بيان
غرض السورة بيان حقية ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الكتاب و أنه آية الرسالة و أن قولهم: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» و هم يعرضون به للقرآن و لا يعدونه آية كلام مردود إليهم و لا ينبغي للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصغي إليه و لا لهم أن يتفوهوا به.
و يدل على ذلك ابتداء السورة بمثل قوله: «و الذي أنزل إليك من ربك الحق و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» و اختتامها بقوله: «و يقول الذين كفروا لست مرسلا قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم» الآية، و تكرار حكاية قولهم: لو لا أنزل عليه آية من ربه.
و محصل البيان على خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن هذا القرآن النازل عليك حق لا يخالطه باطل فإن الذي يشتمل عليه من كلمة الدعوة هو التوحيد الذي تدل عليه آيات الكون من رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و سائر ما يجري عليه عجائب تدبيره و غرائب تقديره تعالى.
و تدل على حقية دعوته أيضا أخبار الماضين و آثارهم جاءتهم الرسل بالبينات فكفروا و كذبوا فأخذهم الله بذنوبهم.
فهذا ما يتضمنه هذا الكتاب و هو آية دالة على رسالتك.
و قولهم: «لو لا أنزل عليه آية» تعريضا منهم للقرآن مردود إليهم أولا بأنك لست إلا منذرا و ليس لك من الأمر شيء حتى يقترح عليك بمثل هذه الكلمة و ثانيا أن الهداية و الإضلال ليسا كما يزعمون في وسع الآيات حتى يرجوا الهداية من آية يقترحونها و إنما ذلك إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء على نظام حكيم و أما قولهم: لست مرسلا فيكفيك من الحجة شهادة الله في كلامه على رسالتك و دلالة ما فيه من المعارف الحقة على ذلك.
و من الحقائق الباهرة المذكورة في هذه السورة ما يتضمنه قوله: «أنزل من السماء ماء» الآية، و قوله: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»، و قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب»، و قوله: «فلله المكر جميعا».
و السورة مكية كلها على ما يدل عليه سياق آياتها و ما تشتمل عليه من المضامين، و نقل عن بعضهم أنها مكية إلا آخر آية منها فإنها نزلت بالمدينة في عبد الله بن سلام، و عزي ذلك إلى الكلبي و مقاتل، و يدفعه أنها مختتم السورة قوبل بها ما في مفتتحها من قوله: «و الذي أنزل إليك من ربك الحق».
و قيل: إن السورة مدنية كلها إلا آيتين منها و هما قوله: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال» الآية و الآية التي بعدها، و نسب ذلك إلى الحسن و عكرمة و قتادة، و يدفعه سياق الآيات بما تشتمل عليه من المضامين فإنها لا تناسب ما كان يجري عليه الحال في المدينة و بعد الهجرة.
و قيل: إن المدني منها قوله تعالى: «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة» الآية و الباقي مكي و كان القائل اعتمد في ذلك على قبولها الانطباق على أوائل حال الإسلام بعد الهجرة إلى الفتح و سيأتي في بيان معنى الآية ما يتضح به اندفاعه.
قوله تعالى: «المر تلك آيات الكتاب و الذي أنزل إليك من ربك الحق» إلخ، الحروف المصدرة بها السورة هي مجموع الحروف التي صدرت بها سور «الم» و سور «الر» كما أن المعارف المبينة في السورة كأنها المجموع من المعارف المعنية في ذينك الصنفين من السور، و في الرجاء أن نشرح القول في ذلك فيما سيأتي إن شاء الله العزيز.
و قوله: «تلك آيات الكتاب» ظاهر سياق الآية و ما يتلوها من الآيات الثلاث على ما بها من الاتصال و هي تعد الآيات الكونية من رفع السماوات و مد الأرض و تسخير الشمس و القمر و غير ذلك الدالة على توحيد الله سبحانه الذي يفصح عنه القرآن الكريم و تندب إليه الدعوة الحقة، و هي تذكر أن التدبر في تفصيلها و التفكر فيها يورث اليقين بالمبدإ و المعاد و العلم، بأن الذي أنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حق.
