بيان
استئناف يعود فيه إلى ذكر جزاء الأعمال و عود الجميع إلى الله الحق، و قد تقدم إيماء إلى ذلك، و فيه إثبات توحيد الربوبية.
قوله تعالى: «للذين أحسنوا الحسنى و زيادة و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة» إلخ، الحسنى مؤنث أحسن و المراد المثوبة الحسنى، و المراد بالزيادة الزيادة على الاستحقاق بناء على أن الله جعل من فضله للعمل مثلا من الجزاء و الثواب ثم جعله حقا للعامل في مثل قوله: «لهم أجرهم عند ربهم: آل عمران - 199 ثم ضاعفه و جعل المضاعف منه أيضا حقا للعامل كما في قوله: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها»: الأنعام - 160 و عند ذلك كان مفاد قوله: «للذين أحسنوا الحسنى» استحقاقهم للجزاء و المثوبة الحسنى، و تكون الزيادة هي الزيادة على مقدار الاستحقاق من المثل أو العشرة الأمثال نظير ما يفيده قوله: «فأما الذين آمنوا و عملوا الصالحات فيوفيهم أجورهم و يزيدهم من فضله»: النساء: - 173.
و لو كان المراد بالحسنى في قوله: «للذين أحسنوا الحسنى» العاقبة الحسنى، و ليس فيما يعقل فوق الحسنى شيء كان معنى قوله: «و زيادة» الزيادة على ما يعقله الإنسان من الفضل الإلهي كما يشير إليه قوله: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين»: الم السجدة - 17 و ما في قوله: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق - 35 فإن من المعلوم أن كل أمر حسن يشاؤه الإنسان فالمزيد على ما يشاؤه أمر فوق ما يدركه فافهم ذلك.
و الرهق بفتحتين اللحوق و الغشيان يقال: رهقه الدين أي لحق به و غشيه، و القتر الدخان الأسود أو الغبار الأسود، و في توصيفهم بقوله: «و لا يرهق وجوههم قتر و لا ذلة» محاذاة لما في الآية التالية من وصف أهل النار بسواد وجوههم بالقتر و هو سواد صوري و الذلة و هي سواد معنوي.
و المعنى: للذين أحسنوا في الدنيا المثوبة الحسنى و زيادة من فضل الله - أو العاقبة الحسنى و زيادة لا تخطر ببالهم - و لا يغشى وجوههم سواد من قتر و لا ذلة، و أولئك أصحاب الجنة هم فيها خالدون.
قوله تعالى: «و الذين كسبوا السيئات جزاء سيئة بمثلها و ترهقهم ذلة» إلى آخر الآية، جملة «جزاء سيئة بمثلها» مبتدأ لخبر محذوف و التقدير: لهم جزاء سيئة بمثلها من العذاب، و الجملة خبر للمبتدإ الذي هو قوله: «الذين كسبوا السيئات» و المراد أن الذين كسبوا السيئات لا يجزون إلا مثل ما عملوه من العقوبات السيئة فجزاء فعلة سيئة عقوبة سيئة.
و قوله: «ما لهم من الله من عاصم» أي ما لهم عاصم يعصمهم من الله أي من عذابه و فيه نفي لشركائهم الذين يظنونهم شفعاء على وجه ينفي كل عاصم مانع سواء كان شريكا شفيعا أو ضدا قويا ممانعا أو أي عاصم غيرهما.
و قوله: «كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما» القطع جمع قطعة و مظلما حال من الليل، و المراد كان الليل المظلم قسم إلى قطع فأغشيت وجوههم تلك القطع فاسودت بالتمام، و المتبادر منه أن يغشى وجه كل من المشركين بقطعة من تلك القطع لا كما فسره بعضهم أن المراد أن الوجوه أغشيت تلك القطع قطعة بعد قطعة فصارت ظلمات بعضها فوق بعض.
فليس في الكلام ما يدل على ذلك.
