بيان
عطف على بعض ما كان يتفوه به المشركون في الرد على الدعوة و الرسالة كقولهم: أنى يمكن بعث الإنسان بعد موته و صيرورته ترابا؟ و قولهم: لو لا أنزل علينا العذاب الذي ينذرنا به و متى هذا الوعد إن كنت من الصادقين؟ و الجواب عن ذلك بما يناسب المقام.
قوله تعالى: «و إن تعجب فعجب قولهم ء إذا كنا ترابا ء إنا لفي خلق جديد» إلى آخر الآية قال في المجمع،: العجب و التعجب هجوم ما لا يعرف سببه على النفس و الغل طوق تشد به اليد إلى العنق انتهى.
أشار تعالى في مفتتح كلامه إلى حقية ما أنزله إلى نبيه من معارف الدين في كتابه ملوحا إلى أن آيات التكوين تهدي إليه و تدل عليه و أصولها التوحيد و الرسالة و البعث ثم فصل القول في دلالة الآيات التكوينية على ذلك و استنتج من حجج ثلاث ذكرها توحيد الربوبية و البعث بالتصريح، و يستلزم ذلك حقية الرسالة و الكتاب المنزل الذي هو آيتها، فلما اتضح ذلك و استنار تمهدت الطريق لذكر شبه الكفار فيما يرجع إلى الأصول الثلاثة فأشار في هذه الآية إلى شبهتهم في البعث و سيتعرض لشبههم و أقاويلهم في الرسالة و التوحيد في الآيات التالية.
و شبهتهم في ذلك قولهم: «ء إذا كنا ترابا ء إنا لفي خلق جديد» أورده بعنوان أنه عجب أحرى به أن يتعجب منه لظهور بطلانه و فساده ظهورا لا مسوغ لإنسان سليم العقل أن يرتاب فيه فلو تفوه به إنسان لكان من موارد العجب فقال: «و إن تعجب فعجب قولهم» إلخ.
و معنى الجملة على ما يرشد إليه حذف متعلق «تعجب» إن تحقق منك تعجب و لا محالة يتحقق لأن الإنسان لا يخلو منه - فقولهم هذا عجيب يجب أن يتعلق به تعجبك، فالتركيب كناية عن وجوب التعجب من قولهم هذا لكونه قولا ظاهر البطلان لا يميل إليه ذو لب و حجى.
و قولهم: «ء إذا كنا ترابا ء إنا لفي خلق جديد» مرادهم من التراب بقرينة السياق ما يصير إليه بدن الإنسان بعد الموت من صورة التراب و ينعدم عند ذلك الإنسان الذي هو الهيكل اللحمي الخاص المركب من أعضاء خاصة المجهز بقوى مادية على زعمهم و كيف يشمل الخلقة أمرا منعدما من أصله فيعود مخلوقا جديدا؟.
و لشبهتهم هذه جهات مختلفة أجاب الله سبحانه في كلامه عن كل واحدة منها بما يناسبها و يحسم مادتها: فمنها: استبعاد أن يستحيل التراب إنسانا سويا، و قد أجيب عنه بأن إمكان استحالة المواد الأرضية منيا ثم المني علقة ثم العلقة مضغة ثم المضغة بدن إنسان سوي و وقوع ذلك بعد إمكانه لا يدع ريبا في جواز صيرورة التراب ثانيا إنسانا سويا قال تعالى: «يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث فإنا خلقناكم من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة مخلقة و غير مخلقة» الآية:. الحج: 5.
و منها: استبعاد إيجاد الشيء بعد عدمه.
و أجيب بأنه مثل الخلق الأول فليجز كما جاز قال تعالى: «و ضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام و هي رميم قل يحييها الذي أنشأها أول مرة»: يس: 79.
و منها: أن الإنسان تنتفي ذاته بالموت فلا ذات حتى تتلبس بالخلق الجديد و لا إنسان بعد الموت و الفوت إلا في تصور المتصور دون الخارج بنحو.
و قد أجيب في كلامه تعالى عنه ببيان أن الإنسان ليس هو البدن المركب من عدة أعضاء مادية حتى ينعدم من أصله ببطلان التركيب و انحلاله بل حقيقته روح علوية - و إن شئت قلت: نفس - متعلق بهذا المركب المادي تستعمله في أغراضه و مقاصده و بها حياة البدن يبقى بها الإنسان محفوظ الشخصية و إن تغير بدنه و تبدل بمرور السنين و مضي العمر ثم الموت هو أن يأخذها الله من البدن و تقطع علقتها به ثم البعث هو أن يجدد الله خلق البدن و تعليقها به و هو القيام لله لفصل القضاء.
