بيان
السورة الكريمة تصف القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من حيث إنه آية رسالته يخرج به الناس من الظلمات إلى النور و يهديهم إلى صراط الله سبحانه الذي هو عزيز حميد أي غالب غير مغلوب و غني غير محتاج إلى الناس و جميل في فعله منعم عليهم، و إذا كان المنعم غالبا غنيا حميد الأفعال كان على المنعم عليهم أن يجيبوا دعوته و يلبوا نداءه حتى يسعدوا بما أفاض عليهم من النعم، و أن يخافوا سخطه و شديد عذابه فإنه قوي غير محتاج إلى أحد، له أن يستغني عنهم فيذهب بهم و يأتي بآخرين كما فعل بالذين كفروا بنعمته من الأمم الماضين فإن آيات السماوات و الأرض ناطقة بأن النعمة كلها له و هو رب العزة و ولي الحمد لا رب سواه.
و بهذا تختتم السورة إذ يقول عز من قائل: «هذا بلاغ للناس و لينذروا به و ليعلموا أنما هو إله واحد و ليذكر أولوا الألباب».
و لعل ما ذكرنا هو مراد من قال: إن السورة مفتتحة ببيان الغرض من الرسالة و الكتاب يشير إلى قوله تعالى: «لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم».
و السورة مكية على ما يدل عليه سياق آياتها، و نسب إلى ابن عباس و الحسن و قتادة: أنها مكية إلا آيتين منها نزلتا في قتلى بدر من المشركين: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها و بئس القرار» و سيأتي أن الآيتين غير صريحتين و لا ظاهرتين في ذلك.
قوله تعالى: «الر كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم» أي هذا كتاب أنزلناه إليك فهو خبر لمبتدإ محذوف على ما يعطيه السياق و قيل غير ذلك.
و قوله: «لتخرج الناس من الظلمات إلى النور» ظاهر السياق عموم الناس لا خصوص قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا خصوص المؤمنين منهم إذ لا دليل على التقييد من جهة اللفظ، و كلامه تعالى صريح في عموم الرسالة كقوله: «ليكون للعالمين نذيرا»: الفرقان: 1 و قوله: «لأنذركم به و من بلغ»: الأنعام - 19، و قوله: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا»: الأعراف: 158 و الآيات الصريحة في دعوة اليهود و عامة أهل الكتاب، و عمله (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوتهم و قبول إيمان من آمن منهم كعبد الله بن سلام و سلمان و بلال و صهيب و غيرهم تؤيد ذلك.
على أن آخر السورة: «هذا بلاغ للناس و لينذروا به» الآية، و قد قوبل به أولها يؤيد أن المراد بالناس أعم من المؤمنين الذين خرجوا من الظلمات إلى النور بالفعل.
و قد نسب الإخراج من الظلمات إلى النور إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكونه أحد الأسباب الظاهرية لذلك و إليه ينتهي إيمان المؤمنين بدعوته بلا واسطة أو بواسطة و لا، ينافيه قوله: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56 فإن الآية إنما تنفي أصالته (صلى الله عليه وآله وسلم) في الهداية و استقلاله فيها من غير أن تنفي عنه مطلق الهداية حتى ما يكون على نحو الوساطة و بإذن من الله، و الدليل عليه قوله تعالى: «و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم»: الشورى: 52، و لذلك قيد سبحانه قوله «لتخرج» بقوله «بإذن ربهم».
و المراد بالظلمات و النور و الضلال و الهدى و قد تكرر في كلامه تعالى اعتبار الهدى نورا و عد الضلال ظلمة و جمع الظلمات دون النور لأن الهدى من الحق و الحق واحد لا تغاير بين أجزائه و مصاديقه و لا كثرة بخلاف الضلال فإنه من اتباع الهوى و الأهواء مختلفة متغاير بعضها مع بعض لا وحدة بينها و لا اتحاد لأبعاضها و مصاديقها قال تعالى: «و إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»: الأنعام: 153.
