بيان
تذكر الآيات قصة هود النبي و قومه و هم عاد الأولى، و هو (عليه السلام) أول نبي يذكره الله تعالى في كتابه بعد نوح (عليه السلام)، و يشكر مسعاه في إقامة الدعوة الحقة و الانتهاض على الوثنية، و يعقب ذكر قوم نوح بذكر قوم هود، قال تعالى في عدة مواضع من كلامه: «قوم نوح و عاد و ثمود».
قوله تعالى: «و إلى عاد أخاهم هودا» كان أخاهم في النسب لكونه منهم و أفراد القبيلة يسمون إخوة لانتسابهم جميعا إلى أب القبيلة، و الجملة معطوفة على قوله تعالى سابقا: «نوحا إلى قومه» و التقدير: «و لقد أرسلنا إلى عاد أخاهم هودا» و لعل حذف الفعل هو الموجب لتقديم الظرف على المفعول في المعطوف على خلاف المعطوف عليه حيث قيل: «و إلى عاد أخاهم» إلخ، و لم يقل: و هودا إلى عاد مثلا كما قال: «نوحا إلى قومه» لأن دلالة الظرف أعني: «إلى عاد» على تقدير الإرسال أظهر و أوضح.
قوله تعالى: «قال يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون» الكلام وارد مورد الجواب كان السامع لما سمع قوله: «و إلى عاد أخاهم هودا» قال: فما ذا قال لهم؟ فقيل: «قال يا قوم اعبدوا الله» إلخ، و لذا جيء بالفصل من غير عطف.
و قوله: «اعبدوا الله» في مقام الحصر أي اعبدوه و لا تعبدوا غيره من آلهة اتخذتموها أربابا من دون الله تعبدونها لتكون لكم شفعاء عند الله من غير أن تعبدوه تعالى.
و الدليل على الحصر المذكور قوله بعد: «ما لكم من إله غيره إن أنتم إلا مفترون» حيث يدل على أنهم كانوا قد اتخذوا آلهة يعبدونها افتراء على الله بالشركة و الشفاعة.
قوله تعالى: «يا قوم لا أسألكم عليه أجرا» إلى آخر الآية، قال في المجمع، الفطر الشق عن أمر الله كما ينفطر الورق عن الشجر، و منه فطر الله الخلق لأنه بمنزلة ما شق منه فظهر.
انتهى، و قال الراغب: أصل الفطر الشق طولا يقال: فطر فلان كذا فطرا و أفطر هو فطورا و انفطر انفطارا - إلى أن قال - و فطر الله الخلق و هو إيجاد الشيء و إبداعه على هيئة مترشحة لفعل من الأفعال فقوله: فطرة الله التي فطر الناس عليها إشارة منه تعالى إلى ما فطر أي أبدع و ركز في الناس من معرفته، و فطرة الله هي ما ركز فيه من قوته على معرفة الإيمان و هو المشار إليه بقوله: و لئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله.
انتهى.
و الظاهر أن الفطر هو الإيجاد عن عدم بحت، و الخصوصية المفهومة من مثل قوله: «فطرة الله التي فطر الناس عليها» إنما نشأت من بناء النوع الذي تشتمل عليه فطرة و هي فعلة، و على هذا فتفسير بعضهم الفطرة بالخلقة بعيد من الصواب، و إنما الخلق هو إيجاد الصورة عن مادة على طريق جمع الأجزاء، قال تعالى: «و إذ تخلق من الطين كهيئة الطير:» المائدة: - 110.
و الكلام مسوق لرفع التهمة و العبث و المعنى يا قوم لا أسألكم على ما أدعوكم أجرا و جزاء حتى تتهموني أني أستدر به نفعا يعود إلي و إن أضر بكم، و لست أدعوكم من غير جزاء مطلوب حتى يكون عبثا من الفعل بل إنما أطلب به جزاء من الله الذي أوجدني و أبدعني أ فلا تعقلون عني ما أقوله لكم حتى يتضح لكم أني ناصح لكم في دعوتي، ما أريد إلا أن أحملكم على الحق.
قوله تعالى: «و يا قوم استغفروا ربكم ثم توبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا» إلى آخر الآية تقدم الكلام في معنى قوله: «استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» في صدر السورة.
