بيان
تتضمن الآيات تذكرة ثانية بجملة من نعمه عقيب التذكرة الأولى التي يتضمنها قوله: «و إذ قال موسى لقومه اذكروا نعمة الله عليكم إذ أنجاكم من آل فرعون» الآية فذكر سبحانه أولا نعمته على جمع من عباده المؤمنين و هم بنو إسرائيل من ولد إبراهيم ثم ذكر ثانيا نعمته على جمع آخر منهم و هم بنو إسماعيل من ولد إبراهيم و هي التي يتضمنها دعاء إبراهيم (عليه السلام): «رب اجعل هذا البلد آمنا» إلى آخر دعائه و فيها نعمة توفيقه تعالى لهم أن يجتنبوا عبادة الأصنام و نعمة الأمن بمكة و ميل الأفئدة إلى أهله و رزقهم من الثمرات و غير ذلك كل ذلك لأن الله سبحانه هو العزيز الحميد.
قوله تعالى: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا» أي و اذكر إذ قال إبراهيم و الإشارة إلى مكة شرفها الله تعالى.
و قد حكى الله سبحانه نظير هذا الدعاء على اختصار فيه عن إبراهيم (عليه السلام) في موضع آخر بقوله: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا بلدا آمنا و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير: البقرة: 126.
و من الممكن أن يستفاد من اختلاف المحكيين في التعبير أعني قوله: «اجعل هذا بلدا آمنا» و قوله: «اجعل هذا البلد آمنا» أنهما دعاءان دعا (عليه السلام) بهما في زمانين مختلفين، و أنه بعد ما أسكن إسماعيل و أمه أرض مكة و رجع إلى أرض فلسطين ثم عاد إليهما وجد من إقبال جرهم إلى مجاورتهما مكانا ما سر بذلك فدعا عند ذلك مشيرا إلى مكانهم «رب اجعل هذا بلدا آمنا» فسأل ربه أن يجعل المكان بلدا و لم يكن به و أن يرزق أهله المؤمنين من الثمرات، ثم لما عاد إليهم بعد ذلك بزمان وجد المكان بلدا فسأل ربه أن يجعل البلد آمنا.
و مما يؤيد كونهما دعاءين ما فيهما من الاختلاف من غير هذه الجهة ففي آية البقرة الدعاء لأهل البلد بالرزق من الثمرات و في الآيات المبحوث عنها الدعاء بذلك لذريته خاصة مع أمور أخرى دعا بها لهم.
و على هذا يكون هذا الدعاء المحكي عن إبراهيم (عليه السلام) في هذه الآيات آخر ما أورده الله تعالى في كتابه من كلام إبراهيم (عليه السلام) و دعائه، و قد دعا به بعد ما أسكن إسماعيل و أمه بها و جاورتهما قبيلة جرهم و بنى البيت الحرام و بنيت بلدة مكة بأيدي القاطنين هناك كما تدل عليه فقرات الآيات.
و على تقدير أن يكون المحكيان دعاء واحدا يكون قوله: «رب اجعل» إلخ تقديره: رب اجعل هذا البلد بلدا آمنا و قد حذف في إحدى الآيتين المشار إليه و في الأخرى الموصوف اختصارا.
و المراد بالأمن الذي سأله (عليه السلام) الأمن التشريعي دون التكويني - كما تقدم في تفسير آية البقرة - فهو يسأل ربه أن يشرع لأرض مكة حكم الحرمة و الأمن، و هو - على خلاف ما ربما يتوهم - من أعظم النعم التي أنعم الله بها على عباده فإنا لو تأملنا هذا الحكم الإلهي الذي شرعه إبراهيم (عليه السلام) بإذن ربه أعني حكم الحرمة و الأمن و أمعنا فيما يعتقده الناس من تقديس هذا البيت العتيق و ما أحاط به من حرم الله الآمن و قد ركز ذلك في نفوسهم منذ أربعة آلاف سنة حتى اليوم وجدنا ما لا يحصى من الخيرات و البركات الدينية و الدنيوية عائدة إلى أهلها و إلى سائر أهل الحق ممن يحن إليهم و يتعلق قلبه بهم، و قد ضبط التاريخ من ذلك شيئا كثيرا و ما لم يضبط أكثر فجعله تعالى مكة بلدا آمنا من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على عباده.
