التغيير عند التغيير معفو عنه.
و أما الفرد من النوع فالكلام الإلهي يدل على التلازم بين صلاح عمله و بين النعم المعنوية و على التغير عند التغير دون التلازم بين صلاحه و النعم الجسمانية.
و الحكمة في ذلك كله ظاهرة فإن التلازم المذكور مقتضى حكم التلاؤم و التوافق بين أجزاء النظام و سوق الأنواع إلى غاياتها فإن الله جعل للأنواع غايات و جهزها بما يسوقها إلى غاياتها ثم بسط تعالى التلاؤم و التوافق بين أجزاء هذا النظام كان المجموع شيئا واحدا لا معاندة و لا مضادة بين أجزائه فمقتضى طباعها أن يعيش كل نوع في عافية و نعمة و كرامة حتى يبلغ غايته فإذا لم ينحرف النوع الإنساني عن مقتضى فطرته الأصلية و لا منحرف من الأنواع ظاهرا غيره جرى الكون على سعادته و نعمته و لم يعدم رشدا، و أما إذا انحرف عن ذلك و شاع فيه الفساد أفسد ذلك التعادل بين أجزاء الكون و أوجب ذلك هجرة النعمة و اختلال المعيشة و ظهور الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم الله بعض ما عملوا لعلهم يرجعون.
و هذا المعنى كما لا يخفى إنما يتم في النوع دون الشخص و لذلك كان التلازم بين صلاح النوع و النعم العامة المفاضة عليهم و لا يجري في الأشخاص لأن الأشخاص ربما بطلت فيها الغايات بخلاف الأنواع فإن بطلان غاياتها من الكون يوجب اللعب في الخلقة قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين»: الدخان: 38 و قد تقدم بعض الكلام في هذا الباب في أبحاث الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.
و بما تقدم يظهر فساد الاعتراض على الآية حيث إنها تفيد بظاهرها أنه لا يقع تغيير النعم بقوم حتى يقع تغيير منهم بالمعاصي مع أن ذلك خلاف ما قررته الشريعة من عدم جواز أخذ العامة بذنوب الخاصة هذا فإنه أجنبي عن مفاد الآية بالكلية.
هذا بعض ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و للمفسرين في تفسيرها اختلاف شديد من جهات شتى: من ذلك اختلافهم في مرجع الضمير في قوله: «له معقبات» فمن قائل: إن الضمير راجع إلى «من» في قوله: «من أسر القول» إلخ، كما قدمناه، و من قائل: إنه يرجع إليه تعالى أي لله ملائكة معقبات من بين يدي الإنسان و من خلفه يحفظونه.
و فيه أنه يستلزم اختلاف الضمائر.
على أنه يوجب وقوع الالتفات في قوله: «من أمر الله» من غير نكتة ظاهرة، و من قائل: إن الضمير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآية تذكر أن الملائكة يحفظونه.
و فيه أنه كسابقه يستلزم اختلاف الضمائر و الظاهر خلافه.
على أنه يوجب عدم اتصال الآية بسوابقها و لم يتقدم للنبي - (صلى الله عليه وآله وسلم) ذكر.
و من قائل: إن الضمير عائد إلى من هو سارب بالنهار.
و هذا أسخف الوجوه و سنعود إليه.
و من ذلك اختلافهم في معنى المعقبات فقيل: إن أصله المعتقبات صار معقبات بالنقل و الإدغام يقال: اعتقبه إذا حبسه و اعتقب القوم عليه أي تعاونوا و رد بأنه خطأ، و قيل: هو من باب التفعيل و التعقيب هو أن يتبع آخر في مشيته كأنه يطأ عقبه أي مؤخر قدمه فقيل: إن المعقبات ملائكة يعقبون الإنسان في مسيره إلى الله لا يفارقونه و يحفظونه كما تقدم، و قيل: المعقبات كتاب الأعمال من ملائكة الليل و النهار يعقب بعضهم بعضا فملائكة الليل تعقب ملائكة النهار و هم يعقبون ملائكة الليل يحفظون على الإنسان عمله.
و فيه: أنه خلاف ظاهر قوله: «له معقبات» على أن فيه جعل يحفظونه بمعنى يحفظون عليه.
و قيل: المراد بالمعقبات الأحراس و الشرط و المواكب الذين يعقبون الملوك و الأمراء و المعنى: أن لمن هو سارب بالنهار و هم الملوك و الأمراء معقبات من الأحراس و الشرط يحيطون بهم و يحفظونهم من أمر الله أي قضائه و قدره توهما منهم أنهم يقدرون على ذلك، و هذا الوجه على سخافته لعب بكلامه تعالى.
و من ذلك اختلافهم في قوله: «من بين يديه و من خلفه» فقيل: إنه متعلق بمعقبات أي يعقبونه من بين يديه و من خلفه.
و فيه أن التعقيب لا يتحقق إلا من خلف، و قيل: متعلق بقوله: «يحفظونه» و في الكلام تقديم و تأخير و الترتيب: يحفظونه من بين يديه و من خلفه من أمر الله.
و فيه عدم الدليل على ذلك، و قيل: متعلق بمقدر كالوقوع و الإحاطة و نحوهما أو بنحو التضمين و المعنى له معقبات يحيطون به من بين يديه و من خلفه و قد تقدم.
و من جهة أخرى قيل: إن المراد بما بين يديه و ما خلفه ما هو من جهة المكان أي يحيطون به من قدامه و خلفه يحفظونه من المهالك و المخاطر، و قيل: المراد بهما ما تقدم من أعماله و ما تأخر يحفظها عليه الملائكة الحفظ و يكتبونها و لا دليل على ما في الوجهين من التخصيص، و قيل: المراد بما بين يديه و من خلفه ما للإنسان من الشئون الجسمية و الروحية مما له في حاضر حاله و ما خلفه وراءه و هو الذي قدمناه.
و من ذلك اختلافهم في معنى قوله: «يحفظونه» فقيل هو بمعنى يحفظون عليه، و قيل: هو مطلق الحفظ، و قيل: هو الحفظ من المضار.