و اللام في قوله: «لتخرج الناس» إلخ، لام الغرض بناء على عموم الناس كما هو ظاهر الآية، و ليس بلام المعاقبة إذ لو كان كذلك لكان الناس كلهم مؤمنين، و المعلوم خلافه.
و أما ما اعترض عليه بعضهم أن التربية الإلهية بإخراج الناس من الظلمات إلى النور و إيصالهم إلى السعادة و الكمال مشروطة بالتهيؤ و الاستعداد مع كون الفيض عاما فالمقدار الممكن من هذه العاقبة على تقدير عمومه هو هذا المقدار.
ففيه أنه اعتراف بأن كون اللام للعاقبة خلاف ظاهر الآية، فإن الذي ذكره لا يتم إلا بتقييد «الناس» بالمستعدين، لكن الذي يجب أن يعلم أن هذا الغرض غرض تشريعي معناه أن للحكم غاية مقصودة و هي المصلحة التي يستعقبها، فإن الله سبحانه يدعو الناس ليغفر لهم و يهديهم إلى الإيمان و العمل الصالح ليسعدهم بذلك و يدخلهم الجنة، و يرسل الرسل و ينزل عليهم الكتاب ليخرجوا الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، و يريد بما يوجهه إليهم من الأمر و النهي أن يطهرهم و يذهب عنهم رجز الشيطان، و الآيات الدالة على ذلك كثيرة لا موجب لإيرادها و كذا الروايات و لعلها تزهو الألوف.
و قد قال سبحانه: «إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون»: الزخرف: - 3 و قال: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء»: الآية: - 4 من السورة، فبين أن ما نعقله من كتابه و يظهر لنا من بيان رسوله حجة لا مناص عنه، و نحن لا نعقل من قوله مثلا: «يدعوكم ليغفر لكم»: إبراهيم: - 10، إلا أن المغفرة غرض الدعوة كما لا نعقل من قول السيد لعبده أو أي متبوع لتابعه: ايتني بماء لأشربه أو بغذاء لآكله أو اكس فلانا ليستر به عورته إلا أن الشرب و الأكل و ستر العورة أغراض لأوامرها، فلله سبحانه فيما ينزله من الأحكام و الشرائع أغراض و غايات مقصودة.
نعم بين سبحانه أن ساحته منزهة عن الفقر و الحاجة مبرأة عن النقص و الشين إذ قال: «إن الله لغني عن العالمين»: العنكبوت: 6، و قال: «و ربك الغني ذو الرحمة»: الأنعام: 133، و قال: «يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله و الله هو الغني»: فاطر: 15، فأفاد أنه في غنى عن كل شيء لا ينتفع بشيء من هذه الأغراض و ليست أفعاله تعالى بالعبث و الجزاف حتى تخلو عن الغرض، كيف؟ و قد وصف نفسه بالحكمة و الحكيم لا يعبث و لا يجازف، و نص على انتفاء العبث من فعله: «أ فحسبتم أنما خلقناكم عبثا»: المؤمنون: 115، و الأمر و النهي اللذان يتم بهما الكمال في العالم الإنساني يعودان بالآخرة إلى ما يتم به الخلقة.
فلله سبحانه في خلقه و أمره أغراض، و إن كان لا يستكمل بأغراض أفعاله كما نستكمل نحن بأغراض أفعالنا لكنه سبحانه لا يتأثر عن أغراضه و بعبارة أخرى الحكم و المصالح لا تؤثر فيه تعالى كما أن مصلحة الفعل تؤثر فينا فيبعثنا تعقلها نحو الفعل و نرجح الفعل على الترك، فإنه سبحانه هو القاهر غير المقهور و الغالب غير المغلوب، يملك كل شيء و لا يملكه شيء، و يحكم على كل شيء و لا يحكم عليه شيء، و لم يكن له شريك في الملك و لا ولي من الذل، فلا يكون تعالى محكوما بعقل بل هو الذي يهدي العقل إلى ما يعقله، و لا تضطره مصلحة إلى فعل و لا مفسدة إلى ترك بل هو الهادي لهما إلى ما توجبانه.
