بيان
لما أنذر و بشر سبحانه في الآيات السابقة و دعا إلى صراطه بما أنه العزيز الحميد ختم بيانه بدفع ما ربما يسبق إلى أوهام ضعفاء العقول من الناس من أن الأمر لو كان على ما ذكر و كانت هذه الدعوة دعوة نبوية من لدن رب عزيز حميد فما بال هؤلاء الظالمين يتمتعون بما شاءوا؟ و ما باله لا يأخذ الظالمين بظلمهم و لا يلجم المتخلفين عن دعوته المخالفين عن أمره؟ أ هو في غفلة عما يعملونه أم هو مخلف وعده رسله يعدهم بالنصر ثم لا يفي بوعده؟.
فأجاب تعالى أنه ليس بغافل عما يعمل الظالمون و لا مخلف وعده رسله كيف؟ و هو تعالى عليم بما يمكرون و عزيز ذو انتقام بل إنما يؤخرهم ليوم شديد و هو يوم الجزاء.
على أنه تعالى ربما أخذهم بذنوبهم في الدنيا كما أخذ الأمم الماضين.
ثم ختم السورة بقوله: «هذا بلاغ للناس و لينذروا به و ليعلموا أنما هو إله واحد و ليذكر أولوا الألباب» و هي آية جامعة لغرض السورة كما سيجيء بيانه إن شاء الله.
قوله تعالى: «و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون» إلى آخر الآيتين يقال: شخص بصره أي سكن بحيث لا يطرف جفنه، و يقال: بعير مهطع إذا صوب عنقه أي رفعه و هطع و أهطع بمعنى، و يقال: أقنع رأسه إذا رفعه، و قوله: لا يرتد إليهم طرفهم أي لا يقدرون على أن يطرفوا من هول ما يشاهدونه، و قوله: و أفئدتهم هواء أي قلوبهم خالية عن التعقل و التدبير لشدة الموقف أو أنها زائلة.
و المعنى: و لا تحسبن الله و لا تظننه غافلا عما يعمل هؤلاء الظالمون بما تشاهد من تمتعهم و إترافهم في العيش و إفسادهم في الأرض إنما يمهلهم الله و يؤخر عقابهم إلى يوم يسكن فيه أبصارهم فلا تطرف و الحال أنهم مادون لأعناقهم رافعون لرءوسهم لا يقدرون على رد طرفهم و قلوبهم مدهوشة خالية عن كل تحيل و تدبير من شدة هول يوم القيامة و في الآية إنذار للظالمين و تعزية لغيرهم.
قوله تعالى: «و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب» إلى آخر الآية.
في الآية إنذار بعد إنذار و بين الإنذارين فرق من جهتين: إحداهما: أن الإنذار في الآيتين السابقتين إنذار بما أعد الله من أهوال يوم القيامة و أليم العذاب فيه، و أما الذي في هذه الآية و ما يتلوها فهو إنذار بعذاب الاستئصال في الدنيا و من الدليل عليه قوله: «فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب» إلخ.
و بذلك يظهر أن لا وجه لما ذكره بعضهم أن المراد بهذا اليوم الذي يأتيهم فيه العذاب هو يوم القيامة، و كذا ما ذكره آخرون أن المراد به يوم الموت.
و الثانية: أن الإنذار الأول إنذار بعذاب قطعي لا صارف له عن أمة ظالمة و لا فرد ظالم من أمة و أما الإنذار الثاني فهو إنذار بعذاب غير مصروف عن أمة ظالمة و أما الفرد فربما صرف عنه، و لذلك ترى أنه تعالى يقول أولا: «و أنذر الناس» ثم يقول: «فيقول الذين ظلموا» إلخ و لم يقل: فيقولون أي الناس لأن عذاب الاستئصال لا يصيب المؤمنين قال تعالى: «ثم ننجي رسلنا و الذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين»: يونس: 103 و إنما يصيب الأمة الظالمة بحلول أجلهم و هم طائفة من ظالمي الأمة لا جميع أفرادها.
