بيان
حجج ساطعة على توحيده تعالى في الربوبية يأمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بإقامتها على المشركين، و هي ثلاث حجج مرتبة بحسب الدقة و المتانة فالحجة الأولى تسلك من الطريق الذي يعتبره الوثنيون و عبدة الأصنام فإنهم إنما يعبدون أرباب الأصنام بأصنامهم من جهة تدبيرهم للكون فيعبدون كلا منهم لأجل ما يخص به من الشأن، و ما يرجع إليه من التدبير ليرضى بذلك عمن يعبده فيفيض عليه بركاته أو ليؤمنه فلا يرسل إليه سخطه و عقابه كما كان يعبد سكان السواحل رب البحر، و أهل الجبال و أهل البر و أهل العلوم و الصنائع و أهل الحروب و الغارات و غيرهم كل يعبد من يناسب تدبيره الشأن الذي يهمه ليرضى عنه ربه فيبارك عليه برضاه أو يكف عنه غضبه.
و محصل الحجة أن تدبير العالم الإنساني و سائر الموجودات جميعا يقوم به الله سبحانه لا غير على ما يعترفون به فمن الواجب أن يوحدوه بالربوبية و لا يعبدوا إلا إياه.
و الحجة الثانية ما يعتبره عامة المؤمنين و ذلك أنهم لا يلتفتون كثيرا إلى زخارف هذه النشأة من لذائذ المادة، و إنما جل اعتنائهم بالحياة الدائمة الأخروية التي تتعين سعادتها و شقاوتها بالجزاء الإلهي بأعمالهم فإذا قامت البينة العقلية على الإعادة كالبدء كان من الواجب أن لا يعبد إلا الله سبحانه، و لا يتخذ أرباب من دونه طمعا في ثوابه و خوفا من عقابه.
و الحجة الثالثة و هي التي تحن إليها قلوب الخاصة من المؤمنين و هي أن المتبع عند العقل هو الحق، و لما كان الحق سبحانه هو الهادي إلى الحق دون ما يدعونه من الأرباب من دون الله فليكن هو المتبع دون ما يدعونه من الأرباب، و سيأتي في تفسير الآيات توضيح هذه الحجج الثلاث بما تنجلي به مزيد انجلاء إن شاء الله.
و لو لا اعتبار هذه النكتة كان الظاهر أن تذكر أولا الحجة الثانية ثم الثالثة ثم الأولى أو تذكر الثانية ثم يجمع بين الأولى و الثالثة فيذكر بعدها.
قوله تعالى: «قل من يرزقكم من السماء و الأرض أمن يملك السمع و الأبصار» إلى آخر الآية.
الرزق هو العطاء الجاري، و رزقه تعالى للعالم الإنساني من السماء هو نزول الأمطار و الثلوج و نحوه، و من الأرض هو بإنباتها نباتها و تربيتها الحيوان و منهما يرتزق الإنسان، و ببركة هذه النعم الإلهية يبقى النوع الإنساني و المراد بملك السمع و الأبصار كونه تعالى متصرفا في الحواس الإنسانية التي بها ينتظم له أنواع التمتع من الأرزاق المختلفة التي أذن الله تعالى أن يتمتع بها فإنما هو يشخص و يميز ما يريده مما لا يريده بإعمال السمع و البصر و اللمس و الذوق و الشم فيتحرك نحو ما يريده، و يتوقف أو يفر مما يكرهه بها.
فالحواس هي التي تتم بها فائدة الرزق الإلهي، و إنما خص السمع و البصر من بينها بالذكر لظهور آثارهما في الأعمال الحيوية أكثر من غيرهما، و الله سبحانه هو الذي يملكهما و يتصرف فيهما بالإعطاء و المنع و الزيادة و النقيصة.
و قوله: «و من يخرج الحي من الميت و يخرج الميت من الحي» الحياة بحسب النظر البادىء في الإنسان هي المبدأ الذي يظهر به العلم و القدرة في الشيء فيصدر أعماله عن العلم و القدرة ما دامت الحياة، و إذا بطلت بطل الصدور كذلك.
ثم اكتشف من طريق النظر العلمي أن ذلك لا يختص بأقسام الحيوان كما كان يعطيه النظر الابتدائي فإن الملاك الذي كان يوجب للحيوان كونه ذا حياة - و هو كونه ذا نفس يصدر عنها أعمال مختلفة لا على وتيرة واحدة طبيعية كحركته إلى جهات مختلفة بحركات مختلفة و سكونه من غير حركة - موجود في النبات.