و قوله: «يرسل السماء عليكم مدرارا» في موقع الجزاء لقوله: «استغفروا ربكم» إلخ، أي إن تستغفروه و تتوبوا إليه يرسل السماء عليكم مدرارا، و المراد بالسماء السحاب فإن كل ما علا و أظل فهو سماء، و قيل المطر و هو شائع في الاستعمال، و المدرار مبالغة من الدر، و أصل الدر اللبن ثم استعير للمطر و لكل فائدة و نفع فإرسال السماء مدرارا إرسال سحب تمطر أمطارا متتابعة نافعة تحيى بها الأرض و ينبت الزرع و العشب، و تنضر بها الجنات و البساتين.
و قوله: «و يزدكم قوة إلى قوتكم» قيل المراد بها زيادة قوة الإيمان على قوة الأبدان و قد كان القوم أولي قوة و شدة في أبدانهم و لو أنهم آمنوا انضافت قوة الإيمان على قوة أبدانهم و قيل المراد بها قوة الأبدان كما قال نوح لقومه: «استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين:» نوح: - 12 و لعل التعميم أولى.
و قوله: «و لا تتولوا مجرمين» بمنزلة التفسير لقوله: «استغفروا ربكم ثم توبوا إليه» أي إن عبادتكم لما اتخذتموه من الآلهة دون الله إجرام منكم و معصية توجب نزول السخط الإلهي عليكم فاستغفروا الله من إجرامكم و ارجعوا إليه بالإيمان حتى يرحمكم بإرسال سحب هاطلة ممطرة و زيادة قوة إلى قوتكم.
و في الآية «أولا» إشعار أو دلالة على أنهم كانوا مبتلين بإمساك السماء و الجدب و السنة كما ربما أومأ إليه قوله: «يرسل السماء» و كذا قولهم على ما حكاه الله تعالى في موضع آخر: «فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم:» الأحقاف: - 24.
و ثانيا: أن هناك ارتباطا تاما بين الأعمال الإنسانية و بين الحوادث الكونية التي تمسه فالأعمال الصالحة توجب فيضان الخيرات و نزول البركات، و الأعمال الطالحة تستدعي تتابع البلايا و المحن، و تجلب النقمة و الشقوة و الهلكة كما يشير إليه قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض:» الآية الأعراف: - 96، و قد تقدم تفصيل الكلام فيه في بيان الآيات 94 - 102 من سورة الأعراف في الجزء الثامن من الكتاب، و في أحكام الأعمال في الجزء الثاني منه.
قوله تعالى: «قالوا يا هود ما جئتنا ببينة و ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك و ما نحن لك بمؤمنين» سألهم هود في قوله: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره» إلى آخر الآيات الثلاث أمرين هما أن يتركوا آلهتهم و يعودوا إلى عبادة الله وحده و أن يؤمنوا به و يطيعوه فيما ينصح لهم فردوا عليه القول بما في هذه الآية إجمالا و تفصيلا: أما إجمالا فبقولهم: «ما جئتنا ببينة» يعنون أن دعوتك خالية عن الحجة و الآية المعجزة و لا موجب للإصغاء إلى ما هذا شأنه.
و أما تفصيلا فقد أجابوا عن دعوته إياهم إلى رفض الشركاء بقولهم: «و ما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك» و عن دعوته إياهم إلى الإيمان و الطاعة بقولهم: «و ما نحن لك بمؤمنين» فآيسوه في كلتا المسألتين.
ثم ذكروا له ما ارتأوا فيه من الرأي لييأس من إجابتهم بالمرة فقالوا: «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء» و الاعتراء الاعتراض و الإصابة يقولون: إنما نعتقد في أمرك أن بعض آلهتنا أصابك بسوء كالخبل و الجنون لشتمك إياها و ذكرك لها بسوء فذهب بذلك عقلك فلا يعبأ بما تفوهت به في صورة الدعوة.
قوله تعالى: «قال إني أشهد الله و اشهدوا أني بريء مما تشركون من دونه فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون» أجاب هود (عليه السلام) عن قولهم بإظهار البراءة من شركائهم من دون الله ثم التحدي عليهم بأن يكيدوا به جميعا و لا ينظروه.
فقوله: «إني بريء مما تشركون من دونه» إنشاء و ليس بإخبار كما هو المناسب لمقام التبري، و لا ينافي ذلك كونه بريئا من أول أمره فإن التبرز بالبراءة لا ينافي تحققها من قبل، و قوله: «فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون» أمر و نهي تعجيزيان.