و بالجملة فقوله: «و أنذر الناس يوم يأتيهم العذاب» إنذار للناس بعذاب الاستئصال الذي يقطع دابر الظالمين منهم، و قد تقدم في تفسير سورة يونس و غيره أن ذلك مكتوب على الأمم قضاء بينهم و بين رسولهم حتى هذه الأمة المحمدية و قد تكرر هذا الوعيد منه تعالى في عدة مواضع من كلامه.
و هذا هو اليوم الذي يطهر الله الأرض فيه من قذارة الشرك و الظلم و لا يعبد عليها يومئذ إلا الله سبحانه فإن الدعوة عامة و الأمة هم أهل الأرض فإذا محا الله عنهم الشرك لم يبق منهم إلا المؤمنون و يكون الدين كله لله، قال تعالى: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون».
و مما تقدم يظهر الجواب عما أورد على كون المراد بالعذاب في الآية عذاب الاستئصال أن القصر في الآية السابقة ينافيه فإن قوله: «إنما يؤخرهم ليوم تشخص فيه الأبصار» يقصر أخذهم و عقابهم في يوم القيامة.
و ذلك لما عرفت أن العذاب المنذر به في الآيتين السابقتين هو العذاب الذي لا يصرفه عنهم صارف و لا يتخلف عنه أحد من الظالمين و هو مقصور في عذاب يوم القيامة، و لا ينافي انحصاره في يوم القيامة وجود نوع آخر من العذاب في الدنيا.
على أن القصر لو تم على ما يريده المعترض لدفع ما يدل عليه الآيات الكثيرة الدالة على نزول العذاب بهذه الأمة كما أشرنا إليه.
على أن حمل العذاب في الآية على عذاب يوم القيامة يوجب صرف الآيات عن ظهورها و رفع اليد عما يعطيه السياق فيها و لا مساغ له.
و قوله: «فيقول الذين ظلموا ربنا أخرنا إلى أجل قريب نجب دعوتك و نتبع الرسل» المراد به الظالمون من الناس و هم الذين يأخذهم العذاب المستأصل و لا يتخطاهم، و مرادهم بقولهم: «أخرنا إلى أجل قريب» الاستمهال بمدة قصيرة تضاف إلى عمرهم في الدنيا حتى يتداركوا فيه ما فوتوه بظلمهم و الدليل عليه قولهم: «نجب دعوتك و نتبع الرسل».
و التعبير بالرسل بلفظ الجمع في قولهم: «و نتبع الرسل مع أن الآية تصف حال ظالمي هذه الأمة ظاهرا و كان مقتضى ذلك أن يقال: و نتبع الرسول إنما هو للدلالة على أن الملاك في نزول هذا العذاب القضاء بين الرسالة و بين منكريها من غير اختصاص ذلك برسول دون رسول كما يفيده قوله: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: يونس: 47.
و قوله: «أ و لم تكونوا أقسمتم من قبل ما لكم من زوال» الإقسام تعليق الحكم في الكلام بأمر شريف من جهة شرافته ليدل به على صدقه إذ لو كذب المتكلم و قد أقسم في كلامه لأذهب بذلك شرف المقسم به كقولنا: و الله إن كذا لكذا و لعمري إن الأمر على كذا، و يعد القسم أقوى أسباب التأكيد.
و لا يبعد أن يكون الإقسام في الآية كناية عن إيراد الكلام في صورة جازمة غير قابلة للترديد.
و الكلام على تقدير القول و المعنى يقال لهم توبيخا و تبكيتا: أ لم تكونوا أقسمتم من قبل نزول العذاب ما لكم من زوال و أنكم بما عندكم من القوة و السطوة و وسائل الدفاع أمة خالدة مسيطرة على الحوادث فما لكم تستمهلون إلى أجل قريب.