قوله تعالى: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام رب إنهن أضللن كثيرا من الناس - إلى قوله - غفور رحيم» يقال: جنبه و أجنبه أي أبعده، و سؤاله (عليه السلام) أن يجنبه الله و يبعده و بنيه من عبادة الأصنام لواذ و التجاء إليه تعالى من الإضلال الذي نسبه إليهن في قوله: «رب إنهن أضللن» إلخ.
و من المعلوم أن هذا الإبعاد و الإجناب منه تعالى كيفما كان و أيا ما كان تصرف ما و تأثير منه تعالى في عبده بنحو، غير أنه ليس بنحو يؤدي إلى الإلجاء و الاضطرار و لا ينجر إلى القهر و الإجبار بسلب صفة الاختيار منه إذ لا مزية لمثل هذا الابتعاد حتى يسأل ذلك مثل إبراهيم خليل الله.
فرجع بالحقيقة إلى ما تقدم في قوله تعالى: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت» الآية، أن كل خير من فعل أو ترك فإنه منسوب إليه تعالى أولا، ثم إلى العبد ثانيا بخلاف الشر من فعل أو ترك فإنه منسوب إلى العبد ابتداء و لو نسب إليه تعالى فإنما ينسب إذا كان على سبيل المجازاة، و قد أوضحنا ذلك.
فالاجتناب من عبادة الأصنام إنما يتحقق عن إجناب من الله رحمة منه لعبده و عناية، و ليس في الحقيقة إلا أمرا تلبس و اتصف به العبد غير أنه إنما يملكه بتمليك الله سبحانه فهو المالك له بذاته و العبد يملكه بأمر منه و إذن كما أن العبد إنما يهتدي عن هداية من الله، و ليس هناك إلا هدى واحد لكنه مملوك لله سبحانه لذاته و العبد إنما يملكه بتمليك منه سبحانه، و أبسط كلمة في هذا المعنى ما وقع في أخبار آل العصمة أن الله يوفق عبده لفعل الخير و ترك الشر هذا.
فتلخص أن المراد بقوله (عليه السلام) «و اجنبني» سؤال ما لله سبحانه من الصنع في ترك العبد عبادة الأصنام و بعبارة أخرى هو يسأل ربه أن يحفظه و بنيه من عبادة الأصنام و يهديهم إلى الحق إن هم عرضوا أنفسهم لذلك و أن يفيض عليهم إن استفاضوا لا أن يحفظهم منها سواء عرضوا لذلك أنفسهم أو لم يعرضوا و أن يفيض عليهم سواء استفاضوا أو امتنعوا فهذا معنى دعائه (عليه السلام).
و منه يعلم أن نتيجة الدعاء لبعض المدعوين لهم و إن كان بلفظ يستوعب الجميع، و هذا البعض هم المستعدون لذلك دون المعاندين و المستكبرين منهم و سنزيده بيانا.
ثم هو (عليه السلام) يدعو بهذا الدعاء لنفسه و بنيه: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» و بنوه جميع من جاء من نسله بعده و هم بنو إسماعيل و بنو إسحاق فإن الابن كما يطلق على الولد من غير واسطة كذلك يطلق على غيره، و يصدق ذلك القرآن الكريم قال تعالى: «ملة أبيكم إبراهيم»: الحج: 78 و قد تكرر إطلاق بني إسرائيل على اليهود في نيف و أربعين موضعا من كلامه تعالى.
فهو (عليه السلام) يسأل البعد عن عبادة الأصنام لنفسه و لجميع من بعده من بنيه بالمعنى الذي تقدم، اللهم إلا أن يقال: إن قرائن الحال و المقال تدل على اختصاص الدعاة بآل إسماعيل القاطنين بالحجاز فلا يعم بني إسحاق.
ثم عقب (عليه السلام) دعاءه: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» بقوله: «رب إنهن أضللن كثيرا من الناس» و هو في مقام التعليل لدعائه و قد أعاد النداء «رب» إثارة للرحمة الإلهية، أي إني إنما أسألك أن تبعدني و بني عن عبادتهن لأنهن أضللن كثيرا من الناس و نسبة الإضلال إلى الأصنام لمكان الربط الذي بين الضلال و بينهن و إن لم يكن ارتباطا شعوريا و ليس من اللازم في نسبة أي فعل أو أثر إلى شيء أن يقوم به قياما شعوريا و هو ظاهر.