قال تعالى: «و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم ثم إلى ربكم ترجعون»: الم السجدة: 11 يقول إنكم بالموت لا تضلون في الأرض و لا تنعدمون بل الملك الموكل بالموت يأخذ الأمر الذي تدل عليه لفظة «كم» و «نا» و هي النفوس فتبقى في قبضته و لا تضل ثم إذا بعثتم ترجعون إلى الله بلحوق أبدانكم إلى نفوسكم و أنتم أنتم.
فللإنسان حياة باقية غير محدودة بما في هذه الدنيا الفانية و له عيشة في دار أخرى باقية ببقاء الله و لا يتمتع في حياته الثانية إلا بما يكتسبه في حياته الأولى من الإيمان بالله و الأعمال الصالحة و يعده في يومه لغده من مواد السعادة فإن اتبع الحق و آمن بآيات الله سعد في أخراه بكرامة القرب و الزلفى و ملك لا يبلى، و إن أخلد إلى الأرض و انكب على الدنيا و أعرض عن الذكرى بقي في دار الشقاء و البوار و غل بأغلال الخيبة و الخسران في مهبط اللعن و حضيض البعد و كان من أصحاب النار.
و إذا عرفت هذا الذي قدمناه و تأملته تأملا كافيا بان لك أن قوله تعالى: «أولئك الذين كفروا بربهم» إلى آخر الآية ليس بمجرد تهديد بالعذاب لهؤلاء القائلين: «ء إذا كنا ترابا ء إنا لفي خلق جديد» على ما يتخيل في بادىء النظر بل جواب بلازم القول.
و توضيح ذلك أن لازم قولهم: إن الإنسان إذا مات و صار ترابا بطلت الإنسانية و انعدمت الشخصية أن يكون الإنسان صورة مادية قائمة بهذا الهيكل البدني المادي العائش بحياة مادية من غير أن تكون له حياة أخرى خالدة بعد الموت يبقى فيها ببقاء الرب تعالى و يسعد بقربه و يفوز عنده و بعبارة أخرى تكون حياته محدود بهذه الحياة المادية غير أن تنبسط على ما بعد الموت و تدوم أبدا، و هذا في الحقيقة إنكار للعالم الربوبي إذ لا معنى لرب لا معاد إليه.
و لازم ذلك أن يقصر الإنسان همه في المقاصد الدنيوية و الغايات المادية من غير أن يرتقي فهمه إلى ما عند الله من النعيم المقيم و الملك العظيم فيسعى لقربه تعالى و يعمل في يومه لغده كالمغلول الذي لا يستطيع حراكا و لا يقدر على السعي لواجب أمره.
و لازم ذلك أن يثبت الإنسان في شقاء لازم و عذاب دائم فإنه أفسد استعداد السعادة و قطع الطريق و هذه اللوازم الثلاث هي التي أشار تعالى إليه بقوله: «أولئك الذين كفروا» إلخ.
فقوله: «أولئك الذين كفروا بربهم» إشارة إلى اللازم الأول و هو إعراض منكري المعاد عن العالم الربوبي و الحياة الباقية و الستر على ما عند الله من النعيم المقيم و الكفر به.
و قوله: «و أولئك الأغلال في أعناقهم» إشارة إلى اللازم الثاني و هو الإخلاد إلى الأرض و الركون إلى الهوى و التقيد بقيود الجهل و أغلال الجحد و الإنكار، و قد مر في تفسير قوله تعالى: «إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا» الآية: البقرة: 26 في الجزء الأول من الكتاب كلام في كون هذه التعبيرات القرآنية حقائق أو مجازات فراجع إليه.
و قوله: «أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» إشارة إلى اللازم الثالث و هو مكثهم في العذاب و الشقاء.
قوله تعالى: «و يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة و قد خلت من قبلهم المثلات» إلى آخر الآية.
قال في المجمع،: الاستعجال طلب التعجيل بالأمر و التعجيل تقديم الأمر قبل وقته، و السيئة خصلة تسوء النفس و نقيضها الحسنة و هي خصلة تسر النفس، و المثلات العقوبات واحدها مثلة بفتح الميم و ضم الثاء، و من قال في الواحد: مثلة بضم الميم و سكون الثاء قال في الجمع: مثلات بضمتين نحو غرفة و غرفات، و قيل في الجمع: مثلات و مثلات - أي بسكون الثاء و فتحها - انتهى.
و قال الراغب في المفردات،: المثلة نقمة تنزل بالإنسان فيجعل مثالا يرتدع به غيره و ذلك كالنكال و جمعه مثلات و مثلات - أي بضم الميم أو فتحها و ضم الثاء - و قد قرىء: من قبلهم المثلات، و المثلات بإسكان الثاء على التخفيف نحو عضد و عضد.
انتهى.
