بيان
عود ثان إلى قول الكفار: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» نراها فنهتدي بها و نعدل بذلك عن الشرك إلى الإيمان و يجيب تعالى عنه بأن الهدى و الضلال ليس شيء منهما إلى ما ينزل من آية بل إن ذلك إليه تعالى يضل من يشاء و يهدي من يشاء و قد جرت السنة الإلهية على هداية من أناب إليه و كان له قلب يطمئن إلى ذكره و أولئك لهم حسن المآب و عقبى الدار.
و إضلال من كفر بآياته الواضحة و أولئك لهم عذاب في الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من دون الله من واق.
و أن الله أنزل عليهم آية معجزة مثل القرآن لو أمكنت هداية أحد من غير مشية الله لكانت به لكن الأمر إلى الله و هو سبحانه لا يريد هداية من كتب عليهم الضلال من أهل الكفر و المكر و من يضلل الله فما له من هاد.
قوله تعالى: «و يقول الذين كفروا لو لا أنزل عليه آية من ربه قل إن الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب» عود إلى قول الكفار «لو لا أنزل عليه آية من ربه» و إنما أرادوا به أنه لو أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية من ربه لاهتدوا به و استجابوا له و هم لا يعدون القرآن النازل إليه آية.
و الدليل على إرادتهم هذا المعنى قوله بعده: «قل إن الله يضل من يشاء» إلخ و قوله بعد: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال - إلى قوله - بل لله الأمر جميعا» و قوله بعد: «و صدوا عن السبيل» إلى آخر الآية.
فأجاب تعالى عن قولهم بقوله آمرا نبيه أن يلقيه إليهم: «قل إن الله يضل من يشاء و يهدي إليه من أناب» فأفاد أن الأمر ليس إلى الآية حتى يهتدوا بنزولها و يضلوا بعدم نزولها بل أمر الإضلال و الهداية إلى الله سبحانه يضل من يشاء و يهدي من يشاء.
و لما لم يؤمن أن يتوهموا منه أن الأمر يدور مدار مشية جزافية غير منتظمة أشار إلى دفعه بتبديل قولنا: و يهدي إليه من يشاء من قوله: «و يهدي إليه من أناب» فبين أن الأمر إلى مشية الله تعالى جارية على سنة دائمة و نظام متقن مستمر و ذلك أنه تعالى يشاء هداية من أناب و رجع إليه و يضل من أعرض و لم ينب فمن تلبس بصفة الإنابة و الرجوع إلى الحق و لم يتقيد بأغلال الأهواء هداه الله بهذه الدعوة الحقة و من كان دون ذلك ضل عن الطريق و إن كان مستقيما و لم تنفعه الآيات و إن كانت معجزة و ما تغن الآيات و النذر عن قوم لا يؤمنون.
و من هنا يظهر أن قوله: «إن الله يضل» إلخ، على تقدير: أن الله يضل بمشيته من لم ينب إليه و يهدي إليه بمشيته من أناب إليه.
و يظهر أيضا أن الضمير «إليه» في «يهدي إليه» راجع إليه تعالى و أن ما ذكره بعضهم أنه راجع إلى القرآن.
و آخرون أنه راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير وجيه.
قوله تعالى: «الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب» الاطمئنان السكون و الاستقرار و الاطمئنان إلى الشيء السكون إليه.
و ظاهر السياق أن صدر الآية بيان لقوله في ذيل الآية السابقة: «من أناب» فالإيمان و اطمئنان القلب بذكر الله هو الإنابة، و ذلك من العبد تهيؤ و استعداد يستعقب عطية الهداية الإلهية كما أن الفسق و الزيغ في باب الضلال تهيؤ و استعداد يستعقب الإضلال من الله كما قال: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26 و قال: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين»: الصف: 5.
و ليس الإيمان بالله تعالى مثلا مجرد إدراك أنه حق فإن مجرد الإدراك ربما يجامع الاستكبار و الجحود كما قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14 مع أن الإيمان لا يجامع الجحود فليس الإيمان بشيء مجرد إدراك أنه حق مثلا بل مطاوعة و قبول خاص من النفس بالنسبة إلى ما أدركته يوجب تسليمها له و لما يقتضيه من الآثار و آيته مطاوعة سائر القوى و الجوارح و قبولها له كما طاوعته النفس و قبلته فترى المعتاد ببعض الأعمال المذمومة ربما يدرك وجه القبح أو المساءة فيه غير أنه لا يكف عنه لأن نفسه لا تؤمن به و لا تستسلم له و ربما طاوعته و سلمت له بعد ما أدركته و كفت عنه عند ذلك بلا مهل و هو الإيمان.
و هذا هو الذي يظهر من قوله تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء: الأنعام: 125 فالهداية من الله سبحانه تستدعي من قلب العبد أو صدره و بالأخرة من نفسه أمرا نسبته إليها نسبة القبول و المطاوعة إلى الأمر المقبول المطاوع، و قد عبر عنه في آية الأنعام بشرح الصدر و توسعته، و في الآية المبحوث عنها بالإيمان و اطمئنان القلب و هو أن يرى الإنسان نفسه في أمن من قبوله و مطاوعته و يسكن قلبه إليه و يستقر هو في قلبه من غير أن يضطرب منه أو ينقلع عنه.
و من ذلك يظهر أن قوله: «و تطمئن قلوبهم بذكر الله» عطف تفسيري على قوله: «آمنوا» فالإيمان بالله يلازم اطمئنان القلب بذكر الله تعالى.
