بيان
تتمة الآيات السابقة و تعقب قولهم: «لو لا أنزل عليه آية من ربه».
قوله تعالى: «و الذين آتيناهم الكتاب يفرحون بما أنزل إليك» إلى آخر الآية.
الظاهر أن المراد بالذين أوتوا الكتاب اليهود و النصارى أو هم و المجوس فإن هذا هو المعهود من إطلاقات القرآن و السورة مكية و قد أثبت التاريخ أن اليهود ما كانوا يعاندون النبوة العربية في أوائل البعثة و قبلها ذاك العناد الذي ساقتهم إليه حوادث ما بعد الهجرة و قد دخل جمع منهم في الإسلام أوائل الهجرة و شهدوا على نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كونه مبشرا به في كتبهم كما قال تعالى: «و شهد شاهد من بني إسرائيل على مثله فآمن و استكبرتم»: الأحقاف: 10.
و أنه كان من النصارى يومئذ قوم على الحق من غير أن يعاندوا دعوة الإسلام كقوم من نصارى الحبشة على ما نقل من قصة هجرة الحبشة و جمع من غيرهم، و قد قال تعالى في أمثالهم: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون»: القصص: 52 و قال: «و من قوم موسى أمة يهدون بالحق و به يعدلون»: الأعراف: 159 و كذا كانت المجوس ينتظرون الفرج بظهور منج ينشر الحق و العدل و كانوا لا يعاندون الحق كما يعانده المشركون.
فالظاهر أن يكونوا هم المعنيون بالآية و خاصة المحقون من النصارى و هم القائلون بكون المسيح بشرا رسولا كالنجاشي و أصحابه، و يؤيده ما في ذيل الآية من قوله: «قل إنما أمرت أن أعبد الله و لا أشرك به إليه أدعوا» فإنه أنسب أن يخاطب به النصارى.
و قوله: «و من الأحزاب من ينكر بعضه» اللام للعهد أي و من أحزاب أهل الكتاب من ينكر بعض ما أنزل إليك و هو ما دل منه على التوحيد و نفي التثليث و سائر ما يخالف ما عند أهل الكتاب من المعارف و الأحكام المحرفة.
و قوله: «قل إنما أمرت أن أعبد الله و لا أشرك به» دليل على أن المراد من البعض الذي ينكرونه ما يرجع إلى التوحيد في العبادة أو الطاعة و قد أمره الله أن يخاطبهم بالموافقة عليه بقوله: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا أربابا من دون الله»: آل عمران: 64.
ثم تمم الكلام بقوله: «إليه أدعوا و إليه مآب» أي مرجعي فكان أول الكلام مفصحا عن بغيته في نفسه و لغيره، و آخره عن سيرته أي أمرت لأعبد الله وحده في عملي و دعوتي، و على ذلك أسير بين الناس فلا أدعو إلا إليه و لا أرجع في أمر من أموري إلا إليه فذيل الآية في معنى قوله: «قل هذه سبيلي أدعوا إلى الله على بصيرة أنا و من اتبعني و سبحان الله و ما أنا من المشركين»: يوسف: 108.
و يمكن أن يكون المراد بقوله: «و إليه مآب» المعاد و يفيد حينئذ فائدة التعليل أي إليه أدعوه وحده لأن مآبي إليه وحده.
و قد فسر بعضهم الكتاب في الآية بالقرآن و الذين أوتوا الكتاب بأصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الأحزاب بالأعراب الذين تحزبوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أداروا عليه الدوائر من قريش و سائر القبائل.
و فيه أنه خلاف المعهود من إطلاق القرآن لفظة: «الذين أوتوا الكتاب» على أن ذلك يؤدي إلى كون الآية مشتملة على معنى مكرر.
و ربما ذكر بعضهم أن المراد بهم اليهود خاصة و الكتاب هو التوراة و المراد بإنكار بعض أحزابهم بعض القرآن و هو ما لا يوافق أحكامهم المحرفة مع أن الجميع ينكرون ما لا يوافق ما عندهم إنكاره من غير فرح و أما الباقون فكانوا فرحين و منكرين و قد أطالوا البحث عن ذلك.
و عن بعضهم: أن المراد بالموصول عامة المسلمين، و بالأحزاب اليهود و النصارى و المجوس، و عن بعضهم أن تقدير قوله: «و إليه مآب» و إليه مآبي و مآبكم.
و هذه أقوال لا دليل من اللفظ على شيء منها و لا جدوى في إطالة البحث عنها.
