بيان
لما أتم الحجة على المشركين في ذيل الآيات السابقة ثم أبان لهم الفرق الجلي بين الحق و الباطل و الفرق بين من يأخذ بهذا أو يتعاطى ذاك بقوله: «قل هل يستوي الأعمى و البصير أم هل تستوي الظلمات و النور» أخذ في البيان التفصيلي للفرق بين الطريقين طريق الحق الذي هو الإيمان بالله و العمل الصالح و طريق الباطل الذي هو الشرك و العمل السيىء و أهلهما الذين هم المؤمنون و المشركون، و أن للأولين السلام و عاقبة الدار و للآخرين اللعنة و لهم سوء الدار و الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر و بدأ سبحانه الكلام في ذلك كله بمثل يبين به حال الحق و الباطل و أثر كل منهما الخاص به ثم بنى الكلام على ذلك في وصف حال الطريقين و الفريقين.
قوله تعالى: «أنزل من السماء ماء» إلى آخر الآية قال في مجمع البيان،: الوادي سفح الجبل العظيم المنخفض الذي يجتمع فيه ماء المطر، و منه اشتقاق الدية لأنه جمع المال العظيم الذي يؤدى عن القتيل، و القدر اقتران الشيء بغيره من غير زيادة و لا نقصان و الوزن يزيد و ينقص فإذا كان مساويا فهو القدر، و قرأ الحسن بقدرها بسكون الدال، و هما لغتان يقال: أعطي قدر شبر و قدر شبر، و المصدر بالتخفيف لا غير.
قال: و الاحتمال رفع الشيء على الظهر بقوة الحامل له، و يقال: علا صوته على فلان فاحتمله و لم يغضبه، و الزبد وضر الغليان و هو خبث الغليان و منه زبد القدر و زبد السيل.
و الجفاء ممدود مثل الغثاء و أصله الهمز يقال: جفأ الوادي جفاء قال أبو زيد: يقال: جفأت الرجل إذا صرعته و أجفأت القدر بزبدها إذا ألقيت زبدها عنها، قال الفراء: كل شيء ينضم بعضه إلى بعض فإنه يجيء على فعال مثل الحطام و القماش و الغثاء و الجفاء.
و الإيقاد إلقاء الحطب في النار استوقدت النار، و اتقدت و توقدت، و المتاع ما تمتعت به، و المكث السكون في المكان على مرور الزمان يقال: مكث و مكث - بفتح الكاف و ضمها - و تمكث أي تلبث.
انتهى.
و قال الراغب: الباطل نقيض الحق و هو ما لا ثبات له عند الفحص عنه قال تعالى: «ذلك بأن الله هو الحق و أن ما يدعون من دونه الباطل» و قد يقال ذلك في الاعتبار إلى المقال و الفعال يقال: بطل بطولا و بطلا بطلانا و أبطله غيره قال عز و جل: «و بطل ما كانوا يعملون» و قال: «لم تلبسون الحق بالباطل».
انتهى موضع الحاجة.
فبطلان الشيء هو أن يقدر للشيء نوع من الوجود ثم إذا طبق على الخارج لم يثبت على ما قدر و لم يطابقه الخارج و الحق بخلافه فالحق و الباطل يتصف بهما أولا الاعتقاد ثم غيره بعناية ما.
فالقول نحو السماء فوقنا و الأرض تحتنا يكون حقا لمطابقة الواقع إياه إذا فحص عنه و طبق عليه، و لقولنا: السماء تحتنا و الأرض فوقنا كان باطلا لعدم ثباته في الواقع على ما قدر له من الثبات، و الفعل يكون حقا إذا وقع على ما قدر له من الغاية أو الأمر كالأكل للشبع و السعي للرزق و شرب الدواء للصحة مثلا إذا أثر أثره و بلغ غرضه، و يكون باطلا إذا لم يقع على ما قدر عليه من الغاية أو الأمر و الشيء الموجود في الخارج حق من جهة أنه موجود كما اعتقد كوجود الحق تعالى، و الشيء غير الموجود و قد اعتقد له الوجود باطل و كذا لو كان موجودا لكن قدر له من خواص الوجود ما ليس له كتقدير الاستقلال و البقاء للموجود الممكن فالموجود الممكن باطل من جهة عدم الاستقلال أو البقاء المقدر له و إن كان حقا من جهة أصل الوجود قال: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
و كل نعيم لا محالة زائل.
و الآية الكريمة من غرر الآيات القرآنية تبحث عن طبيعة الحق و الباطل فتصف بدء تكونهما و كيفية ظهورهما و الآثار الخاصة بكل منهما و سنة الله سبحانه الجارية في ذلك و لن تجد لسنة الله تحويلا و لن تجد لسنة الله تبديلا.
بين تعالى ذلك بمثل ضربه للناس، و ليس بمثلين كما قاله بعضهم و لا بثلاثة أمثال كما ذكره آخرون كما سنشير إليه إن شاء الله و إنما هو مثل واحد ينحل إلى أمثال فقال تعالى: «أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها فاحتمل السيل زبدا رابيا» و قوله: «أنزل» فعل فاعله هو الله سبحانه لم يذكر لوضوحه، و تنكير «ماء» للدلالة على النوع و هو الماء الخالص الصافي يعني نفس الماء من غير أن يختلط بشيء أو يشوبه تغير، و تنكير «أودية» للدلالة على اختلافها في الكبر و الصغر و الطول و القصر و تغايرها في السعة و الوعي، و نسبة السيلان إلى الأودية نسبة مجازية نظير قولنا: جرى الميزاب و توصيف الزبد بالرابي لكونه طافيا يعلو سيل دائما و هذا كله بدلالة السياق، و إنما مثل بالسيل لأن احتمال الزبد الرابي فيه أظهر.