و لا ينافي ذلك ما في قوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم»: الأنفال: 2 فإن الوجل المذكور فيه حالة قلبية متقدمة على الاطمئنان المذكور في الآية المبحوث عنها كما يرشد إليه قوله تعالى: «الله نزل أحسن الحديث كتابا متشابها مثاني تقشعر منه جلود الذين يخشون ربهم ثم تلين جلودهم و قلوبهم إلى ذكر الله ذلك هدى الله يهدي به من يشاء»: الزمر: 23 و ذلك أن النعمة هي النازلة من عنده سبحانه و أما النقمة أيا ما كانت فهي بالحقيقة إمساك منه عن إفاضة النعمة و إنزال الرحمة و ليست فعلا ثبوتيا صادرا منه تعالى على ما يفيده قوله:، ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها و ما يمسك فلا مرسل له من بعده»: فاطر: 2.
و إذا كان الخوف و الخشية إنما هو من شر متوقع و لا شر عنده سبحانه فحقيقة الخوف من الله هي خوف الإنسان من أعماله السيئة التي توجب إمساك الرحمة و انقطاع الخير المفاض من عنده، و النفس الإنسانية إذا قرعت بذكر الله سبحانه التفتت أولا إلى ما أحاطت به من سمات القصور و التقصير فأخذتها القشعريرة في الجلد و الوجل في القلب ثم التفتت ثانيا إلى ربه الذي هو غاية طلبة فطرته فسكنت إليه و اطمأنت بذكره.
و قال في مجمع البيان،: و قد وصف الله المؤمن هاهنا بأنه يطمئن قلبه إلى ذكر الله، و وصفه في موضع آخر بأنه إذا ذكر الله وجل قلبه لأن المراد بالأول أنه يذكر ثوابه و إنعامه و آلاءه التي لا تحصى و أياديه التي لا تجازى فيسكن إليه، و بالثاني أنه يذكر عقابه و انتقامه فيخافه و يوجل قلبه.
انتهى، و هذا الوجه أوفق بتفسير من فسر الذكر في الآية بالقرآن الكريم و قد سماه الله تعالى ذكرا في مواضع كثيرة من كلامه كقوله: «و هذا ذكر مبارك»: الأنبياء: 50 و قوله: «إنا نحن نزلنا الذكر»: الحجر: 9 و غير ذلك.
لكن الظاهر أن يكون المراد بالذكر أعم من الذكر اللفظي و أعني به مطلق انتقال الذهن و الخطور بالبال سواء كان بمشاهدة آية أو العثور على حجة أو استماع كلمة، و من الشاهد عليه قوله بعده: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» فإنه كضرب القاعدة يشمل كل ذكر سواء كان لفظيا أو غيره، و سواء كان قرآنا أو غيره.
و قوله: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» فيه تنبيه للناس أن يتوجهوا إليه و يريحوا قلوبهم بذكره فإنه لا هم للإنسان في حياته إلا الفوز بالسعادة و النعمة و لا خوف له إلا من أن تغتاله الشقوة و النقمة و الله سبحانه هو السبب الوحيد الذي بيده زمام الخير و إليه يرجع الأمر كله، و هو القاهر فوق عباده و الفعال لما يريد و هو ولي عباده المؤمنين به اللاجئين إليه فذكره للنفس الأسيرة بيد الحوادث الطالبة لركن شديد يضمن له السعادة، المتحيرة في أمرها و هي لا تعلم أين تريد و لا أنى يراد بها؟ كوصف الترياق للسليم تنبسط به روحه و تستريح معه نفسه، و الركون إليه و الاعتماد عليه و الاتصال به كتناول ذاك السليم لذلك الترياق و هو يجد من نفسه نشاط الصحة و العافية آنا بعد آن.
فكل قلب - على ما يفيده الجمع المحلى باللام من العموم - يطمئن بذكر الله و يسكن به ما فيه من القلق و الاضطراب نعم إنما ذلك في القلب الذي يستحق أن يسمى قلبا و هو القلب الباقي على بصيرته و رشده، و أما المنحرف عن أصله الذي لا يبصر و لا يفقه فهو مصروف عن الذكر محروم عن الطمأنينة و السكون قال تعالى: «فإنها لا تعمى الأبصار و لكن تعمى القلوب التي في الصدور»: الحج: 46، و قال: «لهم قلوب لا يفقهون بها»: الأعراف: 179 و قال: «نسوا الله فنسيهم»: التوبة: 67.
و في لفظ الآية ما يدل على الحصر حيث قدم متعلق الفعل أعني قوله: «بذكر الله» عليه فيفيد أن القلوب لا تطمئن بشيء غير ذكر الله سبحانه، و ما قدمناه من الإيضاح ينور هذا الحصر إذ لا هم لقلب الإنسان و هو نفسه المدركة إلا نيل سعادته و الأمن من شقائه و هو في ذلك متعلق بذيل الأسباب، و ما من سبب إلا و هو غالب في جهة و مغلوب من أخرى إلا الله سبحانه فهو الغالب غير المغلوب الغني ذو الرحمة فبذكره أي به سبحانه وحده تطمئن القلوب و لا يطمئن القلب إلى شيء غيره إلا غفلة عن حقيقة حاله و لو ذكر بها أخذته الرعدة و القلق.
و مما قيل في الآية الكريمة أعني قوله: «الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله» إلخ إنها استئناف، و قوله: «الذين آمنوا» مبتدأ خبره قوله في الآية التالية: «طوبى لهم و حسن مآب» و قوله: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات» بدل من المبتدإ و قوله: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» اعتراض بين المبتدإ و خبره، و هو تكلف بعيد من السياق.