قوله تعالى «و كذلك أنزلناه حكما عربيا و لئن اتبعت أهواءهم بعد ما جاءك من العلم ما لك من الله من ولي و لا واق» الإشارة بقوله: «كذلك» إلى الكتاب المذكور في الآية السابقة و هو جنس الكتاب النازل على الأنبياء الماضين كالتوراة و الإنجيل.
و المراد بالحكم هو القضاء و العزيمة فإن ذلك هو شأن الكتاب النازل من السماء المشتمل على الشريعة كما قال: «و أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه»: البقرة: 212 فالكتاب حكم إلهي بوجه و حاكم بين الناس بوجه فهذا هو المراد بالحكم دون الحكمة كما قيل.
و قوله: «عربيا» صفة لحكم و إشارة إلى كون الكتاب بلسان عربي و هو لسانه (صلى الله عليه وآله وسلم) سنة الله التي قد خلت في عباده، قال تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه»: إبراهيم: 4 و هذا - كما لا يخفى - من الشاهد على أن المراد بالمذكورين في الآية السابقة اليهود و النصارى، و أن هذه الآيات متعرضة لشأنهم كما كانت الآيات السابقة عليها متعرضة لشأن المشركين.
و على هذا فالمراد بقوله: «و لئن اتبعت أهواءهم» إلخ، النهي عن اتباع أهواء أهل الكتاب، و قد ذكر في القرآن من ذلك شيء كثير، و عمدة ذلك أنهم كانوا يقترحون على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية غير القرآن كما كان المشركون يقترحونها، و كانوا يطمعون أن يتبعهم فيما عندهم من الأحكام لإحالتهم النسخ في الأحكام، و هذان الأمران و لا سيما أولهما عمدة ما تتعرض له هذه الآيات.
و المعنى: و كما أنزلنا على الذين أوتوا الكتاب كتابهم أنزلنا هذا القرآن عليك بلسانك مشتملا على حكم أو حاكما بين الناس و لئن اتبعت أهواء أهل الكتاب فتمنيت أن ينزل عليك آية غير القرآن كما يقترحون أو داهنتهم و ملت إلى اتباع بعض ما عندهم من الأحكام المنسوخة أو المحرفة أخذناك بالعقوبة و ليس لك ولي يلي أمرك من دون الله و لا واق يقيك منه فالخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو المراد به دون الأمة كما ذكره بعضهم.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله لكل أجل كتاب» لما نهى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اتباع أهوائهم فيما اقترحوا عليه من إنزال آية غير القرآن ذكره بحقيقة الحال التي تؤيسه من الطمع في ذلك و يعزم عليه أن يتوكل على الله و يرجع إليه الأمور.
و هو أن سنة الله الجارية في الرسل أن يكونوا بشرا جارين على السنة المألوفة بين الناس من غير أن يتعدوها فيملكوا شيئا مما يختص بالغيب كأن يكونوا ذا قوة غيبية فعالة لما تشاء قديرة على كل ما أرادت أو أريد منها حتى تأتي بكل آية شاءت إلا أن يأذن الله له فليس للرسول و هو بشر كسائرهم من الأمر شيء بل لله الأمر جميعا.
فهو الذي ينزل الآية إن شاء غير أنه سبحانه إنما ينزل من الآيات إذا اقتضته الحكمة الإلهية و ليست الأوقات مشتركة متساوية في الحكم و المصالح و إلا لبطلت الحكمة و اختل نظام الخليقة بل لكل وقت حكمة تناسبه و حكم يناسبه فلكل وقت آية تخصه.
و هذا هو الذي تشير إليه الآية فقوله: «و لقد أرسلنا رسلا من قبلك و جعلنا لهم أزواجا و ذرية» إشارة إلى السنة الجارية في الرسل من البشرية العادية، و قوله: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله» إشارة إلى حرمانهم من القدرة الغيبية المستقلة بكل ما أرادت إلا أن يمدهم الإذن الإلهي.
و قوله: «لكل أجل» أي وقت محدود «كتاب» أي حكم مقضي مكتوب يخصه إشارة إلى ما يلوح إليه استثناء الإذن و سنة الله الجارية فيه، و التقدير فالله سبحانه هو الذي ينزل ما شاء و يأذن فيما شاء لكنه لا ينزل و لا يأذن في كل آية في كل وقت فإن لكل وقت كتابا كتبه لا يجري فيه إلا ما فيه.