فظاهر ذلك كله أن يكون المراد بالآيات المشار إليها بقوله: «تلك آيات الكتاب» الموجودات الكونية و الأشياء الخارجية المسخرة في النظام العام الإلهي، و المراد بالكتاب هو مجموع الكون الذي هو بوجه اللوح المحفوظ أو المراد به القرآن الكريم بما يشتمل على الآيات الكونية بنوع من العناية و المجاز.
و على هذا يكون في الآية إشارة إلى نوعين من الدلالة و هما الدلالة الطبيعية التي تتلبس بها الآيات الكونية من السماء و الأرض و ما بينهما، و الدلالة اللفظية التي تتلبس بها الآيات القرآنية المنزلة من عنده تعالى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و يكون قوله: «و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» استدراكا متعلق بالجملتين معا أعني بقوله: «تلك آيات الكتاب» و قوله: «و الذي أنزل إليك من ربك الحق» لا بالجملة الأخيرة فحسب.
و المعنى - و الله أعلم - تلك الأمور الكونية - و قد أشير بلفظ البعيد دلالة على ارتفاع مكانتها - آيات الكتاب العام الكوني دالة على أن الله سبحانه واحد لا شريك له في ربوبيته و القرآن الذي أنزل إليك من ربك حق ليس بباطل - و اللام في قوله: «الحق» للحصر فتفيد المحوضة - فتلك آيات قاطعة في دلالتها و هذا حق في نزوله و لكن أكثر الناس لا يؤمنون، لا بتلك الآيات العينية و لا بهذا الحق النازل، و في لحن الكلام شيء من اللوم و العتاب.
و قد بان مما مر أن اللام في قوله: «الحق» للحصر، و مفاده أن الذي أنزل إليه حق فحسب و ليس بباطل و لا مختلطا من حق و باطل.
و للمفسرين في تركيب الآية و معنى مفرداتها كالمراد باسم الإشارة و المراد بالآيات و بالكتاب و معنى الحصر في قوله: «الحق» و المراد بأكثر الناس أقوال متنوعة مختلفة و الأظهر الأنسب لسياق الآيات هو ما قدمناه و على من أراد الاطلاع على تفصيل أقوالهم أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: «الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها ثم استوى على العرش» إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: العمود ما تعتمد عليه الخيمة و جمعه عمد - بضمتين - و عمد - بفتحتين - قال: في عمد ممددة، و قرىء في عمد، و قال: بغير عمد ترونها انتهى.
و قيل: إن العمد بفتحتين اسم جمع للعماد لا جمع.
و المراد بالآية التذكير بدليل ربوبيته تعالى وحده لا شريك له و إن السماوات مرفوعة بغير عمد تعتمد عليها تدركها أبصاركم و هناك نظام جار و هناك شمس و قمر مسخران يجريان إلى أجل مسمى، و لا بد ممن يقوم على هذه الأمور فيرفع السماء و ينظم النظام و يسخر الشمس و القمر و يدبر الأمر و يفصل هذه الآيات بعضها عن بعض تفصيلا فيه رجاء أن توقنوا بلقاء ربكم فالله سبحانه هو ذاك القائم بما ذكر من أمر رفع السماوات و تنظيم النظام و تسخير الشمس و القمر و تدبير الأمر و تفصيل الآيات فهو تعالى رب الكل لا رب غيره.
فقوله: «الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها» رفع السماوات هو فصلها من الأرض فصلا يتسلط به على الأرض بإلقاء أشعتها و إنزال أمطارها و صواعقها عليها و غير ذلك فهي مرفوعة على الأرض من غير عمد محسوسة للإنسان تعتمد عليها فعلى الإنسان أن يتفطن أن لها رافعا حافظا لها أن تتحول من مكانها ممسكا لها أن تزول من مستقرها.
و ذلك أن استقرار السماوات في رفيع مستقرها من غير عمد و إن لم يكن بأعجب من استقرار الأرض في مستقرها و هما محتاجتان في ذلك إليه تعالى قائمتان مقامهما بقدرته و إرادته ذلك من طريق أسباب مختصة بهما بإذنه تعالى، و لو كانت السماوات مرفوعة معتمدة على عمد منصوبة لم يغنها ذلك عن الحاجة إليه تعالى و الافتقار إلى قدرته و إرادته فالأشياء كلها في حالاتها محتاجة إليه تعالى احتياجا مطلقا لا يزول عنها أبدا و لا في حال.