و من ذلك اختلافهم في قوله: «من أمر الله» فقيل: هو متعلق بقوله: «معقبات» و إن قوله: «من بين يديه و من خلفه» و قوله: «يحفظونه» و قوله: «من أمر الله» ثلاث صفات لمعقبات.
و فيه أنه خلاف الظاهر، و قيل: هو متعلق بقوله: «يحفظونه» و «من» بمعنى الباء للسببية أو المصاحبة و المعنى يحفظونه بسبب أمر الله أو بمصاحبة أمر الله، و قيل: متعلق بيحفظونه و «من» للابتداء أو للنشو أي يحفظونه مبتدأ ذلك أو ناشئا ذلك من أمر الله، و قيل: هو كذلك لكن «من» بمعنى «عن» أي يحفظونه عن أمر الله أن يحل به و يغشاه و فسروا الحفظ من أمر الله بأن الأمر بمعنى البأس أي يحفظونه من بأس الله بأن يستمهلوا كلما أذنب و يسألوا الله سبحانه أن يؤخر عنه المؤاخذة و العقوبة أو إمضاء شقائه لعله يتوب و يرجع، و فساد أغلب هذه الوجوه ظاهر غني عن البيان.
و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: «له معقبات من بين يديه و من خلفه» إلخ فقيل: متصل بقوله: «سارب بالنهار» و قد تقدم معناه، و قيل: متصل بقوله: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» أو قوله: «عالم الغيب و الشهادة» أي كما يعلمهم جعل عليهم حفظة يحفظونهم.
و قيل متصل بقوله: «إنما أنت منذر» الآية يعني أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) محفوظ بالملائكة.
و الحق أنه متصل بقوله: «و كل شيء عنده بمقدار» و نوع بيان له، و قد تقدم ذكره.
و من ذلك اختلافهم في اتصال قوله: «إن الله لا يغير ما بقوم» إلخ فقيل: إنه متصل بقوله: «و يستعجلونك بالعذاب» الآية أي أنه لا ينزل العذاب إلا على من يعلم من جهتهم بالتغيير حتى لو علم أن فيهم من سيؤمن بالله أو من في صلبه ممن سيولد و يعيش بالإيمان لم ينزل عليهم العذاب، و قيل: متصل بقوله: «سارب بالنهار» يعني أنه إذا اقترف المعاصي فقد غير ما به من سمة العبودية و بطل حفظه و نزل عليه العذاب.
و القولان - كما ترى - بعيدان من السياق و الحق أن قوله: «إن الله لا يغير ما بقوم» إلخ، تعليل لما تقدمه من قوله: «يحفظونه من أمر الله» و قد مر بيانه.
قوله تعالى: «هو الذي يريكم البرق خوفا و طمعا و ينشىء السحاب الثقال» السحاب بفتح السين جمع سحابة بفتحها و لذلك وصف بالثقال.
و الإراء إظهار ما من شأنه أن يحس بالبصر للمبصر ليبصره أو جعل الإنسان على صفة الرؤية و الإبصار، و التقابل بين قوله: «يريكم» و قوله: «ينشىء» يؤيد المعنى الأول.
و قوله: «خوفا و طمعا» مفعول له أي لتخافوا و تطمعوا، و يمكن أن يكون مصدرين بمعنى الفاعل حالين من ضمير «كم» أي خائفين و طامعين.
و المعنى: هو الذي يظهر لعيونكم البرق ليظهر فيكم صفتا الخوف و الطمع كما أن المسافر يخافه و الحاضر يطمع فيه، و أهل البحر يخافونه و أهل البر يطعمون فيه و يخاف صاعقته و يطمع في غيثه، و يخلق بإنشائه السحابات التي تثقل بالمياه التي تحملها، و في ذكر آية البرق بالإراءة و آية السحاب بالإنشاء لطف ظاهر.
قوله تعالى: «و يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء» إلخ، الصواعق جمع صاعقة و هو القطعة النارية النازلة من السماء عن برق و رعد، و الجدل المفاوضة و المنازعة في القول على سبيل المغالبة، و أصله من جدلت الحبل إذا أحكمت فتله، و المحال بكسر الميم مصدر ماحله يماحله إذا ماكره و قاواه ليتبين أيهما أشد و جادله لإظهار مساويه و معائبه فقوله: «و هم يجادلون في الله و هو شديد المحال» معناه - و الله أعلم - أن الوثنيين - و إليهم وجه الكلام في إلقاء هذه الحجج - يجادلون في ربوبيته تعالى بتلفيق الحجة على ربوبية أربابهم كالتمسك بدأب آبائهم و الله سبحانه شديد المماحلة لأنه عليم بمساويهم و معائبهم قدير على إظهارها و فضاحتهم.
قوله تعالى: «له دعوة الحق و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء» إلى آخر الآية الدعاء و الدعوة توجيه نظر المدعو إلى الداعي و يتأتى غالبا بلفظ أو إشارة، و الاستجابة و الإجابة إقبال المدعو على الداعي عن دعائه، و أما اشتمال الدعاء على سؤال الحاجة و اشتمال الاستجابة على قضائها فذلك غاية متممة لمعنى الدعاء و الاستجابة غير داخلة في مفهوميهما.
نعم: الدعاء إنما يكون دعاء حقيقة إذا كان المدعو ذا نظر يمكن أن يوجه إلى الداعي و ذا جدة و قدرة يمكنه بهما استجابة الدعاء و أما دعاء من لا يفقه أو يفقه و لا يملك ما ترفع به الحاجة فليس بحق الدعاء و إن كان في صورته.