ثم قوله (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم» تفريع على ما تقدم من كلامه أي إذا كان كثير من الناس أضلتهم الأصنام بعبادتهن و استعذت بك و عرضت نفسي و بني عليك أن تجنبنا من عبادتهن افترقنا نحن و الناس طائفتين: الضالون عن طريق توحيدك و العارضون لأنفسهم على حفظك و إجنابك فمن تبعني «إلخ».
و قد عبر (عليه السلام) في تفريعه بقوله: «فمن تبعني» و الاتباع إنما يكون في طريق - و قد لوح إلى الطريق أيضا بقوله: «أضللن» لأن الضلال إنما يكون عن الطريق - فمراده باتباعه التدين بدينه و السير بسيرته لا مجرد الاعتقاد بوحدانيته تعالى بل سلوك طريقته المبنية على توحيد الله سبحانه ليكون في ذلك عرض النفس على رحمته تعالى و إجنابه من عبادة الأصنام.
و من الدليل على كون المراد بالاتباع هو سلوك سبيله قوله في ما يعادله من كلامه: «و من عصاني» فإنه نسب العصيان إلى نفسه و لم يقل: و من كفر بك أو عصاك أو فسق عن الحق و نحو ذلك كما لم يقل فمن آمن بك أو أطاعك أو اتقاك و ما أشبهه.
فمراده باتباعه سلوك طريقه و التدين بجميع ما أتى به من الاعتقاد و العمل و بعصيانه ترك سيرته و ما أتى به من الشريعة اعتقادا و عملا كأنه (عليه السلام) يقول: من تبعني و عمل بشريعتي و سار بسيرتي فإنه ملحق بي و من أبنائي تنزيلا أسألك أن تجنبني و إياه أن نعبد الأصنام، و من عصاني بترك طريقتي كلها أو بعضها سواء كان من بني أو غيرهم فلا ألحقه بنفسي و لا أسألك إجنابه و إبعاده بل أخلي بينه و بين مغفرتك و رحمتك.
و من هنا يظهر أولا أن قوله (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني و من عصاني فإنك غفور رحيم» تفسير لقوله: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» بالتصرف في البنين تعميما و تخصيصا فهو كتعميم البنين لكل من تبعه من جهة و تخصيصه بالعاصين له منهم من جهة أخرى فليسوا منه و لا ملحقين به، و بالجملة هو (عليه السلام) يلحق الذين اتبعوه من بعده بنفسه و أما غير متبعيه فيخلي بينهم و بين ربهم الغفور الرحيم كما قال تعالى: «إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه و هذا النبي و الذين آمنوا»: آل عمران: 68.
و هذه التوسعة و التضييق منه (عليه السلام) نظير مجموع ما وقع منه و من ربه في الفقرة الأخرى من دعائه على ما يحكيه آية البقرة: «و ارزق أهله من الثمرات من آمن منهم بالله و اليوم الآخر قال و من كفر فأمتعه قليلا ثم أضطره إلى عذاب النار و بئس المصير» حيث سأل الرزق أولا لأهل البلد ثم خصه لمن آمن منهم فعممه الله سبحانه بقوله: «و من كفر» ثانيا.
و ثانيا: أن من الممكن أن يستفاد من قوله (عليه السلام) فيمن تبعه: إنه مني و سكوته فيمن عصاه بعد ما كان دعاؤه في نفسه و بنيه أن ذلك تبن منه لكل من تبعه و إلحاق له بنفسه، و نفي لكل من عصاه عن نفسه و إن كان من بنيه بالولادة، أو إلحاق لتابعيه بنفسه مع السكوت عن غيرهم بناء على عدم صراحة السكوت في النفي.
و لا إشكال في ذلك بعد ظهور الدليل فإن الولادة الطبيعية لا يجب أن تكون هي الملاك في النسب إثباتا و نفيا، و لا تجد واحدة من الأمم يقتصرون في النسب إثباتا و نفيا على مجرد الولادة الطبيعية بل لا يزالون يتصرفون بالتوسعة و التضييق و للإسلام أيضا تصرفات في ذلك كنفي الدعي و المولود من الزنا و الكافر و المرتد و إلحاق الرضيع و المولود على الفراش إلى غير ذلك، و في كلامه تعالى في ابن نوح: «إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح»: هود: 46.