و المعنى: أنزل الله سبحانه من السماء و هي جهة العلو ماء بالأمطار فسالت الأدوية الواقعة في محل الأمطار المختلفة بالسعة و الضيق و الكبر و الصغر بقدرها أي كل بقدره الخاص به فالكبير بقدره و الصغير بقدره فاحتمل السيل الواقع في كل واحد من الأودية المختلفة زبدا طافيا عاليا هو الظاهر على الحس يستر الماء سترا.
ثم قال تعالى: «و مما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع زبد مثله» من نشوية و ما يوقدون عليه أنواع الفلزات و المواد الأرضية القابلة للإذابة المصوغة منها آلات الزينة و أمتعة الحياة التي يتمتع بها و المعنى و يخرج من الفلزات و المواد الأرضية التي يوقدون عليها في النار طلبا للزينة كالذهب و الفضة أو طلبا لمتاع كالحديد و غيره يتخذ منه الآلات و الأدوات، زبد مثل الزبد الذي يربو السيل يطفو على المادة المذابة و يعلوه.
ثم قال تعالى: «كذلك يضرب الله الحق و الباطل» أي يثبت الله الحق و الباطل نظير ما فعل في السيل و زبده و ما يوقدون عليه في النار و زبده.
فالمراد بالضرب - و الله أعلم - نوع من التثبيت من قبيل قولنا: ضربت الخيمة أي نصبتها و قوله: ضربت عليهم الذلة و المسكنة أي أوقعت و أثبتت و ضرب بينهم بسور أي أوجد و بني، و اضرب لهم طريقا في البحر أي افتح و ثبت و إلى هذا المعنى أيضا يعود ضرب المثل لأنه تثبيت و نصب لما يماثل الممثل حتى يتبين به حاله، و الجميع في الحقيقة من قبيل إطلاق الملزوم و إرادة اللازم فإن الضرب و هو إيقاع شيء على شيء بقوة و عنف لا ينفك عادة عن تثبيت أمر في ما وقع عليه الضرب كثبوت الوتد في الأرض بضرب المطرقة و حلول الألم في جسم الحيوان بضربه فقد أطلق الضرب و هو الملزوم و أريد التثبيت و هو الأمر اللازم.
و من هنا يظهر أن قول المفسرين إن في الجملة حذفا أو مجازا و التقدير كذلك يضرب الله مثل الحق و الباطل أو مثل الحق و مثل الباطل - على اختلاف تفسيرهم - في غير محله فإنه تكلف من غير موجب و لا دليل يدل عليه.
على أنه لو أريد به ذلك لكان موضعه المناسب له هو آخر الكلام و قد وقع فيه قوله تعالى: «كذلك يضرب الله الأمثال» و هو يغني عنه.
على أن ما ذكروه من المعنى يرجع إلى ما ذكرناه بالآخرة فإن كون حديث السيل و الزبد أو ما يوقد عليه و الزبد مثلا للحق و الباطل يوجب كون ثبوت الحق نظير ثبوت السيل و ثبوت ما يوقد عليه، و كون ثبوت الباطل نظير ثبوت الزبد فلا موجب للتقدير مع استقامة المعنى بدونه.
ثم قال تعالى: «فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» جمع بين الزبدين أعني زبد السيل و زبد ما يوقدون عليه و قد كانا متفرقين في الذكر لاشتراك الجميع فيما يذكر من الخاصة و هو أنه يذهب جفاء، و لذا قدمنا آنفا أن الآية تتضمن مثلا واحدا و إن انحل إلى غير واحد من الأمثال.
و قد عدل عن ذكر الماء و غيره إلى قوله: «و أما ما ينفع الناس» للدلالة على خاصة يختص بها الحق و هو أن الناس ينتفعون به و هو الغاية المطلوبة لهم.
و المعنى: فأما الزبد الذي كان يطفو على السيل و يعلوه أو يخرج مما يوقدون عليه في النار فيذهب جفاء و يصير باطلا متلاشيا، و أما الماء الخالص أو العين الأرضية المصوغة و فيهما انتفاع الناس و تمتعهم في معاشهم فيمكث في الأرض ينتفع به الناس.
ثم قال تعالى: «كذلك يضرب الله الأمثال» و ختم به القول أي إن الأمثال المضروبة للناس في كلامه تعالى يشابه المثل المضروب في هذه الآية في أنها تميز الحق من الباطل و تبين للناس ما ينفعهم في معاشهم و معادهم.
و لا يبعد أن تكون الإشارة بقوله: «كذلك» إلى ما ذكره من أمر نزول المطر و جريان الأدوية بسيولها المزبدة و إيقاد المواد الأرضية و خروج زبدها، أعني أن تكون الإشارة إلى نفس هذه الحوادث الخارجية و التكونات العينية لا القول فيدل على أن هذه الوقائع الكونية و الحوادث الواقعة في عالم الشهادة أمثال مضروبة تهدي أولي النهي و البصيرة إلى ما في عالم الغيب من الحقائق كما أن ما في عالم الشهادة آيات دالة على ما في عالم الغيب على ما تكرر ذكره في القرآن الكريم، و لا كثير فرق بين كون هذه المشهودات أمثالا مضروبة أو آيات دالة و هو ظاهر.