و كذلك الأبحاث الجارية على الطرق الحديثة تعطي ذلك فإن جراثيم الحياة الموجودة في الحيوان التي إليها تنتهي أعماله الحيوية توجد في النبات نظيرها فهو ذو حياة كمثل الحيوان فالنظر العلمي على أي حال يهدي إلى عموم الحياة لجميع أنواع الحيوان و النبات.
ثم الحياة و هي تقابل الموت الذي هو بطلان مبدإ الأعمال الحيوية تعود بحسب التحليل إلى كون الشيء بحيث تترتب عليه آثاره المطلوبة منه كما أن الموت عدم كونه كذلك فحياة الأرض هي كونها نابتة مخضرة و موتها خلافه، و حياة العمل كونه بحيث ينتهي إلى الغرض الذي أتي به لأجله و موته خلافه، و حياة الكلمة كونها بحيث تؤثر في السامع أثرا مطلوبا و موتها خلافه، و حياة الإنسان كونه جاريا على ما تهدي إليه الفطرة الإنسانية ككونه ذا عقل سليم و نفس زاكية، و لذا عد القرآن الشريف الدين حياة للإنسان لأنه يرى أن الدين الحق و هو الإسلام هو الفطرة الإلهية.
إذا تبين هذا اتضح أن خروج الحي من الميت و خروج الميت من الحي يختلف.
معناه بحسب اختلاف المراد بالحياة و الموت فعلى النظرتين الأوليين هو خروج الحيوان أو الحيوان و النبات بالكينونة من غيرها كالمني و البيضة و البذر فإن الحي كما لا تدوم له هذه الحياة بقاء إلى غير النهاية لا تذهب أيضا بحسب البدء في حياة غير متناهية و لا طريق إلى إثباته، و خروج أجزاء غير ذات حياة من الحيوان أو الحيوان و النبات بالانفصال.
و على النظرة الأخيرة أعني نظرة تعميم الحياة لكل ما يترتب عليه آثارها المطلوبة منها هو أن يخرج من الأمور غير المفيدة في باب أمور مفيدة في ذلك الباب بالكينونة و التولد كخلق الإنسان الحي و الحيوان الحي و النبات الحي من التراب الميت و بالعكس، و كخروج الإنسان العاقل الصالح من الإنسان الذي لا عقل له و لا صلاح و بالعكس، و خروج المؤمن من الكافر و الكافر من المؤمن.
و ظاهر الآية الكريمة بالنظر إلى سياقها و مقام المخاطبة فيها أن يكون المراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس فيها هو هذا المعنى الأخير، و ذلك أن الآية تقيم الحجة على المشركين من المسلك الذي كانوا يسلكونه في الاحتجاج على اتخاذ الآلهة المختلفة و هو أن العالم المشهود مجموعة من موجودات مختلفة متشتتة علوية و سفلية و السفلية من إنسان و حيوان و نبات و بحر و بر و أمور وراء ذلك كثيرة، و كل منها تحت تدبير مدبر شفيع عند الله نعبده بعبادة صنمه ليقربنا إلى الله زلفى و بالجملة انتهاء التدبيرات على اختلافها إلى مدبرات مختلفة يوجب وجود أرباب من دون الله كثيرة.
و الآية ترد عليهم حجتهم ببيان انتهاء التدبيرات المختلفة إليه تعالى و أن ذلك يدل على أن الله سبحانه رب كل شيء وحده، فهي تخاطبهم بأنكم تعترفون بأن ما يخصكم من التدبير كرزقكم و ما يعمكم و غيركم منه ينتهي إلى الله سبحانه فهو المدبر لأمركم و أمر غيركم فهو الرب لا رب سواه.
و قد بدأت في التعداد بما يخص الإنسان أعني قوله: «قل من يرزقكم من السماء و الأرض» و ختمت بما يعمه و غيره أعني قوله: «و من يدبر الأمر» و ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: «أمن يملك السمع و الأبصار و من يخرج الحي من الميت» هو التدبير الخاص بالإنسان فيكون المراد ملك السمع و الأبصار التي لأفراد الإنسان، و كذا إخراج الحي من الإنسان من ميتة و بالعكس، و قد تبين أن الحياة المخصوصة بالإنسان هو كونه ذا نعمة العقل و الدين.
