بيان
تشتمل الآيات على تذكرة الناس في صورة خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مرة بعد مرة بقوله: «أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض بالحق» «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا» «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا».
يذكر تعالى بها أن الخلقة مبنية على الحق فهم سيبرزون جميعا فالذين ساروا بالحق و آمنوا بالحق و عملوا الحق ينالون السعادة و الجنة، و الذين اتبعوا الباطل و عبدوا الشيطان و أطاعوا الطغاة المستكبرين منهم غرورا بظاهر عزتهم و قدرتهم لزمهم شقاء لازم و تبرأ منهم متبوعوهم من الجن و الإنس و لله العزة و الحمد.
ثم يذكر أن هذا التقسم إلى فريقين إنما هو لانقسام سلوكهم إلى قسمين: سلوك هدى و سلوك ضلال، و الذي يلزمه الهدى هو المؤمن و الذي يلزمه الضلال هو الظالم و القاضي بذلك هو الله سبحانه يفعل ما يشاء و له العزة و الحمد.
ثم يذكر بالأمم الماضية الهالكة و ما وقعوا فيه من البوار بسبب كفرانهم بنعمة الله العزيز الحميد و يعاتب الإنسان بظلمه و كفره بالنعم الإلهية التي ملأت الوجود و إن تعدوها لا تحصوها.
قوله تعالى: «أ لم تر أن الله خلق السماوات و الأرض بالحق» المراد بالرؤية هو العلم القاطع، فإنه الصالح لأن يتعلق بكيفية خلق السماوات و الأرض دون الرؤية البصرية.
ثم الفعل الحق و يقابله الباطل هو الذي يكون لفاعله فيه غاية مطلوبة يسلك إليه بذاته فمن المشهود أن كل واحد من الأنواع من أول تكونه متوجه إلى غاية مؤجلة لا بغية له دون أن يصل إليها ثم البعض منها غاية للبعض ينتفع به في طريق كينونته و يصلح به في حدوثه و بقائه كالعناصر الأرضية التي ينتفع بها النبات، و النبات الذي ينتفع به الحيوان و هكذا قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق و لكن أكثرهم لا يعلمون»: الدخان: 39.
و قال: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا»: ص: 27.
فلا تزال الخلقة تقع مرحلة بعد مرحلة و تنال غاية بعد غاية حتى تتوقف في غاية لا غاية بعدها، و ذلك رجوعها إلى الله سبحانه، قال تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى»: النجم: 42.
و بالجملة الفعل إنما يكون فعلا حقا إذا كان له أمر يقصده الفاعل بفعله و غاية يسلك بالفعل إليها، و أما إذا كان فعلا لا يقصد به إلا نفسه من غير أن يكون هناك غرض مطلوب فهو الفعل الباطل، و إذا كان الفعل الباطل ذا نظام و ترتيب فهو الذي يسمى لعبا كما يلعب الصبيان بإتيان حركات منظمة مرتبة لا غاية لهم وراءها و لا أن لهم هما إلا إيجاد ما تخيلوه من صورة الفعل لشوق نفساني منهم إلى ذلك.
و فعله تعالى ملازم للحق مصاحب له فخلق السماوات و الأرض يخلف عالما باقيا بعد زواله، و لو لم يكن كذلك كان باطلا لا أثر له و لا خلف يخلفه، و كان العالم المشهود بما فيه من النظام البديع لعبا منه سبحانه اتخذه لحاجة منه إليه كالتنفس من كرب و سأمة و التفرج من هم أو التخلص من وحشة وحدة و نحو ذلك و هو سبحانه العزيز الحميد لا تمسه حاجة و لا يذله فقر و فاقة.
و بما مر يظهر أن الباء في قوله: «بالحق» للمصاحبة و أن قول بعضهم: إن الباء للسببية أو الآلة و إن المعنى كيف خلقها بقوله الحق أو للغرض الحق ليس على ما ينبغي.
قوله تعالى: «إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك على الله بعزيز» أي بشاق صعب و الخطاب لعامة البشر بجعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مثالا لهم يمثلون به لأن الخطاب متوجه إليه في قوله قبل و بعد: «أ لم تر» «و ما ذلك».
قد تقدم أن كون الخلقة بالحق هو مقتضى كونه تعالى عزيزا غنيا بالذات إذ لو لم يقتض غناه ذلك و أمكن صدور اللعب منه تعالى و كان هذا الخلق المشهود بما له من النظام البديع لعبا لا يقصد به إلا حدوث و فناء كان ذلك لشوق خيالي منه إليه و حاجة داخلية كتنفيس كرب و تفريج هم أو أنس عن وحشة و سأمة و نحو ذلك و غناه تعالى بالذات يدفع ذلك.
و لعل هذه النكتة هي التي أوجبت تعقيب قوله: «إن الله خلق السماوات و الأرض» بقوله: «إن يشأ يذهبكم» إلخ فقوله: «إن يشأ يذهبكم» إلخ، في موضع البيان لما تقدمه و المعنى أ لم تعلم أن الله خلق هذا الخلق المشهود عن عزة منه و غنى و أنه إن يشأ يذهبكم و يأت بخلق جديد و ما ذلك عليه تعالى بعزيز و هو الله عز اسمه له الأسماء الحسنى و كل العزة و الكبرياء.
و بهذا يظهر أن وضع الظاهر في موضع المضمر في قوله: «على الله» للدلالة على الحجة و أن عدم عزة ذلك عليه تعالى من جهة كونه هو الله عز اسمه.
فإن قلت: لو كان الإتيان بقوله: «إن يشأ» إلخ، للدلالة على غناه المطلق و عدم كونه لاعبا بالخلق لكان الأنسب الاقتصار على قوله: «إن يشأ يذهبكم» و ترك قوله: «و يأت بخلق جديد» فإن إذهاب القديم و الإتيان بجديد لا ينفي اللعب لجواز أن يكون نفس إذهاب بعض و إتيان بعض لعبا.
قلت: هذا كذلك لو قيل: إن يشأ يذهب جميع الخلق و يأت بخلق جديد و لكن لما قيل: «إن يشأ يذهبكم» إلخ و الخطاب لعامة البشر أو لأمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط أو للموجودين في عصره كان من اللازم أن يعقبه بقوله: «و يأت بخلق جديد» فإن هذا الخلق المشهود بما بين أجزائه من الارتباط و التعلق لا يتم الغرض منه إلا بهذه الصفة الموجودة و التركب و التآلف الخاص، و لو أذهب الناس على بقاء من السماوات و الأرض بحالها الحاضرة كان ذلك باطلا و لعبا من جهة أخرى.
و بعبارة أخرى إذهاب الإنسان فقط من غير إتيان بخلق جديد على إبقاء لسائر الخلق المشهود لعب باطل كما أن إذهاب الخلق من أصله من غير غاية مترتبة لعب باطل، و إنما الحق الذي يكشف عن غناه تعالى أن يذهب قوما و يأتي بآخرين و هو الذي تذكره الآية الكريمة فافهم ذلك.
قوله تعالى: «و برزوا لله جميعا» إلى آخر الآية، البروز هو الخروج إلى البراز بفتح الباء و هو الفضاء يقال: برز إليه إذا خرج إليه بحيث لا يحجبه عنه حاجب، و منه المبارزة و البراز كخروج المقاتل من الصف إلى كفئه من العدو.
و التبع بفتحتين جمع تابع كخدم و خادم، و قيل: اسم جمع، و قيل: مصدر جيء به للمبالغة، و الإغناء الإفادة و ضمن معنى الدفع و لذا عدي بعن كما قيل، و الجزع و الصبر متقابلان، و المحيص اسم مكان من حاص يحيص حيصا و حيوصا إذا زال عن المكروه كما في المجمع فالمحيص هو المكان الذي يزول إليه الإنسان عن المكروه و الشدة.
و قوله: «و برزوا لله جميعا» أي ظهروا له تعالى ظهورا لا يحجبهم عنه حاجب و هذا بالنسبة إلى أنفسهم حيث كانوا يتوهمون في الدنيا أن ربهم في غيبة عنهم و هم غائبون عنه، فإذا كان يوم القيامة زال كل ستر متوهم و شاهدوا أن لا حاجب هناك يحجبهم عنه، و أما هو تعالى فلا ساتر يستر عنه في دنيا و لا آخرة، قال تعالى: «إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء»: آل عمران: 5.