و قوله: «أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون» يدل على دوام بقائهم في النار للدلالة الصحابة و الخلود عليه كما أن نظيره في أصحاب الجنة يدل على نظيره.
قوله تعالى: «و يوم نحشرهم جميعا ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم» إلى آخر الآية.
المراد حشر جميع من سبق ذكره من المؤمنين و المشركين و شركائهم فإنه تعالى يذكر المشركين و شركاءهم في هذه الآية و ما يتلوها ثم يشير إلى الجميع بقوله في الآية التالية: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت».
و قوله: «ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم» أي الزموا مكانكم أنتم و ليلزم شركاؤكم مكانهم و تفرع على هذا الخطاب أن زيلنا بينهم، و قطعنا الرابطة التي كانت تربطهم بشركائهم و هي رابطة الوهم و الحسبان التي يتصلون بسببها بشركائهم فانقطعوا عن شركائهم و انقطع شركاؤهم عنهم فبان أن عبادتهم لم تقع عليهم و لم تتعلق بهم لأنهم إنما عبدوا الشركاء و هم ليسوا بشركاء.
و الدليل على هذا الذي ذكرناه قوله تعالى بعده: «و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون» فالكلام على ظاهره من النفي الجدي الصادق لعبادتهم إياهم، و ليسوا يكذبون في كلامهم هذا بدليل استنادهم إلى شهادة الله سبحانه، و لا أنهم يريدون أنا لم نكن ندعوكم إلى عبادتنا فإن الكلام لا يلائم هذا المعنى، و لا أن مرادهم التعريض لهم بأنكم كنتم تعبدون أهواءكم و شياطينكم المغوين لكم في الحقيقة فإن ذلك لا يلائم دعواهم الغفلة، و كذا لا يلائمه قوله بعده: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت» إلخ، على ما سيجيء من معناه بل مرادهم نفي العبادة حقيقة بنفي حقيقة الشركة، و الاستشهاد على ذلك بشهادة الله و علمه بغفلتهم عن عبادتهم.
و العبادة التي هي اتصال ما بالمملوكية و التذلل من العابد بالمعبود إنما تكون عبادة إذا اتصلت و ارتبطت بالمعبود - حتى يتم به معنى اللام في قولنا: العبادة له - و لا يكون ذلك إلا بشعور من المعبود و علم منه بذلك فإذا لم يتحقق هناك علم لم تتحقق عبادة حقيقة، و إنما هي صورة عبادة.
فقد تبين أن المراد بقوله: «ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم» إظهاره و إبرازه تعالى يومئذ حقيقة الأمر الذي سترت عليه الأوهام و حجبته الأهواء في الدنيا و هو أن حقيقة المولوية و مالكية زمان التدبير لله سبحانه و ليس لغيره من المولوية و الربوبية شيء حتى يصح الالتجاء إليه و تصدق عبادته.
فإذا كشف الله الغطاء عن وجه هذه الحقيقة يومئذ بأن للمشركين أن شركاءهم لم يكونوا شركاء و لا معبودين لهم في الحقيقة - لغفلتهم عن عبادتهم، و إنما كانوا يأتون لهم بصورة العبادة التي كان الوهم و الهوى يصور أنها عبادة و ليست بها.
و إليه يشير أيضا قوله تعالى: «و إذا رأى الذين أشركوا شركاءهم قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون:» النحل: - 86.
و قد تبين بذلك أيضا أن قوله: «و قال شركاؤهم ما كنتم إيانا تعبدون» قول من شركائهم لهم على الجد و الحقيقة، و يظهر به فساد قول بعضهم: المراد أنكم لم تعبدونا بأمرنا و دعائنا لا أنكم لم تعبدونا أصلا لأن ذلك كذب لا يجوز أن يقع في الآخرة لكونهم ملجئين فيها إلى ترك القبيح.