لكن الإنسان - في عين أنه يرى قانون العلية الكلي و يذعن بحاجة الحوادث إلى علل موجدة، و في فطرته البحث عن علل الحوادث و الأمور الممكنة - إذا وجد بعض الحوادث مقرونا بعلله و تكرر ذلك على حسه أقنعه ذلك و لم يتعجب من مشاهدته على حاله و لا بحث عنه فإذا رأى الأجرام الثقيلة تسقط على الأرض ثم وجد سقفا مرتفعا عن الأرض لا تسقط عليها تعجب و بحث عن ذلك حتى يحصل على أركان أو أعمدة يقوم عليها السقف و عند ذلك مع ما فيه من التكرر على الحس تقف نفسه عن البحث في كل مورد يشاهد فيه شيئا رفيعا معتمدا على أعمدة أو أركان.
أما إذا وجد أمرا يخرق هذه العادة المألوفة له كالأجرام العلوية القائمة على سمكها من غير عماد تعتمد عليه و الطير الصافات و يقبضن فعند ذلك تنتزع نفسه إلى البحث عن السبب الفاعل له كالمتنبه من رقدته.
فقوله تعالى: «رفع السماوات بغير عمد ترونها» إنما وصف السماوات فيه بقوله: «بغير عمد ترونها» لا للدلالة على نفي مطلق العماد عنها على أن يكون قوله: «ترونها» وصفا توضيحيا لا مفهوم له، أو الدلالة على نفي العماد المحسوس فيفيد على التقديرين أنها لما لم تكن لها عمد كان الله سبحانه هو الرافع الممسك لها من غير توسيط سبب، و لو كانت لها أعمدة كسائر ما يعتمد على عماد لكانت الأعمدة هي الرافعة الممسكة لها من غير حاجة إلى الله سبحانه كما ربما يذهب إليه أوهام العامة أن الذي يستند إلى الله من الأمور هو ما يجهل سببه كالأمور السماوية و الحوادث الجوية و الروح و أمثال ذلك.
فإن كلامه تعالى ينص أولا على أن كل ما يصدق عليه الشيء ما خلا الله فهو مخلوق لله و كل خلق و أمر لا يخلو عن الاستناد إليه كما قال تعالى: «الله خالق كل شيء»: الرعد: 16، و قال: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54.
و ثانيا: على أن سنة الأسباب جارية مطردة و أنه تعالى على صراط مستقيم فلا معنى لكون حكم الأسباب جاريا في بعض الأمور الجسمانية غير جار في بعض.
و استناد بعض الحوادث كالحوادث الأرضية إليه تعالى بواسطة الأسباب، و استناد بعضها الآخر كالأمور السماوية مثلا إليه تعالى بلا واسطة، فإن قام سقف مثلا على عمود فقد قام بسبب خاص به بإذن الله، و إن قام جرم سماوي من غير عمود يقوم عليه فقد قام أيضا بسبب خاص به كطبيعته الخاصة أو التجاذب العام مثلا بإذن الله.
بل إنما قيد رفع السماوات بقوله: «بغير عمد ترونها» لتنبيه فطرة الناس و إيقاظها لتنتزع إلى البحث عن السبب و ينتهي ذلك لا محالة إلى الله سبحانه، و قد سلك نظير هذا المسلك في قوله في الآية التالية: «و هو الذي مد الأرض و جعل فيها رواسي و أنهارا» على ما سنوضحه.
و لما كان المطلوب في المقام - على ما يهدي إليه سياق الآيات - هو توحيد الربوبية و بيان أن الله سبحانه رب كل شيء لا رب سواه لا أصل إثبات الصانع عقب قوله: «رفع السماوات» إلخ بقوله: «ثم استوى على العرش و سخر الشمس و القمر» إلخ، الدال على التدبير العام المتحد باتصال بعض أجزائه ببعض ليثبت به أن رب الجميع و مالكها المدبر لأمرها واحد.