و ثالثا: أنه (عليه السلام) و إن لم يسأل المغفرة و الرحمة صريحا لمن عصاه و إنما عرضهم للمغفرة و الرحمة بقوله: «و من عصاني فإنك غفور رحيم» لكنه لا يخلو عن إيماء ما إلى الطلب لمن ترك طريقته و سيرته التي تعد الإنسان للرحمة الإلهية بحفظه من عبادة الأصنام، و هذا المقدار من المعصية لا يمنع عن شمول الرحمة و إن لم يكن مقتضيا أيضا لذلك، و ليس المراد به نفس الشرك بالله حتى ينافي سؤال المغفرة كما قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء: 116.
هذا محصل ما يعطيه التدبر في الآيتين الكريمتين و هو في معزل عما استشكله المفسرون في أطراف الآيتين ثم ذهبوا في التخلص عنه مذاهب شتى بعيدة عن الذوق السليم.
فقد استشكلوا أولا قوله (عليه السلام): «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» من حيث إن ظاهره سؤال الحفظ عن عبادة الأصنام لنفسه و لبنيه جميعا فيكون دعاء غير مستجاب فإن قريشا من بنيه و قد كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و كيف يمكن أن يدعو مثل الخليل (عليه السلام) ثم لا يستجاب له؟ أم كيف يمكن أن يذكر تعالى دعاءه و هو لغو غير معني به ثم لا يذكر رده على خلاف مسلك القرآن في جميع المواضع المشابهة؟ ثم كيف يمكن أن يسأل لنفسه المصونية و العصمة عن عبادة الأصنام و هو نبي و الأنبياء معصومون؟ و قد قيل في الجواب عن إشكال عدم استجابة دعائه في بنيه إن المراد ببنيه أبناؤه بلا واسطة كإسماعيل و إسحاق و غيرهما و قد استجيب دعاؤه فيهم، و قيل: المراد الموجودون من بنيه وقت الدعاء و هم موحدون، و قيل: إن الله قد استجاب دعاءه في بعض بنيه دون بعض و لا نقص فيه.
و قيل: إن المشركين من بنيه لم يكونوا يعبدون الأصنام و إنما كانوا يتخذونها شفعاء، و قيل: إنهم كانوا يعبدون الأوثان دون الأصنام و بينهما فرق فإن الأصنام هي التماثيل المصورة و الأوثان هي التماثيل غير المصورة، و قيل: إنهم ما كانوا يعبدون الأصنام بل كان الواحد منهم ينصب حجرا و يقول: هذا حجر و البيت حجر، فكان يدور حوله و يسمونه الدوار.
و سقوط هذه الوجوه ظاهرة: أما الأول و الثاني فلكونهما خلاف ظاهر اللفظ و أما الثالث فلأن الإشكال ليس في ورود نقص على النبي بعدم استجابة دعائه أو بعضه لحكمة بل من جهة منافاته لمسلك القرآن في حكاية لغو الكلام من غير رده، و أما باقي الوجوه فلأن ملاك الضلال في عبادة الأصنام هو شرك العبادة و هو موجود في جميع ما افترضوه من الوجوه.
و قيل في الجواب عن إشكال سؤال النبي الإبعاد و الإجناب عن الشرك و هو نبي معصوم: إن المراد الثبات و الدوام على ذلك، و قيل إنه (عليه السلام) ذكر ذلك هضما لنفسه و إظهارا للحاجة إلى فضله تعالى، و قيل: المراد سؤال الحفظ عن الشرك الخفي و إلا فالأنبياء مصونون عن الشرك الجلي هذا.