و مما تقدم يظهر أن ما ذكره بعضهم أن قوله: «لكل أجل كتاب» من باب القلب و أصله: لكل كتاب أجل أي إن لكل كتاب منزل من عند الله وقتا مخصوصا ينزل فيه و يعمل عليه فللتوراة وقت و للإنجيل وقت و للقرآن وقت.
وجه لا يعبأ به.
قوله تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب» محو الشيء هو إذهاب رسمه و أثره يقال: محوت الكتاب إذا أذهبت ما فيه من الخطوط و الرسوم قال تعالى: «و يمح الله الباطل و يحق الحق بكلماته»: الشورى: 24 أي يذهب بآثار الباطل كما قال: «فأما الزبد فيذهب جفاء» و قال: «و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة»: أسرى: 12 أي أذهبنا أثر الإبصار من الليل فالمحو قريب المعنى من النسخ يقال: نسخت الشمس الظل أي ذهبت بأثره و رسمه.
و قد قوبل المحو في الآية بالإثبات و هو إقرار الشيء في مستقره بحيث لا يتحرك و لا يضطرب يقال: أثبت الوتد في الأرض إذا ركزته فيها بحيث لا يتحرك و لا يخرج من مركزه فالمحو هو إزالة الشيء بعد ثبوته برسمه و يكثر استعماله في الكتاب.
و وقوع قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» بعد قوله: «لكل أجل كتاب» و اتصاله به من جانب و بقوله: «و عنده أم الكتاب» من جانب ظاهر في أن المراد محو الكتب و إثباتها في الأوقات و الآجال فالكتاب الذي أثبته الله في الأجل الأول إن شاء محاه في الأجل الثاني و أثبت كتابا آخر فلا يزال يمحى كتاب و يثبت كتاب آخر.
و إذا اعتبرنا ما في الكتاب من آية و كل شيء آية صح أن يقال لا يزال يمحو آية و يثبت آية كما يشير إليه قوله: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: البقرة: 106، و قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية» الآية: النحل: 101.
فقوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» على ما فيه من الإطلاق يفيد فائدة التعليل لقوله: «لكل أجل كتاب» و المعنى أن لكل وقت كتابا يخصه فيختلف فاختلاف الكتب باختلاف الأوقات و الآجال إنما ظهر من ناحية اختلاف التصرف الإلهي بمشيته لا من جهة اختلافها في أنفسها و من ذواتها بأن يتعين لكل أجل كتاب في نفسه لا يتغير عن وجهه بل الله سبحانه هو الذي يعين ذلك بتبديل كتاب مكان كتاب و محو كتاب و إثبات آخر.
و قوله: «و عنده أم الكتاب» أي أصله فإن الأم هي الأصل الذي ينشأ منه الشيء و يرجع إليه، و هو دفع للدخل و إبانة لحقيقة الأمر فإن اختلاف حال الكتاب المكتوب لأجل بالمحو و الإثبات أي تغير الحكم المكتوب و القول المقضي به حينا بعد حين ربما أوهم أن الأمور و القضايا ليس لها عند الله سبحانه صورة ثابتة و إنما يتبع حكمه العلل و العوامل الموجبة له من خارج كأحكامنا و قضايانا معاشر ذوي الشعور من الخلق أو أن حكمه جزافي لا تعين له في نفسه و لا مؤثر في تعينه من خارج كما ربما يتوهم أرباب العقول البسيطة أن الذي له ملك - بكسر اللام - مطلق و سلطنة مطلقة له أن يريد ما يشاء و يفعل ما يريد على حرية مطلقة من رعاية أي قيد و شرط و سلوك أي نظام أو لا نظام في عمله فلا صورة ثابتة لشيء من أفعاله و قضاياه عنده، و قد قال تعالى: «ما يبدل القول لدي»: ق: 29، و قال: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8 إلى غير ذلك من الآيات.
فدفع هذا الدخل بقوله: «و عنده أم الكتاب» أي أصل جنس الكتاب و الأمر الثابت الذي يرجع إليه هذه الكتب التي تمحى و تثبت بحسب الأوقات و الآجال و لو كان هو نفسه تقبل المحو و الإثبات لكان مثلها لا أصلا لها و لو لم يكن من أصله كان المحو و الإثبات في أفعاله تعالى إما تابعا لأمور خارجة تستوجب ذلك فكان تعالى مقهورا مغلوبا للعوامل و الأسباب الخارجية مثلنا و الله يحكم لا معقب لحكمه.