قوله تعالى: «الذين آمنوا و عملوا الصالحات طوبى لهم و حسن مآب» طوبى على وزن فعلى بضم الفاء مؤنث أطيب فهي صفة لمحذوف و هو على ما يستفاد من السياق - الحياة أو المعيشة و ذلك أن النعمة كائنة ما كانت إنما تغتبط و تهنأ إذا طابت للإنسان و لا تطيب إلا إذا اطمأن القلب إليه و سكن و لم يضطرب و لا يوجد ذلك إلا لمن آمن بالله و عمل عملا صالحا فهو الذي يطمئن منه القلب و يطيب له العيش فإنه في أمن من الشر و الخسران و سلام مما يستقبله و يدركه و قد أوى إلى ركن لا ينهدم و استقر في ولاية الله لا يوجه إليه ربه إلا ما فيه سعادته إن أعطى شيئا فهو خير له و إن منع فهو خير له.
و قد قال في وصف طيب هذه الحياة: «من عمل صالحا من ذكر أو أنثى و هو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة و لنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون»: النحل: 97 و قال في صفة من لم يرزق اطمئنان القلب بذكر الله: «و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى»: طه: 124، و لعل وصف الحياة أو المعيشة في الآية التي نحن فيها بزيادة الطيب تلميحا إلى أنها نعمة لا تخلو من طيب على أي حال إلا أنها فيمن اطمأن قلبه بذكر الله أكثر طيبا لخلوصها من شوائب المنغصات.
فقوله: «طوبى لهم» في تقدير لهم حياة أو معيشة طوبى، فطوبى مبتدأ و «لهم» خبره و إنما قدم المبتدأ المنكر على الظرف لأن الكلام واقع موقع التهنئة و في مثله يقدم ما به التهنئة استعجالا بذكر ما يسر السامع ذكره نظير قولهم في البشارة: بشرى لك.
و بالجملة في الآية تهنئة الذين آمنوا و عملوا الصالحات - و هم الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله اطمئنانا مستمرا - بأطيب الحياة أو العيش و حسن المرجع، و بذلك يظهر اتصالها بما قبلها فإن طيب العيش من آثار اطمئنان القلب كما تقدم.
و قال في مجمع البيان،: «طوبى لهم» و فيه أقوال: أحدها: أن معناه فرح لهم و قرة عين.
عن ابن عباس.
و الثاني: غبطة لهم.
عن الضحاك.
و الثالث: خير لهم و كرامة.
عن إبراهيم النخعي.
و الرابع: الجنة لهم.
عن مجاهد.
و الخامس: معناه العيش المطيب لهم.
عن الزجاج، و الحال المستطابة لهم، عن ابن الأنباري لأنه فعلى من الطيب، و قيل: أطيب الأشياء لهم و هو الجنة.
عن الجبائي.
و السادس: هنيئا يطيب العيش لهم.
و السابع: حسنى لهم.
عن قتادة.
و الثامن: نعم ما لهم.
عن عكرمة.
التاسع: طوبى لهم دوام الخير لهم.
العاشر: أن طوبى شجرة في الجنة أصلها في دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و في دار كل مؤمن منها غصن عن عبيد بن عمير و وهب و أبي هريرة و شهر بن حوشب و روي عن أبي سعيد الخدري مرفوعا.
انتهى موضع الحاجة.
و أكثر هذه المعاني من باب الانطباق و هي خارجة عن دلالة اللفظ.
قوله تعالى: «كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم» إلى آخر الآية متاب مصدر ميمي للتوبة و هي الرجوع، و الإشارة بقوله: «كذلك» إلى ما ذكره تعالى من سنته الجارية من دعوة الأمم إلى دين التوحيد ثم إضلال من يشاء و هداية من يشاء على وفق نظام الرجوع إلى الله و الإيمان به و سكون القلب بذكره و عدم الرجوع إليه.
و المعنى: و أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم إرسالا يماثل هذه السنة الجارية و يجري في أمره على وفق هذا النظام لتتلو عليهم الذي أوحينا إليك و تبلغهم ما يتضمنه هذا الكتاب و هم يكفرون، بالرحمن و إنما قيل بالرحمن، دون أن يقال: «بنا» على ما يقتضيه ظاهر السياق إيماء إلى أنهم في ردهم هذا الوحي الذي يتلوه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم و هو القرآن و عدم اعتنائهم بأمره حيث يقولون مع نزوله: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» يكفرون برحمة إلهية عامة تضمن لهم سعادة دنياهم و أخراهم لو أخذوه و عملوا به.
ثم أمر تعالى: أن يصرح لهم القول في التوحيد فقال: «قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت و إليه متاب» أي هو وحده ربي من غير شريك كما تقولون و لربوبية لي وحده أتخذه القائم على جميع أموري و بها، و أرجع إليه في حوائجي و بذلك يظهر أن قوله: «عليه توكلت و إليه متاب» من آثار الربوبية المتفرعة عليها فإن الرب هو المالك المدبر فمحصل المعنى هو وكيلي و إليه أرجع.
و قيل: إن المراد بالمتاب هو التوبة من الذنوب لما في المعنى الأول من لزوم كون «إليه متاب» تأكيدا لقوله: «عليه توكلت» و هو خلاف ظاهر.
و فيه منع رجوعه إلى التأكيد ثم منع كونه خلاف الظاهر و هو ظاهر.
و ذكر بعضهم: أن المعنى إليه متابي و متابكم.
و فيه أنه مستلزم لحذف و تقدير لا دليل عليه و مجرد كون مرجعهم إليه في الواقع لا يوجب التقدير من غير أن يكون في الكلام ما يوجب ذلك.