و هذه وجوه ردية، أما الأول فلأنه لا ينحسم به مادة الإشكال إذ العصمة و المصونية كما أنها لازمة للنبوة حدوثا لازمة لها بقاء فلو لم يصح للنبي أن يسأل حدوثها لمكان اللزوم لم يصح له أن يسأل بقاءها لذلك بعينه، و الأصل في جوابهم هذا أنهم يزعمون انفصال الفيض عن المفيض و استقلال المستفيض فيما استفاضه بمعنى أن الله سبحانه إذا أفاض بشيء على شيء خرج ما أفاضه من ملكه و وقع في ملك المستفيض و لا معنى للسؤال ممن لا يملك و إذا قضى سبحانه بشيء حدوثا أو بقاء قضاء حتم لا يتغير عما هو عليه فإنه لا يتعلق على خلافه قدرة و لا مشية و هو خطأ فإن الحاجة من جانب المستفيض باقية على حالها قبل الإفاضة لا تختلف أصلا و ملكه تعالى باق بعد الإفاضة على ما كان عليه قبلها و لا يزال سبحانه قادرا له أن يشاء ما يشاء و إن كان لا يشاء فيما قضى بخلافه قضاء حتم، و السؤال و الطلب من آثار الحاجة لا من آثار الفقدان فافهم ذلك و قد أشبعنا القول في هذا المعنى في المباحث المتقدمة مرارا.
و أما الثاني فلأن هضم النفس إنما يستقيم في غير الضروريات و أما الأمور الضرورية فلا، فلا معنى لقول القائل: لست إنسانا و هو يريد نفي الماهية هضما لنفسه اللهم إلا أن يريد نفي الكمال و كذا القول في إظهار الحاجة و هم لا يرون في الأمور الضرورية المحتومة كالعصمة في الأنبياء حاجة.
و أما الثالث فلأن الشرك الخفي هو الركون و التوجه إلى غير الله على مراتبه، و إبراهيم (عليه السلام) يعلل قوله: «و اجنبني» إلخ بقوله «إنهن أضللن» إلخ فهو إنما يسأل الإبعاد من عبادة هذه الأصنام و هي الشرك الجلي دون الحفظ عن الركون و التوجه إلى غير الله تعالى اللهم إلا أن يدعى أن المراد بالصنم كل ما يتوجه إليه غير الله سبحانه، و كذا المراد بالعبادة مطلق التوجه و الالتفات و هو دعوى لا دليل عليها.
ثم استشكلوا في قوله (عليه السلام) «و من عصاني فإنك غفور رحيم» من حيث اشتماله على طلب المغفرة للمشركين، و لا تتعلق المغفرة بالشرك بنص قوله تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به» الآية.
و قد قيل في الجواب عن الإشكال: أن الشرك كان جائز المغفرة في الشرائع السابقة و إنما رفع ذلك في هذه الشريعة بقوله: «إن الله لا يغفر أن يشرك به» الآية فإبراهيم (عليه السلام) جرى في دعائه على ما كان عليه الأمر في شريعته.
و قيل: إن المراد: و من عصاني فإنك غفور رحيم له بعد توبته ففي الكلام قيد محذوف، و قيل: المراد و من عصاني و أقام على الشرك فإنك غفور رحيم بأن تنقله من الشرك إلى التوحيد فتغفر له و ترحمه.
و قيل: المراد بالمغفرة و الرحمة الستر على الشرك في الدنيا و الرحمة بعدم معاجلة العقاب فالمعنى و من عصاني بالإقامة على الشرك فاستر عليه ذلك و ارحمه بتأخير العقاب عنه، و قيل: إن الكلام على ظاهره و كان ذلك منه (عليه السلام) قبل أن يعلم أن الله لا يغفر الشرك، و لا نقص بجهل ذلك لأن مغفرة الشرك جائزة عقلا و إنما منع منها الدليل السمعي و ليس من الواجب أن يعلم بجميع الأدلة السمعية في يوم واحد، و قيل: المراد بالمعصية ما دون الشرك.
و هذه أجوبة فاسدة أما الأول فلأن دعوى كون الشرك جائز المغفرة في الشرائع السابقة دعوى لا دليل عليها بل الدليل على خلافها فقد خاطب الله آدم (عليه السلام) بمثل قوله: - و هو أول الشرائع السابقة - «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة: 39، و حكى عن المسيح (عليه السلام) و شريعته آخر الشرائع السابقة قوله: «إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة و مأواه النار و ما للظالمين من أنصار»: المائدة: 72، و التدبر في آيات القيامة و الجنة و النار و في آيات الشفاعة و في دعوات الأنبياء المحكية في القرآن لا يدع شكا في أن الشرك لا نجاة لصاحبه بشفاعة أو غيره إلا بالتوبة قبل الموت.