فالمراد بإخراج الحي من الميت و بالعكس - و الله أعلم - إخراج الإنسان الحي بالسعادة الإنسانية من الإنسان الميت الذي لا سعادة له و بالعكس.
فالله سبحانه يلقن نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة على توحيده بالربوبية فأمره بقوله: «قل» إن يقول لهم في سياق الاستفهام «من يرزقكم من السماء و الأرض» بالأمطار و الإنبات و التكوين «أمن يملك السمع و الأبصار» منكم فتتم بهما فائدة رزقكم حيث ترتزقون بتشخيصهما من طيبات الرزق، و لولاهما لم توفقوا لذلك و فنيتم عن آخركم «و من يخرج الحي من الميت» أي كل أمر مفيد في بابه من غيره «و يخرج الميت من الحي» فيتولد الإنسان السعيد من الشقي و الشقي من السعيد «و من يدبر الأمر» في جميع الخليقة.
«فسيقولون الله» اعترافا بأنه الذي ينتهي إليه جميع هذه التدبيرات في الإنسان و غيره لأن الوثنيين يعتقدون ذلك فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يوبخهم أولا على ترك تقوى الله بعبادة غيره مع ظهور الحجة ثم يستنتج لهم من الحجة وجوب توحيده تعالى فقال: «فقل أ فلا تتقون» ثم قال: «فذلكم الله ربكم».
قوله تعالى: «فذلكم الله ربكم الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال فأنى تصرفون» الجملة الأولى نتيجة الحجة السابقة، و قد وصف الرب بالحق ليكون توضيحا لمفاد الحجة، و توطئة و تمهيدا لقوله بعده: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال».
و قوله: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال» أخذ بلازم الحجة السابقة لاستنتاج أنهم ضالون في عبادة الأصنام فإنه إذا كانت ربوبيته تعالى حقة فإن الهدى في اتباعه و عبادته فإن الهدى مع الحق لا غير فلا يبقى عند غيره الذي هو الباطل إلا الضلال.
فتقدير الكلام: فما ذا بعد الحق الذي معه الهدى إلا الباطل الذي معه الضلال فحذف من كل من الطرفين شيء و أقيم الباقي مقامه إيجازا، و قيل: فما ذا بعد الحق إلا الضلال، و لذا قال بعضهم: إن في الآية احتباكا - و هو من المحسنات البديعية - و هو أن يكون هناك متقابلان فيحذف من كل منهما شيء يدل عليه الآخر فإن تقدير الكلام: فما ذا بعد الحق إلا الباطل؟ و ما ذا بعد الهدى إلا الضلال؟ فحذف الباطل من الأول و الهدى من الثاني و بقي قوله: فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟ و الوجه هو الذي قدمناه.
ثم تمم الآية بقوله: «فأنى تصرفون» أي إلى متى تصرفون عن الحق الذي معه الهدى إلى الضلال الذي مع الباطل.
قوله تعالى: «كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون» ظاهر السياق أن الكلمة التي تكلم الله سبحانه بها على الفاسقين هي أنهم لا يؤمنون أي أنه سبحانه قضى عليهم قضاء حتما و هو أن الفاسقين و هم على فسقهم - لا يؤمنون و لا تنالهم الهداية الإلهية إلى الإيمان، و قد قال تعالى: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين:» المائدة: - 108.
و على هذا فالإشارة بقوله: «كذلك» إلى ما تحصل من الآية السابقة: أن المشركين صرفوا عن الحق و فسقوا عنه فوقعوا في الضلال إذ ليس بعد الحق إلا الضلال.
فمعنى قوله: «كذلك حقت كلمة ربك» إلخ، أن الكلمة الإلهية و القضاء الحتمي الذي قضي به في الفاسقين - و هو أنهم لا يؤمنون - هكذا حقت و ثبتت في الخارج و أخذت مصداقها و هو أنهم خرجوا عن الحق فوقعوا في الضلال أي أنا لم نقض عدم هدى الفاسقين و عدم إيمانهم ظلما و لا جزافا و إنما قضينا ذلك لأنهم صرفوا عن الحق و فسقوا فوقعوا في الضلال و لا واسطة بينهما فافهم ذلك.