و إنما أجاب (عليه السلام) بما أجاب ليشاهد القوم من آلهتهم أنها لا تمسه (عليه السلام) بسوء مع تبرزه بالبراءة، و لو كانت آلهة ذات علم و قدرة لقهرته و انتقمت منه لنفسها كما ادعوا أن بعض آلهتهم اعتراه بسوء و هذه حجة بينة على أنها ليست بآلهة و على أنها لم تعتره بسوء كما ادعوه، ثم يشاهدوا من أنفسهم أنهم لا يقدرون عليه بقتل أو تنكيل مع كونهم ذوي شدة و قوة لا يعادلهم غيرهم في الشدة و البطش، و لو لا أنه نبي من عند الله صادق في ما يقوله مصون من عند ربه لقدروا عليه بكل ما أرادوه من عذاب أو دفع.
و من هنا يظهر وجه إشهاده (عليه السلام) في تبريه ربه سبحانه و قومه أما إشهاده الله فليكون تبريه على حقيقته و عن ظهر القلب من غير تزويق و نفاق، و أما إشهاده إياهم فليعلموا به ثم يشاهدوا ما يجري عليه الأمر من سكوت آلهتهم و عجز أنفسهم من الانتقام منه و من تنكيله.
و ظهر أيضا صحة ما احتمله بعضهم أن هذا التعجيز هو معجزة هود (عليه السلام) و ذلك أن ظاهر الجواب أن يقطع به ما ذكر من الرد في صورة الحجة، و فيها قولهم: «ما جئتنا ببينة» و من المستبعد جدا أن يهمل النبي هود (عليه السلام) في دعوته و حجته التعرض للجواب عنه مع كون هذا التحدي و التعجيز صالحا في نفسه لأن يتخذ آية معجزة كما أن التبري من الشركاء من دون الله صالح لأن يكشف عن عدم كونهم آلهة من دون الله و عن أن بعض آلهتهم لم يعتره بسوء.
فالحق أن قوله: «إني أشهد الله و اشهدوا» إلى آخر الآيتين مشتمل على حجة عقلية على بطلان ألوهية الشركاء، و على آية معجزة لصحة رسالة هود (عليه السلام).
و في قوله: «جميعا» إشارة إلى أن مراده تعجيزهم و تعجيز آلهتهم جميعا فيكون أتم دلالة على كونه على الحق و كونهم على الباطل.
قوله تعالى: «إني توكلت على الله ربي و ربكم» إلى آخر الآية.
لما كان الأمر الذي في صورة التعجيز صالحا لأن يكون بداعي إظهار عجز الخصم و عدم قدرته، و صالحا لأن يصدر بداعي أن الآمر لا يخاف الخصم و إن كان الخصم قادرا على الإتيان بما يؤمر به لكنه غير قادر على تخويفه و إكراهه على الطاعة و حمله على ما يريد منه كقول السحرة لفرعون: «فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا:» طه: - 72.
و كان قوله: «فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون» محتملا لأن يكون المراد به إظهار أنه لا يخافهم و إن فعلوا به ما فعلوا، عقبه لدفع هذا الاحتمال بقوله: «إني توكلت على الله ربي و ربكم» فذكر أنه متوكل في أمره على الله الذي هو يدبر أمره و أمرهم ثم عقبه بقوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» فذكر أنه ناجح في توكله هذا فإن الله محيط بهم جميعا قاهر لهم يحكم على سنة واحدة هي نصرة الحق و إظهاره على الباطل إذا تقابلا و تغالبا.
فتبريه من أصنامهم و تعجيزهم على ما هم عليه من الحال بقوله: «فكيدوني جميعا ثم لا تنظرون» ثم لبثه بينهم في عافية و سلامة لا يمسونه بسوء و لا يستطيعون أن ينالوه بشر آية معجزة و حجة سماوية على أنه رسول الله إليهم.
و قوله: «ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها إن ربي على صراط مستقيم» الدابة كل ما يدب في الأرض من أصناف الحيوان، و الأخذ بالناصية كناية عن كمال السلطة و نهاية القدرة، و كونه تعالى على صراط مستقيم هو كون سنته في الخليقة واحدة ثابتة غير متغيرة و هو تدبير الأمور على منهاج العدل و الحكمة فهو يحق الحق و يبطل الباطل إذا تعارضا.