و يمكن أن تكون الجملة كناية عن خلوصهم لحساب الأعمال و تعلق المشيئة الإلهية بانقطاع الأعمال و إنجاز الجزاء الموعود كما قال: «سنفرغ لكم أيها الثقلان»: الرحمن: 31.
و قوله: «فقال الضعفاء للذين استكبروا - إلى قوله - من شيء» تخاصم بين الكفار يوم القيامة - على ما يعطيه السياق - فالضعفاء هم المقلدون المطيعون لأوليائهم من الكفار، و المستكبرون هم أولياؤهم المتبوعون أولوا الطول و القوة المستنكفون عن الإيمان بالله و آياته.
و المعنى فقال الضعفاء المقلدون للذين استكبروا منهم إنا كنا في الدنيا لكم تابعين مطيعين من غير أن نسألكم حجة على ما تأمروننا به فهل أنتم مفيدون لنا اليوم تدفعون عنا شيئا من عذاب الله الذي قضي علينا.
و على هذا فلفظة «من» في قوله «من عذاب الله» للبيان، و في قوله «من شيء» زائدة للتأكيد كما في قولنا: ما جاءني من أحد، و النفي و الاستفهام متقاربان حكما و لا دليل على امتناع تقدم البيان على المبين و خاصة مع اتصالهما و عدم الفصل بينهما.
و قوله: «قالوا لو هدانا الله لهديناكم» ظاهر السياق أن المراد بالهداية هنا الهداية إلى طريق التخلص من العذاب و يمكن أن يكون المراد بها الهداية إلى الدين الحق في الدنيا، و المآل واحد لما بين الدنيا و الآخرة من التطابق، و لا يبرز في الأخرى إلا ما كان كامنا في الأولى، قال تعالى حكاية عن أهل الجنة: «و قالوا الحمد لله الذي هدانا لهذا و ما كنا لنهتدي لو لا أن هدانا الله لقد جاءت رسل ربنا بالحق»: الأعراف: 43 مزجوا الهدايتين بعضا ببعض كما هو ظاهر.
و قوله: «سواء علينا أ جزعنا أم صبرنا ما لنا من محيص» سواء و الاستواء و التساوي واحد، و سواء خبر لمبتدإ محذوف و الجملة الاستفهامية بيان لذلك، و قوله: «ما لنا من محيص» بيان آخر للتساوي، و المعنى الأمران متساويان علينا و بالنسبة إلينا و هما الجزع و الصبر لا مهرب لنا عن العذاب اللازم.
قوله تعالى: «و قال الشيطان لما قضي الأمر» إلى آخر الآية في المجمع الإصراخ الإغاثة بإجابة الصارخ و يقال: استصرخني فلان فأصرخته أي استغاث بي فأغثته.
انتهى.
و هذا كلام جامع يلقيه الشيطان يوم القيامة إلى الظالمين يبين فيه موقعه منهم و ينبىء أهل الجمع منهم بوجه الحق في الرابطة التي كانت بينه و بينهم في الدنيا و قد وعد الله سبحانه أنه سينبؤهم يوم القيامة بما كانوا فيه يختلفون، و أن الحق سيظهر يوم القيامة عن قبل كل من كان له من قبله خفاء أو التباس، فالملائكة يتبرءون من شركهم و الجن و القرناء من الشياطين يطردونهم و الأصنام و الآلهة التي اتخذوها أربابا من دون الله يكفرون بشركهم، و كبراؤهم و أئمة الضلال لا يستجيبون لهم، و المجرمون أنفسهم يعترفون بضلالهم و جرمهم، كل ذلك واقعة في آيات كثيرة غير خفية على المتتبع المتدبر فيها.
و الشيطان و إن كان بمعنى الشرير و ربما أطلق في كلامه تعالى على كل شرير من الجن و الإنس كقوله: «و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن»: الأنعام: 112، لكن المراد به في الآية الشيطان الذي هو مصدر كل غواية و ضلال في بني آدم و هو إبليس فإن ظاهر السياق أنه يخاطب بكلامه هذا عامة الظالمين من أهل الجمع و يعترف أنه كان يدعوهم إلى الشرك، و قد نص القرآن على أن الذي له هذا الشأن هو إبليس و قد ادعى هو ذلك و لم يرد الله ذلك عليه كما في قوله: «قال فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين - إلى أن قال - لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85.
و أما ذريته و قبيله الذين يذكرهم القرآن بقوله: «إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون»: الأعراف: 27، و قوله: «أ فتتخذونه و ذريته أولياء»: الكهف: 50 فولاية الواحد منهم إما لبعض الناس دون بعض أو في بعض الأعمال دون بعض و أما ولاية على نحو العونية فهو العون، و الأصل الذي ينتهي إليه أمر الإضلال و الإغواء هو إبليس.
فهذا القائل: «إن الله وعدكم وعد الحق» إلخ هو إبليس يريد بكلامه رد اللوم على فعل المعاصي إليهم و التبري من شركهم فقوله: «إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم» أي وعدكم الله وعدا حققه الوقوع و صدقته المشاهدة من البعث و الجمع و الحساب و فصل القضاء و الجنة و النار، و وعدتكم أنا أن لا بعث و لا حساب و لا جنة و لا نار و لم أف بما وعدت حيث ظهر خلاف ما وعدت.
كذا ذكره المفسرون.
و على هذا فالموعود جميع ما يرجع إلى المعاد إثباتا و نفيا أثبته الله سبحانه و نفاه إبليس، و إخلاف الوعد كناية عن ظهور الكذب و عدم الوقوع من إطلاق الملزوم و إرادة اللازم.
و من الممكن - بل هو الوجه - أن يشمل الوعد ما يترتب على الإيمان و الشرك في الدنيا و الآخرة جميعا لأنهما متطابقتان فقد وعد الله أهل الإيمان حياة طيبة و عيشة سعيدة، و أهل الشرك المعرضين عن ذكره معيشة ضنكا و تحرجا في صدورهم و عذابا في قلوبهم في الدنيا، و وعد الجميع بعثا و حسابا و جنة و نارا في الآخرة.
و وعد إبليس أولياءه بالأهواء اللذيذة و الآمال الطويلة و أنساهم الموت و صرفهم عن البعث و الحساب و خوفهم الفقر و الذلة و ملامة الناس، و كان مفتاحه في جميع ذلك إغفالهم عن مقام ربهم و تزيين ما بين أيديهم من الأسباب مستقلة بالتأثير خالقة لآثارها و تصوير نفوسهم لهم في صورة الاستقلال مهيمنة على سائر الأسباب تدبرها كيف شاءت فتغريهم على الاعتماد بأنفسهم دون الله و تسخير الأسباب في سبيل الآمال و الأماني.
و بالجملة وعدهم الله فيما يرجع إلى الدنيا و الآخرة بما وفى لهم فيه، و دعاهم إبليس من طريق الإغفال و التزيين إلى الأوهام و الأماني و هي بين ما لا يناله الإنسان قطعا و ما إذا ناله وجده غير ما كان يظنه، فيتركه إلى ما يظنه كما يريد هذا في الدنيا و أما الآخرة فينسيه شئونها كما تقدم.
و قوله: «و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي» السلطان - كما ذكره الراغب - هو السلاطة و هو التمكن من القهر، و تسمى الحجة أيضا سلطانا لما فيها من التمكن من قهر العقول على ما لها من النتائج، و كثيرا ما يطلق و يراد به ذو السلطان كالملك و غيره.
و الظاهر أن المراد ما هو أعم من السلطة الصورية و المعنوية فالمعنى و ما كان في الدنيا لي عليكم من تسلط لا من جهة أشخاصكم و أعيانكم فأجبركم على معصية الله بسلب اختياركم و تحميل إرادتي عليكم، و لا من جهة عقولكم فأقيم لكم الحجة على الشرك كيفما شئت فتضطر عقولكم لقبوله و تطيعها نفوسكم فيما تأمرها به.