و قد تبين بهذا المثل المضروب في الآية أمور هي من كليات المعارف الإلهية: أحدها: أن الوجود النازل من عنده تعالى على الموجودات الذي هو بمنزلة الرحمة السماوية و المطر النازل من السحاب على ساحة الأرض خال في نفسه عن الصور و الأقدار و إنما يتقدر من ناحية الأشياء أنفسها كماء المطر الذي يحتمل من القدر و الصورة و ما يطرأ عليه من ناحية قوالب الأودية المختلفة في الأقدار و الصور فإنما تنال الأشياء من العطية الإلهية بقدر قابليتها و استعداداتها و تختلف باختلاف الاستعدادات و الظروف و الأوعية.
و هذا أصل عظيم يدل عليه أو يلوح إليه آيات كثيرة من كلامه تعالى كقوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21 و قوله: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر: 6 و من الدليل عليه جميع آيات القدر.
ثم إن هذه الأمور المسماة بالأقدار و إن كانت خارجة عن الإفاضة السماوية مقدرة لها لكنها غير خارجة عن ملك الله سبحانه و سلطانه و لا واقعة من غير إذنه و قد قال تعالى، «إليه يرجع الأمر كله»: هود: 123، و قال: «بل لله الأمر جميعا»: الآية: 31 من السورة و بانضمام هذه الآيات إلى الآيات السابقة يظهر أصل آخر أدق معنى و أوسع مصداقا.
و ثانيها: أن تفرق هذه الرحمة السماوية في أودية العالم و تقدرها بالأقدار المقارنة لها لا ينفك عن أخباث و فضولات تعلوها و تظهر منها غير أنها باطلة أي زائلة غير ثابتة بخلاف تلك الرحمة النازلة المتقدرة بالأقدار فإنها باقية ثابتة أي حقة و عند ذلك ينقسم ما في الوجود إلى حق و هو الثابت الباقي و باطل و هو الزائل غير الثابت.
و الحق من الله سبحانه و الباطل ليس إليه و إن كان بإذنه قال تعالى: «الحق من ربك»: آل عمران: 60 و قال: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا»: ص: 27 فهذه الموجودات يشتمل كل منها على جزء حق ثابت غير زائل سيعود إليه ببطلان ما هو الباطل منها كما قال: «ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى»: الأحقاف: 3 و قال: «و يحق الله الحق بكلماته»: يونس: 82 و قال: «إن الباطل كان زهوقا»: أسرى: 81 و قال: «بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق»: الأنبياء: 18.
و ثالثها: أن من حكم الحق أنه لا يعارض حقا غيره و لا يزاحمه بل يمده و ينفعه في طريقه إلى كماله و يسوقه إلى ما يسلك إليه من السعادة، يدل على ذلك تعليقه البقاء و المكث في الآية على الحق الذي ينفع الناس.
و ليس المراد بنفي التعارض ارتفاع التنازع و التزاحم من بين الأشياء في عالمنا المشهود فإنما هو دار التنازع و التزاحم لا يرى فيه إلا نار يخمدها ماء و ماء تفنيها نار و أرض يأكلها نبات و نبات يأكله حيوان ثم الحيوان يأكل بعضه بعضا ثم الأرض يأكل الجميع بل المراد أن هذه الأشياء على ما بينها من الافتراس و الانتهاش تتعاون في تحصيل الأغراض الإلهية و يتسبب بعضها ببعض للوصول إلى مقاصدها النوعية فمثلها مثل القدوم و الخشب فإنهما مع تنازعهما يتعاونان في خدمة النجار في صنعة الباب مثلا، و مثل كفتي الميزان فإنهما في تعارضهما و تصارعهما يطيعان من بيده لسان الميزان لتقدير الوزن، و هذا بخلاف الباطل كوجود كلال في القدوم أو بخس في المثقال فإنه يعارض الغرض الحق و يخيب السعي فيفسد من غير إصلاح و يضر من غير نفع.
و من هذا الباب غالب آيات التسخير في القرآن كقوله: «و سخر لكم ما في السماوات و ما في الأرض جميعا منه»: الجاثية: 13 فكل شيء منها يفعل ما يقتضيه طبعه غير أنه يسلك في ذلك إلى تحصيل ما أراده الله سبحانه من الأمر.
و هذه الأصول المستفادة من الآية الكريمة هي المنتجة لتفاصيل أحكام الصنع و الإيجاد، و لئن تدبرت في الآيات القرآنية التي تذكر الحق و الباطل و أمعنت فيها رأيت عجبا.
و اعلم أن هذه الأصول كما تجري في الأمور العينية و الحقائق الخارجية كذلك تجري في العلوم و الاعتقادات فمثل الاعتقادات الحق في نفس المؤمن مثل الماء النازل من السماء الجاري في الأودية على اختلاف سعتها و ينتفع به الناس و تحيى قلوبهم و يمكث فيهم الخير و البركة، و مثل الاعتقاد الباطل في نفس الكافر كمثل الزبد الذي يربو السيل لا يلبث دون أن يذهب جفاء و يصير سدى، قال تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء»: إبراهيم: 27.
قوله تعالى: «للذين استجابوا لربهم الحسنى و الذين لم يستجيبوا له» إلى آخر الآية المهاد الفراش الذي يوطأ لصاحبه و المكان الممهد الموطأ و سميت جهنم مهادا لأنها مهدت لاستقرارهم فيها لكفرهم و أعمالهم السيئة.
