بيان
تتضمن الآيات قصة بشرى إبراهيم (عليه السلام) بالولد، و أنها كالتوطئة لما سيذكر بعده من قصة ذهاب الملائكة إلى لوط النبي (عليه السلام) لإهلاك قومه فإن تلك القصة ذيل هذه القصة و في آخر قصة البشرى ما يتبين به وجه قصة الإهلاك و هو قوله: «إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود» الآية.
قوله تعالى: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى» إلى آخر الآية البشرى هي البشارة، و العجل ولد البقرة، و الحنيذ فعيل بمعنى المفعول أي المحنوذ و هو اللحم المشوي على حجارة محماة بالنار كما أن القديد هو المشوي على حجارة محماة بالشمس على ما ذكره بعض اللغويين، و ذكر بعضهم أنه المشوي الذي يقطر ماء و سمنا، و قيل: هو مطلق المشوي، و قوله تعالى في سورة الذاريات في القصة: «فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين» لا يخلو من تأييد ما للمعنى الثاني.
و قوله: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى» معطوف على قوله سابقا: «و لقد أرسلنا نوحا إلى قومه» قال في المجمع،: و إنما دخلت اللام لتأكيد الخبر و معنى قد هاهنا أن السامع لقصص الأنبياء يتوقع قصة بعد قصة، و قد للتوقع فجاءت لتؤذن أن السامع في حال توقع.
انتهى.
و الرسل هم الملائكة المرسلون إلى إبراهيم للبشارة و إلى لوط لإهلاك قومه و قد اختلفت كلمات المفسرين في عددهم مع القطع بكونهم فوق الاثنين لدلالة لفظ الجمع - الرسل - على ذلك، و في بعض الروايات عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنهم كانوا أربعة من الملائكة الكرام، و سيأتي نقلها إن شاء الله في البحث الروائي.
و البشرى التي جاءت بها الرسل إبراهيم (عليه السلام) لم يذكر بلفظها في القصة، و التي ذكرت فيها منها هي البشارة لامرأته، و إنما ذكرت بشارة إبراهيم نفسه في غير هذا المورد كسورتي الحجر و الذاريات، و لم يصرح فيهما باسم من بشر به إبراهيم أ هو إسحاق أم إسماعيل (عليهما السلام) أو أنهم بشروه بكليهما؟ و ظاهر سياق القصة في هذه السورة أنها البشارة بإسحاق، و سيأتي البحث المستوفى عن ذلك في آخر القصة.
و قوله: «قالوا سلاما قال سلام» أي تسالموا هم و إبراهيم فقالوا: سلاما أي سلمنا عليك سلاما، و قال إبراهيم: سلام أي عليكم سلام.
و السلام الواقع في تحية إبراهيم (عليه السلام) نكرة و وقوعه نكرة في مقام التحية دليل على أن المراد به الجنس أو أن له وصفا محذوفا للتفخيم و مزيد التكريم و التقدير: عليكم سلام زاك طيب أو ما في معناه، و لذا ذكر بعض المفسرين: أن رفع السلام أبلغ من نصبه فقد حياهم بأحسن تحيتهم فبالغ في إكرامهم ظنا منه أنهم ضيف و قوله: «فما لبث أن جاء بعجل حنيذ» أي ما أبطأ في أن قدم إليهم عجلا مشويا يقطر ماء و سمنا و أسرع في ذلك.
قوله تعالى: «فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة» عدم وصول أيديهم إليه كناية عن أنهم ما كانوا يمدون أيديهم إلى الطعام، و ذلك أمارة العداوة و إضمار الشر، و نكرهم و أنكرهم بمعنى واحد و إنما كان أنكرهم لإنكاره ما شاهد منهم من فعل غير معهود.