و لما كانت الآية الكريمة قرر فيها التقابل بين قوله «له دعوة الحق» و بين قوله: «و الذين يدعون من دونه» إلخ، الذي يذكر أن دعاء غيره خال عن الاستجابة ثم يصف دعاء الكافرين بأنه في ضلال علمنا بذلك أن المراد بقوله: «دعوة الحق» الدعوة الحقة غير الباطلة و هي الدعوة التي يسمعها المدعو ثم يستجيبها البتة، و هذا من صفاته تعالى و تقدس فإنه سميع الدعاء قريب مجيب و هو الغني ذو الرحمة و قد قال: «أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة: 186 و قال: «ادعوني أستجب لكم»: المؤمن: 60 فأطلق و لم يشترط في الاستجابة إلا أن تتحقق هناك حقيقة الدعاء و أن يتعلق ذلك الدعاء به تعالى لا غير.
فلفظة دعوة الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة أو من الإضافة الحقيقة بعناية أن الحق و الباطل كأنهما يقتسمان الدعاء فقسم منه للحق و هو الذي لا يتخلف عن الاستجابة، و قسم منه للباطل و هو الذي لا يهتدي إلى هدف الإجابة كدعاء من لا يسمع أو لا يقدر على الاستجابة.
فهو تعالى لما ذكر في الآيات السابقة أنه عليم بكل شيء و أن له القدرة العجيبة ذكر في هذه الآية أن له حقيقة الدعاء و الاستجابة فهو مجيب الدعاء كما أنه عليم قدير، و قد ذكر ذلك في الآية بطريقي الإثبات و النفي أعني إثبات حق الدعاء لنفسه و نفيه عن غيره.
أما الأول فقوله: «له دعوة الحق» و تقديم الظرف يفيد الحصر و يؤيده ما بعده من نفيه عن غيره، و أما الثاني فقوله: «و الذين يدعون من دونه لا يستجيبون لهم بشيء إلا كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه» و قد أخبر فيه أن الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيبون لهم بشيء و قد بين ذلك في مواضع من كلامه فإن هؤلاء المدعوين إما أصنام يدعوهم عامتهم و هي أجسام ميتة لا شعور فيها و لا إرادة، و إما أرباب الأصنام من الملائكة أو الجن و روحانيات الكواكب و البشر كما ربما يتنبه له خاصتهم فهم لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا فكيف بغيرهم و لله الملك كله و له القوة كلها فلا مطمع عند غيره تعالى.
ثم استثنى من عموم نفي الاستجابة صورة واحدة فقط و هي ما يشبه مورد المثل المضروب بقوله: «كباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ما هو ببالغه».
فإن الإنسان العطشان إذا أراد شرب الماء كان عليه أن يدنو من الماء ثم يبسط كفيه فيغترفه و يتناوله و يبلغ فاه و يرويه و هذا هو حق الطلب يبلغ بصاحبه بغيته في هدى و رشاد، و أما الظمآن البعيد من الماء يريد الري لكن لا يأتي من أسبابه بشيء غير أنه يبسط إليه كفيه يبلغ فاه فليس يبلغ البتة فاه و ليس له من طلبه إلا صورته فقط.
و مثل من يدعو غير الله سبحانه مثل هذا الباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ليس له من الدعاء إلا صورته الخالية من المعنى و اسمه من غير مسمى فهؤلاء المدعوون من دون الله لا يستجيبون للذين يدعونهم بشيء و لا يقضون حاجتهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و يقضي حاجته أي لا يحصل لهم إلا صورة الدعاء كما لا يحصل لذلك الباسط إلا صورة الطلب ببسط الكفين.
و من هنا يعلم أن هذا الاستثناء «إلا كباسط كفيه» إلخ، لا ينتقض به عموم النفي في المستثنى منه و لا يتضمن إلا صورة الاستثناء فهو يفيد تقوية الحكم في جانب المستثنى منه فإن مفاده أن الذين يدعون من دون الله لا يستجاب لهم إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء و لن يستجاب له، و بعبارة أخرى لن ينالوا بدعائهم إلا أن لا ينالوا شيئا أي لن ينالوا شيئا البتة.
و هذا من لطيف كلامه تعالى و يناظر من وجه قوله تعالى الآتي: «قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا» و آكد منه كما سيجيء إن شاء الله.
و قد تبين بما تقدم: أولا: أن قوله: «دعوة الحق» المراد به حق الدعاء و هو الذي يستجاب و لا يرد البتة، و أما قول بعضهم: إن المراد كلمة الإخلاص شهادة أن لا إله إلا الله فلا شاهد عليه من جهة السياق.
و ثانيا: أن تقدير قوله «و الذين يدعون» إلخ بإظهار الضمائر: الذين يدعوهم المشركون من دون الله لا يستجيب أولئك المدعوون للمشركين بشيء.
و ثالثا: أن الاستثناء من قوله: «لا يستجيبون لهم بشيء» و في الكلام حذف و إيجاز و المعنى: لا يستجيبون لهم بشيء و لا ينيلونهم شيئا إلا كما يستجاب لباسط كفيه إلى الماء ليبلغ فاه و ينال من بسطه، و لعل الاستجابة مضمن معنى النيل و نحوه.
ثم أكد سبحانه الكلام بقوله: «و ما دعاء الكافرين إلا في ضلال» مع ما فيه من الإشارة إلى حقيقة أصيلة أخرى و هي أنه لا غرض لدعاء إلا الله سبحانه فإنه العليم القدير و الغني ذو الرحمة فلا طريق له إلا طريق التوجه إليه تعالى فمن دعا غيره و جعله الهدف لدعائه فقد الارتباط بالغرض و الغاية و خرج بذلك عن الطريق فضل دعاؤه فإن الضلال هو الخروج عن الطريق و سلوك ما لا يوصل إلى المطلوب.
قوله تعالى: «و لله يسجد من في السماوات و الأرض طوعا و كرها و ظلالهم بالغدو و الآصال» السجود الخرور على الأرض بوضع الجبهة أو الذقن عليها قال تعالى: «و خروا له سجدا»: يوسف: 100، و قال: «يخرون للأذقان سجدا»: أسرى: 107.
و الواحدة منه سجدة.
و الكره ما يأتي به الإنسان من الفعل بمشقة فإن حمل عليه من خارج فهو الكره بفتح الكاف و ما حمل عليه من داخل نفسه فهو الكره بضمها و الطوع يقابل الكره مطلقا.