و الظاهر أيضا أن يكون الاستثناء في قوله: «إلا أن دعوتكم» منقطعا و المعنى لكن دعوتكم من غير أي سلطان فاستجبتم لي، و دعوته الناس إلى الشرك و المعصية و إن كانت بإذن الله لكنها لم تكن تسليطا فإن الدعوة إلى فعل ليست تسلطا من الداعي على فعل المدعو و إن كان نوع تسلط على نفس الدعوة، و من الدليل عليه قوله تعالى فيما يأذن له «و استفزز من استطعت منهم بصوتك - إلى أن قال - و عدهم و ما يعدهم الشيطان إلا غرورا إن عبادي ليس لك عليهم سلطان و كفى بربك وكيلا»: إسراء: 65.
و من هنا يظهر سقوط ما وجه به الرازي في تفسيره كون الاستثناء متصلا إذ قال: إن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر من الحامل و تارة تكون بتقوية الداعية في قلبه، و ذلك بإلقاء الوسواس إليه، و هذا نوع من أنواع التسلط فكأنه قال: ما كان لي تسلط عليكم إلا بالوسوسة لا بالضرب و نحوه.
وجه السقوط: أن عدم كون مجرد الدعوة سلطانا و تمكنا من القهر على المدعو بديهي لا يقبل التشكيك فعده من أنواع التسلط مما لا يصغى إليه.
نعم: ربما انبعثت من المدعو ميل نفساني إلى المدعو إليه فانقاد للدعوة و سلط الداعي بدعوته على نفسه، لكنه تسليط من المدعو لا تسلط من الداعي و بعبارة أخرى هي سلطة يملكها المدعو من نفسه فيملكها الداعي و ليس الداعي يملكها عليه من نفسه، و إبليس إنما ينفي التسلط الذي يملكه من نفسه لا ما يسلطونه على أنفسهم بالانقياد بقرينة قوله: «فلا تلوموني و لوموا أنفسكم».
و هذا هو التسلط الذي يثبته الله سبحانه له في قوله: «إنه ليس له سلطان على الذين آمنوا و على ربهم يتوكلون إنما سلطانه على الذين يتولونه و الذين هم به مشركون»: النحل: 100، أو قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين»: الحجر: 42، و الآيات - كما ترى - ظاهرة في أن سلطانه متفرع على الاتباع و التولي و الإشراك لا بالعكس.
و لانتفاء سلطانه عليهم بالمرة استنتج قوله بعد: «فلا تلوموني و لوموا أنفسكم» و الفاء للتفريع أي إذا لم يكن لي عليكم سلطان بوجه من الوجوه - كما يدل عليه وقوع النكرة في سياق النفي و التأكيد بمن في قوله: «و ما كان لي عليكم من سلطان» - فلا يعود إلى شيء من اللوم العائد إليكم من جهة الشرك و المعصية فلا يحق لكم أن تلوموني بل الواجب عليكم أن تلوموا أنفسكم لأن لكم السلطان على عملكم.
و قوله: «ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي» أي ما أنا بمغيثكم و منجيكم و ما أنتم بمغيثي و منجي فلا أنا شافع لكم و لا أنتم شافعون لي اليوم.
و قوله: «إني كفرت بما أشركتمون من قبل» أي إني تبرأت من إشراككم إياي في الدنيا، و المراد بالإشراك الإشراك في الطاعة دون الإشراك في العبادة كما يظهر من قوله تعالى خطابا لأهل الجمع: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين و أن اعبدوني»: يس: 61.
و هذا الكلام منه تبر من شركهم كما حكى سبحانه تبري كل متبوع باطل من تابعه يوم القيامة و هو إظهار أن إشراكهم إياه بالله في الدنيا لم يكن إلا وهما سرابيا قال تعالى: «و يوم القيامة يكفرون بشرككم»: فاطر: 14 و قال: «و قال الذين اتبعوا لو أن لنا كرة فنتبرأ منهم كما تبرءوا منا: البقرة: 167 و قال: «قال الذين حق عليهم القول ربنا هؤلاء الذين أغوينا أغويناهم كما غوينا تبرأنا إليك ما كانوا إيانا يعبدون و قيل ادعوا شركاءكم فدعوهم فلم يستجيبوا لهم»: القصص: 64.
و قوله: «إن الظالمين لهم عذاب أليم» من تمام كلام إبليس على ما يعطيه السياق يسجل عليهم العذاب الأليم لأنهم ظالمون ظلما لا يرجع إلا إلى أنفسهم.
و ظاهر السياق أن قوله: «ما أنا بمصرخكم و ما أنتم بمصرخي» كناية عن انتفاء الرابطة بينه و بين تابعيه كما يشير تعالى إليه في مواضع أخرى بمثل قوله: «لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام: 94 و قوله: «فزيلنا بينهم و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون»: يونس: 28.
و ذلك لظهور أنه لو لم يكن كناية لكان قوله: «و ما أنتم بمصرخي» مستدركا مستغنى عنه لعدم تعلق غرض به فلا هم يتوهمون أنهم قادرون على إغاثة إبليس و الشفاعة له و لا هو يتوهم ذلك و لا المقام يوهم ذلك فهو يقول: «لا تلوموني و لوموا أنفسكم» لأن الرابطة مقطوعة بيني و بينكم لا ينفعكم أني كنت متبوعكم و لا ينفعني أنكم كنتم أتباعي إني تبرأت من شرككم فلست بشريك له تعالى، و إنما تبرأت لأنكم ظالمون في أنفسكم و الظالمون لهم عذاب أليم لا مسوغ يومئذ للحماية عنهم و التقرب منهم.
و هذا السياق - كما ترى - يشهد أن تابعي إبليس يلومونه يوم القيامة على ما أصابهم من المصيبة على اتباعه متوقعين منه أن يشاركهم في مصابهم بنحو، و هو يرد عليهم ذلك بأنه لا رابط بينه و بينهم فلا يلحق لومهم إلا بأنفسهم و لا يسعه أن يماسهم و يقترب منهم لأنه يخاف العذاب الأليم الذي هيىء للظالمين و هم ظالمون، فهو قريب المعنى من قوله تعالى: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين»: الحشر: 16.
و لعله من هنا قال بعضهم إن المراد بقوله: «إني كفرت» إلخ... كفره في الدنيا على أن يكون «من قبل» متعلقا بقوله: «كفرت» فقط، أو به و بقوله: «أشركتمون» على سبيل التنازع.
و بالجملة المطلوب العمدة في الآية أن الإنسان هو المسئول عن عمله لأن السلطان له لا لغيره فلا يلومن إلا نفسه، و أما رابطة التابعية و المتبوعية فهي وهمية لا حقيقة لها و سيظهر هذه الحقيقة يوم القيامة عند ما يتبرأ منه الشيطان و يعيد لائمته إلى نفسه كما بين في الآية السابقة أن الرابطة بين الضعفاء و المستكبرين وهمية لا تغني عنهم شيئا عند ما تقع إليها الحاجة يوم القيامة حين انكشاف الحقائق.
و للمفسرين في فقرات الآية أقوال شتى مختلفة أغمضنا عن إيرادها، و من أراد الاطلاع عليها فليراجع مطولات التفاسير.
و في الآية دلالة واضحة على أن للإنسان سلطانا على عمله هو الذي يوجب ارتباط الجزاء به و يسلبه عن غيره، و هو الذي يعيد اللائمة إليه لا إلى غيره، و أما كونه مستقلا بهذا السلطان فلا دلالة فيها على ذلك البتة، و قد تكلمنا في ذلك في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26.
قوله تعالى: «و أدخل الذين آمنوا و عملوا الصالحات جنات» إلخ بيان ما ينتهي إليه حال السعداء من المؤمنين، و في قوله: «تحيتهم فيها سلام» مقابلة حالهم من انعكاس السلام و التحية المباركة من بعضهم إلى بعض مع حال غيرهم المذكورين في الآيتين السابقتين من الخصام و تجبيه بعضهم بعضا بالكفر و التبري و الإيئاس.