و في الآية دلالة على أن الأمور الضرورية و الأحكام و القوانين البينة التي تجري في النظام المشهود كقولنا: لا واسطة بين الحق و الباطل و لا بين الهدى و الضلال لها نوع استناد إلى القضاء الإلهي، و ليست ثابتة في ملكه تعالى من تلقاء نفسها.
و ربما ذكر بعض المفسرين: أن المراد بالكلمة في الآية كلمة العذاب و قوله: «أنهم لا يؤمنون» في موضع التعليل بتقدير لامه، و التقدير كثبوت هذه الحجة عليهم حقت كلمة ربك على الذين فسقوا و هي وعيدهم بالعذاب و إنما حقت عليهم العذاب لأنهم لا يؤمنون.
و لا يخلو عن سقم فإن وجه الشبه غير ظاهر و لا متفق فيهما فالحجة ثابتة عليهم بذاتها و أما العذاب فليس ثبوته كذلك بل لأمر آخر و هو أنهم لا يؤمنون.
و الحجة - كما سمعت في البيان المتقدم - حجة ساذجة يعترف بحقيتها الوثنية، و قد صرفوها عن وجهها و أقاموا على ما يدعونها من ربوبية أربابهم و استحقاقها للعبادة من دون الله حيث قالوا: إن تدبير كل شأن من شئون العالم العامة إلى واحد من هذه الأرباب فهو رب ذلك الشأن، و إنما نعبد أصنامها و تماثيلها لنرضيها بذلك فتشفع لنا عند الله بما لها من القرب عنده.
فأخذت الآية اعترافهم بأن هذه التدابير لله سبحانه - و كيف لا تكون له و هو خالق الكل و مبقيها؟ - فله سبحانه وحده حقيقة الربوبية و هو المستحق للعبادة لا غيره.
قوله تعالى: «قل هل من شركائكم من يبدأ الخلق ثم يعيده» إلى آخر الآية.
تلقين للاحتجاج من جهة المبدإ و المعاد فإن الذي يبدأ كل شيء ثم يعيده يستحق أن يعبده الإنسان اتقاء من يوم لقائه ليأمن من أليم عذابه و ينال عظيم ثوابه يوم المعاد.
و لما كان المشركون - و هم المخاطبون بالحجة - غير قائلين بالمعاد أمر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتصدى جواب سؤاله بنفسه و قال: «قل الله يبدأ الخلق ثم يعيده فأنى تؤفكون» و إلى متى تصرفون عن الحق.
و ليس اعتماد الآية على مسألة الإبداء و الإعادة في احتجاجها اعتمادا على مقدمة غير بينة و لا مبينة فقد احتج عليها في كلامه تعالى من طرق مختلفة كالاحتجاج من طريق لزوم الغاية في فعله، و من طريق وجوب الجزاء على الأعمال في العدل و غير ذلك و قد نفى سبحانه الريب عن البعث و القيامة فيما يبلغ عشر مواضع من كلامه.
و الحجة - كما تقدم الإيماء إليه - حجة عامة المؤمنين الذين يعبدونه تعالى خوفا من العقاب أو رغبة في الثواب الذي أعد لهم يوم القيامة.
قوله تعالى: «قل هل من شركائكم من يهدي إلى الحق قل الله يهدي للحق» إلى آخر الآية، يهدي للحق و إلى الحق بمعنى واحد فالهداية تتعدى بكلتا الحرفين، و قد ورد تعديتها باللام في مواضع كثيرة من كلامه تعالى كقوله: «أ و لم يهد لهم:» الم السجدة: - 26، و قوله: «يهدي للتي هي أقوم:» إسراء: - 9 إلى غير ذلك فما ذكره بعضهم من كون اللام في قوله: «يهدي للحق للتعليل ليس بشيء.
لقن سبحانه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الحجة و هي ثالثة الحجج، و هي حجة عقلية يعتمد عليها الخاصة من المؤمنين، و توضيحها أن من المرتكز في الفطرة الإنسانية و به يحكم عقله أن من الواجب على الإنسان أن يتبع الحق حتى إنه إن انحرف في شيء من أعماله عن الحق و اتبع غيره لغلط أو شبهة أو هوى فإنما اتبعه لحسبانه إياه حقا و التباس الأمر عليه، و لذا يعتذر عنه بما يحسبه حقا فالحق واجب الاتباع على الإطلاق و من غير قيد أو شرط.