قوله تعالى: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى بل لله الأمر جميعا» المراد بتسيير الجبال قلعها من أصولها و إذهابها من مكان إلى مكان و بتقطيع الأرض شقها و جعلها قطعة قطعة، و بتكليم الموتى إحياؤهم لاستخبارهم عما جرى عليهم بعد الموت ليستدل على حقية الدار الآخرة فإن هذا هو الذي كانوا يقترحونه.
فهذه أمور عظيمة خارقة للعادة فرضت آثارا لقرآن فرضه الله سبحانه بقوله: «و لو أن قرآنا» إلخ، و جزاء لو محذوف لدلالة الكلام عليه فإن الكلام معقب بقوله: «بل لله الأمر جميعا» و الآيات - كما عرفت - مسوقة لبيان أن أمر الهداية ليس براجع إلى الآية التي يقترحونها بقولهم: «لو لا أنزل عليه آية» بل الأمر إلى الله يضل من يشاء كما أضلهم و يهدي إليه من أناب.
و على هذا يجري سياق الآيات كقوله تعالى بعد: «بل زين للذين كفروا مكرهم و صدوا عن السبيل و من يضلل الله فما له من هاد»، و قوله: «و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم» الآية، و قوله: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله» الآية إلى غير ذلك، و على مثله جرى سياق الآيات السابقة.
فجزاء لو المحذوف هو نحو من قولنا: ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله و المعنى و لو فرض أن قرآنا من شأنه أنه تسير به الجبال أو تقطع به الأرض أو يحيا به الموتى فتكلم ما كان لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله بل الأمر كله لله ليس شيء منه لغيره حتى يتوهم متوهم أنه لو أنزلت آية عظيمة هائلة مدهشة أمكنها أن تهديهم لا بل الأمر لله جميعا و الهداية راجعة إلى مشيته.
و على هذا فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: «و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى و حشرنا عليهم كل شيء قبلا ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله»: الأنعام: 111.
و ما قيل: إن جزاء لو المحذوف نحو من قولنا: لكان ذلك هذا القرآن، و المراد بيان عظم شأن القرآن و بلوغه الغاية القصوى في قوة البيان و نفوذ الأمر و جهالة الكفار حيث أعرضوا عنه و اقترحوا آية غيره.
و المعنى: أن القرآن في رفعة القدر و عظمة الشأن بحيث لو فرض أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى - أو في الموضعين لمنع الخلو لا لمنع الجمع - لكان ذلك هذا القرآن لكن الله لم ينزل قرآنا كذلك فالآية بوجه نظيرة قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله»: الحشر: 21.
و فيه أن سياق الآيات كما عرفت لا يساعد على هذا التقدير و لا يلائمه قوله بعده: «بل لله الأمر جميعا» و كذا قوله بعده: «أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا» كما سنشير إليه إن شاء الله و لذلك تكلفوا في قوله: «بل لله الأمر جميعا» بما لا يخلو عن تكلف.
فقيل: إن المعنى لو أن قرآنا فعل به ذلك لكان هو هذا القرآن و لكن لم يفعل الله سبحانه بل فعل ما عليه الشأن الآن لأن الأمر كله له وحده.
و قيل: إن حاصل الإضراب أنه لا تكون هذه الأمور العظيمة الخارقة بقرآن بل تكون بغيره مما أراده الله فإن جميع الأمر له تعالى وحده.
و قيل: إن الأحسن أن يكون قوله: «بل لله الأمر جميعا.
معطوفا على محذوف و التقدير: ليس لك من الأمر شيء بل الأمر لله جميعا.
و أنت ترى أن السياق لا يساعد على شيء من هذه المعاني، و أن حق المعنى الذي يساعد عليه السياق أن يكون إضرابا عن نفس الشرطية السابقة على تقدير الجزاء نحوا من قولنا: لم يكن لهم أن يهتدوا به إلا أن يشاء الله.
قوله تعالى: «أ فلم ييأس الذين آمنوا أن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا» تفريع على سابقه.
ذكر بعضهم أن اليأس بمعنى العلم و هي لغة هوازن و قيل لغة حي من النخع و أنشدوا على ذلك قول سحيم بن وثيل الرباحي: أقول لهم بالشعب إذ يأسرونني.
أ لم تيأسوا أني ابن فارس زهدم.
و قول رباح بن عدي: أ لم ييأس الأقوام أني أنا ابنه.
و إن كنت عن أرض العشيرة نائيا.
و محصل التفريع على هذا أنه إذا كانت الأسباب لا تملك من هدايتهم شيئا حتى قرآن سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى و أن الأمر لله جميعا فمن الواجب أن يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هداية الذين كفروا لو يشاء الله لهدى الناس جميعا الذين آمنوا و الذين كفروا لكنه لم يهد الذين كفروا فلم يهتدوا و لن يهتدوا.
و ذكر بعضهم أن اليأس بمعناه المعروف و هو القنوط غير أن قوله: «أ فلم ييأس» مضمن معنى العلم و المراد بيان لزوم علمهم بأن الله لم يشأ هدايتهم و لو شاء ذلك لهدى الناس جميعا و لزوم قنوطهم عن اهتدائهم و إيمانهم.
فتقدير الكلام بحسب الحقيقة: أ فلم يعلم الذين آمنوا أن الله لم يشأ هدايتهم و لو يشاء لهدى الناس جميعا أ و لم ييأسوا من اهتدائهم و إيمانهم؟ ثم ضمن اليأس معنى العلم و نسب إليه من متعلق العلم الجملة الشرطية فقط أعني قوله: «لو يشاء الله لهدى الناس جميعا» إيجازا و إيثارا للاختصار.