و الإيجاس الخطور القلبي، قال الراغب: الوجس الصوت الخفي، و التوجس التسمع، و الإيجاس وجود ذلك النفس قال: و أوجس منهم خيفة، و الواجس قالوا: هو حالة تحصل من النفس بعد الهاجس لأن الهاجس مبتدأ التفكير ثم يكون الواجس الخاطر.
انتهى.
فالجملة من الكناية كان لطروق الخيفة - و هو النوع من الخوف - و خطوره في النفس صوتا تسمع بالسمع القلبي، و المراد أنه استشعر في نفسه خوفا و لذلك أمنوه و طيبوا نفسه بقولهم: «لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط».
و معنى الآية أن إبراهيم (عليه السلام) لما قدم إليهم العجل المشوي رآهم لا يأكلون منه كالممتنع من الأكل - و ذلك أمارة الشر - استشعر في نفسه منهم خوفا قالوا تأمينا له و تطييبا لنفسه: لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط فعلم أنهم من الملائكة الكرام المنزهين من الأكل و الشرب و ما يناظر ذلك من لوازم البدن المادية، و أنهم مرسلون لخطب جليل.
و نسبة استشعار الخوف إلى إبراهيم (عليه السلام) لا ينافي ما كان عليه من مقام النبوة الملازم للعصمة الإلهية من المعصية و الرذائل الخلقية فإن مطلق الخوف و هو تأثر النفس عن مشاهدة المكروه التي تبعثها إلى التحذر منه و المبادرة إلى دفعه ليس من الرذائل، و إنما الرذيلة هي التأثر الذي يستوجب بطلان مقاومة النفس و ظهور العي و الفزع و الذهول عن التدبير لدفع المكروه و هو المسمى بالجبن كما أن عدم التأثر عن مشاهدة المكروه مطلقا و هو المسمى تهورا ليس من الفضيلة في شيء.
و ذلك أن الله سبحانه لم يخلق هذه الحالات النفسانية التي تظهر في النفوس و منها التأثر و الانفعال عند مشاهدة المكروه و الشر كالشوق و الميل و الحب و غير ذلك عند مشاهدة المحبوب و الخير عبثا باطلا فإن جلب الخير و النفع و دفع الشر و الضرر مما فطر على ذلك أنواع الموجودات على كثرتها و عليه يدور رحى الوجود في نظامه العام.
و لما كان هذا النوع المسمى بالإنسان إنما يسير في مسير بقائه بالشعور و الإرادة كان عمل الجلب و الدفع فيه مترشحا عن شعوره و إرادته، و لا يتم إلا عن تأثر نفساني يسمى في جانب الحب ميلا و شهوة و في جانب البغض و الكراهة خوفا و وجلا.
ثم لما كانت هذه الأحوال النفسانية الباطنة ربما ساقت الإنسان إلى أحد جانبي الإفراط و التفريط كان من الواجب على الإنسان أن يقوم من الدفع على ما ينبغي و هو فضيلة الشجاعة كما أن من الواجب عليه أن يبادر من الجلب إلى ما ينبغي على ما ينبغي و هو فضيلة العفة و هما حدا الاعتدال بين الإفراط و التفريط، و أما انتفاء التأثر بأن يلقي الإنسان بنفسه إلى التهلكة الصريحة في باب الدفع و هو التهور، أولا تنزع نفسه إلى شيء مطلوب قط في باب الجلب و الشهوة و هو الخمول و كذا بلوغ التأثر من القوة إلى حيث ينسى الإنسان نفسه و يذهل عن واجب رأيه و تدبيره فيجزع عن كل شبح يتراءى له في باب الدفع و هو الجبن أو ينكب على كل ما تهواه نفسه و تشتهيه كالبهيمة على عليقها في باب الشهوة و هو الشره فجميع هذه من الرذائل.