فالمعنى أني توكلت على الله ربي و ربكم في نجاة حجتي التي ألقيتها إليكم و هو التبرز بالبراءة من آلهتكم و أنكم و آلهتكم لا تضرونني شيئا فإنه المالك ذو السلطنة علي و عليكم و على كل دابة، و سنته العادلة ثابتة غير متغيرة فسوف ينصر دينه و يحفظني من شركم.
و لم يقل: «إن ربي و ربكم على صراط مستقيم» على وزان قوله: «على الله ربي و ربكم» فإنه في مقام الدعاء لنفسه على قومه يتوقع أن يحفظه الله من شرهم، و هو يأخذه تعالى ربا بخلاف القوم فكان الأنسب أن يعده ربا لنفسه و يستمسك برابطة العبودية التي بينه و بين ربه حتى ينجح طلبته، و هذا بخلاف مقام قوله: «توكلت على الله ربي و ربكم» فإنه يريد هناك بيان عموم السلطة و الإحاطة.
قوله تعالى: «فإن تولوا فقد أبلغتكم ما أرسلت به إليكم» و هذه الجملة من كلامه (عليه السلام) ناظر إلى قولهم في آخر جدالهم: «إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء» الدال على أنهم قاطعون على أن لا يؤمنوا به و دائمون على الجحد، و المعنى إن تتولوا و تعرضوا عن الإيمان بي و الإطاعة لأمري فقد أبلغتكم رسالة ربي و تمت عليكم الحجة و لزمتكم البلية.
قوله تعالى: «و يستخلف ربي قوما غيركم و لا تضرونه شيئا إن ربي على كل شيء حفيظ» هذا وعيد و إخبار بالتبعة التي يستتبعها إجرامهم، فإنه كان وعدهم إن يستغفروا الله و يتوبوا إليه أن يرسل السماء عليهم مدرارا و يزيد قوة إلى قوتهم، و نهاهم أن يتولوا مجرمين ففيه العذاب الشديد.
و قوله: «و يستخلف ربي قوما غيركم» أي يجعل قوما غيركم خلفاء في الأرض مكانكم فإن الإنسان خليفة منه في الأرض كما قال تعالى: «إني جاعل في الأرض خليفة:» البقرة: - 30، و قد كان (عليه السلام) بين لهم أنهم خلفاء في الأرض من بعد قوم نوح كما قال تعالى حكاية عن قوله لقومه: «و اذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد قوم نوح و زادكم في الخلق بسطة:» الآية، الأعراف: - 69.
و ظاهر السياق أن الجملة الخبرية معطوفة على أخرى مقدرة، و التقدير: و سيذهب بكم ربي و يستخلف قوما غيركم على حد قوله: «إن يشأ يذهبكم و يستخلف من بعدكم ما يشاء:» الأنعام: - 133.
و قوله: «و لا تضرونه شيئا» ظاهر السياق أنه تتمة لما قبله أي لا تقدرون على إضراره بشيء من الفوت و غيره إن أراد أن يهلككم و لا أن تعذيبكم و إهلاككم يفوت منه شيئا مما يريده فإن ربي على كل شيء حفيظ لا يعزب عن علمه عازب و لا يفوت من قدرته فائت، و للمفسرين في الآية وجوه أخر بعيدة عن الصواب أعرضنا عنها.
قوله تعالى: «و لما جاء أمرنا نجينا هودا و الذين آمنوا معه برحمة منا و نجيناهم من عذاب غليظ» المراد بمجيء الأمر نزول العذاب و بوجه أدق صدور الأمر الإلهي الذي يستتبع القضاء الفاصل بين الرسول و بين قومه كما قال تعالى: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله فإذا جاء أمر الله قضي بالحق و خسر هنالك المبطلون:» المؤمن: - 78.
و قوله: «برحمة منا» الظاهر أن المراد بها الرحمة الخاصة بالمؤمنين المستوجبة نصرهم في دينهم و إنجاءهم من شمول الغضب الإلهي و عذاب الاستئصال، قال تعالى: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد:» المؤمن: - 51.
و قوله: «و نجيناهم من عذاب غليظ» ظاهر السياق أنه العذاب الذي شمل الكفار من القوم فيكون من قبيل عطف التفسير بالنسبة إلى ما قبله، و قيل: المراد به عذاب الآخرة و ليس بشيء.