و أما الثاني فلأن تقييد المغفرة و الرحمة بالتوبة تقييد من غير مقيد على أن تقييد المعصية بالتوبة يفسد المعادلة في قوله: «فمن تبعني فإنه مني و من عصاني» إلخ، فإن العاصي التائب يعود ممن تبعه و يلحق به (عليه السلام) فلا يبقى للمعادلة أزيد من طرف واحد.
و أما الثالث و الرابع فلما فيهما من ارتكاب خلاف الظاهر فإن ظاهر طلب المغفرة للعاصي أن يغفر الله له حينما هو عاص لا أن يغفر الله له بعد خروجه بالتوبة عن المعصية إلى الطاعة و كذا ظاهر مغفرة العصيان رفع تبعات معصيته مطلقا أو في الآخرة، و أما رفع التبعة الدنيوية فقط فأمر بعيد عن الفهم.
و أما الخامس فهو أبعد الوجوه، و كيف يجوز الاجتراء على مثل الخليل (عليه السلام) و هو في أواخر عمره - كما تقدم - أن يجهل ما هو من واضحات المعارف الدينية ثم يجري على جهله فيشفع عند ربه للمشركين و يسأل لهم المغفرة من غير أن يستأذن الله في ذلك و لو استأذنه لأنبأه أن ذلك مما لا يكون ثم يورد الله سبحانه في كلامه ما ارتكبه من لغو الكلام جهلا و لا يرده ببيان ما هو الحق في ذلك، و قد اعتذر سبحانه عن استغفاره لأبيه المشرك و رفع عن ساحته كل غميضة فيما قال: «و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه»: التوبة: 114.
و أما السادس فتقييد المعصية بما دون الشرك تقييد من غير مقيد، اللهم إلا أن يقرر بما يرجع إلى ما قدمناه.
فهذه جملة ما ذكره المفسرون في ذيل الآيتين أوردناها ملخصه و قد وقعوا فيما وقعوا لإهمالهم تحقيق القول في معنى حفظه تعالى عن الشرك، و معنى تفرع قوله: «فمن تبعني فإنه مني» إلخ على ما تقدمه.
قوله تعالى: «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير ذي زرع عند بيتك المحرم» إلى آخر الآية «من ذريتي» في تأويل مفعول «أسكنت» أو ساد مسده و «من» فيه للتبعيض» و مراده (عليه السلام) ببعض ذريته ابنه إسماعيل و من سيولد له من الأولاد دون إسماعيل وحده بدليل قوله: بعد «ربنا ليقيموا الصلاة».
و المراد بغير ذي زرع غير المزروع و هو آكد و أبلغ لأنه يدل - كما قيل - على عدم صلاحيته لأن يزرع لكونه أرضا حجرية رملية خالية عن المواد الصالحة للزرع و هذا كقوله: «قرآنا غير ذي عوج».
و نسبة البيت إلى الله سبحانه لأنه مبني لغرض لا يصلح إلا له تعالى و هو عبادته، و كونه محرما هو ما جعل الله له من الحرمة تشريعا و الظرف أعني قوله «عند بيتك المحرم» متعلق بقوله «أسكنت».
و هذه الجملة من دعائه (عليه السلام) أعني قوله: «ربنا إني أسكنت - إلى قوله - المحرم» من الشاهد على ما قدمناه من أنه (عليه السلام) إنما دعا بهذا الدعاء في أواخر عمره بعد ما بنى الكعبة و بنى الناس بلدة مكة و عمروها كما أن من الشاهد عليه أيضا قوله: «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق».
و بذلك يندفع ما ربما يستشكل فيقال: كيف سماه بيتا و قال أسكنت من ذريتي عنده و لم يبنه بعد؟ كأن السائل يقدر أنه إنما دعا به يوم أتى بإسماعيل و أمه إلى أرض مكة و كانت أرضا قفراء لا أنيس بها و لا نبت.