و إما غير تابع لشيء أصلا و هو الجزاف الذي يختل به نظام الخلقة و التدبير العام الواحد بربط الأشياء بعضها ببعض جلت عنه ساحته، قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق»: الدخان: 39.
فالملخص من مضمون الآية أن لله سبحانه في كل وقت و أجل كتابا أي حكما و قضاء و أنه يمحو ما يشاء من هذه الكتب و الأحكام و الأقضية و يثبت ما يشاء أي يغير القضاء الثابت في وقت فيضع في الوقت الثاني مكانه قضاء آخر لكن عنده بالنسبة إلى كل وقت قضاء لا يتغير و لا يقبل المحو و الإثبات و هو الأصل الذي يرجع إليه الأقضية الآخر و تنشأ منه فيمحو و يثبت على حسب ما يقتضيه هو.
و يتبين بالآية أولا: أن حكم المحو و الإثبات عام لجميع الحوادث التي تداخله الآجال و الأوقات و هو جميع ما في السماوات و الأرض و ما بينهما، قال تعالى: «ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و أجل مسمى»: الأحقاف: 3.
و ذلك لإطلاق قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» و اختصاص المورد بآيات النبوة لا يوجب تخصيص الآية لأن المورد لا يخصص.
و بذلك يظهر فساد قول بعضهم: إن ذلك في الأحكام و هو النسخ و قول ثان: إن ذلك في المباحات المثبتة في صحائف الأعمال يمحوها الله و يثبت مكانها طاعة أو معصية مما فيه الجزاء، و قول ثالث: إنه محو ذنوب المؤمنين فضلا و إثبات ذنوب للكفار عقوبة، و قول رابع: إنه في موارد يؤثر فيها الدعاء و الصدقة في المحن و المصائب و ضيق المعيشة و نحوها، و قول خامس: إن المحو إزالة الذنوب بالتوبة و الإثبات تبديل السيئات حسنات، و قول سادس: إنه محو ما شاء الله من القرون و الإثبات إنشاء قرون آخرين بعدهم، و قول سابع: إنه محو القمر و إثبات الشمس و هو محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة، و قول ثامن: إنه محو الدنيا و إثبات الآخرة، و قول تاسع: إن ذلك في الأرواح حالة النوم يقبضها الله فيرسل من يشاء منهم و يمسك من يشاء، و قول عاشر: إن ذلك في الآجال المكتوبة في ليلة القدر يمحو الله ما يشاء منها و يثبت ما يشاء.
فهذه و أمثالها أقوال لا دليل على تخصيص الآية الكريمة بها من جهة اللفظ البتة و للآية إطلاق لا ريب فيه ثم المشاهدة الضرورية تطابقه فإن ناموس التغير جار في جميع أرجاء العالم المشهود، و ما من شيء قيس إلى زمانين في وجوده إلا لاح التغير في ذاته و صفاته و أعماله، و في عين الحال إذا اعتبرت في نفسها و بحسب وقوعها وجدت ثابتة غير متغيرة فإن الشيء لا يتغير عما وقع عليه.
فللأشياء المشهودة جهتان جهة تغير يستتبع الموت و الحياة و الزوال و البقاء و أنواع الحيلولة و التبدل، و جهة ثبات لا تتغير عما هي عليها و هما إما نفس كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب، و إما أمران مترتبان على الكتابين و على أي حال تقبل الآية الصدق على هاتين الجهتين.
و ثانيا: أن لله سبحانه في كل شيء قضاء ثابتا لا يتغير و به يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن كل قضاء يقبل التغيير و استدل عليه بمتفرقات الروايات و الأدعية الدالة على ذلك و الآيات و الأخبار الدالة على أن الدعاء و الصدقة يدفعان سوء القضاء.
و فيه أن ذلك في القضاء غير المحتوم.
و ثالثا: أن القضاء ينقسم إلى قضاء متغير و غير متغير و ستستوفي تتمة البحث في الآية عن قريب إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «و إن ما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإنما عليك البلاغ و علينا الحساب» «إن ما» هو إن الشرطية و ما الزائدة للتأكيد و الدليل عليه دخول نون التأكيد في الفعل بعده.
و في الآية إيضاح لما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الوظيفة و هو الاشتغال بأمر الإنذار و التبليغ فحسب فلا ينبغي له أن يتبع أهواءهم في نزول آية عليه كما اقترحوا حتى أنه لا ينبغي له أن ينتظر نتيجة بلاغه أو حلول ما أوعدهم الله من العذاب بهم.