و قوله: «يستعجلونك بالسيئة قبل الحسنة» ضمير الجمع للذين كفروا المذكورين في الآية السابقة، و المراد باستعجالهم بالسيئة قبل الحسنة سؤالهم نزول العذاب إليهم استهزاء بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قبل سؤال الرحمة و العافية، و الدليل عليه قوله: «و قد خلت من قبلهم المثلات» - و الجملة في موضع الحال - فإن المراد به العقوبات النازلة على الأمم الماضين القاطعة لدابرهم.
و المعنى: يسألك الذين كفروا أن تنزل عليهم العقوبة الإلهية قبل الرحمة و العافية بعد ما سمعوك تنذرهم بعذاب الله استهزاء و هم على علم بالعقوبات النازلة قبلهم على الأمم الماضين الذين كفروا برسلهم و الآية في مقام التعجيب.
و قوله: «و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم و إن ربك لشديد العقاب» استئناف أو في موضع الحال، و يفيد بيان السبب في كون استعجالهم أمرا عجيبا أي إن ربك ذو رحمة واسعة تسع الناس في جميع أحوالهم حتى حال ظلمهم و ذو غضب شديد و قد سبقت رحمته غضبه فما بالهم يعرضون عن وسيع رحمته و مغفرته و يسألون شديد عقابه و هم مستعجلون؟ إن ذلك لعجيب.
و يظهر من هذا المعنى الذي يعطيه السياق: أولا: أن التعبير عنه تعالى بقوله: «ربك» إنما هو للدلالة على كونهم مشركين وثنيين لا يأخذونه تعالى ربا بل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي يأخذه ربا من بين قومه.
و ثانيا: أن المراد بالمغفرة و العقاب هو الأعم من المغفرة و العقوبة الدنيويتين فإن المشركين إنما كانوا يستعجلون بالسيئة و العقوبة الدنيويتين، و المثلات التي يذكر الله تعالى أنها خلت من قبلهم إنما هي العقوبات الدنيوية النازلة عليهم.
على أن العفو و المغفرة لا يختصان بما بعد الموت أو بيوم القيامة و لا أن آثارهما تختص بذلك، و قد تقدم ذلك مرارا فله تعالى أن يبسط مغفرته على كل من شاء حتى على الظالم حين هو ظالم فيغفر له مظلمته إن اقتضته الحكمة، و له أن يعاقب قال تعالى: «إن تعذبهم فإنهم عبادك و إن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم»: المائدة: 118.
و لهذه النكتة عبر تعالى عن مورد المغفرة بقوله: «للناس» و لم يقل للمؤمنين أو للتائبين و نحو ذلك فلو التجأ أي واحد من الناس إلى رحمته و سأله المغفرة كان له أن يغفر له سواء في ذلك الكافر و المؤمن و المعاصي الكبيرة و الصغيرة غير أن المشرك لو سأله أن يغفر له شركه انقلب بذلك مؤمنا غير مشرك، و الله سبحانه لا يغفر المشرك ما لم يعد إلى التوحيد قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء: 48.
فكان على هؤلاء الذين كفروا أن يسألوه تعالى - و يستعجلوا به - أن يغفر لهم شركهم أو ما يتفرع على شركهم من المعاصي بتقديم الإيمان به و برسوله أو أن يسألوه العافية و البركة و خير المال و الولد على كونهم ظالمين فإنه برحمته الواسعة يفعل ذلك حتى بمن لا يؤمن به و لا ينقاد له، و أما الظلم حال ما يتلبس به الظالم فإن المغفرة لا تجامعه و قد قال تعالى: «و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الجمعة: 5.
و ثالثا: أن قوله: «لذو مغفرة» و لم يقل: لغفور أو غافرة كأنه للتحرز من أن يدل على فعلية المغفرة لجميع الظالمين على ظلمهم كأنه قيل: عنده مغفرة للناس على ظلمهم لا يمنعه من إعمال هذه المغفرة عند المصلحة شيء.
و يمكن أن يستفاد من الجملة معنى آخر و هو أنه تعالى عنده مغفرة الناس له أن يغفر بها لمن شاء منهم، و لا يستوجب ظلم الناس أن يغضب تعالى فيترك الاتصاف بالمغفرة من أصلها فلا يغفر لأحد، و هذا يوجب تغيرا في بعض ما تقدم من نكت الآية غير أنه غير ظاهر من السياق.
و في الآية مشاجرات بين المعتزلة و غيرهم من أهل السنة و هي مطلقة لا دليل على تقييدها بشيء إلا بما في قوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به» الآية: النساء: 48.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: «و إن ربك لذو مغفرة للناس على ظلمهم - و إن ربك لشديد العقاب» قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لا عفو الله و تجاوزه ما هنأ لأحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لا تكل كل أحد.
|