فالغرض و المصلحة منتزعة من مقام فعله بمعنى أن فعله يتوقف على المصلحة لكنها لا تحكم في ذاته تعالى و لا تضطره إلى الفعل، فكما أنه تعالى إذا خلق شيئا و قال له: كن فكان كزيد مثلا انتزع العقل من العين الخارجية نفسها أنها إيجاد من الله تعالى و وجود لزيد و حكم بأن وجوده يتوقف على إيجاده، كذلك ينتزع العقل من فعله تعالى بالنظر إلى ما أشرنا إليه من صفاته العليا أنه فعله و أنه ذو مصلحة مقصودة ثم يحكم بأن تحقق الفعل يتوقف على كونه ذا مصلحة.
فهذا هو الذي يعطيه التدبر في كلامه تعالى في كون أفعاله تعالى مشتملة على الحكم و المصالح متوقفة على الأغراض و المتحصل من ذلك أن له تعالى في أفعاله أغراضا لكنها راجعة إلى خلقه دونه.
و ملخصه أن غرضه في فعله يفارق أغراضنا في أفعالنا من وجهين: أحدهما أنه تعالى لا يستكمل بأغراض أفعاله و غاياتها بخلافنا معاشر ذوي الشعور و الإرادة من الإنسان و سائر الحيوان، و ثانيهما أن المصلحة و المفسدة لا تحكمان فيه تعالى بخلاف غيره.
و أما النزاع المعروف بين الأشاعرة و المعتزلة في أن أفعال الله معللة بالأغراض أم لا؟ بمعنى أنه تعالى هل هو محكوم بالمصلحة الواقعية في فعله بحيث إن المصلحة ترجح له الفعل على الترك و لولاها لم يكن له ليفعل؟ أو أنه لا غاية له في فعله و إنما يفعل بإرادة جزافية من غير غرض؟.
فذلك مما لا يهدي إلى شيء من طرفيه النظر المستوفى و الحق خلاف القولين جميعا، و هو أمر بين الأمرين كما أشرنا إليه و لعلنا نوفق فيما سيأتي من الكتاب لعقد بحث مستقل في المسألة نستوفي فيه النظر العقلي و النقلي فيها إن شاء الله تعالى.
و في قوله: «بإذن ربهم» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و النكتة فيه التخلص إلى ذكر صفة الربوبية و تسجيل أنه تعالى هو رب هؤلاء المشركين الذين اتخذوا له أندادا فإن وجه الكلام في الحقيقة إليهم و إن كان المخاطب به هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) دونهم و لتكون هذه التسمية و هي في مفتتح الكلام مبدأ لما سيذكر في السورة من الحجة على توحيد الربوبية.
قوله تعالى: «إلى صراط العزيز الحميد الله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض» العزة تقابل الذلة، قال الراغب: العزة حالة مانعة للإنسان من أن يغلب من قولهم: أرض عزاز أي صلبة، قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا» و تعزز اللحم اشتد و عز كأنه حصل في عزاز يصعب الوصول إليه، انتهى موضع الحاجة.
فعزة العزيز هي كونه بحيث يصعب نيله و الوصول إليه و منه عزيز القوم و هو الذي يقهر و لا يقهر لأنه ذو مقام لا يصل إليه من قصده دون أن يمنع قبل الوصول إليه و يقهر، و منه العزيز لما قل وجوده لصعوبة نيله، و منه العزيز بمعنى الشاق لأن الذي يشق على الإنسان يصعب حصوله، قال تعالى: «عزيز عليه ما عنتم»،: التوبة: 128، و منه قوله: «و عزني في الخطاب»،: (صلى الله عليه وآله وسلم): 23، أي غلبني على ما فسر به.
و الله سبحانه عزيز لأنه الذات الذي لا يقهره شيء من جهة و هو يقهر كل شيء من كل جهة و لذلك انحصرت العزة فيه تعالى فلا توجد عند غيره إلا باكتساب منه و بإذنه قال تعالى: «أ يبتغون عندهم العزة فإن العزة لله جميعا»: النساء: 139، و قال «من كان يريد العزة فلله العزة جميعا»: فاطر: 10.