قوله تعالى: «و سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم» إلى آخر الآية معطوف على محل قوله: «أقسمتم» في الآية السابقة، و المعنى: أ و لم تكونوا سكنتم في مساكن الذين ظلموا أنفسهم من الأمم السابقة، و ظهر لكم أن هذه الدعوة حقة و يتعقبها لو ردت عذاب مستأصل، من جهتين: جهة المشاهدة حيث تبين لكم كيف فعلنا بأولئك الظالمين الذين سكنتم في مساكنهم؟ و جهة البيان حيث ضربنا لكم الأمثال و أنذرناكم عذابا مستأصلا يتعقبه إنكار الحق و رد الدعوة النبوية و يقطع دابر الظالمين.
قوله تعالى: «و قد مكروا مكرهم و عند الله مكرهم و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال» حال من الضمير في «فعلنا» في الآية السابقة أو من الضمير في «بهم» فيها أو من الضميرين جميعا على ما قيل، و ضمائر الجمع راجعة إلى «الذين ظلموا».
و المراد بكون مكرهم عند الله إحاطته تعالى به بعلمه و قدرته، و من المعلوم أن المكر إنما يكون مكرا إذا لم يحط به الممكور به و جهله، و أما إذا كان الممكور به عالما بما هيأه الماكر من المكر و قادرا على دفعه لغا المكر أو عاد مكرا على نفس الماكر كما قال تعالى: «و ما يمكرون إلا بأنفسهم و ما يشعرون»: الأنعام: 123.
و قوله: «و إن كان مكرهم لتزول منه الجبال» إن وصلية - على ما قيل - و اللام في «لتزول» متعلق بمقدر يدل عليه لفظ المكر كقولنا يقتضي أو يوجب و ما أشبه ذلك، و التقدير: الله محيط بمكرهم عالم به قادر على دفعه إن كان مكرهم دون هذه الشدة و إن كان على هذه الشدة.
و المعنى تبين لكم كيف فعلنا بهم و الحال أنهم مكروا ما في وسعهم من المكر و الله محيط بمكرهم و إن كان مكرهم عظيما موجبا لزوال الجبال.
و ربما قيل: إن «إن» نافية و اللام هي الداخلة على المنفي و المراد بالجبال الآيات و المعجزات كناية و المعنى و ما كان مكرهم لتبطل به آيات الله و معجزاته التي هي كالجبال الراسيات التي لا تزول عن مكانها، و أيد هذا المعنى بقراءة ابن مسعود «و ما كان مكرهم» و هو معنى بعيد.
و قرىء أيضا: «لتزول» بفتح اللام الأولى و ضم اللام الثانية، و على هذا تكون «إن» مخففة من المشددة و المعنى و التحقيق أن مكرهم كان من العظمة بحيث تزول منه الجبال.
قوله تعالى: «فلا تحسبن الله مخلف وعده رسله إن الله عزيز ذو انتقام» تفريع على ما تقدم أن ترك مؤاخذة الظالمين بعملهم إنما هو لتأخيرهم إلى يوم القيامة أي إذا كان الأمر كذلك فلا تحسبن الله مخلفا لما وعد رسله من نصرهم و مؤاخذة المتخلفين عن دعوتهم، و كيف يخلف وعده و هو عزيز ذو انتقام شديد و لازم عزته المطلقة أن لا يخلف وعده فإن إخلاف الوعد إما لكون الواعد غير قادر على إنجاز ما وعده أو لتغير من الرأي بعروض حال ثانية تقهره على خلاف ما بعثته إليه الحال الأولى التي أوجبت عليه الوعد و الله سبحانه عزيز على الإطلاق لا يتصف بعجز و لا تقهره حال و لا شيء آخر و هو الواحد القهار.
و لازم اتصافه بالانتقام أن ينتقم للحق ممن استكبر عنه و استعلى عليه و ينتصف للمظلوم من الظالم.
و ذو انتقام من أسمائه تعالى الحسنى التي سمى الله تعالى بها نفسه في مواضع من كلامه و قارنه في جميعها باسمه العزيز، قال تعالى: «و الله عزيز ذو انتقام»: آل عمران: 4، المائدة: 95، و قال: «أ ليس الله بعزيز ذو انتقام»: الزمر: 37، و قال في الآية المبحوث عنها: «إن الله عزيز ذو انتقام» و من ذلك يظهر أن «ذا انتقام» من فروع اسم «العزيز.