و الذي آثر الله سبحانه به أنبياءه من العصمة إنما يثبت في نفوسهم فضيلة الشجاعة دون التهور، و ليست الشجاعة تقابل الخوف الذي هو مطلق التأثر عن مشاهدة المكروه، و هو الذي يدعو النفس إلى القيام بواجب الدفع، و إنما تقابل الجبن الذي هو بلوغ التأثر النفساني إلى حيث يبطل الرأي و التدبير و يستتبع العي و الانهزام.
قال تعالى: «الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله:» الأحزاب: - 39، و قال مخاطبا لموسى (عليه السلام): «لا تخف إنك أنت الأعلى:» طه: - 68، و قال حكاية عن قول شعيب له (عليه السلام): «لا تخف نجوت من القوم الظالمين:» القصص: - 25، و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «و إما تخافن من قوم خيانة فانبذ إليهم على سواء:» الأنفال: - 58.
و الخليل (عليه السلام) هو النبي الكريم الذي قام بالدعوة الحقة إذ لا يذكر اسم الله وحده، و نازع وثنية قومه فحاج أباه آزر و قومه و حاج الملك الجبار نمرود و كان يدعي الألوهية، و كسر أصنام القوم حتى ألقوه في النار فأنجاه الله من النار فلم يجبنه شيء من تلك المهاول، و لا هزمه في جهاده في سبيل الله هازم، و مثل هذا النبي على ما له من الموقف الروحي إن خاف من شيء أو وجل من أحد أو ارتاعه أمر - على اختلاف تعبير الآيات - فإنما يخافه خوف حزم و لا يخافه خوف جبن، و إذا خاف من شيء على نفسه أو عرضه أو ماله فإنما يخاف لله لا لهوى من نفسه.
قوله تعالى: «و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحق يعقوب» ضحكت من الضحك بفتح الضاد أي حاضت، و يؤيده تفريع البشارة عليه في قوله عقيبه: «فبشرناها» إلخ، و يكون ضحكها أمارة تقرب البشرى إلى القبول، و آية تهيىء نفسها للإذعان بصدقهم فيما يبشرون به، و يكون ذكر قيامها لتمثيل المقام و أنها ما كانت تخطر ببالها أنها ستحيض و هي عجوز، و إنما كانت قائمة تنظر ما يجري عليه الأمر بين بعله و بين الضيفان النازلين به و تحادثهم.
و المعنى أن إبراهيم (عليه السلام) كان يكلمهم و يكلمونه في أمر الطعام و الحال أن امرأته قائمة هناك تنظر إلى ما يجري بين الضيفان و بين إبراهيم و ما كان يخطر ببالها شيء دون ذلك ففاجأها أنها حاضت فبشرته الملائكة بالولد.
و أكثر المفسرين أخذوا الكلمة من الضحك بكسر الضاد ضد البكاء ثم اختلفوا في توجيه سببه، و أقرب الوجوه هو أن يقال: إنها كانت قائمة هناك و قد ذعرت من امتناع الضيوف من الأكل و هو يهتف بالشر فلما لاحت لها أنهم ملائكة مكرمون نزلوا ببيتهم و أن لا شر في ذلك يتوجه إليهم سرت و فرحت فضحكت فبشروه بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب.
و هناك وجوه أخر ذكروها خالية عن الدليل كقولهم إنها ضحكت تعجبا من غفلة قوم لوط، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا من امتناع الضيوف من الأكل و الحال أنها تخدمهم بنفسها، و قولهم: إنها كانت أشارت إلى إبراهيم أن يضم إليه لوطا لأن فحشاء قومه سيعقبهم العذاب و الهلاك فلما سمعت من الملائكة قولهم: إنا أرسلنا إلى قوم لوط سرت و ضحكت لإصابتها في الرأي، و قولهم: إنها ضحكت تعجبا مما بشروها به من الولد و هي عجوز عقيم، و على هذا ففي الكلام تقديم و تأخير و التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت.
و قوله: «فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحق يعقوب» إسحاق هو ابنها من إبراهيم، و يعقوب هو ابن إسحاق (عليه السلام) فالمراد أن الملائكة بشروها بأنها ستلد إسحاق و إسحاق سيولد له يعقوب ولد بعد ولد.