و قال الراغب: الغدوة و الغداة من أول النهار، و قوبل في القرآن الغدو بالآصال نحو قوله: «و بالغدو و الآصال» و قوبل الغداة بالعشي قال: «بالغداة و العشي» انتهى و الغدو جمع غداة كقنى و قناة و قال في المجمع،: الآصال جمع أصل - بضمتين - و أصل جمع أصيل فهو جمع الجمع مأخوذ من الأصل فكأنه أصل الليل الذي ينشأ منه و هو ما بين العصر إلى مغرب الشمس.
انتهى.
و الأعمال الاجتماعية التي يؤتى بها لأغراض معنوية كالتصدر الذي يمثل به الرئاسة و التقدم الذي يمثل به السيادة و الركوع الذي يظهر به الصغر و الصغار و السجود الذي يظهر به نهاية تذلل الساجد و ضعته قبال تعزز المسجود له و اعتلائه تسمى غاياتها بأساميها كما تسمى نفسها فكما يسمى التقدم تقدما كذلك تسمى السيادة تقدما و كما أن الانحناء الخاص ركوع كذلك الصغر و الصغار الخاص ركوع و كما أن الخرور على الأرض سجود كذلك التذلل سجود كل ذلك بعناية أن الغاية من العمل هي المطلوبة بالحقيقة دون ظاهر هيئة العمل.
و هذه النظرة هي التي يعتبرها القرآن الكريم في نسبة السجود و ما يناظره من القنوت و التسبيح و الحمد و السؤال و نحو ذلك إلى الأشياء كقوله تعالى: «كل له قانتون»: البقرة: 116 و قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: أسرى: 44 و قوله: «يسأله من في السماوات و الأرض»: الرحمن: 29 و قوله: «و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض»: النحل: 49.
و الفرق بين هذه الأمور المنسوبة إلى الأشياء الكونية و بينها و هي واقعة في ظرف الاجتماع الإنساني أن الغايات موجودة في القسم الأول بحقيقة معناها بخلاف القسم الثاني فإنها إنما توجد فيها بنوع من الوضع و الاعتبار فذلة المكونات و ضعتها تجاه ساحة العظمة و الكبرياء ذلة و ضعة حقيقية بخلاف الخرور على الأرض و وضع الجبهة عليها فإنه ذلة و ضعة بحسب الوضع و الاعتبار و لذلك ربما يتخلف.
فقوله تعالى: «و لله يسجد من في السماوات و الأرض» أخذ بما تقدم من النظر و لعله إنما خص أولي العقل بالذكر حيث قال: «من في السماوات و الأرض» مع شمول هذه الذلة و الضعة جميع الموجودات كما في آية النحل المتقدمة و كما يشعر به ذيل الآية حيث قال: «و ظلالهم» إلخ، لأن الكلام في السورة مع المشركين و الاحتجاج عليهم فكان في ذلك بعثا لهم أن يسجدوا لله طوعا كما يسجد له من دونهم من عقلاء السماوات و الأرض طوعا حتى أن ظلالهم تسجد له.
و لذلك أيضا تعلقت العناية بذكر سجود الظلال ليكون آكد في استنهاضهم فافهمه.
ثم إن هذا التذلل و التواضع، الذي هو من عامة الموجودات لساحة ربهم عز و علا، خضوع ذاتي لا ينفك عنها و لا يتخلف فهو بالطوع البتة و كيف لا و ليس لها من نفسها شيء حتى يتوهم لها كراهة أو امتناع و جموح و قد قال تعالى: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين»: حم السجدة: 11.
فالعناية المذكورة توجب الطوع لجميع الموجودات في سجودهم لله تعالى و تقطع دابر الكره عنهم البتة غير أن هناك عناية أخرى ربما صححت نسبة الكره إلى بعضها في الجملة و هي أن بعض هذه الأشياء واقعة في مجتمع التزاحم مجهزة بطباع ربما عاقتها عن البلوغ إلى غاياتها و مبتغياتها أسباب أخر و هي الأشياء المستقرة في عالمنا هذا عالم المادة التي ربما زوحمت في مآربها و منعتها عن البلوغ إلى مقتضيات طباعها موانع متفرقة و لا شك أن مخالف الطبع مكروه كما أن ما يلائمه مطلوب.
فهذه الأشياء ساجدة لله خاضعة لأمره في جميع الشئون الراجعة إليها غير أنها فيما يخالف طباعها كالموت و الفساد و بطلان الآثار و الآفات و العاهات و نحو ذلك ساجدة له كرها، و فيما يلائم طباعها كالحياة و البقاء و البلوغ إلى الغايات و الظفر بالكمال ساجدة له طوعا كالملائكة الكرام الذين لا يعصون الله فيما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون.
و مما تقدم يظهر فساد قول بعضهم إن المراد بالسجدة هو الحقيقي منها يعني الخرور على الأرض بوضع الجبهة عليها مثلا فهم جميعا ساجدون غير أن المؤمن يسجد طوعا و الكافر يسجد خوفا من السيف و قد نسب القول به إلى الحسن.
و كذا قول بعض: إن المراد بالسجود الخضوع فله يخضع الكل إلا أن ذلك من المؤمن خضوع طوع و من الكافر خضوع كره لما يحل به من الآلام و الأسقام و نسب إلى الجبائي.
و كذا قول آخرين: إن المراد بالآية خضوع جميع ما في السماوات و الأرض من أولي العقل و غيرهم و التعبير بلفظ يخص أولي العقل للتغليب.
و أما قوله.
«و ظلالهم بالغدو و الآصال» ففيه إلحاق أظلال الأجسام الكثيفة بها في السجود فإن الظل و إن كان عدميا من حجب الجسم بكثافته عن نفوذ النور إلا أن له آثارا خارجية و هو يزيد و ينقص في طرفي النهار و يختلف اختلافا ظاهرا للحس فله نحو من الوجود ذو آثاره يخضع في وجوده و آثاره لله و يسجد له.