و الآية و ما بعدها من الآيات التسعة متفرعة على المثل المضروب في الآية السابقة - كما تقدمت الإشارة إليه يبين الله سبحانه فيها آثار الاعتقاد الحق و الإيمان به و الاستجابة لدعوته، و آثار الاعتقاد الباطل و الكفر به و عدم استجابة دعوته و يشهد بذلك سياق الآيات فإن الحديث فيها يدور حول عاقبة الإيمان و الكفر و أن العاقبة المحمودة التي للإيمان لا يقوم مقامها شيء و لو كان ضعف ما في الدنيا من نعمة.
و على هذا فالأظهر أن يكون المراد بالحسنى العاقبة الحسنى و ما ذكره بعضهم أن المراد بها المثوبة الحسنى أو الجنة و إن كان حقا بحسب المآل فإن عاقبة الإيمان و العمل الصالح المحمودة هي المثوبة الإلهية الحسنى و هي الجنة لكن المثوبة أو الجنة غير مقصودة في المقام بما أنها مثوبة أو جنة بل بما أنها عاقبة أمرهم و ينتهي إليها سعيهم.
و يؤيده بل يدل عليه قوله تعالى فيهم في الآيات التالية بعد تعريفهم بصفاتهم المختصة بهم: «أولئك لهم عقبى الدار جنات عدن يدخلونها» الآية.
و على هذا أيضا فقوله: «لو أن لهم ما في الأرض جميعا و مثله معه لافتدوا به» موضوع موضع الغاية المحذوفة للدلالة على فخامة أمرها و بلوغها الغاية من حمل الهول و الدهشة و الشر و الشقوة بما لا يذكر.
و المعنى: و الذين لم يستجيبوا لربهم يحل بهم أمر - أو يفوتهم أمر و هو نتيجة الاستجابة و عاقبتها الحسنى من صفته أنه لو أن لهم ما في الأرض من نعمة تلتذ بها النفس الإنسانية و هو غاية ما يمكن لإنسان أن يأمله و يتمناه ثم أضيف إليه مثله و هو فوق منية الإنسان و بعبارة ملخصة لو كانوا يملكون غاية مناهم في الحياة و ما فوق هذه الغاية رضوا أن يفتدوا بهذا الذي يملكونه فرضا عما يفوتهم من الحسنى، و في بعض كلمات علي (عليه السلام): في وصفه: «غير موصوف ما نزل بهم».
ثم أخبر تعالى عن هذا الذي لا يوصف من عاقبة أمرهم فقال: «أولئك لهم سوء الحساب و مأواهم جهنم» و سوء الحساب الحساب الذي يسوؤهم و لا يسرهم فهو من إضافة الصفة إلى الموصوف ثم ذم تعالى ذلك مشيرا إلى سوء العاقبة بقوله: «و بئس المهاد» أي بئس المهاد مهادهم الذي مهد لهم و يستقرون فيه، و مجموع قوله: «أولئك لهم سوء الحساب» إلخ في موضع التعليل لما ذكر من الافتداء و التعليل بالإشارة كثير في الكلام يقال: افعل بفلان كذا و كذا ذاك الذي من صفته كذا و كذا.
و معنى الآية و الله أعلم - للذين استجابوا لدعوة ربهم الحقة العاقبة الحسنى و الذين لم يستجيبوا له لهم من عاقبة الأمر ما يرضون أن يفدوا للتخلص منه فوق ما يمكنهم أن يتمنوه لأن الذي يحل بهم من العاقبة السيئة يتضمن أو يقارن سوء الحساب و القرار في و بئس المهاد مهادهم.
و قد وضع في الآية الاستجابة و عدم الاستجابة مكان الإيمان و الكفر لمناسبة المثل المضروب في الآية السابقة من نزول الماء من السماء و قبول الأودية منه كل بقدره، و الاستجابة قبول الدعوة.
قوله تعالى: «أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب» استفهام إنكاري و هو في موضع التعليل لما تتضمنه الآية السابقة، و بيان تفصيلي لعاقبة حال الفريقين من حيث استجابة دعوة الحق و عدمها.
و ملخص البيان: أن الحق يستقر في قلوب هؤلاء الذين استجابوا لربهم فتصير قلوبهم ألبابا و قلوبا حقيقية لها آثارها و بركاتها و هو التذكر و التبصر، و من خواص هذه القلوب التي يعرف بها صاحبوها أن أولي الألباب يثبتون على الوفاء بعهد الله المأخوذ عنهم بفطرتهم فلا ينقضون ميثاق ربهم، و يثبتون على احترام ما وصلهم الله به و هي الرحم التي أجرى الله الخلقة من طريقها فيصلونها و هم خاشعون خائفون، و يثبتون بالصبر عند المصائب و عن المعصية و على الطاعة، و يجرون بالتوجه إلى ربهم و هو الصلاة، و إصلاح المجتمع و هو الإنفاق، و درء السيئات بالحسنات.
فهؤلاء لهم عاقبة الدار المحمودة و هي الجنة يدخلونها و تنعكس إليهم فيها مثوبات أعمالهم الحسنة المذكورة فيصاحبون فيها الصالحين من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم كما وصلوا الرحم في الدنيا، و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب مسلمين عليهم بما صبروا كما فتحوا أبواب العبادات و الطاعات المختلفة في الدنيا فهذا هو أثر الحق.
و قوله: «أ فمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى» الاستفهام فيه للإنكار - كما تقدم - و فيه نفي التساوي بين من استقر في قلبه العلم بالحق و من جهل الحق و في توصيف الجاهل بالحق بالأعمى إيماء إلى أن العالم به يصير و قد سماه بالأعمى و البصير في قوله آنفا: «قل هل يستوي الأعمى و البصير» الآية، فالعلم بالحق بصيرة و الجهل به عمى و التبصر يفيد التذكر و لذا عده من خواص أولي العلم بقوله: «إنما يتذكر».