و لا حاجة إلى دفعه بأنه كان يعلم بما علمه الله أنه سيبني هناك بيتا لله أو بأن البيت كان قبل ذلك و إنما خربه بعض الطوائف أو رفعه الله إلى السماء في الطوفان و ليت شعري إذا اندفع بهما هذا الإشكال فكيف يندفع بهما ما يتوجه من الإشكال على هذا التقدير إلى ظاهر قوله رب اجعل هذا البلد آمنا و ظاهر قوله: «وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق».
و قوله: «ربنا ليقيموا الصلاة» بيان لغرضه من إسكانهم هناك، و هو بانضمام ما تقدم من قوله: «بواد غير ذي زرع» و ما يعقبه من قوله: «فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم و ارزقهم من الثمرات» يفيد أنه (عليه السلام) إنما اختار واديا غير ذي زرع أعزل من أمتعة الحياة من ماء عذب و نبات ذي خضرة و شجر ذي بهجة و هواء معتدل خاليا من السكنة ليتمحضوا في عبادة الله من غير أن يشغلهم شواغل الدنيا.
و قوله: «فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم» إلخ من الهوي بمعنى السقوط أي تحن و تميل إليهم بالمساكنة معهم أو بالحج إلى البيت فيأنسوا بهم، و ارزقهم من الثمرات، بالنقل إليهم تجارة لعلهم يشكرون.
قوله تعالى: «ربنا إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن» إلى آخر الآية معناه ظاهر، و قوله: «و ما يخفى على الله شيء في الأرض و لا في السماء» من تمام كلام إبراهيم (عليه السلام) أو من كلامه تعالى، و على الأول ففي قوله: «على الله» التفات وجهه الإشارة إلى علة الحكم كأنه قيل: إنك تعلم ما نخفي و ما نعلن لأنك الله الذي ما يخفى عليه شيء في الأرض و لا في السماء، و لا يبعد أن يستفاد من هذا التعليل أن المراد بالسماء ما هو خفي علينا غائب عن حسنا و الأرض بخلافه فافهم ذلك.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل و إسحاق إن ربي لسميع الدعاء» كالجملة المعترضة بين فقرات دعائه دعاه إلى إيراده تذكره في ضمن ما أورده من الأدعية عظيم نعمة الله عليه إذ وهب له ولدين صالحين مثلهما بعد ما انقطع عنه الأسباب العادية المؤدية إلى ظهور النسل، و أنه إنما وهبهما له باستجابة دعائه للولد فحمد الله على ما وهبهما و أثنى عليه على استجابة دعائه في ذلك.
قوله تعالى: «رب اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي ربنا و تقبل دعاء الكلام» في استناد إقامته الصلاة إلى الله سبحانه نظير الكلام في استناد إجنابه أن يعبد الأصنام فإن لإقامة الصلاة نسبة إليه تعالى بالإذن و المشية كما أن لها نسبة إلى العبد بالتصدي و العمل و قد مر الكلام فيه.
و هذه الفقرة ثاني دعاء يشترك فيه هو (عليه السلام) و ذريته و يعقب في الحقيقة قوله أولا: «و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» كما يلحق به دعاؤه الثالث المشترك فيه: «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين».
و قد أفرد نفسه في جميع الفقرات الثلاث عن غيره إذ قال: «و اجنبني» «و اجعلني مقيم الصلاة» «اغفر لي» لأن مطلوبه لحوق ذريته به كما قال في موضع آخر: «و اجعل لي لسان صدق في الآخرين»: الشعراء: 84 و في موضع آخر كما حكاه الله بقوله: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن قال إني جاعلك للناس إماما قال و من ذريتي»: البقرة: 124.
و أما قوله في الفقرة الأولى «و اجنبني و بني» و هاهنا «اجعلني مقيم الصلاة و من ذريتي» فقد تقدم أن المراد ببنيه بعضهم لا جميعهم فتتطابق الفقرتان.
و من تطابق الفقرتين أنه أكد دعاءه في هذه الفقرة بقوله: «ربنا و تقبل دعاء» فإن سؤال تقبل الدعاء إلحاح و إصرار و تأكيد كما أن التعليل في الفقرة الأولى، بقوله: «رب إنهن أضللن كثيرا من الناس» تأكيد في الحقيقة لما فيها من الدعاء، بقوله: «و اجنبني» إلخ.