و الحميد فعيل بمعنى المفعول من الحمد و هو الثناء على الجميل الاختياري، و إذ كان كل جمال ينتهي إليه سبحانه كان جميع الحمد له كما قال: «الحمد لله رب العالمين»: سورة الحمد: 2 و من غريب القول ما عن الإمام الرازي على ما سننقله: أن الحميد معناه العالم الغني.
و قوله: «إلى صراط العزيز الحميد» بدل من قوله: «إلى النور» يبين به ما يوصل إليه الكتاب الذي أنزله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بيانا بعد بيان فنبه أولا بأنه نور يميز الحق من الباطل و الخير من الشر و السعادة من الشقاوة، و ثانيا بأنه طريق واضح يجمع سالكيه في متنه و ينتهي بهم جميعا إلى الله العزيز الحميد.
و الوجه في ذكر الصفتين الكريمتين: «العزيز الحميد» أنهما مبدءان لما سيورد في السورة من الكلام الموجه إليهم فإن عمدة الكلام في السورة هي تذكيرهم أن الله أنعم عليهم بربوبيته كل نعمة عظيمة، ثم عزم عليهم من طريق رسله أن يشكروه و لا يكفروه و وعد رسله أنهم إن آمنوا أدخلهم الجنة، و إن كفروا انتقم منهم و أوردهم مورد الشقاء و العذاب، فليخافوا ربهم و ليحذروا مخالفة أمره و كفران نعمته لأن له كل العزة لا نمنع عن حلول سخطه بهم و نزول عذابه عليهم شيء، حميد لا يذم في إثابته المؤمنين، و لا في تعذيب الكافرين، كما لا يذم فيما بسط عليهم من نعمه التي لا تحصى.
فجل الكلام في هذه السورة فيما يقتضيه الصفات الثلاث: توحده تعالى بالربوبية و عزته و كونه حميدا في أفعاله فليخف من عزته المطلقة، و ليشكر و ليوثق بما وعد و ليتذكر من آيات ربوبيته.
و في روح المعاني عن أبي حيان: النكتة في ذلك أنه لما ذكر قبل إنزاله تعالى لهذا الكتاب و إخراج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، ناسب ذكر هاتين الصفتين صفة العزة المتضمنة للقدرة و الغلبة لإنزاله مثل هذا الكتاب المعجز الذي لا يقدر عليه سواه، و صفة الحمد لإنعامه بأعظم النعم لإخراج الناس من الظلمات إلى النور.
قال: و وجه التقديم و التأخير على هذا ظاهر انتهى.
و هو أجنبي عن سياق آيات السورة البتة و لعله مأخوذ من قوله تعالى في وصف القرآن: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: حم السجدة: 42، لكن المقام غير المقام.
و عن الإمام في تفسيره: إنما قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد لأن الصحيح أن أول العلم بالله تعالى العلم بكونه قادرا ثم بعد ذلك العلم بكونه عالما ثم بعد ذلك العلم بكونه غنيا عن الحاجات و العزيز هو القادر، و الحميد هو العالم الغني فلما كان العلم بكونه قادرا متقدما على العلم بكونه عالما بالكل غنيا عنه لا جرم قدم ذكر العزيز على ذكر الحميد.
انتهى، و هو مجازفة عجيبة.
و قريب منه في المجازفة قول بعضهم: قدم العزيز على الحميد اعتناء بأمر الصفات السلبية كما يؤذن به قولهم: التخلية أولى من التحلية فإن العزة - كما تقدم - من الصفات السلبية بخلاف الحمد.
و ربما قيل في وجه تخصيص الوصفين بالذكر أنه للترغيب في سلوك هذا الصراط لأنه صراط العزيز الحميد فيعز سالكه و يحمد سابله، انتهى.
و هو وجه الأحرى به أن يجعل من الفوائد المتفرعة دون السبب الموجب، و الوجه ما قدمناه.