هذا على قراءة يعقوب بالفتح و هو منزوع الخافض و قرىء برفع يعقوب و هو بيان لتتمة البشارة، و الأولى أرجح.
و كان في هذا التعبير: «و من وراء إسحق يعقوب» إشارة إلى وجه تسمية يعقوب (عليه السلام) بهذا الاسم، و هو أنه كان يعقب بحسب هذه البشارة أباه إسحاق و قد ذكر فيها أنه وراءه، و يكون فيها تخطئة لما في التوراة من السبب في تسمية يعقوب به.
قال في التوراة الحاضرة: و كان إسحاق ابن أربعين سنة لما اتخذ لنفسه زوجه «رفقة» بنت بنوئيل الأرامي أخت لابان الأرامي من فدان الأرام، و صلى إسحاق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقرا فاستجاب له الرب فحبلت رفقة امرأته و تزاحم الولدان في بطنها فقالت: إن كان هكذا فلما ذا أنا، فمضت لتسأل الرب فقال لها الرب: في بطنك أمتان، و من أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، و كبير يستعبد لصغير.
فلما كملت أيامها لتلد إذا في بطنها توأمان فخرج الأول أحمر كله كفروة شعر فدعي اسمه عيسو، و بعد ذلك خرج أخوه و يده قابضة بعقب عيسو فدعي اسمه يعقوب.
انتهى موضع الحاجة و هذا من لطائف القرآن الكريم.
قوله تعالى: «قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب» الويل القبح و كل مساءة توجب التحسر من هلكة أو مصيبة أو فجيعة، أو فضيحة و نداؤه كناية عن حضوره و حلوله يقال: يا ويلي أي حضرني و حل بي ما فيه تحسري، و يا ويلتا بزيادة التاء عند النداء مثل يا أبتا.
و العجوز الشيخة من النساء، و البعل زوج المرأة و الأصل في معناه القائم بالأمر المستغني عن الغير يقال للنخل الذي يستغني بماء السماء عن سقي الأنهار و العيون بعل، و يقال للصاحب و للرب: بعل.
و منه بعلبك لأنه كان فيه هيكل بعض أصنامهم.
و العجيب صفة مشبهة من العجب و هو الحال العارض للإنسان من مشاهدة ما لا يعلم سببه، و لذا يكثر في الأمور الشاذة النادرة للجهل بسببها عادة و قولها: «يا ويلتى أ ألد» إلخ، وارد مورد التعجب و التحسر فإنها لما سمعت بشارة الملائكة تمثل لها الحال بتولد ولد من عجوز عقيم و شيخ هرم بالغين في الكبر لا يعهد من مثلهما الاستيلاد فهو أمر عجيب على ما فيه من العار و الشين عند الناس فيضحكون منهما و يهزءون بهما و ذلك فضيحة.
قوله تعالى: «قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد» المجد هو الكرم و المجيد الكريم كثير النوال و قد تقدم معنى بقية مفردات الآية.
و قولهم: «أ تعجبين من أمر الله» استفهام إنكاري أنكرت الملائكة تعجبها عليها لأن التعجب إنما يكون للجهل بالسبب و استغراب الأمر، و الأمر المنسوب إلى الله سبحانه و هو الذي يفعل ما يشاء و هو على كل شيء قدير لا وجه للتعجب منه.
على أنه تعالى خص بيت إبراهيم بعنايات عظيمة و مواهب عالية يتفردون بها من بين الناس فلا ضير إن ضم إلى ما مضى من نعمه النازلة عليهم نعمة أخرى مختصة بهم من بين الناس و هو ولد من زوجين شائخين لا يولد من مثلهما ولد عادة.