كلام في معنى الانتقام و نسبته إليه تعالى
الانتقام هو العقوبة لكن لا كل عقوبة بل عقوبة خاصة و هي أن تذيق غيرك من الشر ما يعادل ما أذاقك منه أو تزيد عليه قال تعالى: «و من اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم و اتقوا الله».
و هو أصل حيوي معمول به عند الإنسان و ربما يشاهد من بعض الحيوان أيضا أعمال يشبه أن تكون منه، و أيا ما كان يختلف الغرض الذي يبعث الإنسان إليه فالداعي إليه في الانتقام الفردي هو التشفي غالبا فإذا سلب الواحد من الإنسان غيره شيئا من الخير أو أذاقه شيئا من الشر وجد الذي فعل به ذلك في نفسه من الأسى و الأسف ما لا تسكن فورته و لا تخمد ناره إلا بأن يذيقه من الشر ما يعادل ما ذاق منه أو يزيد عليه فالعامل الذي يدعو إليه هو الإحساس الباطني و أما العقل فربما أجازه و أنفذه و ربما استنكف.
و الانتقام الاجتماعي و نعني به القصاصات و أنواع المؤاخذات التي نعثر عليها في السنن و القوانين الدائرة في المجتمعات أعم من الراقية و الهمجية الغالب فيه أن يكون الغرض الداعي إليه غاية فكرية و مطلوبا عقليا و هو حفظ النظام عن الاختلال و سد طريق الهرج و المرج فلو لا أصل الانتقام و مؤاخذة المجرم الجاني بما أجرم و جنى اختل الأمن العام و ارتحل السلام من بين الناس.
و لذا كان هذا النوع من الانتقام حقا من حقوق المجتمع و إن كان ربما استصحب حقا فرديا كمن ظلم غيره بما فيه مؤاخذة قانونية فربما يؤاخذ الظالم استيفاء لحق المجتمع و إن أبطل المظلوم حقه بالعفو.
فقد تبين أن من الانتقام ما يبتني على الإحساس و هو الانتقام الفردي الذي غايته التشفي، و منه ما يبتني على العقل و هو الانتقام الاجتماعي الذي غايته حفظ النظام و هو من حقوق المجتمع و إن شئت قلت من حقوق السنة أو القانون الجاري في المجتمع فإن استقامة الأحكام المعدلة لحياة الناس و سلامتها في نفسها تقتضي مؤاخذة المجرم المتخلف عنها و إذاقته جزاء سيئته المر، فهو من حقوق السنة و القانون كما أنه من حقوق المجتمع.
إذا عرفت هذا علمت أن ما ينسب إليه تعالى في الكتاب و السنة من الانتقام هو ما كان حقا من حقوق الدين الإلهي و الشريعة السماوية و إن شئت فقل من حقوق المجتمع الإسلامي و إن كان ربما استصحب الحق الفردي فيما إذا انتصف سبحانه للمظلوم من ظالمه فهو الولي الحميد.
و أما الانتقام الفردي المبني على الإحساس لغاية التشفي فساحته المقدسة أعز من أن يتضرر بإجرام المجرمين و معصية المسيئين أو ينتفع بطاعة المحسنين.
و من هنا يظهر سقوط ما ربما استشكله بعضهم أن الانتقام إنما يكون لتشفي القلب و إذ كان تعالى لا ينتفع و لا يتضرر بشيء من أعمال عباده خيرا أو شرا طاعة أو معصية فلا وجه لنسبة الانتقام إليه كما أن رحمته غير المتناهية تأبى أن يعذبهم بعذاب خالد غير متناه كيف لا؟ و الواحد من أرباب الرحمة يرحم المجرم المقدم على أي معصية إذا كان عن جهالة منه و هو تعالى يصف الإنسان - و هو مخلوقه المعلوم له حاله - بذلك إذ يقول: «إنه كان ظلوما جهولا»: الأحزاب: 72.