و أما قوله «الله الذي له ما في السماوات و ما في الأرض» فبيان للعزيز الحميد، و المراد بما في السماوات و الأرض كل ما في الكون فيشمل نفس السماوات و الأرض كما يشمل ما فيهما، فهو تعالى يملك كل شيء من كل جهة بحقيقة معنى الملك.
و فيه إشارة إلى الحجة في كونه تعالى عزيزا حميدا، فإنه تعالى و إن كان هو الذي يحق الحق بكلماته و هو الذي ينجح كل حجة في دلالتها، لكنه جارى عباده في كلامه على ما فطرهم عليه، و ذلك أنه تعالى لما ملك كل خلق و أمر بحقيقة معنى الملك فهو المالك لكل قهر و غلبة فلا قهر إلا منه و لا غلبة إلا له فهو تعالى عزيز و له أن يتصرف في ما يشاء بما يشاء و لا يكون تصرفه إلا محمودا غير مذموم لأن التصرف إنما يكون مذموما إذا كان المتصرف لا يملكه إما عقلا أو شرعا أو عرفا، و أي تصرف نسبه إليه تعالى عقل أو شرع أو عرف فإنه يملكه، فهو تعالى حميد محمود الأفعال.
قوله تعالى: «و ويل للكافرين من عذاب شديد» بيان لما تقتضيه صفة العزة من القهر لمن يرد دعوته و يكفر بنعمته.
قوله تعالى «الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة و يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» إلخ، قال الراغب في المفردات: و قوله عز و جل: «إن استحبوا الكفر على الإيمان» أي إن آثروه عليه، و حقيقة الاستحباب أن يتحرى الإنسان في الشيء أن يحبه، و اقتضى تعديته بعلى معنى الإيثار، و على هذا قوله تعالى: «و أما ثمود فهديناهم فاستحبوا العمى على الهدى»، انتهى.
و معنى استحباب الدنيا على الآخرة اختيار الدنيا و ترك الآخرة رأسا، و يقابله اختيار الآخرة على الدنيا بمعنى أخذ الآخرة غاية للسعي و جعل الدنيا مقدمة لها يتوسل بها إليها، و أما اختيار الآخرة و ترك الدنيا من أصلها فإنه مضاف إلى عدم إمكانه بحقيقة معنى الكلمة يوجب اختلال أمر الآخرة، و ينجر إلى تركها بالآخرة، فالحياة الدنيا حياة منقطعة و الحياة الآخرة حياة دائمة يتوسل إلى سعادتها من طريق الدنيا بالاكتساب، فمن اختار الآخرة و أثبتها لزمه إثبات الدنيا لمكان مقدميتها، و من اختار الدنيا و جعلها غاية لزمه نفي الآخرة من أصلها لأنها لو ثبتت ثبتت غاية و إذ لم يجعل غاية انتفت، فليس بين يدي الإنسان إلا خصلتان: اختيار الآخرة على الدنيا بجعل الآخرة غاية و إثبات الدنيا معها للمقدمية، و اختيار الدنيا على الآخرة بجعل الدنيا غاية و نفي الآخرة من أصلها.
و إيضاح المقام أن الإنسان لا بغية له إلا سعادة حياته و حبه لها فطري، و قد أوضحنا ذلك في مواضع متفرقة فيما تقدم، و الذي يثبته كتاب الله من أمر الحياة أنها دائمة غير منقطعة بالموت فلا محالة تنقسم بالنظر إلى تخلل الموت إلى حياتين: الحياة الدنيا المؤجلة بالموت و الحياة الآخرة بعد الموت، و هي تتفرع في سعادتها و شقائها على الحياة الدنيا و ما يكتسبه الإنسان في الدنيا من ناحية الأعمال الحيوية من حسنة أو سيئة، و لا مفر للإنسان من هذه الأعمال لما عنده من حب الحياة الفطري.
و هذه الأعمال أعني السنة التي يستن بها الإنسان في حياته الدنيا الكاسبة له التقوى أو الفجور و الحسنة أو السيئة هي التي تسمى في كتاب الله دينا و سبيلا، فلا مفر للإنسان من سنة حسنة أو سيئة و دين حق أو باطل.