و لهذا الذي ذكرنا قالت الملائكة لها في إنكار ما رأوا من تعجبها أولا: «أ تعجبين من أمر الله» فأضافوا الأمر إلى الله لينقطع بذلك كل استعجاب و استغراب لأن ساحة الألوهية لا يشق شيء عليها و هو الخالق لكل شيء.
و ثانيا: «رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت» فنبهوها بذلك أن الله أنزل رحمته و بركاته عليهم أهل البيت، و ألزمهم ذلك فليس من البعيد أن يكون من ذلك تولد مولود من والدين في غير سنهما العادي المألوف لذلك.
و قوله: «إنه حميد مجيد» في مقام التعليل لقوله: «رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت» أي إنه تعالى مصدر كل فعل محمود و منشأ كل كرم و جود يفيض من رحمته و بركاته على من يشاء من عباده.
قوله تعالى: «فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط» الروع الخوف و الرعب و المجادلة في الأصل الإلحاح في البحث و المساءلة للغلبة في الرأي، و المعنى أنه لما ذهب عن إبراهيم ما اعتراه من الخيفة بتبين أن النازلين به لا يريدون به سوءا و لا يضمرون له شرا.
و جاءته البشرى بأن الله سيرزقه و زوجه إسحاق و من وراء إسحاق يعقوب أخذ يجادل الملائكة في قوم لوط يريد بذلك أن يصرف عنهم العذاب.
فقوله: «يجادلنا في قوم لوط» لحكاية الحال الماضية أو بتقدير فعل ماض قبله و تقديره: أخذ يجادلنا إلخ، لأن الأصل في جواب لما أن يكون فعلا ماضيا.
و يظهر من الآية أن الملائكة أخبروه أولا: بأنهم مرسلون إلى قوم لوط ثم ألقوا إليه البشارة ثم جرى بينهم الكلام في خصوص عذاب قوم لوط فأخذ إبراهيم (عليه السلام) يجادلهم ليصرف عنهم العذاب فأخبروه بأن القضاء حتم، و العذاب نازل لا مرد له.
و الذي ذكره الله من مجادلته (عليه السلام) الملائكة هو قوله في موضع آخر: «و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين:» العنكبوت: - 32.
قوله تعالى: «إن إبراهيم لحليم أواه منيب» الحليم هو الذي لا يعاجل العقوبة و الانتقام، و الأواه كثير التأوه مما يصيبه أو يشاهده من السوء، و المنيب من الإنابة و هو الرجوع و المراد الرجوع في كل أمر إلى الله.
و الآية مسوقة لتعليل قوله في الآية السابقة: «يجادلنا في قوم لوط» و فيه مدح بالغ لإبراهيم (عليه السلام) و بيان أنه إنما كان يجادل فيهم لأنه كان حليما لا يعاجل نزول العذاب على الظالمين رجاء أن يأخذهم التوفيق فيصلحوا و يستقيموا، و كان كثير التأثر من ضلال الناس و حلول الهلاك بهم مراجعا إلى الله في نجاتهم.
لا أنه (عليه السلام) كان يكره عذاب الظالمين و ينتصر لهم بما هم ظالمون و حاشاه عن ذلك.
قوله تعالى: «يا إبراهيم أعرض عن هذا إنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود» هذا حكاية قول الملائكة لإبراهيم (عليه السلام) و بذلك قطعوا عليه جداله فانقطع حيث علم أن الإلحاح في صرف العذاب عنهم لن يثمر ثمرا فإن القضاء حتم و العذاب واقع لا محالة.
فقولهم: «يا إبراهيم أعرض عن هذا» أي انصرف عن هذا الجدال و لا تطمع في نجاتهم فإنه طمع فيما لا مطمع فيه.
و قولهم: «إنه قد جاء أمر ربك» أي بلغ أمره مبلغا لا يدفع بدافع و لا يتبدل بمبدل و يؤيده قوله في الجملة التالية: «و إنهم آتيهم عذاب غير مردود» فإن ظاهره المستقبل و لو كان الأمر صادرا لم يتخلف القضاء عن المقضي البتة و يؤيده أيضا قوله في ما سيأتي من آيات قصة قوم لوط: «فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها:» إلخ، آية - 82 من السورة.