فإن نفي أصل العبادة بما عرفت من معناه هو حق الصدق و إثبات العبادة و إن لم يكن كذبا إلا أنه لا يخلو عن مجاز في الجملة بالنظر إلى حقيقة الأمر على أن ما ذكره أن المراد نفي العبادة بأمرهم و دعوتهم معنى لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أن الكذب إنما لا يقع في الآخرة إذا كان عملا و كسبا و إما بمعنى نتيجة الملكات الدنيوية فلا مانع من إمكانه بل هو واقع كما يحكيه تعالى في قوله: «ثم لم تكن فتنتهم إلا أن قالوا و الله ربنا ما كنا مشركين انظر كيف كذبوا على أنفسهم»: الأنعام: - 24 و غيره من الآيات.
و كذا قول بعضهم: إن المراد ما كنتم تخصوننا بالعبادة، و إنما كنتم تعبدون أهواءكم و شهواتكم و شياطينكم المغوية لكم - فإن صدق عبادة الأهواء و الشيطان على عملهم من جهة أنه اتباع للهوى و الشيطان لا ينفي عنه صدق كونه عبادة للأصنام كما أنه تعالى يصدق في كلامه الجهات الثلاث جميعا قال تعالى: «و يعبدون من دون الله ما لا يضرهم و لا ينفعهم:» يونس: - 18 و قال: «أ فرأيت من اتخذ إلهه هواه»: الجاثية: - 23، و قال: «إن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين:» يس: - 60.
و من المعلوم أن الشركاء يحتجون لنفي كونهم معبودين لهم لا لإثبات كون الهوى و الشيطان معبودين لهم مع الشركاء فإن هذا لا ينفعهم في الحجة البتة، و يستلزم لغوية إثباتهم الغفلة لأنفسهم في قولهم: «إن كنا عن عبادتكم لغافلين» لأن الأهواء أيضا ما كانت شاعرة بعبادتهم كما أن الأصنام و هي أجسام ميتة كذلك.
و لعل القائل اعتمد في قوله على الحصر المفهوم من قوله: «ما كنتم إيانا تعبدون» بتقديم المفعول على فعله، و ظاهره أنه قصر قلب مدلوله نفي المعبودية عن أنفسهم و إثباته لغيرهم، ليس نفيا لأصل العبادة فإنهم يثبتونها في قولهم: «عن عبادتكم» فإن إضافة المصدر إلى معموله يفيد الثبوت.
لكن الحق أن هؤلاء الشركاء إنما قالوا لهم: «ما كنتم إيانا تعبدون» تجاه ما قاله المشركون على ما حكاه الله: «ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك»: النحل: - 86 فنفوا عبادتهم عن الله سبحانه و أثبتوها للشركاء و الشركاء لم يكن ينفعهم إلا نفي عبادة المشركين عن أنفسهم، و أما أنها ثابتة لمن؟ فلا غرض لهم يتعلق بذلك و إنما همهم تنزيه أنفسهم عن دعوى الشركة، و قد احتجوا على ذلك بإثبات الغفلة عن ذلك لأنفسهم، و لو كانوا شاعرين بعبادتهم و عبدوهم كان لزمهم أعني الشركاء دعوى الشركة.
قوله تعالى: «فكفى بالله شهيدا بيننا و بينكم» إلى آخر الآية، ظهر معناه بما مر من التقرير و الفاء في قوله: «فكفى بالله يفيد التعليل كقولنا: اعبد الله فهو ربك، و هو شائع في الكلام.
قوله تعالى: «هنالك تبلوا كل نفس ما أسلفت» إلى آخر الآية، البلاء الاختبار، و الإشارة بقوله: «هنالك» إلى الموقف الذي ذكره بقوله: «ثم نقول للذين أشركوا مكانكم أنتم و شركاؤكم فزيلنا بينهم».