و الهادي إلى الحق واجب اتباعه لما عنده من الحق، و من الواجب ترجيحه على من لا يهدي إليه أو يهدي إلى غيره لأن اتباع الهادي إلى الحق اتباع لنفس الحق الذي معه وجوب اتباعه ضروري.
و قد اعتمد في الحجة على هذه المقدمة الضرورية فافتتح الكلام فيها بسؤالهم عن شركائهم هل فيهم من يهدي إلى الحق؟ و من البين أن لا جواب للمشركين في ذلك مثبتا إذ شركاؤهم سواء أ كانوا جمادا غير ذي حياة كالأوثان و الأصنام أم كانوا من الإحياء كالملائكة و أرباب الأنواع و الجن و الطواغيت من فرعون و نمرود و غيرهما لا يملكون لأنفسهم ضرا و لا نفعا و لا موتا و لا حياة و لا نشورا.
و إذ لم يكن لهم في ذلك جواب مثبت فإنهم لا يجيبون، و لذلك أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يخلفهم في الجواب فيجيب في ذلك - أعني الهداية إلى الحق - بإثباتها لله سبحانه فقيل: «قل الله يهدي للحق» فإن الله سبحانه هو الذي يهدي كل شيء إلى مقاصده التكوينية و الأمور التي يحتاج إليها في بقائه كما في قوله: «ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى: طه - 50 و قوله الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى:» الأعلى: - 3 و هو الذي يهدي الإنسان إلى سعادة الحياة و يدعوه إلى الجنة و المغفرة بإذنه بإرسال الرسل و إنزال الكتب و تشريع الشرائع، و أمرهم ببث الدعوة الحقة الدينية بين الناس.
و قد مر في تفسير قوله تعالى: «الحق من ربك فلا تكن من الممترين:» آل عمران: - 60 إن الحق من الاعتقاد و القول و الفعل إنما يكون حقا بمطابقة السنة الجارية في الكون للذي هو فعله فالحق بالحقيقة إنما يكون حقا بمشيته و إرادته.
و إذ تحقق أنه ليس من شركائهم من يهدي إلى الحق، و أن الله سبحانه يهدي إلى الحق سألهم بقوله: «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى»؟ أن يقضوا في الترجيح بين اتباعه تعالى و اتباع شركائهم و هو تعالى يهدي إلى الحق و هم لا يهدون و لا يهتدون إلا بغيرهم، و من المعلوم أن الرجحان لمن يهدي على من لا يهدي أي لاتباعه تعالى على اتباعهم، و المشركون يحكمون بالعكس، و لذلك لامهم و وبخهم بقوله: «فما لكم كيف تحكمون»؟.
و التعبير في الترجيح في قوله: «أحق أن يتبع بأفعل التفضيل الدال على مطلق الرجحان دون التعين و الانحصار مع أن اتباعه تعالى حق لا غير و اتباعهم لا نصيب له من الحق إنما هو بالنظر إلى مقام الترجيح و ليسهل بذلك قبولهم للقول من غير إثارة لعصبيتهم و تهييج لجهالتهم.
و قد أبدع تعالى في قوله «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدى» و القراءة الدائرة: «لا يهدي» بكسر الهاء و تشديد الدال و أصله يهتدي، و ظاهر قوله: «لا يهدي إلا أن يهدى» و قد حذف متعلقات الفعل فيه أنه إنما يهتدي بغيره لا بنفسه.
و الكلام قد قوبل فيه قوله: «يهدي إلى الحق» بقوله: «من لا يهدي» مع أن الهداية إلى الحق يقابلها عدم الهداية إلى الحق، و عدم الاهتداء إلى الحق يقابله الاهتداء إلى الحق فلازم هذه المقابلة الملازمة بين الاهتداء بالغير و عدم الهداية إلى الحق، و كذا الملازمة بين الهداية إلى الحق و الاهتداء بالذات فالذي يهدي إلى الحق يجب أن يكون مهتديا بنفسه لا بهداية غيره و الذي يهتدي بغيره ليس يهدي إلى الحق أبدا.
هذا ما تدل عليه الآية بحسب ظاهرها الذي لا ريب فيه و هو أعدل شاهد على أن الكلام موضوع فيها على الحقيقة دون التجوزات المبنية على المساهلة التي نبني عليها و نداولها فيما بيننا معاشر أهل العرف فننسب الهداية إلى الحق إلى كل من تكلم بكلمة حق و دعا إليها و إن لم يعتقد بها أو اعتقد و لم يعمل بها أو عمل و لم يتحقق بمعناها، و سواء اهتدى إليها بنفسه أو هداه إليها غيره.