و قولهم: «و إنهم آتيهم عذاب غير مردود» أي غير مدفوع عنهم بدافع فلله الحكم لا معقب لحكمه، و الجملة بيان لما أمر به جيء بها تأكيدا للجملة السابقة و المقام مقام التأكيد، و لذلك جيء في الجملة الأولى بضمير الشأن و قد المفيد للتحقيق، و صدرت الجملتان معا بأن، و أضافوا الأمر إلى رب إبراهيم (عليه السلام) دون أمر الله ليعينهم ذلك على انقطاعه عن الجدال.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله بعث أربعة أملاك في إهلاك قوم لوط: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و كروبيل فمروا بإبراهيم فسلموا عليه و هم معتمون فلم يعرفهم، و رأى هيئة حسنة فقال: لا يخدم هؤلاء إلا أنا بنفسي و كان صاحب ضيافة فشوى لهم عجلا سمينا حتى أنضجه فقربه إليهم فلما وضع بين أيديهم رأى أيديهم لا تصل إليه فنكرهم و أوجس منهم خيفة فلما رأى ذلك جبرئيل حسر العمامة عن وجهه فعرفه إبراهيم فقال: أنت هو؟ قال: نعم فمرت به امرأته فبشرها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فقالت: ما قال الله عز و جل و أجابوها بما في الكتاب. فقال لهم إبراهيم: لما ذا جئتم؟ فقالوا في إهلاك قوم لوط. قال: إن كان فيها مائة من المؤمنين أ تهلكونها؟ قال جبرئيل: لا. قال: و إن كان فيهم خمسون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم ثلاثون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرون؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم عشرة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم خمسة؟ قال: لا. قال: و إن كان فيهم واحد؟ قال: لا. قال: فإن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين ثم مضوا. قال: و قال الحسن بن علي: لا أعلم هذا القول إلا و هو يستبقيهم و هو قول الله عز و جل: «يجادلنا في قوم لوط» الحديث و له تتمة ستوافيك في قصة لوط.
أقول: و قوله: «لا أعلم هذا القول إلا و هو يستقبيهم» يمكن استفادته من قوله تعالى: «إن إبراهيم لحليم أواه منيب» فإنه أنسب بكون غرضه استبقاء القوم لا استبقاء نبي الله لوط.
على أن قوله: «يجادلنا في قوم لوط» و قوله: «إنهم آتيهم عذاب غير مردود» إنما يناسب استبقاء القوم.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن سنان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: جاء بعجل حنيذ مشويا نضيجا.
و في معاني الأخبار، بإسناد صحيح عن عبد الرحمن بن الحجاج عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: فضحكت - فبشرناها بإسحق قال: حاضت.
و في الدر المنثور، أخرج إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر عن الضحاك عن ابن عباس قال: لما رأى إبراهيم أنه لا تصل إلى العجل أيديهم نكرهم و خافهم، و إنما كان خوف إبراهيم أنهم كانوا في ذلك الزمان إذا هم أحدهم بامرىء سوء لم يأكل عنده يقول: إذا أكرمت بطعامه حرم على أذاه، فخاف إبراهيم أن يريدوا به سوء فاضطربت مفاصله. و امرأته سارة قائمة تخدمهم، و كان إذا أراد أن يكرم ضيفا أقام سارة ليخدمهم فضحكت سارة، و إنما ضحكت أنها قالت: يا إبراهيم و ما تخاف؟ إنهم ثلاثة نفر و أنت و أهلك و غلمانك. قال لها جبرئيل: أيتها الضاحكة أما إنك ستلدين غلاما يقال له: إسحاق و من ورائه غلام يقال له: يعقوب فأقبلت في صرة فصكت وجهها فأقبلت والهة تقول: وا ويلتاه و وضعت يدها على وجهها استحياء فذلك قوله: فصكت وجهها، و قالت: أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا. قال: لما بشر إبراهيم يقول الله: فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى بإسحاق يجادلنا في قوم لوط، و كان جداله أنه قال: يا جبرئيل أين تريدون؟ و إلى من بعثتم؟ قال: إلى قوم لوط و قد أمرنا بعذابهم. فقال إبراهيم إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته، و كانت فيما زعموا تسمى والقة. فقال إبراهيم: إن كان فيهم مائة مؤمن أ تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم تسعون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا. قال: فإن كان فيهم ثمانون مؤمنون تعذبونهم؟ قال جبرئيل: لا حتى انتهى في العدد إلى واحد مؤمن قال جبرئيل: لا. فلما لم يذكروا لإبراهيم أن فيها مؤمنا واحدا قال: إن فيها لوطا. قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته.