فذلك الموقف موقف تختبر و تمتحن كل نفس ما أسلفت و قدمت من الأعمال فتنكشف لها حقيقة أعمالها و تشاهدها مشاهدة عيان لا مجرد الذكر أو البيان، و بمشاهدة الحق من كل شيء عيانا ينكشف أن المولى الحق هو الله سبحانه، و تسقط و تنهدم جميع الأوهام، و تضل جميع الدعاوي التي يفتريها الإنسان بأوهامه و أهوائه على الحق.
فهذه الافتراءات و الدعاوي جميعا إنما نشأت من حيث الروابط التي نضعها في هذه الدنيا بين الأسباب و المسببات و الاستقلال و المولوية التي نعطيها الأسباب و لا إله إلا الله و لا مولى حقا إلا هو سبحانه فإذا انجلت حقيقة الأمر، و انكشف غيم الوهم و انهتك حجاب الدعاوي ظهر أن لا مولى حقا إلا هو سبحانه، و بطل جميع الآلهة التي إنما أثبتها الافتراء من الإنسان، و سقطت و حبطت جميع الأعمال إلا ما عبد به الله سبحانه عبادة حق.
فالفقرات الثلاث من الآية أعني قوله: «تبلوا كل نفس» إلخ، و قوله: «ردوا إلى الله» إلخ، و قوله: «و ضل عنهم» إلخ، كل منها تعين الأخريين على إفادة حقيقة معناها، و محصل مفاد المجموع ظهور حقيقة الولاية الإلهية يومئذ ظهور عيان و أن ليس لغيره تعالى إلا الفقر و المملوكية المحصنة فيبطل عند ذلك كل دعوى باطلة و ينهدم بنيان الأوهام.
كما يشير إلى ذلك قوله: «هنالك الولاية لله الحق: الكهف: - 44، و قوله: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار: المؤمن: - 16: «و قوله و الأمر يومئذ لله: الانفطار: - 19، إلى غير ذلك.
بحث روائي
في أمالي المفيد، بإسناده إلى أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتب إلى محمد بن أبي بكر حين ولاه مصر و أمره أن يقرأه على الناس، و فيما كتب: قال الله تعالى: «للذين أحسنوا الحسنى و زيادة» و الحسنى هي الجنة و الزيادة هي الدنيا. و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية: فأما الحسنى فهي الجنة، و أما الزيادة فالدنيا ما أعطاهم الله في الدنيا يحاسبهم الله في الآخرة، و يجمع الله لهم ثواب الدنيا و الآخرة.
الحديث.
أقول: و الروايتان ناظرتان إلى المعنى الأول الذي قدمناه في البيان المتقدم و روى ما في معنى الثاني الطبرسي في المجمع، عن الباقر (عليه السلام).
و في تفسير البرهان، روي في نهج البيان عن علي بن إبراهيم قال: قال الزيادة هبة الله عز و جل. و في الدر المنثور، أخرج الدارقطني و ابن مردويه عن صهيب في الآية قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الزيادة النظر إلى وجه الله: أقول: و روي هذا المعنى بعدة طرق من طرق أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد تقدم توضيح معناها في تفسير قوله تعالى. «رب أرني أنظر إليك»: الأعراف: - 143 في الجزء الثامن من الكتاب.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «كأنما أغشيت وجوههم قطعا من الليل مظلما» قال: أ ما ترى البيت إذا كان الليل كان أشد سوادا من خارج فكذلك وجوههم يزدادون سوادا: أقول: و رواه العياشي عن أبي بصير عنه (عليه السلام) و كأنه (عليه السلام) يريد تفسير القطع من الليل الواقعة في الآية.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن السدي: في قوله: «و ردوا إلى الله مولاهم الحق» قال: نسختها قوله: «مولى الذين آمنوا - و إن الكافرين لا مولى لهم».
أقول: و هو من أسخف القول بل الآيتان ناظرتان إلى جهتين مختلفتين من المعنى و هما الظاهر و الباطن.
|