قوله تعالى: «ربنا اغفر لي و لوالدي و للمؤمنين يوم يقوم الحساب» ختم (عليه السلام) دعاءه - و هو آخر ما ذكر من دعائه في القرآن الكريم كما تقدم - بطلب المغفرة للمؤمنين يوم القيامة و يشبه آخر ما دعا به نوح (عليه السلام) مما ذكر في القرآن: «رب اغفر لي و لوالدي و لمن دخل بيتي مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات»: نوح: 28.
و في الآية دليل على أنه (عليه السلام) لم يكن ولد آزر المشرك لصلبه فإنه (عليه السلام) - كما ترى - يستغفر لوالديه و هو على الكبر و في آخر عهده «و قد تبرأ من آزر في أوائل عهده بعد ما استغفر له عن موعدة وعده إياه قال تعالى: «قال سلام عليك سأستغفر لك ربي»: مريم: 47، و قال: «و اغفر لأبي إنه كان من الضالين»: الشعراء: 86، و قال: «و ما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه»: التوبة: 114 و قد تقدم تفصيل القول في قصصه (عليه السلام) في سورة الأنعام في الجزء السابع من الكتاب.
و من لطيف ما في دعائه (عليه السلام) اختلاف النداء المكرر الذي فيه بلفظ «رب» و «ربنا» و العناية فيما أضيف إلى نفسه بما يختص بنفسه من السبقة و الإمامة، و فيما أضيف إلى نفسه و غيره إلى المشتركات.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الدلائل عن عقيل بن أبي طالب: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أتاه الستة النفر من الأنصار جلس إليهم عند جمرة العقبة فدعاهم إلى الله و إلى عبادته و المؤازرة على دينه فسألوه أن يعرض عليهم ما أوحي إليه فقرأ من سورة إبراهيم: «و إذ قال إبراهيم رب اجعل هذا البلد آمنا - و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام» إلى آخر السورة فرق القوم و أخبتوا حين سمعوا منه ما سمعوا و أجابوه.
و في تفسير العياشي، عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من أحبنا فهو منا أهل البيت فقلت: جعلت فداك منكم؟ قال: منا و الله أ ما سمعت قول الله و هو قول إبراهيم (عليه السلام): «فمن تبعني فإنه مني».
و فيه، عن محمد الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من اتقى الله منكم و أصلح فهو منا أهل البيت قال: منكم أهل البيت؟ قال: منا أهل البيت قال فيها إبراهيم: «فمن تبعني فإنه مني» قال عمر بن يزيد: قلت له: من آل محمد؟ قال إي و الله من آل محمد إي و الله من أنفسهم أ ما تسمع قول الله تعالى: «إن أولى الناس بإبراهيم - للذين اتبعوه» و قول إبراهيم: «فمن تبعني فإنه مني»؟.
أقول: و قد ورد في بعض الروايات أن بني إسماعيل لم يعبدوا صنما قط إثر دعاء إبراهيم: و اجنبني و بني أن نعبد الأصنام، و أنهم إنما قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند الله و الظاهر أن الرواية موضوعة، و قد تقدمت الإشارة إليه في البيان السابق.
و كذا ما ورد في بعض الروايات من طرق العامة و الخاصة أن أرض الطائف كانت في الأردن من أرض فلسطين فلما دعا إبراهيم (عليه السلام) لبنيه بقوله: «و ارزقهم من الثمرات» أمر الله بها فسارت بترابها إلى مكة فطافت على البيت سبعة أشواط ثم استقرت حيث الطائف الآن.
و هذا و إن كان ممكن الوقوع في نفسه من طريق الإعجاز لكن لا يكفي لثبوته أمثال هذه الروايات الضعيفة و المرسلة على أن هذه الآيات في مقام الامتنان و لو قارن هذا الدعاء و استجابته تعالى له مثل هذه الآية العظيمة العجيبة و المعجزة الباهرة لأشير إليها مزيدا للامتنان.
و الله أعلم.
و في مرسلة العياشي، عن حريز عمن ذكره عن أحدهما (عليهما السلام): أنه كان يقرأ «رب اغفر لي و لولدي» يعني: إسماعيل و إسحاق، و في مرسلته الأخرى عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام): مثله و ظاهر هذه الرواية أن القراءة مبنية على كفر والد إبراهيم و الروايتان ضعيفتان لا يعبأ بهما.
|