وجه السقوط أن فيه خلطا بين الانتقام الفردي و الاجتماعي، و الذي يثبت فيه تعالى هو الاجتماعي منه دون الفردي كما توهم كما أن فيه خلطا بين الرحمة النفسانية التي هي تأثر و انفعال قلبي من الإنسان و بين الرحمة العقلية التي هي تتميم نقص الناقص المستعد لذلك، و التي تثبت فيه تعالى هي الرحمة العقلية دون الرحمة النفسانية و لم يثبت الخلود في العذاب إلا فيما إذا بطل استعداد الرحمة و إمكان الإفاضة قال تعالى: «بلى من كسب سيئة و أحاطت به خطيئته فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة: 81.
و هاهنا نكتة يجب أن تتنبه لها و هي أن الذي تقدم من معنى الانتقام المنسوب إليه تعالى إنما يتأتى على مسلك المجازاة و الثواب و العقاب، و أما على مسلك نتائج الأعمال فترجع حقيقته إلى لحوق الصور السيئة المؤلمة بالنفس الإنسانية عن الملكات الرديئة التي اكتسبتها في الحياة الدنيا، بعد الموت، و قد تقدم البحث في الجزء الأول من الكتاب في ذيل قوله تعالى: «إن الله لا يستحي أن يضرب مثلا ما» الآية: البقرة: 26 في جزاء الأعمال.
قوله تعالى: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات و برزوا لله الواحد القهار» الظرف متعلق بقوله: «ذو انتقام» و تخصيص انتقامه تعالى بيوم القيامة مع عمومه لجميع الأوقات و الظروف إنما هو لكون اليوم أعلى مظاهر الانتقام الإلهي كما أن تخصيص بروزهم لله بذلك اليوم كذلك، و على هذا النسق جل الأوصاف المذكورة في كلامه تعالى ليوم القيامة كقوله: «الأمر يومئذ لله»: الانفطار: 19، و قوله: «ما لكم من الله من عاصم»: المؤمن: 33، إلى غير ذلك و قد تقدمت الإشارة إليه كرارا.
و الظاهر أن اللام في الأرض للعهد في الموضعين معا و كذا في السماوات و السماوات معطوفة على الأرض الأولى و المعنى تبدل هذه الأرض غير هذه الأرض و تبدل هذه السماوات غير هذه السماوات.
و للمفسرين في معنى تبدل الأرض و السماوات أقوال مختلفة: فقيل: تبدل الأرض فضة و السماوات ذهبا و ربما قيل إن الأرض تبدل من أرض نقية كالفضة و السماوات كذلك.
و قيل: تبدل الأرض نارا و السماوات جنانا.
و قيل: تبدل الأرض خبزة نقية يأكل الناس منها طول يوم القيامة.
و قيل: تبدل الأرض لكل فريق مما يقتضيه حاله فتبدل لبعض المؤمنين خبزة يأكل منها ما دام في العرصات و لبعض آخر فضة و تبدل للكافر نارا.
و قيل: التبديل هو أنه يزاد في الأرض و ينقص منها و تذهب آكامها و جبالها و أوديتها و شجرها و تمد مد الأديم و تصير مستوية لا ترى فيها عوجا و لا أمتا، و تتغير السماوات بذهاب الشمس و القمر و النجوم و بالجملة يتغير كل من الأرض و السماوات عما هو عليه في الدنيا من الصفات و الأشكال.
و منشأ اختلافهم في تفسير التبديل اختلاف الروايات الواردة في تفسير الآية مع أن الروايات لو صحت و اتصلت كان اختلافها أقوى شاهد على أن ظاهرها غير مراد و أن بياناتها واقعة موقع التمثيل للتقريب.
و التدبر الكافي في الآيات التي تحوم حول تبديل الأرض و السماء يفيد أن أمر التبديل أعظم مما تتصوره من بسط الجبل على السهل أو تبديل التراب فضة أو خبزا نقيا مثلا كقوله تعالى: «و أشرقت الأرض بنور ربها»: الزمر - 69 و قوله: «و سيرت الجبال فكانت سرابا»: النبأ: 20، و قوله: «و ترى الجبال تحسبها جامدة و هي تمر مر السحاب»: النمل: 88 إن كانت الآية ناظرة إلى يوم القيامة إلى غير ذلك من الآيات.