و قوله: «إنما يتذكر أولوا الألباب» في مقام التعليل لما سبقه أعني قوله: «أ فمن يعلم» إلخ، أي أنهما لا يستويان لأن لأولي العلم تذكر ليس لأولي العمى و الجهل، و قد وضع في موضع أولي العلم أولوا الألباب فدل على دعوى أخرى تفيد فائدة التعليل كأنه قيل: لا يستويان لأن لأحد الفريقين تذكرا ليس للآخر، و إنما اختص التذكر بهم لأن لهم ألبابا و قلوبا و ليس ذلك لغيرهم.
قوله تعالى: «الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق» ظاهر السياق أن الجملة الثانية عطف تفسيري على الجملة الأولى فالمراد بالميثاق الذي لا ينقضونه هو عهد الله الذي يوفون به، و المراد بهذا العهد و الميثاق بقرينة ما ذكر في الآية السابقة من تذكرهم هو ما عاهدوا به ربهم و واثقوه بلسان فطرتهم أن يوحدوه و يجروا على ما يقتضيه توحيده من الآثار فإن الإنسان مفطور على توحيده تعالى و ما يهتف به توحيده، و هذا عهد عاهدته الفطرة و عقد عقدته.
و أما العهود و المواثيق المأخوذة بوسيلة الأنبياء و الرسل عن أمر من الله و الأحكام و الشرائع فكل ذلك من فروع الميثاق الفطري فإن الدين فطري.
قوله تعالى: «و الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل» إلخ، الظاهر أن المراد بالأمر هو الأمر التشريعي النازل بشهادة ذيل الآية «و يخافون سوء الحساب» فإن الحساب على الأحكام النازلة في الشريعة ظاهرا و إن كانت مدركة بالفطرة كقبح الظلم و حسن العدل فإن المستضعف الذي لم يبلغه الحكم الإلهي و لم يقصر لا يحاسب عليه كما يحاسب غيره، و قد تقدم في أبحاثنا السابقة أن الحجة لا تتم على الإنسان بمجرد الإدراك الفطري لو لا انضمام طريق الوحي إليه قال تعالى: «لئلا يكون للناس على الله حجة بعد الرسل»: النساء: 165.
و الآية مطلقة فالمراد به كل صلة أمر الله سبحانه بها و من أشهر مصاديقه صلة الرحم التي أمر الله بها و أكد القول في وجوبها، قال تعالى: «و اتقوا الله الذي تساءلون به و الأرحام»: النساء: 1.
و قد أكد القول فيه بما في ذيل الآية من قوله: «و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب» فأشار إلى أن في ترك الصلة مخالفة لأمر الله فليخش الله في ذلك و عملا سيئا مكتوبا في صحيفة العمل محفوظا على الإنسان يجب أن يخاف من حسابه السيىء.
و الظاهر أن الفرق بين الخشية و الخوف أن الخشية تأثر القلب من إقبال الشر أو ما في حكمه، و الخوف هو التأثر عملا بمعنى الإقدام على تهيئة ما يتقى به المحذور و إن لم يتأثر القلب و لذا قال سبحانه في صفة أنبيائه: «و لا يخشون أحدا إلا الله»: الأحزاب: 39.
فنفى عنهم الخشية عن غيره و قد أثبت الخوف لهم عن غيره في مواضع من كلامه كقوله: «فأوجس في نفسه خيفة موسى»: طه: 67 و قوله: «و إما تخافن من قوم خيانة»: الأنفال: 58.
و لعله إليه يرجع ما ذكره الراغب في الفرق بينهما أن الخشية خوف يشوبه تعظيم و أكثر ما يكون ذلك عن علم.
و لذا خص العلماء بها في قوله.
«إنما يخشى الله من عباده العلماء» و كذا قول بعضهم: إن الخشية أشد الخوف لأنها مأخوذة من قولهم: شجرة خشية أي يابسة.
و كذا قول بعضهم: إن الخوف يتعلق بالمكروه و بمنزله يقال: خفت المرض و خفت زيدا بخلاف الخشية فإنها تتعلق بالمنزل دون المكروه نفسه يقال: خشيت الله.
و لو لا رجوعها إلى ما قدمناه لكانت ظاهرة النقض و ذكر بعضهم أن الفرق أغلبي لا كلي، و الآخرون أن لا فرق بينهما أصلا و هو مردود بما قدمناه من الآيات.
قوله تعالى: «و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا» إلى آخر الآية، إطلاق الصبر يدل على اتصافهم بجميع شعبه و أقسامه و هي الصبر عند المصيبة و الصبر على الطاعة و الصبر عن المعصية لكنه مع ذلك مقيد بقوله: «ابتغاء وجه ربهم» أي طلبا لوجه ربهم فصفتهم التي يمدحون بها أن يكون صبرهم لوجه الله لأن الكلام في صفاتهم التي تنشأ و تنمو فيهم من استجابتهم لربهم و علمهم بحقية ما أنزل إليهم من ربهم لا كل صفة يمدحها الناس فيما بينهم و إن لم ترتبط بعبوديتهم و إيمانهم بربهم كالصبر عند الكريهة تمنعا و عجبا بالنفس أو طلبا لجميل الثناء و نحوه كما قيل: و قولي كلما جشأت و جاشت.
مكانك تحمدي أو تستريحي.