و لما كان من سنة الله سبحانه الجارية أن يهدي كل نوع من الأنواع إلى سعادته و كماله و من كمال الإنسان و سعادته أن يعيش عيشة اجتماعية و يستن بسنة حيوية، شرع الله سبحانه له دينا مبنيا على فطرته التي فطر عليها و هو سبيل الله الذي يسلكه و دينه الذي يتدين به، فإن جرى على ما شرعته له الربوبية و هدته إليه الفطرة فقد سلك سبيل الله و ابتغاه مستقيما، و إن اتبع الهوى و صد نفسه عن سبيل الله و اشتغل بما يزينه له الشيطان فقد ابتغى سبيل الله عوجا منحرفا.
أما أنه يبتغي سبيل الله فإن الله هو الذي فطره على طلب السبيل و ابتغاء الصراط و لا يهدي البتة إلا إلى ما يرتضيه و هو سبيل نفسه، و أما أنه منحرف ذو عوج فلأنه لا يهدي إلى الحق و ما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الآيات القرآنية الدالة على هذا الذي قدمناه متكاثرة لا حاجة إلى إيرادها.
إذا عرفت هذا لاح لك أن قوله في تفسير الكافرين: «الذين يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة» مفاده أنهم يتعلقون تمام التعلق بالحياة الدنيا و يعرضون عن الآخرة بنفيها، و هو الكفر بالمعاد المستلزم للكفر بالتوحيد و النبوة.
و قوله: «و يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا» مفاده أنهم يكفون أنفسهم عن الاستنان بسنة الله و التدين بدينه أو يصدون و يصرفون الناس عن الإيمان بالله و اليوم الآخر و التشرع بشريعته عنادا منهم للحق، و يطلبون سنة الله عوجا و منحرفة بالاستنان بغيرها من سنة اجتماعية أيا ما كانت ثم سجل عليهم الضلال بقوله سبحانه: و يظهر بما تقدم فساد قول بعضهم إن المراد بقوله: «يبغونها عوجا» يبغون لها عوجا أي يطلبون لها زيغا و اعوجاجا حتى يعيبوها به و يصدوا الناس عنها بسببه.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون أن يروا فيها عوجا يكون قادحا فيقدحوا فيها به.
و قول بعضهم: المعنى يطلبون لأهلها أن يعوجوا و ينحرفوا بالرد فهو المراد بطلبهم الدين منحرفا، و انحرافه فساد ما عند المؤمنين من معارفه و فساد هذه الأقوال ظاهر.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» إلى آخر الآية.
اللسان هو اللغة، قال تعالى: «بلسان عربي مبين»: الشعراء: 195.
و الضمير في «قومه» عائد إلى «رسول» و في «لهم» إلى «قومه» و المحصل ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قوم ذلك الرسول ليبين لقومه، و من الخطإ إرجاع ضمير قومه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليفيد أن الله سبحانه كان يوحي إلى جميع الرسل بالعربية لفساد المعنى بذلك لرجوع ضمير «لهم» إلى «قومه» فيفيد أن الله أنزل التوراة لموسى مثلا بالعربية ليبين للعرب كما في الكشاف.
و المراد بإرسال الرسول بلسان قومه إرساله بلسان القوم الذين كان يعيش فيهم و يخالطهم و يعاشرهم و ليس المراد به الإرسال بلسان القوم الذين هو منهم نسبا لأنه سبحانه يصرح بمهاجرة لوط (عليه السلام) من كلدة و هم سريانية اللسان إلى المؤتفكات، و هم عبرانيون و سماهم قومه و أرسله إليهم ثم أنجاه و أهله إلا امرأته و هي منهم و أهلكهم قال تعالى: «فآمن له لوط و قال إني مهاجر إلى ربي»: العنكبوت: 26 و في مواضع من كلامه تعالى «قوم لوط».