فالآيات تنبىء عن نظام غير هذا النظام الذي نعهده و شئون دون ما نتصوره فإشراق الأرض يومئذ بنور ربها غير إشراق بسيطها بنور الشمس أو الكواكب أو غيرها، و سير الجبال ينتهي عادة إلى زوالها عن مكانها و تلاشيها مثلا لا إلى كونها سرابا، و هكذا نرجو أن يوفقنا الله سبحانه لبسط الكلام في هذا المعنى فيما سيأتي إن شاء الله تعالى.
و قوله: «و برزوا لله الواحد القهار» معنى بروزهم و ظهورهم لله يومئذ - مع كون الأشياء بارزة غير خفية عليه دائما - سقوط جميع العلل و الأسباب التي كانت تحجبهم عنه تعالى ما داموا في الدنيا فلا يبقى يومئذ - على ما يشاهدون - شيء من الأسباب يملكهم و يتولى أمرهم و يستقل بالتأثير فيهم إلا الله سبحانه كما يدل عليه آيات كثيرة فهم لا يلتفتون إلى جانب و لا يتوجهون إلى جهة في ظاهرهم و باطنهم و حاضرهم و الماضي الغائب من أحوالهم و أعمالهم إلا وجدوه سبحانه شاهدا مهيمنا عليه محيطا به.
و الدليل على هذا الذي ذكرناه توصيفه تعالى بالواحد القهار المشعر بنوع من الغلبة فبروزهم لله يومئذ إنما هو ناشىء عن كونه تعالى هو الواحد الذي يقوم به وجود كل شيء و يقهر كل من دونه من مؤثر فلا يحول بينهم و بينه حائل فهم بارزون له بروزا مطلقا.
قوله تعالى: «و ترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد سرابيلهم من قطران و تغشى وجوههم النار» المقرنين من التقرين و هو جمع الشيء إلى نظيره و الأصفاد جمع الصفد و هو الغل الذي يجمع اليد إلى العنق أو هو مطلق السلسلة يقرن بين المقيدين، و السرابيل جمع السربال و هو القميص و القطران شيء أسود منتن يطلى به الإبل فإنهم يطلون به فيصير كالقميص عليهم و الغشاوة بالفتح الستر و التغطية يقال: غشي يغشى غشاوة أي ستره و غطاه، و معنى الآيتين واضح.
قوله تعالى: «ليجزي الله كل نفس ما كسبت إن الله سريع الحساب» معنى الآية واضح، و هي بظاهرها تدل على أن الذي تجزى به كل نفس هو عين ما كسبته من حسنة أو سيئة و إن تبدلت صورته، فهي من الآيات الدالة على أن الذي يلحق بهم يوم القيامة هو نتيجة أعمالهم.
فالآية تفسر أولا معنى الجزاء في يوم الجزاء، و ثانيا معنى انتقامه تعالى يومئذ و أنه ليس من قبيل عقوبة المجرم العاصي تشفيا منه بل إلحاق ما يستدعيه عمل المجرم به و إن شئت فقل إيصال ما اكتسبه المجرم بعينه إليه.
و في تعليل هذا الجزاء و هو في يوم القيامة بقوله: «إن الله سريع الحساب» إيماء إلى أن الجزاء واقع من غير فصل و مهل إلا أن ظرف ظهوره هو ذلك اليوم لا غير، أو أن الحكم بالجزاء و كتابته واقع عند العمل و تحققه يوم القيامة و مآل الوجهين واحد في الحقيقة.
قوله تعالى: «هذا بلاغ للناس و لينذروا به و ليعلموا أنما هو إله واحد و ليذكر أولوا الألباب» البلاغ بمعنى التبليغ على ما ذكره الراغب أو بمعنى الكفاية على ما ذكره غيره.
و الآية خاتمة السورة فالأنسب أن تكون الإشارة بهذا إلى ما أورد في السورة من البيان لا إلى مجموع القرآن كما ذكره بعضهم و لا إلى ما ذكر من قوله تعالى: «و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون» إلى آخر السورة كما ذكره آخرون.