و ذلك أن الوثنية الذين يناظرهم القرآن لا ينكرون أن خالق الكل و موجده واحد لا شريك له في إيجاده و إبداعه، و هو الله سبحانه، و إنما يرون أنه فوض تدبير كل شأن من شئون الكون و نوع من أنواعه كالأرض و السماء و الإنسان و الحيوان و البر و الحرب و السلم و الحياة و الموت إلى واحد من الموجودات القوية فينبغي أن يعبد ليجلب بها خيره و يتقي بها شره فلا ينفع في ردهم إلا قصر الربوبية في الله سبحانه و إثبات أنه رب لا رب سواه، و أما توحيد الألوهية بمعنى إثبات أن الواجب الوجود واحد لا واجب غيره و إليه ينتهي كل وجود فهو أمر لا تنكره الوثنية و لا يضرهم شيئا.
و من هنا يظهر أن قوله: «الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها» موضوع في صدر الآية توطئة و تمهيدا لقوله: «ثم استوى على العرش» إلخ من غير أن يكون مقصودا بالذات فيما سيق من البرهان فوزان هذا الصدر من ذيله وزان الصدر من الذيل في قوله تعالى: «إن ربكم الله الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام ثم استوى على العرش» إلخ: الأعراف: 54، يونس: 3، و ما يشابهها من الآيات.
و يظهر أيضا: أن قوله: «بغير عمد» متعلق برفع و «ترونها» وصف للعمد و المراد رفعها بغير عمد محسوسة مرئية، و أما قول من يجعل: «ترونها» جملة مستأنفة تفيد دفع الدخل كأن السامع لما سمع قوله: «رفع السماوات بغير عمد» قال: ما الدليل على ذلك؟ فأجيب و قيل: «ترونها» أي الدليل على ذلك أنها مرئية لكم، فبعيد.
إلا على تقدير أن يكون المراد بالسماوات مجموع جهة العلو على ما فيها من أجرام النجوم و الكواكب و الهواء المتراكم فوق الأرض و السحب و الغمام فإنها جميعا مرفوعة من غير عمد و مرئية للإنسان.
و قوله: «ثم استوى على العرش و سخر الشمس و القمر» تقدم الكلام في معنى العرش و الاستواء و التسخير في تفسير سورة الأعراف الآية 54.
و قوله: «كل يجري لأجل مسمى» أي كل منهما يجري إلى أجل معين يقف عنده و لا يتعداه كذا قيل و من الجائز بل الراجح أن يكون الضمير المحذوف ضمير جمع راجعا إلى الجميع و المعنى كل من السماوات و الشمس و القمر يجري إلى أجل مسمى فإن حكم الجري و الحركة عام مطرد في جميع هذه الأجسام.
و قد تقدم الكلام في معنى الأجل المسمى في تفسير سورة الأنعام الآية 1 فراجع.
و قوله: «يدبر الأمر» التدبير هو الإتيان بالشيء عقيب الشيء و يراد به ترتيب الأشياء المتعددة المختلفة و نظمها بوضع كل شيء في موضعه الخاص به بحيث يلحق بكل منها ما يقصد به من الغرض و الفائدة و لا يختل الحال بتلاشي الأصل و تفاسد الأجزاء و تزاحمها يقال: دبر أمر البيت أي نظم أموره و التصرفات العائدة إليه بحيث أدى إلى صلاح شأنه و تمتع أهله بالمطلوب من فوائده.
فتدبير أمر العالم نظم أجزائه نظما جيدا متقنا بحيث يتوجه به كل شيء إلى غايته المقصودة منه و هي آخر ما يمكنه من الكمال الخاص به و منتهى ما ينساق إليه من الأجل المسمى، و تدبير الكل إجراء النظام العام العالمي بحيث يتوجه إلى غايته الكلية و هي الرجوع إلى الله و ظهور الآخرة بعد الدنيا.
و قوله: «يفصل الآيات لعلكم بلقاء ربكم توقنون» ظاهر السياق أن المراد بالآيات هي الآيات الكونية فالمراد بتفصيلها هو تمييز بعضها من بعض و فتقها بعد رتقها، و هذا من سنته تعالى يفصل الأشياء و يميز كل شيء من كل شيء و يخرج من كل شيء ما هو كامن فيه مستخف في باطنه فينفصل به النور من الظلمة و الحق من الباطل و الخير من الشر و الصالح من الطالح و المثيب من المجرم.