و المراد بوجه الرب تعالى هو الجهة المنسوبة إليه تعالى من العمل و نحوه و هي الجهة التي عليها يظهر و يستقر العمل عنده تعالى أعني المثوبة التي له عنده الباقية ببقائه و قد قال تعالى: «و الله عنده حسن الثواب»: آل عمران: 195، و قال: «و ما عند الله باق»: النحل: 96 و قال: «كل شيء هالك إلا وجهه»: القصص: 88.
و قوله: «و أقاموا الصلاة» أي جعلوها قائمة غير ساقطة بالإخلال بأجزائها و شرائطها أو بالاستهانة بأمرها، و عطف الصلاة و ما بعدها على الصبر من عطف الخاص على العام اعتناء بشأنه و تعظيما لأمره.
كما قيل.
و قوله: «و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية» المراد به مطلق الإنفاق أعم من الواجب و غيره، و الآية مكية لم ينزل وجوب الزكاة عند نزولها بعد، و تقييد الإنفاق بقوله: «سرا و علانية» للدلالة على استيفائهم حقه فإن من الإنفاق ما يحسن فيه الإسرار و منه ما يحسن فيه الإعلان فعلى من آمن بما أنزله الله بالحق أن يستوفي من كل حقه فيسر بالإنفاق إذا كان في إعلانه مظنة الرياء أو السمعة أو أهانة أو إذهاب ماء الوجه، و يعلن فيه فيما كان في إعلانه تشويق الناس على البر و المعروف و دفع التهمة و نحو ذلك.
و قوله: «و يدرؤن بالحسنة السيئة» الدرء الدفع و المعنى إذا صادفوا سيئة جاءوا بحسنة تزيد عليها أو تعادلها فيدفعون بها السيئة، و هذا أعم من أن يكون ذلك في سيئة صدرت من أنفسهم فدفعوها بحسنة جاءوا بها فإن الحسنات يذهبن السيئات أو دفعوها بتوبة إلى ربهم فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له أو في سيئة أتى بها غيرهم بالنسبة إليهم كمن ظلمهم فدفعوه بالعفو أو بالإحسان إليه أو من جفاهم فقابلوه بحسن الخلق و البشر كما إذا خاطبهم الجاهلون فقالوا.
سلاما أو أتى بمنكر فنهوا عنه أو ترك معروف فأمروا به.
فذلك كله من درء السيئة بالحسنة و لا دليل من جانب اللفظ يدل على التخصيص ببعض هذه الوجوه البتة.
و قد اختلف التعبير في هذه الصفات المذكورة لأولي الألباب: «الذين يوفون، و لا ينقضون، و يصلون، و يخشون، و يخافون، و صبروا، و أقاموا، و أنفقوا، و يدرءون» فأتي في بعضها - و هي ستة بلفظ المضارع، و في بعضها - و هي ثلاثة - بلفظ الماضي.
و قد نقل عن بعضهم في وجه ذلك أن التعبير في قوله: «و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم» إلخ بلفظ الماضي و فيما تقدم بلفظ المضارع على سبيل التفنن في الفصاحة لأن هذه الأفعال وقعت صلة للموصول يعني «الذين» و الموصول و صلته في معنى اسم الشرط مع الجملة الشرطية، و الماضي و المضارع يستويان معنى في الجملة الشرطية نحو إن ضربت ضربت و إن تضرب أضرب فكذا فيما بمعناه.
و لذا قال النحويون: إذا وقع الماضي صلة أو صفة لنكرة عامة احتمل أن يراد به المضي و أن يراد به الاستقبال فمن الأول «الذين قال لهم الناس» و من الثاني «إلا الذين تابوا من قبل أن تقدروا عليهم».
و فيه أن إلغاء خصوصية زمان الفعل من المضي و الاستقبال في الشرط و ما في معناه لا يستوجب إلغاء لوازم الأزمنة كالتحقق في الماضي و الجريان و الاستمرار و نحوهما في المضارع فإن في الماضي مثلا عناية بالتحقق و إن كان ملغى الزمان فصحة السؤال عن نكتة اختلاف التعبير في محله بعد.
و يستفاد من كلام بعض آخر في وجهه أن المراد بالأوصاف المتقدمة أعني الوفاء بالعهد و الصلة و الخشية و الخوف الاستصحاب و الاستمرار لكن الصبر لما كان مما يتوقف على تحققه التلبس بتلك الأوصاف اعتني بشأنه فعبر بلفظ الماضي الدال على التحقق و كذا في الصلاة و الإنفاق اعتناء بشأنهما.
و فيه أن بعض الصفات السابقة لا يقصر في الأهمية عن الصبر و الصلاة و الإنفاق كالوفاء بعهد الله الذي أريد به الإيمان بالله بإجابة دعوة الفطرة فلو كان الاعتناء بالشأن هو الوجه كان من الواجب أن يعبر عنه بلفظ الماضي كغيره من الصبر و الصلاة و الإنفاق.
و الذي أحسب - و الله أعلم - أن مجموع قوله تعالى: «و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم و أقاموا الصلاة و أنفقوا مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة» مسوق لبيان معنى واحد و هو الإتيان بالعمل الصالح أعني إتيان الواجبات و ترك المحرمات و تدارك ما يقع فيه من الخلل استثناء بالحسنة فالعمل الصالح هو المقصود بالأصالة و درء السيئة بالحسنة الذي هو تدارك الخلل الواقع في العمل مقصود بالتبع كالمتمم للنقيصة.