و قوله: «و لينذروا به» إلخ، اللام فيه للغاية و هو معطوف على محذوف إنما حذف لفخامة أمره و عظم شأنه لا يحيط به أفهام الناس لاشتماله من الأسرار الإلهية على ما لا يطيقونه، و إنما تسع عقولهم ما ذكر من غاياته و هو الإنذار و العلم بوحدانيته تعالى و التذكر، فهم ينذرون بما ذكر فيها من مؤاخذته تعالى الظالمين عاجلا و آجلا، و تتم عليهم الحجة بما ذكر فيها من آيات التوحيد، و يتذكر المؤمنون منهم خاصة بما فيها من المعارف الإلهية.
و بهذا يتطابق مختتم السورة و مفتتحها أعني قوله في أول السورة: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميد» فقد تقدم أن مدلول الآية أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة و التبليغ إلى صراط الله بما أنه تعالى ربهم العزيز الحميد ليخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذنه فإنهم إن استجابوا الدعوة و آمنوا خرجوا بذلك من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان بالفعل و إن لم يستجيبوا أنذروا و وقفوا على التوحيد الحق و خرجوا من الجهل إلى العلم و هو نوع خروج من الظلمة إلى النور و إن كان وبالا عليهم و خسارا ففي الدعوة - على أي حال - إنذار للناس و إعلامهم أنما هو إله واحد و تذكر لأولي الألباب منهم خاصة و هم المؤمنون.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن ثوبان: أن يهوديا جاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا محمد فرفعه ثوبان برجله و قال: قل: يا رسول الله فقال: لا أدعوه إلا بأسماء أهله قال: أ رأيت قول الله: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات» أين الناس يومئذ قال: في الظلمة دون المحشر. قال: فما أول ما يأكل أهل الجنة إذا دخلوها؟ قال كبد الحوت قال: فما شرابهم على إثر ذلك، قال: السلسبيل. قال صدقت يا محمد.
أقول: و روي الحديث في الدر المنثور، عن مسلم و ابن جرير و الحاكم و البيهقي في الدلائل عن ثوبان: مثله إلى قوله: في الظلمة و روي أيضا عن عدة عن عائشة: أنها سألت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك فقال: على الصراط.
و في تفسير العياشي، عن ثوير بن أبي فاختة عن الحسين بن علي (عليهما السلام) قال: «تبدل الأرض غير الأرض» يعني بأرض لم يكتسب عليها الذنوب بارزة ليست عليها جبال و لا نبات كما دحاها أول مرة.
أقول: و رواه القمي أيضا في تفسيره، و فيه دلالة على حدوث الجبال و كذا النبات بعد تمام خلقة الأرض.
و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في قول الله: يوم تبدل الأرض غير الأرض». قال: أرض بيضاء كأنها فضة لم يسفك فيها دم حرام و لم تعمل فيها خطيئة.
أقول: و رواه أيضا عن ابن مردويه عن علي عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): مثله.
و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب في الآية قال: تبدل الأرض من فضة و السماء من ذهب.
أقول: و حمل بعضهم الكلام على التشبيه كما وقع في حديث ابن مسعود السابق.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سأله أبرش الكلبي عن قول الله عز و جل: «يوم تبدل الأرض غير الأرض» قال: تبدل خبزة نقية يأكل الناس منها حتى يفرغ من الحساب. فقال الأبرش: فقلت: إن الناس يومئذ لفي شغل من الأكل فقال أبو جعفر (عليه السلام) فهم في النار لا يشتغلون عن أكل الضريع و شرب الحميم و هم في عذاب فكيف يشتغلون عنه في الحساب؟.
أقول: و قوله: «تبدل خبزة نقية» يحتمل التشبيه كما ربما يستفاد من الخبر الآتي.