بل الهداية إلى الحق أعني الإيصال إلى صريح الحق و متن الواقع ليس إلا لله سبحانه أو لمن اهتدى بنفسه أي هداه الله سبحانه من غير واسطة تتخلل بينه و بينه فاهتدى بالله و هدى غيره بأمر الله سبحانه، و قد تقدمت نبذة من الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن:» الآية البقرة: - 124.
و قد تبين بما قدمناه في معنى الآية أمور: أحدها: أن المراد بالهداية إلى الحق ما هو بمعنى الإيصال إلى المطلوب دون ما هو بمعنى إراءة الطريق المنتهي إلى الحق فإن من الضروري أن وصف طريق الحق يتأتى من كل أحد سواء اهتدى إلى الحق بنفسه أو بغيره أو لم يهتد.
و ثانيها: أن المراد بقوله: «من لا يهدي إلا أن يهدى» من لا يهتدي بنفسه، و هذا أعم من أن يكون ممن يهتدي بغيره أو يكون ممن لا يهتدي أصلا، لا بنفسه و لا بغيره كالأوثان و الأصنام التي هي جماد لا يقبل هداية من غيره، و ذلك أن قوله: «إلا أن يهدى» استثناء من قوله: «من لا يهدي» الأعم من أن لا يهتدي أصلا أو يهتدي بغيره و المأخوذ في قوله: «أن يهدى» فعل دخلت عليه أن المصدرية المأولة إلى المصدر، و الجملة الفعلية المأولة إلى المصدر كذلك لا يدل على التحقق بخلاف المصدر المضاف إلى معموله ففرق بين قوله: «أن تصوموا خير لكم:» البقرة: - 184 فلا يدل على الوقوع و بين نحو قوله: «إن كنا عن عبادتكم لغافلين:» يونس: - 29 فيدل على الوقوع، و يقال: ضربك زيدا عجيب إذا ضربته، و أن تضرب زيدا عجيب إذا هممت أن تضربه.
فقوله: «من لا يهدي إلا أن يهدى» معناه من لا يكون هداه من نفسه إلا أن تأتيه الهداية من ناحية الغير، و من المعلوم أنها إنما تأتيه من الغير إذا كان في طبعه أن يقبل ذلك، و أما إذا لم يقبل فإنما يبقى له من الوصف أنه لا يهتدي فافهم ذلك.
و للمفسرين في معنى هذا الاستثناء أقوال عجيبة: منها: أنه استثناء مفرغ من أعم الأحوال لأن من نفى عنهم الهداية ممن اتخذوا شركاء لله تعالى يشمل المسيح عيسى بن مريم و عزيرا و الملائكة (عليهم السلام)، و هؤلاء كانوا يهدون إلى الحق بهداية الله و وحيه كما قال تعالى في الأنبياء من سورتهم: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:» الأنبياء: - 73.
و فيه: أن محصله أن المعنى لا يهدي إلا أن يهديه الله تعالى فيهدي غيره بعد اهتدائه بهدايته تعالى، و قد اختل عليه معنى الآية من أصله فإن من لا يهتدي إلى الحق بنفسه لا يتأتى له أن يهدي إلى الحق فإنه إنما يماس الحق من وراء حجاب فكيف يوصل إليه؟.
على أن ما ذكره لا ينطبق على الأصنام التي هي مورد الاحتجاج في الآية فإنها لا تقبل الهداية من أصلها، و قد ذكر المسيح و عزيرا و هما ممن قدسته النصارى و اليهود و ليس وجه الكلام في الآية إليهم و إن شملتهما و غيرهما الآية بحسب عموم الملاك.
و منها: أن الاستثناء منقطع و المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية أصلا فحسب، و المعنى: أم من لا يهتدي أصلا كالأصنام إلا أن يهديه الله فيهتدي حينئذ.