قوله تعالى: «و تلك عاد جحدوا بآيات ربهم و عصوا رسله و اتبعوا أمر كل جبار عنيد» الآية و ما بعدها تلخيص بعد تلخيص لقصة عاد فأول التلخيصين قوله: «و تلك عاد - إلى قوله - و يوم القيامة» يذكر فيه أنهم جحدوا بآيات ربهم من الحكمة و الموعظة و الآية المعجزة التي أبانت لهم طريق الرشد و ميزت لهم الحق من الباطل فجحدوا بها بعد ما جاءهم من العلم.
و عصوا رسل ربهم و هم هود و من قبله من الرسل فإن عصيان الواحد منهم عصيان للجميع فكلهم يدعون إلى دين واحد فهم إنما عصوا شخص هود و عصوا بعصيانه سائر رسل الله و هو ظاهر قوله في موضع آخر: «كذبت عاد المرسلين إذ قال لهم أخوهم هود أ لا تتقون:» الشعراء: - 124.
و يشعر به أيضا قوله: «و اذكر أخا عاد إذ أنذر قومه بالأحقاف و قد خلت النذر من بين يديه و من خلفه:» الأحقاف: - 21، و من الممكن أن يكون لهم رسل آخرون بعثوا إليهم فيما بين هود و نوح (عليهما السلام) لم يذكروا في الكتاب العزيز لكن سياق الآيات لا يساعد على ذلك.
و اتبعوا أمر كل جبار عنيد من جبابرتهم فألهاهم ذلك عن اتباع هود و ما كان يدعو إليه، و الجبار العظيم الذي يقهر الناس بإرادته و يكرههم على ما أراد و العنيد الكثير العناد الذي لا يقبل الحق، فهذا ملخص حالهم و هو الجحد بالآيات و عصيان الرسل و طاعة الجبابرة.
ثم ذكر الله وبال أمرهم بقوله: «و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة و يوم القيامة» أي و أتبعهم الله في هذه الدنيا لعنة و إبعادا من الرحمة، و مصداق هذا اللعن العذاب الذي عقبهم فلحق بهم، أو الآثام و السيئات التي تكتب عليهم ما دامت الدنيا فإنهم سنوا سنة الإشراك و الكفر لمن بعدهم، قال تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم:» يس: - 12.
و قيل: المعنى لحقت بهم لعنة في هذه الدنيا فكان كل من علم بحالهم من بعدهم، و من أدرك آثارهم، و كل من بلغهم الرسل من بعدهم خبرهم يلعنونهم.
و أما اللعنة يوم القيامة فمصداقه العذاب الخالد الذي يلحق بهم يومئذ فإن يوم القيامة يوم جزاء لا غير.
و في تعقيب قوله في الآية: «و اتبعوا» بقوله: «و أتبعوا» لطف ظاهر.
قوله تعالى: «ألا إن عادا كفروا ربهم ألا بعدا لعاد قوم هود» أي كفروا بربهم فهو منصوب بنزع الخافض و هذا هو التلخيص الثاني الذي أشرنا إليه لخص به التلخيص الأول فقوله: «ألا إن عادا» إلخ، يحاذي به وصف حالهم المذكور في قوله: «و تلك عاد جحدوا» إلخ، و قوله: «ألا بعدا لعاد» إلخ، يحاذي به قوله: «و أتبعوا في هذه الدنيا لعنة» إلخ.
و يتأيد من هذه الجملة أن المراد باللعنة السابقة اللعنة الإلهية دون لعن الناس، و الأنسب به أحد الوجهين الأولين من الوجوه الثلاثة السابقة و خاصة الوجه الثاني دون الوجه الثالث.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي عمرو السعدي قال: قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): في قوله: «إن ربي على صراط مستقيم» يعني أنه على حق يجزي بالإحسان إحسانا، و بالسيىء سيئا، و يعفو عمن يشاء و يغفر، سبحانه و تعالى.
أقول: و قد تقدم توضيحه، و قد ورد في الرواية عنهم (عليهم السلام): أن عادا كانت بلادهم في البادية، و كان لهم زرع و نخيل كثيرة، و لهم أعمار طويلة و أجساد طويلة فعبدوا الأصنام، و بعث الله إليهم هودا يدعوهم إلى الإسلام و خلع الأنداد فأبوا و لم يؤمنوا بهود و آذوه فكفت عنهم السماء سبع سنين حتى قحطوا.
الحديث.
و روي إمساك السماء عنهم من طريق أهل السنة عن الضحاك أيضا قال: أمسك عن عاد القطر ثلاث سنين فقال لهم هود: «استغفروا ربكم ثم توبوا إليه - يرسل السماء عليكم مدرارا» فأبوا إلا تماديا، و قد تقدم أن الآيات لا تخلو من إشارة إليه.