و هي تسجد لله سبحانه سجدة طوع في جميع الأحيان، و إنما خص الغدو و الآصال بالذكر لا لما قيل: إن المراد بهما الدوام لأنه يذكر مثل ذلك للتأبيد إذ لو أريد سجودها الدائم لكان الأنسب به أن يقال: بأطراف النهار حتى يعم جميع ما قبل الظهر و ما بعده كما وقع في قوله: «و من آناء الليل فسبح و أطراف النهار لعلك ترضى»: طه: 130.
بل النكتة فيه - و الله أعلم - أن الزيادة و النقيصة دائمتان للأظلال في الغداة و الأصيل فيمثلان للحس السقوط على الأرض و ذلة السجود، و أما وقت الظهيرة و أوساط النهار فربما انعدمت الأظلال فيها أو نقصت و كانت كالساكنة لا يظهر معنى السجدة منها ذلك الظهور.
و لا شك في أن سقوط الأظلال على الأرض و تمثيلها لخرور السجود منظور إليه في نسبة السجود إلى الأظلال في تفيؤها، و ليس النظر مقصورا على مجرد طاعتها التكوينية في جميع أحوالها و آثارها و الدليل على ذلك قوله: «أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيأ ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله و هم داخرون»: النحل: 48 فإن العناية بذلك ظاهرة فيه.
و ليس ذلك قولا شعريا و تصويرا تخييليا يتوسل به في الدعوة الحقة في كلامه تعالى - و حاشاه - و قد نص أنه ليس بشعر بل الحقائق المتعالية عن الأوهام الثابتة عند العقل السليم البعيدة بطباعها عن الحس إذا صادفت موارد أمكن أن يظهر فيها للحس نوع ظهور و يتمثل لها بوجه كان من الحري أن يستمد به في تعليم الأفهام الساذجة و العقول البسيطة و نقلها من مرتبة الحس و الخيال إلى مرحلة العقل السليم المدرك للحقائق من المعارف فإنه من الحس و الخيال الحق المستظهر بالحقائق المؤيد بالحق فلا بأس بالركون إليه.
و من هذا الباب عده تعالى ما يشاهد من الضلال المتفيئة من الأجسام المنتصبة بالغدو و الآصال ساجدة لله سبحانه لما فيها من السقوط على الأرض كخرور السجود من أولي العقل.
و من هذا الباب أيضا ما تقدم من قوله: «و يسبح الرعد بحمده» حيث أطلق التسبيح على صوت الرعد الهائل الذي يمثل لسانا ناطقا بتنزيهه تعالى عن مشابهة المخلوقين و الثناء عليه لرحمته المبشر به بالريح و السحاب و البرق مع أن الأشياء قاطبة مسبحة بحمده بوجوداتها القائمة به تعالى المعتمدة عليه، و هذا تسبيح ذاتي منهم و دلالته دلالة ذاتية عقلية غير مرتبطة بالدلالات اللفظية التي توجد في الأصوات بحسب الوضع و الاعتبار لكن الرعد بصوته الشديد الهائل يمثل للسمع و الخيال هذا التسبيح الذاتي فذكره الله سبحانه بما له من الشأن لينتقل به الأذهان البسيطة إلى معنى التسبيح الذاتي الذي يقوم بذات كل شيء من غير صوت قارع و لا لفظ موضوع.
و يقرب من هذا الباب ما تقدم في مفتتح السورة في قوله تعالى: «رفع السماوات بغير عمد ترونها» و قوله: «و في الأرض قطع متجاورات» الآية إن التمسك في مقام الاحتجاج عليه تعالى بالأمور المجهول أسبابها عند الحس ليس لأن سببيته تعالى مقصورة على هذا النوع من الموجودات و الأمور المعلومة الأسباب في غنى عنه تعالى فإن القرآن الكريم ينص على عموم قانون السببية و أنه تعالى فوق الجميع بل لأن الأمور التي لا تظهر أسبابها على الحس لبادىء نظرة تنبه الأفهام البسيطة و تمثل لها الحاجة إلى سبب أحسن تمثيل فتنتزع إلى البحث عن أسبابها و ينتهي البحث لا محالة إلى سبب أول هو الله سبحانه، و في القرآن الكريم من ذلك شيء كثير.
و بالجملة فتسمية سقوط ظلال الأشياء بالغدو و الآصال على الأرض سجودا منها لله سبحانه مبنية على تمثيلها في هذه الحال معنى السجدة الذاتية التي لها في ذواتها بمثال حسي ينبه الحس لمعنى السجدة الذاتية و يسهل للفهم البسيط طريق الانتقال إلى تلك الحقيقة العقلية.
هذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى، و أما حمل هذه المعاني على محض الاستعارة الشعرية أو جعلها مجازا مثلا يراد به انقياد الأشياء لأمره تعالى بمعنى أنها توجد كما شاء أو القول بأن المراد بالظل هو الشخص فإن من يسجد يسجد ظله معه فإن هذه معان واهية لا ينبغي الالتفات إليها.
قوله تعالى: «قل من رب السماوات و الأرض قل الله قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا» الآية بما تشتمل على أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالاحتجاج على المشركين بمنزلة الفذلكة من الآيات السابقة.
و ذلك أن الآيات السابقة تبين بأوضح البيان أن تدبير السماوات و الأرض و ما فيهما من شيء إلى الله سبحانه كما أن خلقها منه و أنه يملك ما يفتقر إليه الخلق و التدبير من العلم و القدرة و الرحمة و أن كل من دونه مخلوق مدبر لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و ينتج ذلك أنه الرب دون غيره.
فأمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسجل عليهم نتيجة بيانه السابق و يسألهم بعد تلاوة الآيات السابقة عليهم الكاشفة عن وجه الحق لهم بقوله: «من رب السماوات و الأرض» أي من هو الذي يملك السماوات و الأرض و ما فيهما و يدبر أمرها؟ ثم أمره أن يجيب هو نفسه عن السؤال و يقول: «الله» لأنهم و هم مشركون معاندون يمتنعون عن الإقرار بتوحيد الربوبية و في ذلك تلويح إلى أنهم لا يعقلون حجة و لا يفقهون حديثا.