و في الآية دلالة على أن الحساب الإلهي يجري في الدنيا كما يجري في الآخرة.
قوله تعالى: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» إلخ كلام مسوق للعبرة بعد ما قدم إليهم الوعيد بالهلاك، و منه يعلم أن إتيان الأرض و نقصها من أطرافها كناية عن نقص أهلها بالإماتة و الإهلاك فالآية نظيرة قوله: «بل متعنا هؤلاء و آباءهم حتى طال عليهم العمر أ فلا يرون أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها أ فهم الغالبون»: الأنبياء: 44.
و قول بعضهم إن المراد به أ و لم ير أهل مكة أنا نأتي أرضهم فننقصها من أطرافها بفتح القرى واحدة بعد واحدة للمسلمين فليخافوا أن نفتح بلدتهم و ننتقم منهم يدفعه أن السورة مكية و تلك الفتوحات إنما كانت تقع بعد الهجرة.
على أن الآيات بوعيدها ناظرة إلى هلاكهم بغزوة بدر و غيرها لا إلى فتح مكة.
و قوله: «و الله يحكم لا معقب لحكمه و هو سريع الحساب» يريد به أن الغلبة لله سبحانه فإنه يحكم و ليس قبال حكمه أحد يعقبه ليغلبه بالمنع و الرد و هو سبحانه يحاسب كل عمل بمجرد وقوعه بلا مهلة حتى يتصرف فيه غيره بالإخلال فقوله: «و الله يحكم» إلخ في معنى قوله في ذيل آية سورة الأنبياء المتقدمة: «أ فهم الغالبون».
قوله تعالى: «و قد مكر الذين من قبلهم فلله المكر جميعا» إلى آخر الآية.
أي و قد مكر الذين من قبلهم فلم ينفعهم مكرهم و لم يقدروا على صدنا من أن نأتي الأرض فننقصها من أطرافها فالله سبحانه يملك المكر كله و يبطله و يرده إلى أهله فليعتبروا.
و قوله: «يعلم ما تكسب كل نفس» في مقام التعليل لملكه تعالى كل مكر فإن المكر إنما يتم مع جهل الممكور به و أما إذا علم به فعنده بطلانه.
و قوله: «و سيعلم الكفار لمن عقبى الدار قطع للحجاج بدعوى أن مسألة انتهاء الأمور إلى عواقبها من الأمور الضرورية العينية لا تتخلف عن الوقوع و سيشهدونها شهود عيان فلا حاجة إلى الإطالة و الإطناب في إعلامهم ذلك فسيعلمون.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد قال: قالت قريش حين أنزل: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله»: ما نراك يا محمد تملك من شيء و لقد فرغ من الأمر فأنزلت هذه الآية تخويفا لهم و وعيدا لهم «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا.
أقول: و الآية كما تقدم بيانه أجنبية عن هذا المعنى، و في ذيل هذا الحديث و يحدث الله في كل رمضان فيمحو الله ما يشاء و يثبت من أرزاق الناس و مصائبهم و ما يعطيهم و ما يقسم لهم، و في رواية أخرى عن جابر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في الآية: قال: يمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يزيد فيه.
و هذا من قبيل التمثيل و الآية أعم.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قوله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» قال: ذلك كل ليلة القدر يرفع و يخفض و يرزق غير الحياة و الموت و الشقاوة و السعادة فإن ذلك لا يزول.
أقول: و الرواية على معارضتها الروايات الكثيرة جدا المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و الصحابة تخالف إطلاق الآية و حجة العقل، و مثلها ما عن ابن عمر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يمحو الله ما يشاء و يثبت إلا الشقوة و السعادة و الحياة و الموت و فيه، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر عن علي: أنه سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن هذه الآية فقال له: لأقرن عينيك بتفسيرها و لأقرن عين أمتي بعدي بتفسيرها. الصدقة على وجهها و بر الوالدين و اصطناع المعروف يحول الشقاء سعادة و يزيد في العمر و يقي مصارع السوء.
أقول: و الرواية لا تزيد على ذكر بعض مصاديق الآية.
و في الكافي، بإسناده عن هشام بن سالم و حفص بن البختري و غيرهما عن أبي عبد الله (عليه السلام): في هذه الآية: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» قال: فقال: و هل يمحى إلا ما كان ثابتا؟ و هل يثبت إلا ما لم يكن؟: أقول: و رواه العياشي في تفسيره عن جميل عنه (عليه السلام).