و أما من أرسل إلى أزيد من أمة و هم أولوا العزم من الرسل فمن الدليل على أنهم كانوا يدعون أقواما من غير أهل لسانهم ما حكاه الله من دعوة إبراهيم (عليه السلام) عرب الحجاز إلى الحج، و دعوة موسى (عليه السلام) فرعون و قومه إلى الإيمان و عموم دعوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد اشتمل القرآن على دعوة اليهود و النصارى و غيرهم و قبول إيمان من آمن منهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كذا ما يستفاد من عموم دعوة نوح (عليه السلام).
و على هذا فالمراد بقوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» و - الله أعلم - أن الله لم يبن إرسال الرسل و الدعوة الدينية على أساس معجز خارق للعادة الجارية و لا فوض إلى رسله من الأمر شيئا بل أرسلهم باللسان العادي الذي كانوا يكالمون قومهم و يحاورونهم به ليبينوا لهم مقاصد الوحي فليس لهم إلا البيان، و أما ما وراء ذلك من الهداية و الإضلال فإلى الله سبحانه لا يشاركه في ذلك رسول و لا غيره.
فتعود الآية كالبيان و الإيضاح لقوله تعالى قبل: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم» و إن معنى إخراجك الناس من الظلمات إلى النور أن تبين لهم ما أنزل الله لا أزيد من ذلك فيكون في معنى قوله: «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»: النحل: 44.
و أما قوله: «فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء» فإشارة إلى ما أومأنا إليه أن أمر الهدى و الضلال إلى الله لا يتحقق شيء منهما إلا عن مشية منه تعالى غير أنه سبحانه أخبرنا أن هذه المشية منه ليست جزافية غير منتظمة بل لها نظم ثابت فمن اتبع الحق و لم يعانده هداه الله، و من جاحده و اتبع هواه أضله الله فهو إضلال مجازاة غير الإضلال الابتدائي المذموم.
و قد قدم سبحانه الإضلال على الهداية إذ قال: «فيضل الله من يشاء و يهدي من يشاء» لأن ذلك أحوج إلى البيان بالنظر إلى أن الكلام مبني على عزته المطلقة فكان من الواجب أن يبين أن ضلال من يضل عن السبيل كهدى من اهتدى إليها إنما هو بمشية منه تعالى و لم يغلب في إرادته و لم يزاحم في ملكه حتى لا يخيل إلى كل مغفل من الناس أن الله يصف نفسه بالعزة المطلقة و أنه غالب غير مغلوب و قاهر غير مقهور ثم يدعو الناس فلا يستجيبون دعوته و يأمرهم و ينهاهم فيعصون و لا يطيعون و هل هذا إلا غلبة منهم و قهر و هو مغلوب مقهور؟.
فكأنه تعالى أجاب عن ذلك بأن معنى دعوته تعالى أن يرسل رسولا بلسان قومه فيبين لهم ما يسعدهم مما يشقيهم و أما ضلال من ضل من الناس كهدى من اهتدى منهم فبمشية من الله و إذنه، و حاشاه أن يقهر في سلطانه أو يتصرف في ملكه أحد بغير إذنه.
فضلال من ضل منهم دليل عزته فضلا أن يكون ناقضا لها كما أن هدى من اهتدى كذلك، و لذلك ذيل الكلام بقوله: «و هو العزيز الحكيم» فهو سبحانه عزيز لا يغلبه و لا يضره ضلال من ضل منهم، و لا ينفعه هدى من اهتدى حكيم لا يشاء ما شاء جزافا و عبثا بل عن نظام متقن دائمي.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور» إلى آخر الآية، إذ كان الكلام في السورة مبنيا على الإنذار و التذكير بعزة الله سبحانه ناسب أن يذكر إرسال موسى بالآيات لهداية قومه فإن قصة رسالته من أوضح مصاديق ظهور العزة الإلهية من بين الرسل و قد قال تعالى فيه: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا و سلطان مبين»: المؤمن: 23، و قال حاكيا عنه (عليه السلام): «و أن لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين»: الدخان: 19.