قوله تعالى: «أ لم تر كيف ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» ذكروا أن «كلمة» بدل اشتمال من «مثلا» و «كشجرة» صفة بعد صفة لقوله «كلمة» أو خبر مبتدإ محذوف و التقدير هي كشجرة، و قيل: إن «كلمة» مفعول أول متأخر لضرب و «مثلا» مفعوله الثاني قدم لدفع محذور الفصل بين «كلمة» و صفتها و هي «كشجرة» و التقدير ضرب الله كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ... مثلا.
و قيل: «ضرب» متعد لواحد و «كلمة» منصوب بفعل مقدر كجعل و اتخذ و التقدير ضرب الله مثلا جعل كلمة طيبة كشجرة طيبة إلخ، و أظن أن هذا أحسن الوجوه لو وجه بكون «كلمة طيبة» إلخ عطف بيان لقوله: «ضرب الله مثلا» من بيان الجملة للجملة، و يتعين حينئذ نصب «كلمة» بمقدر هو جعل أو اتخذ لأن المدلول أنه مثل الكلمة بالشجرة و شبهها بها و هو معنى قولنا: اتخذ كلمة طيبة كشجرة إلخ.
و قوله: «أصلها ثابت» أي مرتكز في الأرض ضارب بعروقه فيها، و قوله: «و فرعها في السماء» أي ما يتفرع على ذلك الأصل من أغصانها في جهة العلو فكل ما علا و أظل سماء، و قوله: «تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها» أي تثمر ثمرها المأكول كل زمان بإذن الله، و هذا نهاية ما تفيده شجرة من البركات.
و اختلفوا في الآية أولا في المراد من الكلمة الطيبة فقيل: هي شهادة أن لا إله إلا الله، و قيل: الإيمان، و قيل: القرآن، و قيل: مطلق التسبيح و التنزيه، و قيل: الثناء على الله مطلقا، و قيل: كل كلمة حسنة، و قيل: جميع الطاعات، و قيل: المؤمن.
و ثانيا في المراد من الشجرة الطيبة فقيل: النخلة و هو قول الأكثرين، و قيل: شجرة جوز الهند، و قيل: كل شجرة تثمر ثمرة طيبة كالتين و العنب و الرمان، و قيل: شجرة صفتها ما وصفه الله و إن لم تكن موجودة بالفعل.
ثم اختلفوا في المراد بالحين فقيل: شهران، و قيل: ستة أشهر، و قيل: سنة كاملة، و قيل: كل غداة و عشي، و قيل: جميع الأوقات.
و الاشتغال بأمثال هذه المشاجرات مما يصرف الإنسان عما يهمه من البحث عن معارف كتاب الله و الحصول على مقاصد الآيات الكريمة و أغراضها.
و الذي يعطيه التدبر في الآيات أن المراد بالكلمة الطيبة التي شبهت بشجرة طيبة من صفتها كذا و كذا هو الاعتقاد الحق الثابت فإنه تعالى يقول بعد و هو كالنتيجة المأخوذة من التمثيل: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة» الآية و القول هي الكلمة و لا كل كلمة بما هي لفظ بل بما هي معتمدة على اعتقاد و عزم يستقيم عليه الإنسان و لا يزيغ عنه عملا.
و قد تعرض تعالى لما يقرب من هذا المعنى في مواضع من كلامه كقوله: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون»: الأحقاف: 13، و قوله: «إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا تتنزل عليهم الملائكة ألا تخافوا و لا تحزنوا»: حم السجدة: 30، و قوله: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه: فاطر: 10.
و هذا القول و الكلمة الطيبة هو الذي يرتب تعالى عليه تثبيته في الدنيا و الآخرة أهله و هم الذين آمنوا ثم يقابله بإضلال الظالمين و يقابله بوجه آخر بشأن المشركين، و بهذا يظهر أن المراد بالممثل هو كلمة التوحيد و شهادة أن لا إله إلا الله حق شهادته.
فالقول بالوحدانية و الاستقامة عليه هو حق القول الذي له أصل ثابت محفوظ عن كل تغير و زوال و بطلان و هو الله عز اسمه أو أرض الحقائق، و له فروع نشأت و نمت من غير عائق يعوقه عن ذلك من عقائد حقة فرعية و أخلاق زاكية و أعمال صالحة يحيي بها المؤمن حياته الطيبة و يعمر بها العالم الإنساني حق عمارته و هي التي تلائم سير النظام الكوني الذي أدى إلى ظهور الإنسان بوجوده المفطور على الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و الكمل من المؤمنين و هم الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا فتحققوا بهذا القول الثابت و الكلمة الطيبة مثلهم كمثل قولهم الذي ثبتوا لا يزال الناس منتفعين بخيرات وجودهم و منعمين ببركاتهم.
و كذلك كل كلمة حقة و كل عمل صالح مثله هذا المثل، له أصل ثابت و فروع رشيدة و ثمرات طيبة مفيدة نافعة.
فالمثل المذكور في الآية يجري في الجميع كما يؤيده التعبير بكلمة طيبة بلفظ النكرة غير أن المراد في الآية على ما يعطيه السياق هو أصل التوحيد الذي يتفرع عليه سائر الاعتقادات الحقة، و ينمو عليه الأخلاق الزاكية و تنشأ منه الأعمال الصالحة.
ثم ختم الله سبحانه الآية بقوله: «و يضرب الله الأمثال للناس لعلهم يتذكرون» ليتذكر به المتذكر أن لا محيص لمريد السعادة عن التحقق بكلمة التوحيد و الاستقامة عليها.
قوله تعالى: «و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار» الاجتثاث الاقتلاع، يقال: جثته و اجتثته أي قلعته و اقتلعته، و الجث بالضم ما ارتفع من الأرض كالأكمة، و جثة الشيء شخصه الناتىء.
كذا في المفردات.
و الكلمة الخبيثة ما يقابل الكلمة الطيبة و لذا اختلفوا فيها فقال كل قوم فيها ما يقابل ما قاله في الكلمة الطيبة و كذا اختلفوا في المراد بالشجرة الخبيثة فقيل: هي الحنظلة، و قيل: الكشوث و هو نبت يلتف على الشوك و الشجر لا أصل له في الأرض و لا ورق عليه، و قيل: شجرة الثوم، و قيل: شجرة الشوك، و قيل: الطحلب، و قيل: الكمأة، و قيل: كل شجرة لا تطيب لها ثمرة.
و قد عرفت حال هذه الاختلافات في الآية السابقة، و عرفت أيضا ما يعطيه التدبر في معنى الكلمة الطيبة و ما مثلت به و يجري ما يقابله في الكلمة الخبيثة و ما مثلت به حرفا بحرف فإنما هي كلمة الشرك مثلت بشجرة خبيثة مفروضة اقتلعت من فوق الأرض ليس لها أصل ثابت و ما لها من قرار، و إذ كانت خبيثة فلا أثر لها إلا الضر و الشر.
قوله تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» إلى آخر الآية الظاهر أن «بالقول» متعلق بقوله: «يثبت» لا بقوله: «آمنوا»، و الباء للآلة أو السببية لا للتعدية، و أن قوله: «في الحياة الدنيا و في الآخرة» متعلق أيضا بقوله: «يثبت» لا بقوله: «الثابت».
فيعود المعنى إلى أن الذين آمنوا إذا ثبتوا على إيمانهم و استقاموا ثبتهم الله عليه في الدنيا و الآخرة، و لو لا تثبيته تعالى لهم لم ينفعهم الثبات من أنفسهم شيئا و لم يستفيدوا شيئا من فوائده فإليه تعالى يرجع الأمر كله، فقوله تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت»، في باب الهداية يوازن قوله: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف - 5، في باب الإضلال.
غير أن بين البابين فرقا و هو أن الهدى يبتدىء من الله سبحانه و يترتب عليه اهتداء العبد و الضلال يبتدىء من العبد بسوء اختياره فيجازيه الله بالضلال على الضلال، كما قال: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26 و قد تكاثرت الآيات القرآنية أن الهداية من الله سبحانه ليس لغيره فيها صنع.