و لذا عقبه بقوله: «لعلكم بلقاء ربكم توقنون» فإن يوم اللقاء هو الساعة التي سماها الله بيوم الفصل و وعد فيه تمييز المتقين من المجرمين و الفجار قال: «إن يوم الفصل ميقاتهم أجمعين»: الدخان 40، و قال: «و امتازوا اليوم أيها المجرمون»: يس: 59، و قال: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم أولئك هم الخاسرون»: الأنفال: 37.
و الأشهر عند المفسرين أن المراد بالآيات آيات الكتب المنزلة من عند الله فالمراد بتفصيلها لغرض كذا شرحها و كشفها بالبيان في الكتب المنزلة على أنبياء الله ليتدبر فيها الناس و يتفكروا و يفقهوا فإن في ذلك رجاء أن يوقنوا بلقاء الله تعالى و الرجوع إليه و ما قدمناه من المعنى أوضح لزوما و أمس بالسياق.
و في قوله: «لعلكم بلقاء ربكم» و لم يقل: لعلكم بلقائه، وضع الظاهر موضع المضمر و الوجه فيه الإصرار على تثبيت الربوبية و التأكيد له و الإشارة إلى أن الذي خلق العالم و دبر أمره فصار ربا له هو رب لكم أيضا فلا رب إلا رب واحد لا شريك له.
قوله تعالى: «و هو الذي مد الأرض و جعل فيها رواسي و أنهارا» إلى آخر الآية الرواسي جمع راسية من رسا إذا ثبت و قر، و المراد بها الجبال لثباتها في مقرها، و الزوج خلاف الفرد و يطلق على مجموع الأمرين و على أحدهما فهما زوج و هما زوجان، و ربما يقيد الزوجان باثنين تأكيدا للدلالة على أن المراد هو اثنان لا أربعة كما في الآية.
و قوله: «هو الذي مد الأرض» أي بسطها بسطا صالحا لأن يعيش فيه الحيوان و ينبت فيه الزرع و الشجر، و الكلام في نسبة مد الأرض إليه تعالى و كونه كالتوطئة و التمهيد لما يلحق به من قوله: «و جعل فيها رواسي و أنهارا» إلخ، نظير الكلام في قوله في الآية السابقة: «الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها».
و قوله: «و جعل فيها رواسي و أنهارا» الضمير للأرض و الكلام مسوق بحيث يستتبع بعض أجزائه بعضا و الغرض - و الله أعلم - بيان تدبيره تعالى أمر سكنة الأرض من إنسان و حيوان في حركته لطلب الرزق و سكونه للارتياح فقد مد الله سبحانه الأرض و لو لا ذلك لم يصلح لبقاء نوع الإنسان و الحيوان و لو كانت ممدودة فحسب من غير ارتفاع و انخفاض في سطحها لم تصلح لظهور ما ادخر فيها من خزائن الماء على سطحها لشرب الزروع و البساتين فجعل سبحانه فيها الجبال الرواسي و ادخر فيها ما ينزل على الأرض من ماء السماء و شق من أطرافها أنهارا و فجر منها عيونا مطلة على السهل تسقي الزروع و الجنان فيخرج به ثمرات مختلفة حلوة و مرة صيفية و شتوية برية و أهلية، و سلط على وجه الأرض الليل و النهار و هما عاملان قويان في رشد الأثمار و الفواكه بتسليط الحرارة و البرودة المؤثرتين في النضج و النمو و الانبساط و الانقباض، و تسليط الضوء و الظلمة النظامين لحركة الدواب و الإنسان و سعيهما في طلب الرزق و سكونهما للنوم و الرقدة.
فمد الأرض يسهل الطريق لجعل الجبال الرواسي و ذلك لشق الأنهار و ذلك لجعل الثمرات المزدوجة المختلفة و بالليل و النهار يتم المطلوب و في ذلك كله تدبير متصل متحد يكشف عن مدبر حكيم واحد لا شريك له في ربوبيته، و إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون.