ثم استنتج بمعونة هذه النتيجة نتيجة ثانية بها يتضح بطلان شركهم أوضح البيان و هي أن مقتضى ربوبيته تعالى الثابتة بالحجج السابقة أنه هو المالك للنفع و الضرر فكل من دونه لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا فكيف لغيره؟ فاتخاذ أرباب من دون الله أي فرض أولياء من دونه يلون أمر العباد و يملكون لهم نفعا و ضرا في الحقيقة فرض لأولياء ليسوا بأولياء لأنهم لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا فكيف يملكون لغيرهم ذلك؟.
و هذا هو المراد بقوله مفرعا على السؤال السابق: «قل أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا و لا ضرا» أي فكيف يملكون لغيرهم ذلك: أي إذا كان الله سبحانه هو رب السماوات و الأرض فقد قلتم باتخاذكم أولياء آلهة من دونه قولا يكذبه نفسه و هو عدم ولايتهم في عين ولايتهم و هو التناقض الصريح بأنهم أولياء غير أولياء و أرباب لا ربوبية لهم.
و بالتأمل فيما قدمناه أن الآية بمنزلة الفذلكة من سابق البيانات يعود مفاد الآية إلى مثل قولنا: إذا تبين ما تقدم فمن رب السماوات و الأرض إلا الله؟ أ فاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون نفعا و لا ضرا؟ فالعدول عن التفريع إلى أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: قل كذا و قل كذا و تكراره مرة بعد مرة إنما هو للتنزه عن خطابهم على ما بهم من قذارة الجهل و العناد و هذا من لطيف نظم القرآن.
قوله تعالى: «قل هل يستوي الأعمى و البصير أم هل تستوي الظلمات و النور» مثلان ضربهما الله سبحانه بعد تمام الحجة و إتمامها عليهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يضربهما لهم يبين بأحدهما حال المؤمن و الكافر فالكافر بالحجة الحقة و الآيات البينات غير المسلم لها أعمى و المؤمن بها بصير فالعاقل لا يسوي بينهما ببديهة عقله، و يبين بالثاني أن الكفر بالحق ظلمات كما أن الكافر الواقع فيها غير بصير و الإيمان بالحق نور كما أن المؤمن الأخذ به بصير و لا يستويان البتة فمن الواجب على المشركين إن كان لهم عقول سليمة - كما يدعون - أن يسلموا للحق و يرفضوا الباطل و يؤمنوا بالله وحده.
قوله تعالى: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه - إلى قوله - و هو الواحد القهار» في التعبير بقوله: «جعلوا» و «عليهم» دون أن يقال جعلتم و عليكم دليل على أن الكلام مصروف عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دون أن يؤمر بإلقائه إليهم.
ثم العود في جواب هذا الاحتمال الذي يتضمنه قوله: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم» إلى الأمر بإلقائه إليهم بقوله: «قل الله خلق كل شيء و هو الواحد القهار» دليل على أن السؤال إنما هو عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المطلوب من إلقاء توحيد الخالق إليهم هو الإلقاء الابتدائي لا الإلقاء بنحو الجواب، و ليس إلا لأنهم لا يقولون بخالق غير الله سبحانه كما قال تعالى: «و لئن سألتهم من خلق السماوات و الأرض ليقولن الله»: لقمان: 25، الزمر: 38 و قد كرر تعالى نقل ذلك عنهم.
فهؤلاء الوثنيون ما كانوا يرون لله سبحانه شريكا في الخلق و الإيجاد و إنما كانوا ينازعون الإسلام في توحيد الربوبية لا في توحيد الألوهية بمعنى الخلق و الإيجاد، و تسليمهم توحيد الخالق المبدع و قصر ذلك على الله يبطل قولهم بالشركاء في الربوبية و تتم الحجة عليهم لأن اختصاص الخلق و الإيجاد بالله سبحانه ينفي استقلال الوجود و العلم و القدرة عن غيره تعالى و لا ربوبية مع انتفاء هذه النعوت الكمالية.
و لذلك لم يبق لهم في القول بربوبية شركائهم مع الله سبحانه إلا أن ينكروا توحده تعالى في الخلق و الإيجاد و يثبتوا بعد الخلق و الإيجاد لآلهتهم و هم لا يفعلونه و هذا هو الموجب لذكره تعالى هذا الاحتمال لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) من دون أن يخاطبهم به أو يأمره أن يخاطبهم.
فكأنه تعالى إذ يقول: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم» يقول لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): هؤلاء تمت عليهم الحجة في توحيد الربوبية من جهة اختصاصه تعالى بالخلق و الإيجاد فلم يبق لهم إلا أن يقولوا بشركة شركائهم في الخلق و الإيجاد فهل هم قائلون بأن شركائهم خلقوا خلقا كخلقه ثم تشابه الخلق عليهم فقالوا بربوبيتهم إجمالا مع الله.
ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يلقي إليهم ما يقطع دابر هذا الاحتمال فقال: «قل الله خالق كل شيء و هو الواحد القهار» و الجملة صدرها دعوى دليلها ذيلها أي أنه تعالى واحد في خالقيته لا شريك له فيها، و كيف يكون له فيها شريك و له وحدة يقهر كل عدد و كثرة و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «ء أرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار:» يوسف: 39 بعض الكلام في معنى كونه تعالى هو الواحد القهار، و تبين هناك أن مجموع هاتين الصفتين ينتج صفة الأحدية.
و قد بان مما ذكرناه وجه تغيير السياق في قوله: «أم جعلوا لله شركاء خلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم» و الإعراض عن سياق الخطاب السابق فتأمل في ذلك و اعلم أن أكثر المفسرين اشتبه عليهم الحال في الحجج التي تقيمها الآيات القرآنية لإثبات ربوبيته تعالى و توحيده فيها و نفي الشريك عنه فخلطوا بينها و بين ما أقيمت لإثبات الصانع فتنبه لذلك.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن عبد الرحيم القصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا المنذر و علي الهادي الحديث.