و ذكر بعضهم: أن قوله «أ فلم ييأس» على ظاهر معناه من غير تضمين و قوله: «أن لو يشاء الله» إلخ، متعلق بقوله: «آمنوا» بتقدير الباء و متعلق «ييأس» محذوف و تقدير الكلام أ فلم ييأس الذين آمنوا بأن لو يشاء الله لهدى الناس جميعا من إيمانهم و ذلك أن الذين آمنوا يرون أن الأمر لله جميعا و يؤمنون بأنه تعالى لو يشاء لهدى الناس جميعا و لو لم يشأ لم يهد فإذ لم يهد و لم يؤمنوا فليعلموا أنه لم يشأ و ليس في مقدره سبب من الأسباب أن يهديهم و يوفقهم للإيمان فلييأسوا من إيمانهم.
و هذه وجوه ثلاثة لعل أعدلها أوسطها و الآية على أي حال لا تخلو من إشارة إلى أن المؤمنين كانوا يودون أن يؤمن الكفار و لعلهم لمودتهم ذلك لما سمعوا قول الكفار: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» طمعوا في إيمانهم و رجوا منهم الاهتداء إن أنزل الله عليهم آية أخرى غير القرآن فسألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم على ذلك فأيأسهم الله من إيمانهم في هذه الآيات، و في آيات أخرى من كلامه مكية و مدنية كقوله في سورة يس و هي مكية: «و سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: آية 10، و قوله في سورة البقرة و هي مدنية: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: آية 6.
قوله تعالى: «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبا من دارهم حتى يأتي وعد الله إن الله لا يخلف الميعاد» سياق الآيات يشهد أن المراد بقوله: «بما صنعوا» كفرهم بالرحمن قبال الدعوة الحقة، و القارعة هي المصيبة تقرع الإنسان قرعا كأنها تؤذنه بأشد من نفسها و في الآية تهديد و وعيد قطعي للذين كفروا بعذاب غير مردود و ذكر علائم و أشراط له تقرعهم مرة بعد مرة حتى يأتيهم العذاب الموعود.
و المعنى: و لا يزال هؤلاء الذين كفروا بدعوتك الحقة تصيبهم بما صنعوا من الكفر بالرحمن مصيبة قارعة أو تحل تلك المصيبة القارعة قريبا من دارهم فلا يزالون كذلك حتى يأتي ما وعدهم الله من العذاب لأن الله لا يخلف ميعاده و لا يبدل قوله.
و التأمل في كون السورة مكية على ما يشهد به مضامين آياتها ثم في الحوادث الواقعة بعد البعثة و قبل الهجرة و بعدها إلى فتح مكة يعطي أن المراد بالذين كفروا هم كفار العرب من أهل مكة و غيرهم الذين ردوا أول الدعوة و بالغوا في الجحود و العناد و ألحوا على الفتنة و الفساد.
و المراد بالذين تصيبهم القارعة من كان في خارج الحرم منهم تصيبهم قوارع الحروب و شن الغارات، و بالذين تحل القارعة قريبا من دارهم أهل الحرم من قريش تقع حوادث السوء قريبا من دارهم فتصيبهم معرتها و تنالهم وحشتها و همها و سائر آثارها السيئة، و المراد بما وعدهم عذاب السيف الذي أخذهم في غزوة بدر و غيرها.
و اعلم أن هذا العذاب الموعود للذين كفروا في هذه الآيات غير العذاب الموعود المتقدم في سورة يونس في قوله تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون - إلى قوله ثانيا - و قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: يونس: 47 - 54 فإن الذي في سورة يونس وعيد عام للأمة، و الذي في هذه الآيات وعيد خاص بالذين كفروا في أول الدعوة النبوية من قريش و غيرهم، و قد تقدم في قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن المراد بقوله: «الذين كفروا» في القرآن إذا أطلق إطلاقا المعاندون من مشركي العرب في أول الدعوة كما أن المراد بالذين آمنوا إذا أطلق كذلك السابقون إلى الإيمان في أول الدعوة.
و اعلم أيضا أن للمفسرين في الآية أقوالا شتى تركنا إيرادها إذ لا طائل تحت أكثرها و فيما ذكرناه من الوجه كفاية للباحث المتدبر، و سيوافيك بعضها في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
قوله تعالى: «و لقد استهزىء برسل من قبلك فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم فكيف كان عقاب» تأكيد لما في الآية السابقة من الوعيد القطعي ببيان نظائر له تدل على إمكان وقوعه أي لا يتوهمن متوهم أن هذا الذي نهددهم به وعيد خال لا دليل على وقوعه كما قالوا: «لقد وعدنا هذا نحن و آباؤنا من قبل إن هذا إلا أساطير الأولين»: النمل: 68.
و ذلك أنه قد استهزىء برسل من قبلك بالكفر و طلب الآيات كما كفر هؤلاء بدعوتك ثم اقترحوا عليك آية مع وجود آية القرآن فأمليت و أمهلت للذين كفروا ثم أخذتهم بالعذاب فكيف كان عقابي؟ أ كان وعيدا خاليا لا شيء وراءه؟ أم كان أمرا يمكنهم أن يتقوه أو يدفعوه أو يتحملوه؟ فإذا كان ذلك قد وقع بهم فليحذر هؤلاء و فعالهم كفعالهم أن يقع مثله بهم.
و من ذلك يظهر أن قولهم: إن الآية تسلية و تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غير محله.
و قد بدل الاستهزاء في الآية ثانيا من الكفر إذ قيل: «للذين كفروا» و لم يقل بالذين استهزءوا للدلالة على أن استهزاءهم كان استهزاء كفر كما أن كفرهم كان كفر استهزاء فهم الكافرون المستهزءون بآيات الله كالذين كفروا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا مستهزئين بالقرآن و هو آية: لو لا أنزل عليه آية من ربه.