و قوله: «و من كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين» أي و من جميع الثمرات الممكنة الكينونة جعل في الأرض أنواعا متخالفة نوعا يخالف آخر كالصيفي و الشتوي و الحلو و غيره و الرطب و اليابس.
هذا هو المعروف في تفسير زوجين اثنين فالمراد بالزوجين الصنف يخالفه صنف آخر سواء كانا صنفين لا ثالث لهما أم لا، نظير ما تأتي فيه التثنية للتكرير كقوله تعالى: «ثم ارجع البصر كرتين»: الملك: 4 أريد به الرجوع كرة بعد كرة و إن بلغ من الكثرة ما بلغ.
و قال في تفسير الجواهر في قوله تعالى: «زوجين اثنين»: جعل فيها من كل أصناف الثمرات الزوجين اثنين ذكر و أنثى في أزهارها عند تكونها فقد أظهر الكشف الحديث أن كل شجر و زرع لا يتولد ثمره و حبه إلا من بين اثنين ذكر و أنثى.
فعضو الذكر قد يكون مع عضو الأنثى في شجرة واحدة كأغلب الأشجار و قد يكون عضو الذكر في شجرة و الآخر في شجرة أخرى كالنخل، و ما كان العضوان فيه في شجرة واحدة إما أن يكونا معا في زهرة واحدة، و إما أن يكون كل منهما في زهرة وحده و الثاني كالقرع و الأول كشجرة القطن فإن عضو التذكير مع عضو التأنيث في زهرة واحدة.
انتهى.
و ما ذكره و إن كان من الحقائق العلمية التي لا غبار عليها إلا أن ظاهر الآية الكريمة لا يساعد عليه فإن ظاهرها أن نفس الثمرات زوجان اثنان لا أنها مخلوقة من زوجين اثنين و لو كان المراد ذلك لكان الأنسب به أن يقال: و كل الثمرات جعل فيها من زوجين اثنين.
نعم لا بأس أن يستفاد ذلك من مثل قوله تعالى: «سبحان الذي خلق الأزواج كلها مما تنبت الأرض»: يس: 36 و قوله: «و أنزلنا من السماء ماء فأنبتنا فيها من كل زوج كريم»: لقمان: 10 و قوله: «و من كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون»: الذاريات: 49.
و ذكر بعضهم أن زوجين اثنين الذكر و الأنثى و الحلو و الحامض و سائر الأصناف فيكون الزوجان أربعة أفراد الذكر و الأنثى و كل منهما مختلف بصفات هي أكثر من واحد كالحلو و غيره و الصيفي و خلافه.
و هو كما ترى.
و قوله: «يغشي الليل النهار» أي يلبس ظلمة الليل ضوء النهار فيظلم الهواء بعد ما كان مضيئا، و ذكر بعضهم أن المراد به إغشاء كل من الليل و النهار غيره و تعقيب الليل النهار و النهار الليل، و لا قرينة تدل على ذلك.
ثم ختم الآية بقوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون» فإن التفكر في النظام الجاري عليها الحاكم فيها القاضي باتصال بعضها ببعض و تلاؤم بعضها مع بعض المؤدي إلى توجه المجموع و كل جزء من أجزائها إلى غايات تخصها يكشف عن ارتباطها بتدبير واحد عقلي في غاية الإتقان و الإحكام فيدل على أن لها ربا واحدا لا شريك له في ربوبيته عليما لا يعتريه جهل قديرا لا يغلب في قدرته ذا عناية بكل شيء و خاصة بالإنسان يسوقه إلى ما فيه سعادته الخالدة.
قوله تعالى: «و في الأرض قطع متجاورات و جنات من أعناب و زرع و نخيل صنوان و غير صنوان» إلى آخر الآية، قال الراغب: الصنو الغصن الخارج عن أصل الشجرة يقال: هما صنوا نخلة و فلان صنو أبيه و التثنية صنوان و جمعه صنوان قال تعالى: صنوان و غير صنوان.
انتهى، و قال: و الأكل لما يؤكل بضم الكاف و سكونه قال تعالى: «أكلها دائم» و الأكلة للمرة و الأكلة كاللقمة.