و في إرشاد المفيد، و احتجاج الطبرسي، عن عبد الرحمن بن عبد الله الزهري قال: حج هشام بن عبد الملك فدخل المسجد الحرام متكئا على ولد سالم مولاه و محمد بن علي بن الحسين (عليهما السلام) جالس في المسجد فقال له سالم مولاه يا أمير المؤمنين هذا محمد بن علي قال هشام: المفتونون به أهل العراق؟ قال: نعم. فقال: اذهب إليه فقل له: يقول لك أمير المؤمنين: ما الذي يأكل الناس و يشربون إلى أن يفصل بينهم يوم القيامة قال أبو جعفر (عليه السلام): يحشر الناس على مثل قرص نقي فيها أنهار متفجرة يأكلون و يشربون حتى يفرغ من الحساب. قال: فرأى هشام أنه قد ظفر به فقال: الله أكبر اذهب إليه فقل: ما أشغلهم عن الأكل و الشرب يومئذ. فقال أبو جعفر (عليه السلام): هم في النار أشغل و لم يشتغلوا عن ذلك قالوا أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله. فسكت هشام لا يرجع كلاما و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أفلح مولى أبي أيوب: أن رجلا من يهود سأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «يوم تبدل الأرض غير الأرض» ما الذي تبدل به؟ فقال: خبزة، فقال اليهودي: درمكة بأبي أنت، قال: فضحك ثم قال: قاتل الله اليهود هل تدرون ما الدرمكة؟ لباب الخبز.
و فيه، أخرج أحمد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو نعيم في الدلائل عن أبي أيوب الأنصاري قال: أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حبر من اليهود و قال: أ رأيت إذ يقول الله: «يوم تبدل الأرض غير الأرض» فأين الخلق عند ذلك؟ قال: أضياف الله لن يعجزهم ما لديه.
أقول: و اختلاف الروايات في تفسير التبديل لا يخلو عن دلالة على أنها أمثال مضروبة للتقريب و المسلم من معنى التبدل أن حقيقة الأرض و السماء و ما فيهما يومئذ هي هي غير أن النظام الجاري فيهما يومئذ هو غير النظام الجاري فيهما في الدنيا.
و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: لقد خلق الله عز و جل في الأرض منذ خلقها سبعة عالمين ليس فيهم من ولد آدم، خلقهم من أديم الأرض فأسكنهم فيها واحدا بعد واحد مع عالمه. ثم خلق الله عز و جل آدم أبا البشر و خلق ذريته منه لا و الله ما خلت الجنة من أرواح المؤمنين منذ خلقها، و لا خلت النار من أرواح الكفار و العصاة منذ خلقها عز و جل لعلكم ترون إذا كان يوم القيامة و صير أبدان أهل الجنة مع أرواحهم في الجنة و صير أبدان أهل النار مع أرواحهم في النار إن الله تعالى لا يعبد في بلاده و لا يخلق خلقا يعبدونه و يوحدونه؟ بلى و الله ليخلقن الله خلقا من غير فحولة و لا إناث يعبدونه و يوحدونه و يعظمونه و يخلق لهم أرضا تحملهم و سماء تظلهم أ ليس الله عز و جل يقول: «يوم تبدل الأرض غير الأرض و السماوات»؟ و قد قال عز و جل: «أ فعيينا بالخلق الأول بل هم في لبس من خلق جديد».
أقول: و رواه العياشي، في تفسيره عن محمد بن مسلم عنه (عليه السلام): مثله، و هو غير المعاني التي أوردناها سابقا.
و في تفسير القمي، قوله: «يوم تبدل الأرض غير الأرض» قال تبدل خبزة بيضاء في الموقف يأكل منها المؤمنون «و ترى المجرمين يومئذ مقرنين في الأصفاد» قال: قال: مقرنين بعضهم إلى بعض «سرابيلهم من قطران» قال: قال: السرابيل القميص.
قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «سرابيلهم من قطران» هو الصفر الحار المذاب انتهى حره يقول الله عز و جل: «و تغشى وجوههم النار» سربلوا ذلك الصفر و تغشى وجوههم النار.
أقول: يعني أن المراد بالجملتين: «سرابيلهم من قطران و تغشى وجوههم النار» جميعا بيان أنهم مستورون مغشيون أما أبدانهم فبالقطران و أما وجوههم فبالنار.
|