أقول: و روى هذا المعنى الكليني في الكافي، و الصدوق في المعاني، و الصفار في البصائر، و العياشي و القمي في تفسيريهما و غيرهم بأسانيد كثيرة مختلفة.
و معنى قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «أنا المنذر و علي الهادي» أني مصداق المنذر و الإنذار هداية مع دعوة و على مصداق للهادي من غير دعوة و هو الإمام لا أن المراد بالمنذر هو رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و المراد بالهادي هو علي (عليه السلام) فإن ذلك مناف لظاهر الآية البتة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في المعرفة و الديلمي و ابن عساكر و ابن النجار قال: لما نزلت: «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» وضع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يده على صدره فقال: أنا المنذر و أومأ بيده إلى منكب علي فقال: أنت الهادي يا علي بك يهتدي المهتدون من بعدي:. أقول: و رواه الثعلبي في الكشف، عن عطاء بن السائب عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن إبراهيم بن الحكم بن ظهير عن أبيه عن الحكم بن جرير عن أبي بريدة الأسلمي قال: دعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالطهور و عنده علي بن أبي طالب فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي بعد ما تطهر فألصقها بصدره ثم قال: «إنما أنت منذر» و يعني نفسه ثم ردها إلى صدر علي ثم قال: «و لكل قوم هاد» ثم قال له: أنت منار الأنام و غاية الهدى و أمير القراء أشهد على ذلك أنك كذلك:. أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الحاكم في شواهد التنزيل، و المرزباني في ما نزل من القرآن في أمير المؤمنين.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و الحاكم و صححه و ابن مردويه و ابن عساكر عن علي بن أبي طالب: في قوله تعالى: «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» قال: رسول الله المنذر و أنا الهادي. و في لفظ: و الهادي رجل من بني هاشم يعني نفسه.
أقول: و من طرق أهل السنة في هذا المعنى روايات أخرى كثيرة.
و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) في قوله تعالى: «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» قال: كل إمام هاد لكل قوم في زمانهم.
و في الكافي، بإسناده عن فضيل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و لكل قوم هاد» فقال: كل إمام هاد للقرن الذي هو فيهم.
و فيه، بإسناده عن أبي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «إنما أنت منذر و لكل قوم هاد» فقال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا المنذر و علي الهادي. يا با محمد هل من هاد اليوم؟ فقلت: جعلت فداك ما زال منكم هاد من بعد هاد حتى رفعت إليك فقال: رحمك الله يا با محمد لو كانت إذا نزلت آية على رجل ثم مات ذلك الرجل ماتت الآية مات الكتاب و لكنه يجري فيمن بقي كما جرى فيما مضى.
أقول: و الرواية تشهد على ما قدمناه أن شمول الآية لعلي (عليه السلام) من الجري و كذلك يجري في باقي الأئمة، و هذا الجري هو المراد مما ورد أنها نزلت في علي (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى و ما تغيض الأرحام» قال: ما لم يكن حملا. «و ما تزداد» قال: الذكر و الأنثى جميعا.
أقول: و قوله: الذكر و الأنثى جميعا، يريد ما يزيد على الواحد من الواحد بدليل الرواية التالية.
و فيه، عن محمد بن مسلم و غيره عنهما (عليهما السلام) قال: «ما تحمل» كل من أنثى أو ذكر «و ما تغيض الأرحام» قال: ما لم يكن حملا «و ما تزداد» عن أنثى أو ذكر.
و في الكافي، بإسناده عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): في قول الله عز و جل: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى - و ما تغيض الأرحام و ما تزداد» قال: الغيض كل حمل دون تسعة أشهر «و ما تزداد» كل شيء تزداد على تسعة أشهر فكلما رأت المرأة الدم الخالص في حملها من الحيض فإنها تزداد بعدد الأيام التي رأت في حملها من الدم.
أقول: و هذا معنى آخر و نقل عن بعض قدماء المفسرين.
و في المعاني، بإسناده عن ثعلبة بن ميمون عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «عالم الغيب و الشهادة» قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.
أقول: ليس المراد من «ما لم يكن» المعدوم الذي ليس بشيء بل الأمر الذي بالقوة ما لم يدخل في ظرف الفعلية، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و هو ظاهر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الكبير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق عطاء بن يسار عن ابن عباس: أن أربد بن قيس و عامر بن الطفيل قدما المدينة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانتهيا إليه و هو جالس فجلسا بين يديه فقال عامر ما تجعل لي إن أسلمت؟ قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لك ما للمسلمين و عليك ما عليهم قال: أ تجعل لي إن أسلمت الأمر من بعدك؟ قال: ليس لك و لا لقومك و لكن لك أعنة الخيل. قال: فاجعل لي الوبر و لك المدر فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لا. فلما قفى من عنده قال: لأملأنها عليك خيلا و رجالا، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يمنعك الله. فلما خرج أربد و عامر قال عامر: يا أربد إني سألهي محمدا عنك بالحديث فأضربه بالسيف فإن الناس إذا قتلت محمدا لم يزيدوا على أن يرضوا بالدية و يكرهوا الحرب فسنعطيهم الدية فقال أربد: افعل، فأقبلا راجعين فقال عامر: يا محمد قم معي أكلمك فقام منه فخليا إلى الجدار و وقف معه عامر يكلمه و سل أربد السيف فلما وضع يده على سيفه يبست على قائم السيف فلا يستطيع سل سيفه و أبطأ أربد على عامر بالضرب فالتفت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فرأى أربد و ما يصنع فانصرف عنهما، و قال عامر لأربد: ما لك حشمت قال: وضعت يدي على قائم السيف فيبست. فلما خرج عامر و أربد من عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى إذا كانا بحرة رقم نزلا فخرج إليهما سعد بن معاذ و أسيد بن حضير فقال: أشخصا يا عدوي الله لعنكما الله و وقع بهما. فقال عامر: من هذا يا سعد؟ فقال سعد: هذا أسيد بن حضير الكتائب. فقال: أما و الله إن كان حضير صديقا لي. حتى إذا كان بالرقم أرسل الله على أربد صاعقة فقتلته، و خرج عامر حتى إذا كان بالخريب أرسل الله عليه قرحة فأدركه الموت فيها فأنزل الله: «الله يعلم ما تحمل كل أنثى» إلى قوله له معقبات من بين يديه» قال: المعقبات من أمر الله يحفظون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم). ثم ذكر أربد و ما قتله فقال: «هو الذي يريكم البرق إلى قوله و هو شديد المحال».