انتهى.
و المعنى أن من الدليل على أن هذا النظام الجاري قائم بتدبير مدبر وراءه يخضع له الأشياء بطبائعها و يجريها على ما يشاء و كيف يشاء أن في الأرض قطعا متجاورات متقاربة بعضها من بعض متشابهة في طبع ترابها و فيها جنات من أعناب و العنب من الثمرات التي تختلف اختلافا عظيما في الشكل و اللون و الطعم و المقدار و اللطافة و الجودة و غير ذلك، و فيها زرع مختلف في جنسه و صنفه من القمح و الشعير و غير ذلك، و فيها نخيل صنوان أي أمثال نابتة على أصل مشترك فيه و غير صنوان أي متفرقة تسقي الجميع من ماء واحد و نفضل بعضها على بعض بما فيه من المزية المطلوبة في شيء من صفاته.
فإن قيل: هذه الاختلافات راجعة إلى طبائعها الخاصة بكل منها أو العوامل الخارجية التي تعمل فيها فتتصرف في إشكالها و ألوانها و سائر صفاتها على ما تفصل الأبحاث العلمية المتعرضة لشئونها الشارحة لتفاصيل طبائعها و خواصها، و العوامل التي تؤثر في كيفية تكونها و تتصرف في صفاتها.
قيل: نعم لكن ينتقل السؤال حينئذ إلى سبب اختلاف هذه الطبائع الداخلية و العوامل فما هي العلة في اختلافها المؤدية إلى اختلاف الآثار؟ و تنتهي بالأخرة إلى المادة المشتركة بين الكل المتشابهة الأجزاء، و مثلها لا يصلح لتعليل هذا الاختلاف المشهود فليس إلا أن هناك سببا فوق هذه الأسباب أوجد هو المادة المشتركة، ثم أوجد فيها من الصور و الآثار ما شاء، و بعبارة أخرى هناك سبب واحد ذي شعور و إرادة تستند هذه الاختلافات إلى إراداته المختلفة و لولاه لم يتميز شيء من شيء و لا اختلف في شيء هذا.
و من الواجب على الباحث المتدبر في هذه الآيات أن يتنبه أن استناد اختلاف الخلقة إلى اختلاف إرادة الله سبحانه ليس إبطالا لقانون العلة و المعلول كما ربما يتوهم فإن إرادة الله سبحانه ليست صفة طارئة لذاته كإرادتنا حتى تتغير ذاته بتغير الإرادات بل هذه الإرادات المختلفة صفة فعله و منتزعة من العلل التامة للأشياء فليكن عندك إجمال هذا المطلب حتى يوافيك توضيحه في محل يناسبه إن شاء الله.
و لما كانت الحجة مبنية على مقدمات عقلية لا تتم بدونها عقبها بقوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون».
و قد ظهر من البيان المتقدم أن نسبة اختلاف الأكل إليه تعالى من غير ذكر الواسطة أو الوسائط مثل نسبة رفع السماء بغير عمد مرئية و مد الأرض و جعل الجبال و الأنهار إليه تعالى بإسقاط الوسائط، و المراد بذلك تنبيه فطرة السامعين لتنتزع إلى البحث عن سبب الاختلافات و تنتهي بالآخرة إلى الله عز من سبب.
و في الآية التفات لطيف من الغيبة إلى التكلم بالغير و هو ما في قوله تعالى: «و نفضل بعضها على بعض في الأكل» و لعل النكتة فيه تعريف السبب الحقيقي بأوجز بيان كأنه قيل: و يفضل بعضها على بعض في الأكل و ليس المفضل إلا الله سبحانه ثم عرف المتكلم نفسه و أظهر بلفظ التعظيم أنه هو السبب الذي يبحث عنه الباحثون و إلى حضرته ينتهي هذا التفضيل ثم أوجز هذا التفضيل فقيل: «و نفضل بعضها على بعض في الأكل» و لا يخلو التعبير بلفظ المتكلم مع الغير عن إشعار بأن هناك أسبابا إلهية دون الله سبحانه عاملة بأمره و منتهية إليه سبحانه.