قوله تعالى: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت و جعلوا لله شركاء» القائم على شيء هو المهيمن المتسلط عليه و القائم بشيء من الأمر هو الذي يدبره نوعا من التدبير و الله سبحانه هو القائم على كل نفس بما كسبت أما قيامه عليها فلأنه محيط بذاتها قاهر عليها شاهد لها، و أما قيامه بما كسبت فلأنه يدبر أمر أعمالها فيحولها من مرتبة الحركة و السكون إلى أعمال محفوظة عليها في صحائف الأعمال ثم يحولها إلى المثوبات و العقوبات في الدنيا و الآخرة من قرب و بعد و هدى و ضلال و نعمة و نقمة و جنة و نار.
و الآية متفرعة على ما تقدمها أي إذا كان الله سبحانه يهدي من يشاء فيجازيه بأحسن الثواب و يضل من يشاء فيجازيه بأشد العقاب و له الأمر جميعا فهو قائم على كل نفس بما كسبت و مهيمن مدبر لنظام الأعمال فهل يعدله غيره حتى يشاركه في ألوهيته؟.
و من ذلك يظهر أن الخبر في قوله: «أ فمن هو قائم» إلخ، محذوف يدل عليه قوله: «و جعلوا لله شركاء» و من سخيف القول ما نسب إلى الضحاك أن المراد بقوله: «أ فمن هو قائم على كل نفس بما كسبت» الملائكة لكونهم موكلين على الأعمال و المعنى أ فيكون الملائكة الموكلون على الأعمال بأمره شركاء له سبحانه؟ و هو معنى بعيد من السياق غايته.
قوله تعالى: «قل سموهم أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض أم بظاهر من القول» لما ذكر سبحانه قوله: «و جعلوا لله شركاء» عاد إليهم ببيان يبطل به قولهم ذلك مأخوذ من البيان السابق بوجه.
فأمر نبيه بأن يحاجهم بنوع من الحجاج عجيب في بابه فقال: «قل سموهم» أي صفوهم فإن صفات الأشياء هي التي تتعين بها شئونها و آثارها فلو كانت هذه الأصنام شركاء لله شفعاء عنده وجب أن يكون لها من الصفات ما يسوي لها الطريق لهذا الشأن كما يقال فيه تعالى إنه حي عليم قدير خالق مالك مدبر فهو رب كل شيء لكن الأصنام إذا ذكرت فقيل: هبل أو اللات أو العزى لم يوجد لها من الصفات ما يظهر به أنها شريكة لله شفيعة عنده.
ثم قال: «أم تنبئونه بما لا يعلم في الأرض» و أم منقطعة أي بل أ تنبئونه بكذا و المعنى أن اتخاذكم الأصنام شركاء له إنباء له في الحقيقة بما لا يعلم فلو كان له شريك في الأرض لعلم به لأن الشريك في التدبير يمتنع أن يخفى تأثيره في التدبير على شريكه و الله سبحانه يدبر الأمر كله و لا يرى لغيره أثرا في ذلك لا موافقا و لا مخالفا، و الدليل على أنه لا يرى لنفسه شريكا في الأمر أنه تعالى هو القائم على كل نفس بما كسبت، و بعبارة أخرى أن له الخلق و الأمر و هو على كل شيء شهيد بالبرهان الذي لا سبيل للشك إليه، و الآية بالجملة كقوله في موضع آخر: «قل أ تنبؤن الله بما لا يعلم في السماوات و لا في الأرض»: يونس: 18.
ثم قال: «أم بظاهر من القول» أي بل أ تنبئونه بأن له شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و هذا كقوله: «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم»: النجم: 23.
و عن بعضهم أن المراد بظاهر من القول ظاهر كتاب نازل من الله تسمى فيه الأصنام آلهة حقة و حاصل الآية نفي الدليل العقلي و السمعي معا على ألوهيتها و كونها شركاء لله سبحانه و هو بعيد من اللفظ.
و وجه الارتباط بين هذه الحجج الثلاث أنهم في عبادتهم الأصنام و جعلهم لله شركاء مترددون بين محاذير ثلاثة إما أن يقولوا بشركتها من غير حجة إذ ليس لها من الأوصاف ما يعلم به أنها شركاء لله، و إما أن يدعوا أن لها أوصافا كذلك هم يعلمونها و لا يعلم بها الله سبحانه، و إما أن يكونوا متظاهرين بالقول بشركتها من غير حقيقة و هم يغرون الله بذلك تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
قال الزمخشري في الكشاف،: و هذا الاحتجاج و أساليبه العجيبة التي ورد عليها مناد على نفسه بلسان طلق ذلق أنه ليس من كلام البشر لمن عرف و أنصف على نفسه انتهى كلامه.
قوله تعالى: «بل زين للذين كفروا مكرهم و صدوا عن السبيل و من يضلل الله فما له من هاد» إضراب عن الحجج المذكورة و لوازمها و المعنى دع هذه الحجج فإنهم لا يجعلون له شركاء لشيء من هذه الوجوه بل مكر زينه لهم الشيطان و صدهم بذلك عن سبيل الله تعالى و ذلك أنهم على علم بأنه لا حجة على شركتها و أن مجرد الدعوى لا ينفعهم لكنهم يريدون بترويج القول بألوهيتها و توجيه قلوب العامة إليها عرض الدنيا و زينتها، و دعوتك إلى سبيل الله مانعة دون ذلك فهم في تصلبهم في عبادتها و دعوة الناس إليها و الحث على الأخذ بها يمكرون بك من وجه و بالناس من وجه آخر و قد زين لهم هذا المكر و هو السبب في جعلهم إياها شركاء لا غير ذلك من حجة أو غيرها و صدوا بذلك عن السبيل.