و توضيح المقام أن الله سبحانه خلق الإنسان على فطرة سليمة ركز فيها معرفة ربوبيته و ألهمها فجورها و تقواها، و هذه هداية فطرية أولية ثم أيدها بالدعوة الدينية التي قام بها أنبياؤه و رسله.
ثم إن الإنسان لو جرى على سلامة فطرته و اشتاق إلى المعرفة و العمل الصالح هداه الله فاهتدى العبد للإيمان عن هدايته تعالى، و أما جريه على سلامة الفطرة فلو سمي اهتداء فإنما هو اهتداء متفرع على السلامة الفطرية لو سميت هداية.
و لو انحرف الإنسان عن صراط الفطرة بسوء اختياره و جهل مقام ربه و أخلد إلى الأرض و اتبع الهوى و عاند الحق فهو ضلال منه غير مسبوق بإضلال من الله و حاشاه سبحانه لكنه يستعقب إضلاله عن الطريق مجازاة و تثبيته على ما هو عليه بقطع الرحمة منه و سلب التوفيق عنه و هذا إضلال مسبوق بضلالة من نفسه بسوء اختياره و إزاغة له عن زيغ منه.
و من هنا وجه اختلاف السياق في الآيتين أما قوله: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم» فقد فرض فيه زيغ منهم ثم أزاغه منه تعالى و أما قوله: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» فقد فرض فيه إيمان ثابت على التثبيت و هو في نفسه يستلزم هداية منه و اهتداء منهم ثم أضيف إلى ذلك القول الثابت و هو ثباتهم و استقامتهم بحسن اختيارهم على ما آمنوا به و هو فعلهم فيعقبه الله بتثبيتهم بسبب ذاك القول الثابت و حفظهم من الزيغ و الزلل يدفع عنهم بذلك مخاطر الحياة في الدنيا و الآخرة و هذا هداية منه تعالى غير مسبوقة باهتداء من عند أنفسهم يرتبط بها فافهم ذلك.
و كيف كان فهذا التثبيت بالنظر إلى التمثيل بمنزلة إحكام الشجرة الطيبة من جهة ثبوت أصلها في الأرض، و إذا ثبت أصل الشجرة نمت و تفرعت بالفروع و أتت بالأثمار في كل حين و الدنيا و الآخرة تحاذيان: «كل حين» فإن الدنيا و الآخرة تشملان جميع الأحيان فهذا ما يعطيه السياق من معنى الآية.
و قيل: إن المعنى يثبت الله الذين آمنوا و يقرهم في كرامته و ثوابه بالقول الثابت الذي وجد منهم و هو كلمة الإيمان لأنه ثابت بالحجج و الأدلة فالمراد بتثبيتهم تقريبهم منه و إسكانهم الجنة و بثبوت قولهم تأيده بالحجة و البرهان، و فيه أنه تقييد من غير مقيد.
و قيل: المعنى أنه يثبتهم بالتمكين في الأرض و النصرة و الفتح و الغلبة في الدنيا و إسكان الجنة في الآخرة.
و هو بعيد من السياق.
و قوله: «و يضل الله الظالمين» ظاهر المقابلة بين الظالمين و الذين آمنوا في الجملة السابقة أن المراد بهم أهل الكفر بالله و بآياته على أنه تعالى فسر الظالمين بقول مطلق في بعض كلامه بما يقرب منه إذ قال: «إن لعنة الله على الظالمين الذين يصدون عن سبيل الله و يبغونها عوجا و هم بالآخرة كافرون»: الأعراف: 45.
و الجملة كالنتيجة المستخرجة من المثل الثاني المذكور: «و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار» و المعنى أن الله يضل أهل الكفر بحرمانهم من صراط الهداية فلا يهتدون إلى عيشة سعيدة في الدنيا و لا إلى نعمة باقية و رضوان من الله في الآخرة فلا يوجد عندهم إن كشف عن قلوبهم إلا الشك و التردد و القلق و الاضطراب و الأسى و الأسف و الحسرة.
و قوله: «و يفعل الله ما يشاء» أي يجري تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك على ما تقتضيه مشيته لا مانع له و لا دافع فلا حائل بين مشيته و فعله.
و يظهر من ذلك أن الله تعالى قد شاء تثبيت هؤلاء و إضلال أولئك و هو فاعلهما لا محالة فمن القضاء المحتوم سعادة المؤمن و شقاء الكافر و قد وردت به الرواية.
و وقوع لفظ الجلالة في قوله: «و يضل الله» و قوله: «و يفعل الله» من وقوع الظاهر موقع المضمر و يدل على فخامة الأمر و مهابة الموقف كما قيل.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا و أحلوا قومهم دار البوار» قال في المجمع: الإحلال وضع الشيء في محل إما بمجاورة إن كان من قبيل الأجسام أو بمداخلة إن كان من قبيل الأعراض، و البوار الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا إذا هلك و رجل بور أي هالك و قوم بور أيضا.
انتهى.
و قال الراغب: البوار فرط الكساد و لما كان فرط الكساد يؤدي إلى الفساد كما قيل: كسد حتى فسد، عبر بالبوار عن الهلاك يقال: بار الشيء يبور بورا و بؤرا قال عز و جل: «تجارة لن تبور» انتهى.
و الآية تذكر حال أئمة الكفر و رؤساء الضلال في ظلمهم و كفرانهم نعمة الله سبحانه التي أحاطت بهم من كل جهة بدل أن يشكروها و يؤمنوا بربهم، و قد ذكر قبل كيفية خلقه تعالى السماوات و الأرض على غنى منه و هي نعمة، ثم ذكر كلمة الحق التي يدعو إليها و ما لها من الآثار الثابتة الطيبة و هي نعمة.
و الآية مطلقة لا دليل على تقييدها بكفار مكة أو كفار قريش و إن كان الخطاب فيها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كان في ذيلها مثل قوله: «قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار» لظهور أن ذلك لا يوجب تقييدا في الآية مع إطلاق مضمونها و شمولها للطواغيت من الأمم و ما صنعوا بأقوامهم.
فقوله: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا» يذكر حال أئمة الكفر و رؤساء الضلال من الأمم السابقة و من هذه الأمة و الدليل على اختصاصه بهم قوله: «و أحلوا قومهم دار البوار» المشعر بكونهم نافذي الكلمة مطاعين في قومهم فهم الأئمة و الرؤساء.
و المراد بتبديلهم نعمة الله كفرا تبديلهم شكر نعمته الواجب عليهم كفرا ففي الجملة مضاف محذوف و التقدير: بدلوا شكر نعمة الله كفرا، و يمكن أن يراد تبديل نفس النعمة كفرا بنوع من التجوز، و نظير الآية في هذه العناية قوله تعالى: «و تجعلون رزقكم أنكم تكذبون»: الواقعة: 82.
و ذكر إحلالهم قومهم دار البوار يستلزم إحلال أنفسهم فيها لأنهم أئمة الضلال ضلوا ثم أضلوا و التبعة تبعة الضلال، و نظير الآية في هذا المعنى قوله في فرعون: «يقدم قومه يوم القيامة فأوردهم النار»: هود: 98.
و المعنى أ لم تنظر إلى الأئمة و الرؤساء من الأمم السابقة و من أمتك الذين بدلوا شكر نعمة الله كفرا و اتبعتهم قومهم فحلوا و أحلوا قومهم دار الهلاك و هو الشقاء و النار.
قوله تعالى: «جهنم يصلونها و بئس القرار» بيان لدار البوار، و احتمال بعضهم أن يكون: «جهنم» منصوبا بالاشتغال و التقدير يصلون جهنم يصلونها و الجملة مستأنفة خال عن الوجه لأن النصب مرجوح و لا نكتة تستوجب الاستئناف.
و من هنا يظهر فساد قول من قال إن الآيات مدنية و المراد بالذين كفروا هم عظماء مكة و صناديد قريش الذين جمعوا الجموع على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و حاربوه ببدر فقتلوا و أحلوا قومهم دار البوار.