فلو جرى الكلام على السياق السابق و قيل: «و الذين يصبرون ابتغاء وجه ربهم و يقيمون الصلاة و ينفقون مما رزقناهم سرا و علانية و يدرؤن بالحسنة السيئة» فاتت هذه العناية و بطل ما ذكر من حديث الأصالة و التبعية لكن قيل: «و الذين صبروا ابتغاء وجه ربهم» فأخذ جميع الصبر المستقر أمرا واحدا مستمرا ليدل على وقوع كل الصبر منهم ثم قيل: «و يدرؤن» إلخ ليدل على دوام مراقبتهم بالنسبة إليه لتدارك ما وقع فيه من الخلل و كذا في الصلاة و الإنفاق فافهمه.
و هذه العناية بوجه نظيرة العناية في قوله تعالى: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة» الآية، حيث يدل على تفرع تنزل الملائكة على تحقق قولهم «ربنا الله» و استقامتهم دون الاستمرار عليه.
و قوله: «أولئك لهم عقبى الدار» أي عاقبتها المحمودة فإنها هي العاقبة حقيقة لأن الشيء لا ينتهي بحسب ما جبله الله عليه إلا إلى عاقبة تناسبه و تكون فيها سعادته، و أما العاقبة المذمومة السيئة ففيها بطلان عاقبة الشيء لخلل واقع فيه، و إنما تسمى عاقبة بنحو من التوسع، و لذلك أطلق في الآية عقبى الدار و أريدت بها العاقبة المحمودة و قوبلت فيما يقابلها من الآيات بقوله: «و لهم سوء الدار»، و من هنا يظهر أن المراد بالدار هذه الدار الدنيا أي حياة الدار فالعاقبة عاقبتها.
قوله تعالى: «جنات عدن يدخلونها و من صلح من آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم» العدن الاستقرار يقال: عدن بمكان كذا إذا استقر فيه و منه المعدن لمستقر الجواهر الأرضية و جنات عدن أي جنات نوع من الاستقرار فيه خلود و سلام من كل جهة.
و جنات عدن «إلخ» بدل أو عطف بيان من قوله: «عقبى الدار» أي عاقبة هذه الدار المحمودة هي جنات العدن و الخلود فليست هذه الحياة الدنيا بحسب ما طبعها الله عليه إلا حياة واحدة متصلة أولها عناء و بلاء و آخرها رخاء نعيم و سلام، و هذا الوعد هو الذي يحكي وفاءه تعالى به حكاية عن أهل الجنة بقوله: «و قالوا الحمد لله الذي صدقنا وعده و أورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء»: الزمر: 74.
و الآية - كما سمعت - تحاذي قوله: «يصلون ما أمر الله به أن يوصل» و بيان لعاقبة هذا الحق الذي أخذوه و عملوا به و بشرى لهم أنهم سيصاحبون الصالحين من أرحامهم و أهليهم من الآباء و الأمهات و الذراري و الإخوان و الأخوات و غيرهم و يشمل الجميع قوله: «آبائهم و أزواجهم و ذرياتهم» لأن الأمهات أزواج الآباء و الإخوان و الأخوات و الأعمام و الأخوال و أولادهم ذريات الآباء و الآباء، من الداخلين فمعهم أزواجهم و ذرياتهم ففي الآية إيجاز لطيف.
قوله تعالى: «و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» و هذا عقبى أعمالهم الصالحة التي داموا عليها في كل باب من أبواب الحياة بالصبر على الطاعة و عن المعصية و عند المصيبة مع الخشية و الخوف.
و قوله: «سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار» قول الملائكة و قد خاطبوهم بالأمن و السلام الخالد و عقبى محمودة لا يعتريها ذم و سوء أبدا.
قوله تعالى: «و الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه» إلى آخر الآية، بيان حال غير المؤمنين بطريق المقابلة و قد قوبل بقوله: «و يفسدون في الأرض» بقية ما ذكر في الآيات السابقة بعد الوفاء بعهد الله و الصلة، من الأعمال الصالحة و فيه إيماء إلى أن الأعمال الصالحة هي التي تضمن صلاح الأرض و عمارة الدار على نحو يؤدي إلى سعادة النوع الإنساني و رشد المجتمع البشري، و قد تقدم بيانه في دليل النبوة العامة.
و قد بين تعالى جزاء عملهم و عاقبة أمرهم بقوله: «أولئك لهم اللعنة و لهم سوء الدار» و اللعن الإبعاد من الرحمة و الطرد من كل كرامة، و ليس ذلك إلا لانكبابهم على الباطل و رفضهم الحق النازل من الله، و ليس للباطل إلا البوار.
قوله تعالى: «الله يبسط الرزق لمن يشاء و يقدر» إلى آخر الآية بيان أن ما أوتي الفريقان من العاقبة المحمودة و الجنة الخالدة و من اللعنة و سوء الدار هو من الرزق الذي يرزقه الله من يشاء و كيف يشاء من غير حجر عليه أو إلزام.
و قد بين أن فعله تعالى يستمر على وفق ما جعله من نظام الحق و الباطل فالاعتقاد الحق و العمل به ينتهي إلى الارتزاق بالجنة و السلام و الباطل من الاعتقاد و العمل به ينتهي إلى اللعنة و سوء الدار و نكد العيش.