فهم زين لهم المكر و صدوا به عن السبيل و الذي زين لهم و صدهم هو الشيطان بإغوائهم، و أضلوا و الذي أضلهم هو الله سبحانه بإمساك نعمة الهدى منهم و من يضلل الله فما له من هاد.
قوله تعالى: «لهم عذاب في الحياة الدنيا و لعذاب الآخرة أشق و ما لهم من الله من واق» أشق أفعل من المشقة و واق اسم فاعل من الوقاية بمعنى الحفظ.
و في الآية إيجاز القول فيما وعد الله الذين كفروا من العذاب في الآيات السابقة، و في قوله: «و ما لهم من الله من واق» نفي الشفاعة و تأثيرها في حقهم أصلا، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «مثل الجنة التي وعد المتقون أكلها دائم و ظلها تلك عقبى الذين اتقوا و عقبى الكافرين النار» المثل هو الوصف يمثل الشيء.
و في قوله: «مثل الجنة» إلخ بيان ما خص الله به المتقين من الوعد الجميل مقابلة لما أوعد به الذين كفروا و ليكون تمهيدا لما يختم به القول من الإشارة إلى محصل سعي الفريقين في مسيرهم إلى ربهم و رجوعهم إليه و قد قابل الذين كفروا بالمتقين إشارة إلى أن الذين ينالون هذه العاقبة الحسنى هم الذين آمنوا و عملوا الصالحات دون المؤمنين من غير عمل صالح فإنهم مؤمنون بالله كافرون بآياته.
و من لطيف الإشارة في الكلام المقابلة بين المؤمنين و المشركين أولا بتعبير «المتقون و الذين كفروا» و أخيرا بقوله «الذين اتقوا و الكافرون» و لعل فيه تلويحا إلى أن الفعل الماضي و الصفة هاهنا واحد مدلولا و مجموع أعمالهم في الدنيا مأخوذ عملا واحدا، و لازم ذلك أن يكون تحقق العمل و صدور الفعل مرة واحدة عين اتصافهم به مستمرا، و يفيد حينئذ قولنا: «الكافرون و المتقون» الدالان على ثبوت الاتصاف و قولنا: «الذين كفروا و الذين اتقوا» الدالان على تحقق ما للفعل مفادا واحدا، و هو قصر الموصوف على صفته، و أما من تبدل عليه العمل كأن تحقق منه كفر أو تقوى ثم تبدل بغيره و لم يختتم له العمل بعد فهو خارج عن مساق الكلام فافهم ذلك.
و اعلم أن في الآيات السابقة وجوها مختلفة من الالتفات كقوله: «كذلك أرسلناك» ثم قوله: «بل لله الأمر» ثم قوله: «فأمليت للذين كفروا» ثم قوله «و جعلوا لله شركاء» و الوجه فيه غير خفي فالتعبير بمثل «أرسلناك» للدلالة على أن هناك وسائط كملائكة الوحي مثلا.
و التعبير بمثل «بل لله الأمر جميعا» للدلالة على رجوع كل أمر ذي وسط أو غير ذي وسط إلى مقام الألوهية القيوم على كل شيء، و التعبير بمثل «فأمليت للذين كفروا ثم أخذتهم» للدلالة على أنه لا واسطة في الحقيقة يكون شريكا أو شفيعا كما يدعيه المشركون.
ثم قوله تعالى: «تلك عقبى الذين اتقوا و عقبى الكافرين النار» إشارة إلى خاتمة أمر الفريقين و عقباهما كما تقدم - و به يختتم البحث في المؤمنين و المشركين من حيث آثار الحق و الباطل في عقيدتهما و أعمالهما، فقد عرفت أن هذه الآيات التسع التي نحن فيها من تمام الآيات العشر السابقة المبتدئة بقوله: «أنزل من السماء ماء» الآية.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن خالد بن نجيح عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): في قوله: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» فقال بمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) تطمئن القلوب و هو ذكر الله و حجابه.
أقول: و في كلامه تعالى: «قد أنزل الله إليكم ذكرا رسولا».
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أنس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأصحابه حين نزلت هذه الآية: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» أ تدرون ما معنى ذلك؟ قالوا: الله و رسوله أعلم. قال: من أحب الله و رسوله و أحب أصحابي.
و في تفسير العياشي، عن ابن عباس: أنه قال لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «الذين آمنوا و تطمئن قلوبهم بذكر الله - ألا بذكر الله تطمئن القلوب» ثم قال لي: أ تدري يا بن أم سليم من هم؟ قلت: من هم يا رسول الله؟ قال: نحن أهل البيت و شيعتنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما نزلت هذه الآية «ألا بذكر الله تطمئن القلوب» قال: ذاك من أحب الله و رسوله و أحب أهل بيتي صادقا غير كاذب و أحب المؤمنين شاهدا و غائبا ألا بذكر الله يتحابون.
أقول: و الروايات جميعا من باب الانطباق و الجري فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرون من أهل بيته و الخيار من الصحابة و المؤمنين من مصاديق ذكر الله لأن الله يذكر بهم، و الآية الكريمة أعم دلالة.
و في تفسير القمي، عن أبيه عن محمد بن أبي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في حديث الإسراء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: فإذا شجرة لو أرسل طائر في أصلها ما دارها سبعمائة سنة و ليس في الجنة منزل إلا و فيه غصن منها فقلت: ما هذه يا جبرئيل؟ فقال: هذه شجرة طوبى قال الله تعالى: «طوبى لهم و حسن مآب».