و اعلم أن الروايات في قصة هود و عاد كثيرة إلا أنها تشتمل على أمور لا سبيل إلى تصحيحها من طريق الكتاب و لا إلى تأييدها بالاعتبار و لذلك طوينا ذكرها.
و ورد أيضا أخبار أخر من طرق الشيعة و أهل السنة في وصف جنة عاد التي تنسب إلى شداد الملك و هي المذكورة في قوله تعالى: «إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد:» الفجر: - 8، و سيأتي الكلام عليها إن شاء الله تعالى في تفسير سورة الفجر.
كلام في قصة هود
1 - عاد قوم هود:
هؤلاء قوم من العرب من بشر ما قبل التاريخ كانوا يسكنون الجزيرة انقطعت أخبارهم و انمحت آثارهم لا يحفظ التاريخ من حياتهم إلا أقاصيص لا يطمئن إليها و ليس في التوراة الموجودة منهم ذكر.
و الذي يذكره القرآن الكريم من قصتهم هو أن عادا - و ربما يسميهم عادا الأولى النجم: 50 و فيه إشارة إلى أن هناك عادا ثانية - كانوا قوما يسكنون الأحقاف 1 من شبه جزيرة العرب» الأحقاف: 21 بعد قوم نوح الأعراف: 69.
كانت لهم أجساد طويلة القمر: 20، الحاقة: 7 و كانوا ذوي بسطة في الخلق الأعراف: 69 أولي قوة و بطش شديد حم السجدة: 15، الشعراء: 130 و كان لهم تقدم و رقي في المدنية و الحضارة، لهم بلاد عامرة و أراض خصبة ذات جنات و نخيل و زروع و مقام كريم الشعراء و غيرها، و ناهيك في رقيهم و عظيم مدنيتهم قوله تعالى في وصفهم: «أ لم تر كيف فعل ربك بعاد إرم ذات العماد التي لم يخلق مثلها في البلاد:» الفجر: - 8.
لم يزل القوم يتنعمون بنعمة الله حتى غيروا ما بأنفسهم فتعرقت فيهم الوثنية و بنوا بكل ريع آية يعبثون و اتخذوا مصانع لعلهم يخلدون و أطاعوا طغاتهم المستكبرين فبعث الله إليهم أخاهم هودا يدعوهم إلى الحق و يرشدهم إلى أن يعبدوا الله و يرفضوا الأوثان، و يعملوا بالعدل و الرحمة الشعراء: 130 فبالغ في وعظهم و بث النصيحة فيهم، و أنار الطريق و أوضح السبيل، و قطع عليهم العذر فقابلوه بالآباء و الامتناع، و واجهوه بالجحد و الإنكار و لم يؤمن به إلا شرذمة منهم قليلون و أصر جمهورهم على البغي و العناد، و رموه بالسفه و الجنون، و ألحوا عليه بأن ينزل عليهم العذاب الذي كان ينذرهم و يتوعدهم به قال: «إنما العلم عند الله و أبلغكم ما أرسلت به و لكني أراكم قوما تجهلون: الأحقاف: - 23.
فأنزل الله عليهم العذاب و أرسل إليهم الريح العقيم ما تذر من شيء أتت عليه إلا جعلته كالرميم الذاريات: 42 ريحا صرصرا في أيام نحسات سبع ليال و ثمانية أيام حسوما فترى القوم فيها صرعى كأنهم أعجاز نخل خاوية الحاقة: 7 و كانت تنزع الناس كأنهم أعجاز نخل منقعر القمر: 20.
و كانوا بادىء ما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: عارض ممطرنا و قد أخطئوا بل كان هو الذي استعجلوا به ريح فيها عذاب أليم تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم الأحقاف: 25 فأهلكهم الله عن آخرهم و أنجى هودا و الذين آمنوا معه برحمة منه هود: 58.
2 - شخصية هود المعنوية:
و أما هود (عليه السلام) فهو من قوم عاد و ثاني الأنبياء الذين انتهضوا للدفاع عن الحق و دحض الوثنية ممن ذكر الله قصته و ما قاساه من المحنة و الأذى في جنب الله سبحانه، و أثنى عليه بما أثنى على رسله الكرام و أشركه بهم في جميل الذكر عليه سلام الله.
|