و ذلك أنك عرفت من معنى الآية أنها مطلقة و لا موجب لتخصيصها بقتلى بدر من الكفار أصلا، بل الآية تشمل كل إمام ضلال أحل قومه دار البوار ممن تقدم و تأخر، و المراد بإحلال دار البوار إقرارهم في شقاء النار و إن لم يقتلوا و لا ماتوا و لا دخلوا النار بعد.
على أن ظاهر الآية التالية «و جعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار» أن ضمير الجمع راجع إلى الذين كفروا المذكورين في هذه الآية و لازمه كون خطاب قل تمتعوا خطابا للباقين منهم و هم الذين أسلموا يوم الفتح و هو إيعاد بشقاء قطعي منجز من غير استثناء.
قوله تعالى: «و جعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار» الأنداد جمع ند و هو المثل و هم الآلهة الذين اتخذوهم آلهة من دون الله من الملائكة و الجن و الإنس.
و إنما جعلوها أندادا مع اعترافهم بأنهم مخلوقون لله سبحانه من جهة أنهم سموهم آلهة و أربابا و نسبوا إليهم تدبير أمر العالم ثم عبدوهم خوفا و طمعا مع أن الأمر و الخلق كله لله و قد اعترفت بذلك فطرتهم و أيد الله ذلك بما ألهمه أنبياءه و رسله من الآيات و الحجج الدالة على وحدانيته.
فهم كانوا على بصيرة من أمر التوحيد لم يتخذوا الأنداد عن غفلة أو خطإ بل عمدوا إلى ذلك ابتغاء عرض الحياة الدنيا و ليستعبدوا الناس و يستدروهم بإضلالهم عن سبيل الله، و لذلك علل اتخاذهم الأنداد بقوله: «ليضلوا عن سبيله» ثم أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوعدهم بالنار التي إليها مرجعهم لا مرجع لهم سواها فقال: «قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار».
و كان من طبع الكلام أن يقال لهم: اتخذوا الأنداد أو أضلوا عن سبيل الله فإن مصيركم إلى النار، لكن بدل من قوله: «تمتعوا» ليصرح بغرضهم الفاسد الذي كانوا يخفونه ليكون أبلغ في فضاحتهم.
قوله تعالى: «قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة و ينفقوا مما رزقناهم سرا و علانية من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه و لا خلال» لما توعدهم على لسان رسوله بعذاب يوم القيامة لإضلالهم الناس عن سبيل الله، أمره أن يأمر عباده الذين آمنوا بالتزام سبيله من قبل أن يأتي يوم القيامة فلا يسعهم تدارك ما فات منهم من السعادة بشيء من الأسباب الدائرة بينهم لذلك و هي ترجع إلى أحد شيئين: إما المعارضة بإعطاء شيء و أخذ ما يعادله و هو البيع بالمعنى الأعم، و إما الخلة و المحبة، و لا أثر من هذه الأسباب في يوم محض للحساب و الجزاء فإن ذلك شأن يوم القيامة لا شأن له دون ذلك.
و من هنا يظهر أن قوله: «يقيموا الصلاة و ينفقوا» بيان لسبيل الله و قد اكتفى بهذين الركنين اللذين بهما يلحق سائر الوظائف الشرعية مما يصلح حياة الإنسان الدنيوية فيما بينه و بين ربه و ما بينه و بين سائر أفراد نوعه.
و قوله: «يقيموا الصلاة و ينفقوا» إلخ مجزومان لوقوعهما في جواب الأمر و مقول القول محذوف لدلالة الفعلين عليه، و التقدير: قل: أقيموا الصلاة و أنفقوا «إلخ» يقيموا الصلاة و ينفقوا «إلخ».
و الإشكال فيه بأن المجزوم في جواب الأمر يجب أن يكون مترتبا عليه و لا يلزم من الأمر بالصلاة و الإنفاق أن يطيعوا ذلك.
ساقط فإن اللازم فيه أن يكون الجواب مما يقتضيه الأمر بوجه، و أمر عباده المؤمنين و هم عباد مؤمنون مما يقتضي الطاعة بلا إشكال.
و الإنفاق المذكور في الآية مطلق الإنفاق في سبيل الله فإن السورة مكية و لم تنزل آية الزكاة بعد، و المراد بالإنفاق سرا و علانية أن يجري الإنفاق على ما يقتضيه الأدب الديني الحق فيسر به فيما يحسن الإسرار و يعلن فيما يحسن الإعلان، و المطلوب بذلك على أي حال الإتيان بما يصلح ما في مظنة الفساد و يقيم أود المجتمع من أمور المسلمين.
و لا ينافي ما في هذه الآية من نفي المخالة قوله تعالى: «الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين»: الزخرف: 67 فإن النسبة بين الآيتين نسبة العموم و الخصوص المطلق فتخصص هذه الآية بتلك الآية و يتحصل المراد من الآيتين أن كل خلة من غير جهة التقوى ترتفع يوم القيامة، و أما الخلة التي من جهتها و هي الخلة في ذات الله فإنها تثبت و تنفع فنفي الخلال مطلقا ثم إثبات بعضه في الآيتين نظير نفي الشفاعة مطلقا في قوله: «و لا خلة و لا شفاعة»: البقرة: 254 ثم إثباتها فيما كان بإذن الله كما في قوله: «إلا من شهد بالحق و هم يعلمون»: الزخرف: 86.
و ما قيل في نفي التنافي: إن المراد بالخلال في الآية النافية المخالة التي هي من الأسباب الدنيوية لتدارك ما فات بخلاف ما في الآية المثبتة، و كذا ما قيل إن المراد بالمخالة المنفية هي التي تكون بحسب ميل الطبع و رغبة النفس بخلاف المخالة المثبتة فإنها التي تكون في ذات الله، مرجعهما بالحقيقة إلى ما ذكرناه.
قوله تعالى: «الله الذي خلق السماوات و الأرض» إلخ، لما ذكر سبحانه جعلهم لله أندادا لإضلال الناس عن سبيل الله و أوعد عليه أورد في هذه الآية إلى تمام ثلاث آيات الحجة على اختصاص الربوبية بنفسه تعالى و تقدس من طريق اختصاص التدبير العام به من نظم الخلقة و إنزال الماء و إخراج الرزق و تسخير البحار - الفلك - و الأنهار و الشمس و القمر و الليل و النهار.
و أشار في آخر الآيات إلى أنها و ما لا تحصى من غيرها نعمة منه تعالى للإنسان لأن البيان في هذه السورة - كما تقدمت الإشارة إليه - يجري في ضوء الاسمين: العزيز الحميد.
فقوله: «الله الذي خلق» إلخ، في معنى قولنا: فهو الرب وحده دون الذين جعلتموهم أندادا له.
و قوله: «و أنزل من السماء ماء فأخرج به» إلخ، المراد بالسماء جهة العلو و هو معناها اللغوي، و الماء النازل منها هو المطر النازل منها فإليه ينتهي الماء في الأرض الذي تعيش به ذوات الحياة من النبات و الحيوان.
قوله تعالى: «و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره و سخر لكم الأنهار» تسخير الفلك للناس هو جعلها بحيث تنفعهم في مقاصدهم و هي العبور بأنفسهم و أحمالهم و غير ذلك من غير أن ترسب في الماء أو تمتنع عن الحركة.
و أما قول بعضهم: تسخيرها لهم هو إقدارهم على صنعتها و استعمالها بإلهامهم طريق ذلك بعيد، فإن الظاهر من تسخير شيء للإنسان هو التصرف فيه بجعله موافقا لما يقصده من منافع نفسه دون التصرف في الإنسان نفسه بإلهام و نحوه.
و كان من طبع الكلام أن يقال: و سخر لكم البحر لتجري فيه الفلك بأمره و سخر لكم الأنهار غير أنه عكس، و قيل: و سخر لكم الفلك لتجري في البحر بأمره لكون الفلك من أوضح النعم البحرية و إن لم تنحصر فيها نعمه و لعل ذلك هو السبب في العكس، لأن المقام مقام عد النعمة و النعمة في الفلك أوضح و إن كانت في البحر أعظم.
و إسناد جريها في البحر إلى أمره تعالى مع كونه مستندا إلى الأسباب الطبيعية العاملة كالريح و البخار و سائر الأسباب، لكونه تعالى هو السبب المحيط الذي إليه ينتهي كل سبب.