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات كثيرة و في عدة منها: أن جبرئيل ناولني منها ثمرة فأكلتها فحول الله ذلك إلى ظهري فلما أن هبطت إلى الأرض واقعت خديجة فحملت بفاطمة فما قبلت فاطمة إلا وجدت رائحة شجرة طوبى منها.
و في كتاب الخرائج، أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يا فاطمة إن بشارة أتتني من ربي في أخي و ابن عمي أن الله عز و جل زوج عليا بفاطمة و أمر رضوان خازن الجنة فهز شجرة طوبى فحملت رقاعا بعدد محبي أهل بيتي فأنشأ ملائكة من نور و دفع إلى كل ملك خطا فإذا استوت القيامة بأهلها فلا تلقى الملائكة محبا لنا إلا دفعت إليه صكا فيه براءة من النار:. أقول: و في تفسير البرهان، عن المرفق بن أحمد في كتاب المناقب بإسناده عن بلال بن حمامة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله و روي هذا المعنى أيضا عن أم سلمة و سلمان الفارسي و علي بن أبي طالب: و فيها أن الله لما أن أشهد على تزوج فاطمة من علي بن أبي طالب ملائكته أمر شجرة طوبى أن ينثر حملها و ما فيها من الحلي و الحلل فنثرت الشجرة ما فيها و التقطته الملائكة و الحور العين لتهادينه و تفتخرن به إلى يوم القيامة و روي أيضا ما يقرب منه عن الرضا (عليه السلام).
و في المجمع، روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال: طوبى شجرة أصلها في دار علي في الجنة و في دار كل مؤمن منها غصن. قال: و رواه أبو بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في تفسير البرهان، عن تفسير الثعلبي يرفع الإسناد إلى جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن طوبى فقال: شجرة في الجنة أصلها في دار علي و فرعها على أهل الجنة فقالوا: يا رسول الله سألناك فقلت: أصلها في داري و فرعها على أهل الجنة فقال: داري و دار علي واحدة في الجنة بمكان واحد:. أقول: و رواه أيضا في المجمع، بإسناده عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بإسناده عن موسى بن جعفر عن أبيه عن آبائه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة مروية من طرق الشيعة و أهل السنة، و الظاهر أن الروايات غير ناظرة إلى تفسير الآية، و إنما هي ناظرة إلى بطنها دون ظهرها فإن حقيقة المعيشة الطوبى هي ولاية الله سبحانه و علي (عليه السلام) صاحبها و أول فاتح لبابها من هذه الأمة و المؤمنون من أهل الولاية أتباعه و أشياعه، و داره (عليه السلام) في جنة النعيم و هي جنة الولاية و دار النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحدة لا اختلاف بينهما و لا تزاحم فافهم ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله: «و هم يكفرون بالرحمن» قال: هذا لما كاتب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا في الحديبية كتب بسم الله الرحمن الرحيم قالوا: لا نكتب الرحمن و ما ندري ما الرحمن؟ و ما نكتب إلا باسمك اللهم فأنزل الله: «و هم يكفرون بالرحمن»:. أقول: و رواه أيضا عن ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبي الشيخ عن قتادة و أنت تعلم أن الآيات على ما يعطيه سياقها مكية و صلح الحديبية من حوادث ما بعد الهجرة.
على أن سياق الآية وحدها أيضا لا يساعد على نزول جزء من أجزائها في قصة و تقطعه عن الباقي.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه عن عطية العوفي قال: قالوا لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان (عليه السلام) يقطع لقومه بالريح أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيي الموتى لقومه فأنزل الله تعالى: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال» الآية إلى قوله: «أ فلم ييأس الذين آمنوا» قال: أ فلم يتبين الذين آمنوا. قالوا: هل تروي هذا الحديث عن أحد من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: عن سعيد الخدري عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
أقول: و فيما يقرب من هذا المضمون روايات أخرى.
و في تفسير القمي، قال: لو كان شيء من القرآن كذلك لكان هذا.
و في الكافي، عن محمد بن يحيى عن أحمد بن أبي زاهر أو غيره عن محمد بن حماد عن أخيه أحمد بن حماد عن إبراهيم عن أبيه عن أبي الحسن الأول (عليه السلام) في حديث: و إن الله يقول في كتابه: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال - أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى» و قد ورثنا نحن هذا القرآن الذي فيه ما تسير به الجبال و تقطع به البلدان و يحيى به الموتى.
الحديث.
أقول: و الحديثان ضعيفان سندا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن علي: أنه قرأ: «أ فلم يتبين الذين آمنوا»:. أقول: و روي هذه القراءة أيضا عن ابن عباس.
و في المجمع،: قرأ علي (عليه السلام) و ابن عباس و علي بن الحسين (عليهما السلام) و زيد بن علي و جعفر بن محمد (عليهما السلام) و ابن أبي مليكة و الجحدري و أبو يزيد المدني: أ فلم يتبين و القراءة المشهورة: أ فلم ييأس.
و في تفسير القمي، قال و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و لا يزال الذين كفروا تصيبهم بما صنعوا قارعة» و هي النقمة «أو تحل قريبا من دارهم» فتحل بقوم غيرهم فيرون ذلك و يسمعون به و الذين حلت بهم عصاة كفار مثلهم و لا يتعظ بعضهم ببعض و لا يزالون كذلك حتى يأتي وعد الله الذي وعد المؤمنين من النصر، و يخزي الله الكافرين.
|