فوزان الآية أعني قوله: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور»، من قوله: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم» وزان التنظير بداعي التأييد و تطييب النفس كما في قوله: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده»: النساء، 16.
و أما ما ذكر بعضهم أن الآية شروع في تفصيل ما أجمل في قوله: «و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم» فبعيد كل البعد.
و نظيره في البعد قول بعضهم: إن المراد بالآيات التي أرسل بها موسى آيات التوراة دون المعجزات التي أرسل (عليه السلام) بها كالثعبان و اليد البيضاء و غيرهما.
على أن الله سبحانه و تعالى لم يعد في كلامه التوراة من آيات رسالة موسى و لا ذكر أنه أرسله بها قط و إنما ذكر أنه أنزلها عليه و آتاه إياها.
و لم يقيد قوله: «أن أخرج قومك» - إلخ - بالإذن كما قيد به قوله للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «لتخرج الناس» إلخ لأن قوله هاهنا: «أخرج قومك» أمر يتضمن معنى الإذن بخلاف قوله هناك: «لتخرج الناس».
و قوله: «و ذكرهم بأيام الله» لا شك أن المراد بها أيام خاصة، و نسبة أيام خاصة إلى الله سبحانه مع كون جميع الأيام و كل الأشياء له تعالى ليست إلا لظهور أمره تعالى فيها ظهورا لا يبقى معه لغيره ظهور، فهي الأزمنة و الظروف التي ظهرت أو سيظهر فيها أمره تعالى و آيات وحدانيته و سلطنته كيوم الموت الذي يظهر فيه سلطان الآخرة و تسقط فيه الأسباب الدنيوية عن التأثير، و يوم القيامة الذي لا يملك فيه نفس لنفس شيئا و الأمر يومئذ لله، و كالأيام التي أهلك الله فيها قوم نوح و عاد و ثمود فإن هذه و أمثالها أيام ظهر فيها الغلبة و القهر الإلهيان و أن العزة لله جميعا.
و يمكن أن يكون منها أيام ظهرت فيها النعم الإلهية ظهورا ليس فيه لغيره تعالى صنع كيوم خروج نوح (عليه السلام) و أصحابه من السفينة بسلام من الله و بركات و يوم إنجاء إبراهيم من النار و غيرهما فإنها أيضا كسوابقها لا نسبة لها في الحقيقة إلى غيره تعالى فهي أيام الله منسوبة إليه كما ينسب الأيام إلى الأمم و الأقوام و منه أيام العرب كيوم ذي قار و يوم فجار و يوم بغاث و غير ذلك.
و تخصيص بعضهم الأيام بنعماء الله سبحانه بالنظر إلى ما سيأتي من ذكر نعمه تعالى كتخصيص آخرين لها بنقماته تعالى خال عن الوجه بعد ما كان الكلام جاريا في السورة على ما تقتضيه عزته تعالى، و من مقتضى صفة عزته الإنعام على العباد و الأخذ الشديد إن كفروا بنعمته.
ثم تمم الكلام بقوله: «إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور» أي كثير الصبر عند الضراء و كثير الشكر على النعماء.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد عن أبي ذر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم يبعث الله نبيا إلا بلسان قومه و فيه، أخرج النسائي و عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في قوله: «و ذكرهم بأيام الله» قال: بنعم الله و آلائه.
أقول: و هو بيان بعض المصاديق، و روى ما في معناه الطبرسي و العياشي عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبد الله بن عباس و جابر بن عبد الله في حديث طويل عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أيام الله نعماؤه و بلاؤه و هو مثلاته سبحانه.
و في تفسير القمي، قال: قال أيام الله ثلاثة: يوم القائم و يوم الموت و يوم القيامة.
أقول: المراد بيان أيامه تعالى العظيمة لا حصر مطلق أيامه.
و في المعاني، بإسناده عن مثنى الحناط عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: أيام الله ثلاثة: يوم يقوم القائم و يوم الكرة و يوم القيامة.
أقول: و هي كسابقتها و اختلاف الروايات في تعداد المصاديق يؤيد ما قدمناه في بيان الآية.
|