و قوله: «و سخر لكم الأنهار و هي المياه الجارية في مختلف أقطار الأرض و تسخيرها هو تدليلها بحيث ينتفع بها الإنسان بالشرب و الغسل و إزالة الأوساخ و غير ذلك و يعيش بها الحيوان و النبات المسخران له.
قوله تعالى: «و سخر لكم الشمس و القمر دائبين و سخر لكم الليل و النهار» قال الراغب: الدأب إدامة السير دأب في السير دأبا، قال تعالى: «و سخر لكم الشمس و القمر دائبين» و الدأب العادة المستمرة دائما على حالة، قال تعالى: «كدأب آل فرعون» أي كعادتهم التي يستمرون عليها.
انتهى، و معنى الآية واضح.
قوله تعالى: «و آتاكم من كل ما سألتموه و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار» السؤال هو الطلب و يفارقه أن السؤال إنما يكون ممن يعقل و الطلب أعم و إنما تنبه الإنسان للسؤال من جهة الحاجة الداعية إليه فأظهر له أن يرفع ما حلت به من حاجة و كانت الوسيلة العادية إليه هي اللفظ فتوسل به إليه و ربما توسل إليه بإشارة أو كتابة و سمي سؤالا حقيقة من غير تجوز.
و إذ كان الله سبحانه هو الذي يرفع حاجة كل محتاج ممن سواه لا يتعلق شيء بذاته فيما يحتاج إليه في وجوده و بقائه إلا بذيل جوده و كرمه سواء أقر به أو أنكره و هو تعالى أعلم بهم و بحاجاتهم ظاهرة و باطنة من أنفسهم كان كل من سواه عاكفا على باب جوده سائلا يسأله رفع ما حلت به من حاجة سواء أعطاه أو منعه و سواء أجابه في جميع ما سأل أو بعضه.
هذا هو حق السؤال و حقيقته يختص به تعالى لا يتعداه إلى غيره، و من السؤال ما هو لفظي - كما تقدم - ربما يسأل به الله سبحانه و ربما يسأل به غيره فهو تعالى مسئول يسأله كل شيء بحقيقة السؤال و يسأله بعض الناس من المؤمنين به بالسؤال اللفظي.
هذا بالنسبة إلى السؤال و أما بالنسبة إلى الإيتاء و هو الإعطاء فقد أطلق من غير أن يقيد باستثناء و نحوه فيدل على أنه ما من سؤال إلا و عنده إعطاء و هذه قرينة أن الخطاب للنوع كما يؤيده أيضا قوله ذيلا إن الإنسان لظلوم كفار».
و المعنى أن النوع الإنساني لم يحتج بنوعيته إلى نعمة من النعم إلا رفع الله حاجته إما كلا أو بعضا و إن كان الفرد منه ربما احتاج و سأل و لم يقض حاجته.
و هذا المعنى هو الذي يؤيده قوله تعالى: «أجيب دعوة الداع إذا دعان»: البقرة: 186 فقد مر في تفسير الآية أنه تعالى لا يرد دعاء من دعاه إلا أن لا يكون دعاء حقيقة أو يكون دعاء إلا أنه ليس دعاءه بل دعاء غيره و الفرد من الإنسان ربما لم يواطىء لسانه قلبه أو لغا في دعائه لكن النوع بنوعيته لا يعرف هذرا و لا نفاقا و لا يعرف ربا غيره سبحانه فكلما مسته حاجة فإنه يسأله حقيقة و لا يسأله إلا من ربه فجميع أدعيته مستجابة و سؤالاته مؤتاة و حاجاته مقضية.
و قد ظهر مما تقدم أن «من» في قوله: «من كل ما سألتموه» ابتدائية تفيد أن الذي يؤتيه الله مأخوذ مما سألوه سواء كان جميع ما سألوه كما في بعض الموارد أو بعضه كما في بعضها الآخر، و لو كانت من تبعيضية لأفادت أنه تعالى يؤتي في كل سؤال بعض المسئول و الواقع خلافه كما أنه لو قيل: و آتاكم كل ما سألتموه أفاد إيتاء الجميع و ليس كذلك و لو قيل: مما سألتموه أفاد أن من الجائز أن لا يستجاب بعض الأدعية و يرد بعض الأسئلة من أصله و الآية - و هي في مقام الامتنان - تأبى ذلك.
فبالجملة معنى الآية أن الله تعالى أعطى النوع الإنساني ما سأله فما من حاجة من حوائجه إلا رفع كلها أو بعضها حسب ما تقتضيه حكمته البالغة.
و ربما قيل: إن تقدير الكلام: و آتاكم من كل ما سألتموه و ما لم تسألوه و هو مبني على كون المراد بالسؤال هو السؤال اللفظي و قد تقدم خلافه، و سياق الآية لا يساعد عليه.
و قوله: «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» قال الراغب: الإحصاء: التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا و ذلك من لفظ الحصى و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه بالعد كاعتمادنا فيه على الأصابع.
انتهى.
و في الجملة إشارة إلى خروج النعم عن طوق الإحصاء و لازمه كون حوائج الإنسان التي رفعها الله بنعمه غير مقدور للإنسان إحصاؤها.
و كيف يمكن إحصاء نعمه تعالى و عالم الوجود بجميع أجزائه و ما يلحق بها من الأوصاف و الأحوال مرتبطة منتظمة نافع بعضها في بعض متوقف بعضها على بعض، فالجميع نعمه بالنسبة إلى الجميع و هذا أمر لا يحيط به إحصاء.
و لعل ذلك هو السر في إفراد النعمة في قوله: «نعمة الله» فإن الحق أن ليس هناك إلا النعمة فلا حاجة إلى تفخيمها بالجمع ليدل على الكثرة، و المراد بالنعمة جنس المنعم فيفيد ما يفيده الجمع.
و قوله: «إن الإنسان لظلوم كفار» أي كثير الكفران يظلم نفسه فلا يشكر نعمة الله و يكفر بها فيؤديه ذلك إلى البوار و الخسران، أو كثير الظلم لنعم الله لا يشكرها و يكفر بها، و الجملة استئناف بياني يؤكد بها ما يستفاد من البيان السابق، فإن الواقف على ما مر بيانه من حال نعمه تعالى و ما آتى الإنسان من كل ما سأله منها لا يرتاب في أن الإنسان و هو غافل عنها طبعا ظالم لنفسه كافر بنعمة ربه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج الترمذي و النسائي و البزار و أبو يعلى و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن حيان و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن أنس قال: أتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بقناع من بسر فقال: «مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة حتى بلغ تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها. قال: هي النخلة. و مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة - حتى بلغ ما لها من قرار. قال: هي الحنظلة.
أقول: و كون الشجرة الطيبة هي النخلة مروي في عدة روايات عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي لا تدل على أزيد من انطباق المثل عليها، و ذيل الرواية ينافي الرواية التالية.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قعد ناس من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فذكروا هذه الآية: اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار فقالوا: يا رسول الله نراه الكمأة، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الكمأة من المن و ماؤها شفاء للعين، و العجوة من الجنة و هي شفاء من السم.
أقول: و الكلام يجري في الحنظلة فإن لها خواص طبية هامة.
و فيه، أخرج البيهقي في سننه عن علي قال: الحين ستة أشهر.
أقول: و الكلام فيه كالكلام في سابقه.
و في الكافي، بإسناده عن عمرو بن حريث قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «كشجرة طيبة أصلها ثابت و فرعها في السماء» قال: فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أصلها و أمير المؤمنين فرعها و الأئمة من ذريتهما أغصانها و علم الأئمة ثمرتها و شيعتهم المؤمنون ورقها هل في هذا فضل؟ قال: قلت: لا و الله. قال: و الله إن المؤمن ليولد فتورق ورقة فيها، و إن المؤمن ليموت فتسقط ورقة منها.