و قوله: «و فرحوا بالحياة الدنيا و ما الحياة الدنيا في الآخرة إلا متاع» يريد به - على ما يفيده السياق - أن الرزق هو رزق الأخرى لكنهم لميلهم إلى ظاهر الحياة الدنيا و زينتها ركنوا إليها و فرحوا بها، و قد أخطئوا فإنها حياة غير مقصودة بنفسها و لا خالدة في بقائها بل مقصودة لغيرها الذي هو الحياة الآخرة فهي بالنسبة إلى الآخرة متاع يتمتع به في غيره و لغيره غير مطلوب لنفسه فالحياة الدنيا بالقياس إلى الحياة الآخرة إنما تكون من الحق إذا أخذت مقدمة لها يكتسب بها رزقها و أما إذا أخذت مطلوبة بالاستقلال فليست إلا من الباطل الذي يذهب جفاء و لا ينتفع به في شيء، قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»: العنكبوت: 64.
بحث روائي
في الاحتجاج، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): في حديث يذكر فيه أحوال الكفار قوله: «فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض» الزبد في هذا الموضع كلام الملحدين الذين أثبتوه في القرآن فهو يضمحل و يبطل و يتلاشى عند التحصيل، و الذي ينفع الناس منه، فالتنزيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه و القلوب تقبله. و الأرض في هذا الموضع هي محل العلم و قراره.
أقول: المراد بالتنزيل المراد الحقيقي من كلامه تعالى، و بكلام الملحدين المثبت في القرآن هو ما فسروه برأيهم، و ما ذكره (عليه السلام) بعض المصاديق و الآية أعم مدلولا كما مر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن قتادة: في قوله: «الذين يوفون بعهد الله و لا ينقضون الميثاق» عليكم بالوفاء بالعهد و لا تنقضوا الميثاق فإن الله قد نهى عنه و قدم فيه أشد التقدمة، و ذكره في بضع و عشرين آية نصيحة لكم و تقدمة إليكم و حجة عليكم، و إنما يعظم الأمور بما عظمها الله عند أهل الفهم و أهل العقل و أهل العلم بالله، و ذكر لنا أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقول في خطبته: لا إيمان لمن لا أمانة له و لا دين لمن لا عهد له.
أقول: ظاهر كلامه حمل العهد و الميثاق في الآية الكريمة على ما يدور بين الناس أنفسهم و قد عرفت أن ظاهر السياق خلافه.
و في الكافي، بإسناده عن عمر بن يزيد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل» قال: قرابتك.
و فيه، أيضا بإسناد آخر عنه قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل» قال: نزلت في رحم آل محمد و قد يكون في قرابتك. ثم قال: و لا تكونن ممن يقول في الشيء أنه في شيء واحد.
أقول: يعني لا تقصر القرآن على معنى واحد إذا احتمل معنى آخر فإن للقرآن ظهرا و بطنا و قد جعل الله مودة ذي القربى - و هي من الصلة - أجر الرسالة في قوله: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى»: الشورى: 23 و يدل على ما ذكرنا الرواية الآتية.
و في تفسير العياشي، عن عمر بن مريم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «الذين يصلون ما أمر الله به - أن يوصل» قال: من ذلك صلة الرحم و غاية تأويلها صلتك إيانا.
و فيه، عن محمد بن الفضيل قال: سمعت العبد الصالح يقول: «الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل» قال هي رحم آل محمد معلقة بالعرش تقول: اللهم صل من وصلني و اقطع من قطعني، و هي تجري في كل رحم.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر، و قد تقدم معنى تعلق الرحم بالعرش في تفسير أوائل سورة النساء في الجزء الرابع من الكتاب.
و في الكافي، بإسناده عن سماعة بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: و مما فرض الله عز و جل أيضا في المال من غير الزكاة قوله عز و جل: «الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل».
أقول: و رواه العياشي في تفسيره.
و في تفسير العياشي، عن حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه قال لرجل: فلان ما لك و لأخيك؟ قال: جعلت فداك كان لي عليه حق فاستقصيت منه حقي. قال أبو عبد الله (عليه السلام) أخبرني عن قول الله: «و يخافون سوء الحساب» أ تراهم خافوا أن يجور عليهم أو يظلمهم: لا و الله خافوا الاستقصاء و المداقة:. أقول: و رواه في المعاني، و تفسير القمي،.
و فيه، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «و يخافون سوء الحساب» قال: الاستقصاء و المداقة، و قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات.
أقول: و ذيل الحديث مروي بطرق مختلفة عنه (عليه السلام)، و عدم حساب الحسنات إنما هو لمكان المداقة و الحصول على وجوه الخلل الخفية كما تدل عليه الرواية التالية.
و فيه، عن هشام عنه (عليه السلام): في الآية قال: يحسب عليهم السيئات و لا يحسب لهم الحسنات و هو الاستقصاء.
و فيه، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): بر الوالدين و صلة الرحم يهون الحساب ثم تلا هذه الآية: «الذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل - و يخشون ربهم و يخافون سوء الحساب».
و في الدر المنثور،: في قوله: «جنات عدن»: أخرج ابن مردويه عن علي قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جنة عدن قضيب غرسه الله بيده ثم قال له: كن فكان.
و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن شمر اليماني يرفع الحديث إلى علي (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الصبر ثلاثة صبر عند المصيبة، و صبر على الطاعة، و صبر عن المعصية فمن صبر على المصيبة حتى يردها بحسن عزائها كتب الله له ثلاثمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين السماء إلى الأرض، و من صبر على الطاعة كتب الله له ستمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى العرش، و من صبر عن المعصية كتب الله له تسعمائة درجة ما بين الدرجة إلى الدرجة كما بين تخوم الأرض إلى منتهى العرش.
|