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار قال. سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: من الأمور أمور محتومة كائنة لا محالة و من الأمور أمور موقوفة عند الله يقدم فيها ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت منها ما يشاء لم يطلع على ذلك أحدا يعني الموقوفة فأما ما جاءت به الرسل فهي كائنة لا يكذب نفسه و لا نبيه و لا ملائكته.
أقول: و روي بطريق آخر و كذا في الكافي بإسناده عن الفضيل عنه (عليه السلام) ما في معناه.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: لو لا آية في كتاب الله لحدثتكم بما كان و بما يكون إلى يوم القيامة فقلت له. أية آية؟ فقال: قال الله: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت و عنده أم الكتاب».
أقول: معناه أن اللائح من الآية أن الله سبحانه لا يريد من خلقه إلا أن يعيشوا على جهل بالحوادث المستقبلة ليقوموا بواجب حياتهم بهداية من الأسباب العادية و سياقة من الخوف و الرجاء، و ظهور الحوادث المستقبلة تمام ظهورها يفسد هذه الغاية الإلهية فهو سبب الكف عن التحديث لا الخوف من أن يكذبه الله بالبداء فإنه مأمون منه فلا تعارض بين الرواية و ما قبلها.
و فيه، عن الفضيل بن يسار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى كتب كتابا فيه ما كان و ما هو كائن فوضعه بين يديه فما شاء منه قدم و ما شاء منه أخر و ما شاء منه محى و ما شاء منه كان و ما لم يشأ لم يكن.
و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله يقدم ما يشاء و يؤخر ما يشاء و يمحو ما يشاء و يثبت ما يشاء و عنده أم الكتاب، و قال: كل أمر يريده الله فهو في علمه قبل أن يضعه، و ليس شيء يبدو له إلا و قد كان في علمه أن الله لا يبدو له من جهل.
أقول: و الروايات في البداء عنهم (عليهم السلام) متكاثرة مستفيضة فلا يعبأ بما نقل عن بعضهم أنه خبر واحد.
و الرواية كما ترى تنفي البداء بمعنى علمه تعالى ثانيا بما كان جاهلا به أولا بمعنى تغير علمه في ذاته كما ربما يتفق فينا تعالى عن ذلك، و إنما هو ظهور أمر منه تعالى ثانيا بعد ما كان الظاهر منه خلافه أولا فهو محو الأول و إثبات الثاني و الله سبحانه عالم بهما جميعا.
و هذا مما لا يسع لذي لب إنكاره فإن للأمور و الحوادث وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها الناقصة من علة أو شرط أو مانع ربما تخلف عنه، و وجودا بحسب ما تقتضيه أسبابها و عللها التامة و هو ثابت غير موقوف و لا متخلف، و الكتابان أعني كتاب المحو و الإثبات و أم الكتاب إما أن يكونا أمرين تتبعهما هاتان المرحلتان من وجود الأشياء اللتان إحداهما تقبل المحو و الإثبات و الأخرى لا تقبل إلا الثبات.
و إما أن يكونا عين تينك المرحلتين، و على أي حال ظهور أمر أو إرادة منه تعالى بعد ما كان الظاهر خلافه واضح لا ينبغي الشك فيه.
و الذي أحسب أن النزاع في ثبوت البداء كما يظهر من أحاديث أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و نفيه كما يظهر من غيرهم نزاع لفظي و لهذا لم نعقد لهذا البحث فصلا مستقلا على ما هو دأب الكتاب و من الدليل على كون النزاع لفظيا استدلالهم على نفي البداء عنه تعالى بأنه يستلزم التغير في علمه مع أنه لازم البداء بالمعنى الذي يفسر به البداء فينا لا البداء بالمعنى الذي يفسره به الأخبار فيه تعالى.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم عن أبي الدرداء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ «يمحوا الله ما يشاء و يثبت» مخففة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «ننقصها من أطرافها» قال: ذهاب العلماء.
و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): ننقصها بذهاب علمائها و فقهائها و أخيارها.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن علي عمن ذكره عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: إنه ليسخي نفسي في سرعة الموت أو القتل فينا قول الله عز و جل: «أ و لم يروا أنا نأتي الأرض ننقصها من أطرافها» فقال: فقد العلماء.
أقول: كأن المراد أنه يسخي نفسي أن الله تعالى نسب توفي العلماء إلى نفسه لا إلى غيره فيهنأ لي الموت أو القتل.
|