أقول: و الرواية مبنية على كون المراد بالكلمة الطيبة هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد أطلقت الكلمة في كلامه على الإنسان كقوله: «بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»: آل عمران - 45، و مع ذلك فالرواية من باب التطبيق و من الدليل عليه اختلاف الروايات في كيفية التطبيق ففي بعضها أن الأصل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الفرع علي (عليه السلام) و الأغصان الأئمة (عليهم السلام) و الثمرة علمهم و الورق الشيعة كما في هذه الرواية، و في بعضها أن الشجرة رسول الله و فرعها علي و الغصن فاطمة و ثمرها أولادها و ورقها شيعتنا كما فيما رواه الصدوق عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام)، و في بعضها أن النبي و الأئمة هم الأصل الثابت و الفرع الولاية لمن دخل فيها كما في الكافي، بإسناده عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في المجمع، روى أبو الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): أن هذا يعني قوله: كشجرة خبيثة إلخ مثل بني أمية.
و في تفسير العياشي، عن عبد الرحمن بن سالم الأشل عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام): «ضرب الله مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة» الآيتين قال: هذا مثل ضربه الله لأهل بيت نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لمن عاداهم هو مثل كلمة خبيثة كشجرة خبيثة اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار أقول: قال الآلوسي في تفسير روح المعاني، ما لفظه: و روى الإمامية و أنت تعرف حالهم عن أبي جعفر رضي الله عنه تفسيرها يعني الشجرة الخبيثة ببني أمية و تفسير الشجرة الطيبة برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي كرم الله وجهه و فاطمة رضي الله عنها و ما تولد منهما، و في بعض روايات أهل السنة ما يعكر على تفسير الشجرة الخبيثة ببني أمية، فقد أخرج ابن مردويه عن عدي بن حاتم قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن الله تعالى قلب العباد ظهرا و بطنا فكان خير عباده العرب و قلب العرب ظهرا و بطنا فكان خير العرب قريشا و هي الشجرة المباركة التي قال الله تعالى في كتابه «مثلا كلمة طيبة كشجرة طيبة» لأن بني أمية من قريش.
انتهى موضع الحاجة.
و هو عجيب فإن كون أمة أو طائفة مباركة بحسب طبعهم لا يوجب كون جميع الشعب المنشعبة منها كذلك فالرواية على تقدير تسليمها لا تدل إلا على أن قريشا شجرة مباركة و أما أن جميع الشعب المنشعبة منها مباركة طيبة كبني عبد الدار مثلا أو كون كل فرد منهم كذلك كأبي جهل و أبي لهب فلا قطعا فأي ملازمة بين كون شجرة بحسب أصلها مباركة طيبة و بين كون بعض فروعها التي انفصلت منها و نمت نماء فاسدا، مباركا طيبا؟.
و قد روى ابن مردويه هذا عن عائشة: أنها قالت لمروان بن الحكم سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول لأبيك و جدك: إنكم الشجرة الملعونة في القرآن.
و روى أصحاب التفاسير كالطبري و غيره عن سهل بن ساعد و عبد الله بن عمر و يعلى بن مرة و الحسين بن علي و سعيد بن المسيب: أنهم الذين نزل فيهم قوله تعالى: «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس - و الشجرة الملعونة في القرآن» الآية، و لفظ سعد: رأى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني فلان ينزون على منبره نزو القردة فساءه ذلك فما استجمع ضاحكا حتى مات، و أنزل الله: «و ما جعلنا الرؤيا» الآية.
و ستأتي الرواية عن عمر و عن علي: في تفسير قوله: «الذين بدلوا نعمة الله كفرا» أنهم الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية.
و في تفسير العياشي، عن صفوان بن مهران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الشيطان ليأتي الرجل من أوليائنا فيأتيه عند موته و يأتيه عن يمينه و عن يساره ليصده عما هو عليه فيأبى الله ذلك و كذلك قال الله: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة».
و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) قالا: إذا وضع الرجل في قبره أتاه ملكان ملك عن يمينه و ملك عن شماله و أقيم الشيطان بين يديه عيناه من نحاس فيقال له: ما تقول في هذا الرجل الذي خرج من بين ظهرانيكم يزعم أنه رسول الله؟ فيفزع لذلك فزعة فيقول إن كان مؤمنا: محمد رسول الله فيقال عند ذلك: نم نومة لا حلم فيها و يفسح له في قبره تسعة أذرع و يرى مقعده من الجنة و هو قول الله: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا» و إن كان كافرا قالوا: من هذا الرجل الذي كان بين ظهرانيكم يقول: إنه رسول الله؟ فيقول: ما أدري فيخلى بينه و بين الشيطان.
و في الدر المنثور، أخرج الطيالسي و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن البراء بن عازب أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: المسلم إذا سئل في القبر يشهد أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسول الله فذلك قوله سبحانه: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت - في الحياة الدنيا و في الآخرة».
و فيه، أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه عن أبي سعيد الخدري سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول في هذه الآية: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت - في الحياة الدنيا و في الآخرة» قال: في الآخرة القبر.
أقول: و هناك روايات كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة وردت في تفصيل سؤال القبر و إتيان الملكين منكر و نكير و ثبات المؤمن و ضلال الكافر عند ذلك و قد وقع في كثير منها التمسك بالآية.
و ظاهرها أن المراد بالآخرة هو القبر و عالم الموت، و لعل ذلك مبني على ظاهر معنى التثبيت فإن الظاهر من إعطاء الثبات أن يكون في مقام يجوز فيه الزلل و الخبط، و هذا إنما يتصور في غير يوم القيامة الذي ليس فيه إلا المجازاة بالأعمال و أما بالنظر إلى أن كل ثابت في الوجود فإنما ثباته بالله سبحانه سواء كان مما يجوز عليه الزوال أم لا فلا فرق بين البرزخ و القيامة في أن المؤمن ثابت بتثبيت الله سبحانه و الأولى أخذ الروايات من قبيل التطبيق.
و في تفسير العياشي، عن الأصبغ بن نباتة قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في قوله: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا» قال: نحن نعمة الله التي أنعم الله بها على العباد.
أقول: و هو من الجري و التطبيق.
و فيه، عن معصم المسرف عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) في قوله: «و أحلوا قومهم دار البوار» قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة: أقول: و رواه أيضا في البرهان، عن ابن شهر آشوب عن أبي الطفيل عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني في الأوسط و ابن مردويه و الحاكم و صححه من طرق عن علي بن أبي طالب في قوله: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا» قال: هما الأفجران من قريش بنو أمية و بنو المغيرة فأما بنو المغيرة فقطع الله دابرهم يوم بدر و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
أقول: و هو مروي عن عمر كما يأتي.
و فيه، أخرج البخاري في تاريخه و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه عن عمر بن الخطاب في قوله: «أ لم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا» قال: هما الأفجران من قريش بنو المغيرة و بنو أمية، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أما بنو أمية فمتعوا إلى حين.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أنه قال لعمر: يا أمير المؤمنين هذه الآية: «الذين بدلوا نعمة الله كفرا» قال: هم الأفجران من قريش أخوالي و أعمامك فأما أخوالي فاستأصلهم الله يوم بدر و أما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين.
و في تفسير العياشي، عن ذريح عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: جاء ابن الكواء إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فسأله عن قول الله: «أ لم تر إلى الذين بدلوا» الآية قال: تلك قريش بدلوا نعمة الله كفرا و كذبوا نبيه يوم بدر.
أقول: و اختلاف التطبيق في كلامه (عليه السلام) من الشاهد على أنه من باب بيان انطباق الآية لا من قبيل سبب النزول.
و في الكافي، عن علي بن محمد عن بعض أصحابه رفعه قال: كان علي بن الحسين (عليهما السلام) إذا قرأ هذه الآية: «و إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها» يقول: سبحان الذي لم يجعل في أحد من معرفة نعمه إلا المعرفة بالتقصير عن معرفتها كما لم يجعل في أحد " من " معرفة إدراكه أكثر من العلم أنه لا يدركه فشكر جل و عز معرفة العارفين بالتقصير عن معرفة شكره فجعل معرفتهم بالتقصير شكرا كما علم علم العالمين أنهم لا يدركونه فجعله علما.
الحديث.
|