أقول: و روي ما في معناه عن الطبري و أبي الشيخ عن ابن زيد و في آخره: و قال لبيد في أخيه أربد و هو يبكيه.
أخشى على أربد الحتوف و لا.
أرهب نوء السماء و الأسد.
فجعني الرعد و الصواعق بالفارس.
يوم الكريهة النجد.
و ما تذكره الرواية من نزول هذه الآيات في القصة لا يلائم سياق آيات السورة الظاهر في كونها مكية بل لا يناسب سياق نفس الآيات أيضا على ما مر من معناها.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج ابن المنذر و أبو الشيخ عن علي: «له معقبات من بين يديه و من خلفه يحفظونه من أمر الله» قال: ليس من عبد إلا و معه ملائكة يحفظونه من أن يقع عليه حائط أو يتردى في بئر أو يأكله سبع أو غرق أو حرق فإذا جاء القدر خلوا بينه و بين القدر.
أقول: و روي أيضا ما في معناه عن أبي داود في القدر و ابن أبي الدنيا و ابن عساكر عنه.
و روي ما في معناه عن الصادقين (عليهما السلام).
و في تفسير العياشي، عن فضيل بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال حدثنا هذه الآية: «له معقبات من بين يديه و من خلفه» الآية قال: من المقدمات المؤخرات المعقبات الباقيات الصالحات.
أقول: ظاهره أن الباقيات الصالحات من مصاديق المعقبات المذكورة في الآية تحفظ صاحبها من سوء القضاء و لا تحفظه إلا بالملائكة الموكلة عليها فيرجع معناه إلى ما قدمناه في بيان الآية، و يمكن أن تكون المقدمات المؤخرات نفس الباقيات الصالحات و رجوعه إلى ما قدمناه ظاهر.
و فيه، عن أبي عمرو المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أبي كان يقول: إن الله قضى قضاء حتما لا ينعم على عبد بنعمة فسلبها إياه قبل أن يحدث العبد ما يستوجب بذلك الذنب سلب تلك النعمة و ذلك قول الله: «إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم».
و فيه، عن أحمد بن محمد عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام): في قول الله: «إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم و إذا أراد الله بقوم سوء - فلا مرد له» فصار الأمر إلى الله تعالى.
أقول: إشارة إلى ما قدمناه من معنى الآية.
و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن الفضل عن أبيه قال. سمعت أبا خالد الكابلي يقول: سمعت زين العابدين علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: الذنوب التي تغير النعم البغي على الناس و الزوال عن العادة في الخير و اصطناع المعروف و كفران النعم و ترك الشكر، قال الله عز و جل: «إن الله لا يغير ما بقوم - حتى يغيروا ما بأنفسهم».
و فيه، بإسناده عن الحسن بن فضال عن الرضا (عليه السلام): في قوله: «هو الذي يريكم البرق خوفا و طمعا» قال: خوفا للمسافر و طمعا للمقيم.
و في تفسير النعماني، عن الأصبغ بن نباتة عن علي (عليه السلام): في قوله تعالى: «و هو شديد المحال» يريد المكر.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أنس بن مالك: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث رجلا إلى فرعون من فراعنة العرب يدعوه إلى الله عز و جل فقال للرسول: أخبرني عن هذا الذي تدعوني إليه أ من فضة هو أم من ذهب أم من حديد؟ فرجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره بقوله فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): ارجع إليه فادعه قال: يا نبي الله إنه اعتاص من ذلك. قال: ارجع إليه فرجع فقال كقوله فبينا هو يكلمه إذ رعدت سحابة رعدة فألقت على رأسه صاعقة ذهبت بقحف رأسه فأنزل الله جل ثناؤه «و يرسل الصواعق فيصيب بها من يشاء - و هم يجادلون في الله و هو شديد المحال».
أقول: الكلام في آخره كالكلام في آخر ما مر من قصة عامر و أربد و يزيد هذا الخبر أن قوله: «و يرسل الصواعق» إلخ بعض من آية و لا وجه لتقطيع الآيات في النزول.
و في التفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و لله يسجد من في السماوات و الأرض» الآية: أما من يسجد من أهل السماوات طوعا فالملائكة يسجدون لله طوعا، و أما من يسجد من أهل الأرض ممن ولد في الإسلام فهو يسجد له طوعا، و أما من يسجد له كرها فمن جبر على الإسلام و أما من لم يسجد فظله يسجد له بالغدو و الآصال.
أقول: ظاهر الرواية يخالف سياق الآية الكريمة فإن الآية مسوقة لبيان عموم قهره تعالى بعظمته و علوه من في السماوات و الأرض أنفسهم و أظلالهم و هي تنبىء عن سجودها له تعالى بحقيقة السجدة، و ظاهر الرواية أن السجدة بمعنى الخرور و وضع الجبهة أو ما يشبه السجدة عامة موجودة إما فيهم و إما في ظلالهم فإن سجدوا حقيقة طوعا أو كرها فهي و إلا فسقوط ظلالهم على الأرض يشبه السجدة و هذا معنى لا جلالة فيه لله الكبير المتعال.
على أنه لا يوافق العموم المتراءى من قوله: «و ظلالهم بالغدو و الآصال» و أوضح منه العموم الذي في قوله: «أ و لم يروا إلى ما خلق الله شيء يتفيؤ ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله و هم داخرون و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض من دابة و الملائكة و هم لا يستكبرون:» النحل: 49.
|