و قد ظهر مما تقدم أن الآية إنما سيقت حجة لتوحيد الربوبية لا لإثبات الصانع أو توحيد الذات، و ملخصها أن اختلاف الآثار في الأشياء مع وحدة الأصل يكشف عن استنادها إلى سبب وراء الطبيعة المشتركة المتحدة و انتظامها عن مشيته و تدبيره فالمدبر لها هو الله سبحانه و هو ربها لا رب غيره، فما يتراءى من المفسرين أن الآية مسوقة لإثبات الصانع في غير محله.
على أن الآيات على ما يظهر من سياقها مسوقة للاحتجاج على الوثنيين و هم إنما ينكرون وحدة الربوبية و يثبتون أربابا شتى و يعترفون بوحدة ذات الواجب الحق عز اسمه فلا معنى للاحتجاج عليهم بما ينتج أن للعالم صانعا، و قد تنبه به بعضهم فذكر أن الآية احتجاج على دهرية العرب المنكرين لوجود الصانع و هو مردود بأنه لا دليل من ناحية سياق الآيات يدل على ما ادعاه.
و ظهر أيضا أن الفرق بين الحجتين أعني ما في قوله: «و هو الذي مد الأرض» إلخ و ما في قوله: «و في الأرض قطع متجاورات» إلخ أن الأولى تسلك من طريق الوحدة في الكثرة و الارتباط و الاتصال في التدبير المتعلق بهذه الأشياء المختلفة و ذلك يؤدي إلى وحدة مدبرها، و الثانية تسلك من طريق الكثرة في الوحدة و اختلاف الآثار و الخواص في الأشياء التي لها أصل واحد و ذلك يكشف عن أن المبدىء المفيض لهذه الآثار و الخواص المختلفة المتفرقة أمر وراء طبائعها و سبب فوق هذه الأسباب الراجعة إلى أصل واحد و هو رب الجميع لا رب غيره.
و أما الحجة الأولى المذكورة قبل الحجتين أعني ما في قوله تعالى: «الله الذي رفع السماوات» إلخ فهي كالسالكة من المسلكين معا فإنها تذكر التدبير و فيه توحيد الكثير و جمع متفرقات الأمور، و التفصيل و فيه تكثير الواحد و تفريق المجتمعات.
و محصلها أن أمر العالم على تشتته و تفرقه تحت تدبير واحد فله رب واحد هو الله سبحانه، و أنه تعالى يفصل الآيات فيميز كل شيء من كل شيء فيفصل السعيد من الشقي و الحق من الباطل و هو المعاد، و لذلك استنتج منها الربوبية و المعاد معا إذ قال: «لعلكم بلقاء ربكم توقنون».
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن الخطاب الأعور رفعه إلى أهل العلم و الفقه من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «و في الأرض قطع متجاورات» يعني هذه الأرض الطيبة تجاور مجاورة هذه الأرض المالحة و ليست منها كما يجاور القوم القوم و ليسوا منهم.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهر آشوب عن الخركوشي في شرف المصطفى و الثعلبي في الكشف و البيان و الفضل بن شاذان في الأمالي و اللفظ له بإسناده عن جابر بن عبد الله قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لعلي (عليه السلام): الناس من شجرة شتى و أنا و أنت من شجرة واحدة ثم قرأ: «جنات من أعناب و زرع و نخيل صنوان و غير صنوان - يسقى بماء واحد» بالنبي و بك: قال: و رواه النطنزي في الخصائص عن سلمان، و في رواية: أنا و علي من شجرة و الناس من أشجار شتى:. قال صاحب البرهان،: و روي حديث جابر بن عبد الله الطبرسي، و علي بن عيسى في كشف الغمة،.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن الحاكم و ابن مردويه عن جابر قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: يا علي الناس من شجر شتى و أنا و أنت يا علي من شجرة واحدة ثم قرأ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و جنات من أعناب و زرع و نخيل - صنوان و غير صنوان».
و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و حسنه و البزاز و ابن جرير و ابن المنذر و أبو الشيخ و ابن مردويه عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «و نفضل بعضها على بعض في الأكل» قال: الدقل و الفارسي و الحلو و الحامض.
|