و فيه: أنه لا يفي بتوجيه المقابلة التي بين قوله: «من يهدي إلى الحق» و قوله: «من لا يهدي» فإن الهداية إلى الحق و الاهتداء إليه لا يتقابلان إلا أن يئول المعنى إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا إلا أن يهديه الله فيهتدي فيهدي غيره، و يرد عليه أنه لا وجه حينئذ لتخصيصه بمثل الأصنام ممن لا يهتدي أصلا حتى يصير الاستثناء منقطعا بل يعم ما لا يهتدي أصلا لا بنفسه و لا بغيره، و من لا يهتدي بنفسه و يهتدي بغيره كالملائكة مثلا، و يرد عليه ما ورد على الوجه السابق.
و منها: أن المراد بمن لا يهدي الأصنام التي لا تقبل الهداية و «إلا» بمعنى حتى و المعنى لا يهتدي و لا يقبل الهداية حتى يهدى.
و فيه: أن الترديد يرجع حينئذ إلى مثل قولنا: أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهتدي أصلا حتى يهدى إلى الحق، و يعود الاستثناء مستدركا لا يتعلق به غرض في الكلام.
مضافا إلى أن مجيء إلا بمعنى حتى غير ثابت و على تقدير ثبوته قليل في الكلام لا يحمل على مثله أفصح الكلام.
و منها: أن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن ممن يعبدون من دون الله و هم يقبلون الهداية من الله و إن لم يهتدوا من عند أنفسهم أو المراد الرؤساء المضلون الذين يدعون إلى الكفر فإنهم و إن لم يهتدوا لكنهم يقبلون الهداية و لو هدوا إلى الحق لهدوا إليه.
و فيه: أن الآيات واقعة في سياق الاحتجاج على عبدة الأصنام، و القول بأن المراد بمن لا يهدي إلا أن يهدى الملائكة و الجن أو الرؤساء المضلون يخرجها عن صلاحية الانطباق على المورد.
و ثالثها: أن الهداية إلى الحق بمعنى الإيصال إليه إنما هي شأن من يهتدي بنفسه أي لا واسطة بينه و بين الله سبحانه في أمر الهداية إما من بادىء أمره أو بعناية خاصة من الله سبحانه كالأنبياء و الأوصياء من الأئمة، و أما الهداية بمعنى إراءة الطريق و وصف السبيل فلا يختص به تعالى و لا بالأئمة من الأنبياء و الأوصياء كما يحكيه الله تعالى عن مؤمن آل فرعون إذ يقول: «و قال الذي آمن يا قوم اتبعوني أهدكم سبيل الرشاد:» المؤمن: - 38 و قال: «إنا هديناه السبيل إما شاكرا و إما كفورا:» الإنسان: - 3.
و أما قوله تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو إمام: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء:» القصص: - 56 و غيره من الآيات فهي مسوقة لبيان الإصالة و التبع كما في آيات التوفي و علم الغيب و نحو ذلك مما سيقت لبيان أن الله سبحانه هو المالك لها بالذات و الحقيقة، و غيره يملكها بتمليك الله ملكا تبعيا أو عرضيا، و يكون سببا لها بإذن الله، قال تعالى: «و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا:» الأنبياء: - 73 و في الأحاديث إشارة إلى ذلك و أن الهداية إلى الحق شأن النبي و أهل بيته (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد مر بعض الكلام في الهداية فيما تقدم.
و قوله في ذيل الآية: «فما لكم كيف تحكمون» استفهام للتعجيب استغرابا لحكمهم باتباع شركائهم مع حكم العقل الصريح بعدم جواز اتباع من لا يهتدي و لا يهدي إلى الحق.
قوله تعالى: «و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا إن الظن لا يغني من الحق شيئا» أغنى يغني يتعدى بمن و عن كلتيهما و قد جاء في الكلام الإلهي بكل من الوجهين فعدي بمن كما في الآية، و بعن كما في قوله: «ما أغنى عني ماليه:» الحاقة: - 29.
و إنما نسب اتباع الظن إلى أكثرهم لأن الأقل منهم و هم أئمة الضلالة على يقين من الحق، و لم يؤثروا عليه الباطل و يدعوا إليه إلا بغيا كما قال تعالى: «و ما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم:» البقرة: - 213.
و أما الأكثرون فإنما اتبعوا آباءهم تقليدا لهم لحسن ظنهم بهم.
و قوله: «إن الله عليم بما يفعلون» تعليل لقوله: «و ما يتبع أكثرهم إلا ظنا» و المعنى أن الله عليم بما يأتونه من الأعمال يعلم أنها اتباع للظن.
|