أقول: و في متن الحديث اضطراب ما من حيث ذكره قول إبراهيم: إن فيها لوطا أولا و ثانيا لكن المراد واضح.
و في تفسير العياشي، عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى لما قضى عذاب قوم لوط و قدره أحب أن يعوض إبراهيم من عذاب قوم لوط بغلام عليم يسلي به مصابه بهلاك قوم لوط. قال: فبعث الله رسلا إلى إبراهيم يبشرونه بإسماعيل. قال: فدخلوا عليه ليلا ففزع منهم و خاف أن يكونوا سراقا فلما رأته الرسل فزعا مذعورا قالوا: سلاما. قال: سلام إنا منكم وجلون. قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم. قال أبو جعفر (عليه السلام): و الغلام العليم إسماعيل من هاجر فقال إبراهيم للرسل: أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون. قالوا: بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين. قال إبراهيم للرسل: فما خطبكم بعد البشارة؟ قالوا: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين قوم لوط إنهم كانوا قوما فاسقين لننذرهم عذاب رب العالمين، قال أبو جعفر (عليه السلام): قال إبراهيم: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين. فلما عذبهم الله أرسل الله إلى إبراهيم رسلا يبشرونه بإسحاق و يعزونه بهلاك قوم لوط، و ذلك قوله: و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى - قالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فما لبث أن جاء بعجل حنيذ يعني زكيا مشويا نضيجا فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط و امرأته قائمة. قال أبو جعفر (عليه السلام): إنما عنوا سارة قائمة فبشروها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت يعني فعجبت من قولهم.
أقول: و الرواية - كما ترى - تجعل قصة البشارة قصتين: البشارة بإسماعيل و البشارة بإسحاق و قد ولد بعد إسماعيل بسنين.
ثم تحمل آيات سورة الحجر - و لم يذكر فيها تقديم العجل المشوي إلى الضيوف - على البشرى بإسماعيل و لما يقع العذاب على قوم لوط حين ذاك، و تحمل آيات سورتي الذاريات و هود - و قد اختلطتا في الرواية - على البشرى لسارة بإسحاق و يعقوب، و أنها إنما كانت بعد هلاك قوم لوط فراجعوا إبراهيم و أخبروه بوقوع العذاب و بشروه البشارة الثانية.
أما آيات سورة الحجر فإنها في نفسها تحتمل الحمل على البشارة بإسماعيل و كذا الآيات الواقعة في سورة الذاريات تحتمل أن تقص عما بعد هلاك قوم لوط و تكون البشرى بإسحاق و يعقوب عند ذلك.
و أما آيات سورة هود فإنها صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب، و لكن ما في ذيلها من قوله: «يجادلنا في قوم لوط إن إبراهيم لحليم أواه منيب» إلى آخر الآيات تأبى أن تنطبق على ما بعد هلاك قوم لوط، و إن كان ما في صدرها من قوله: «إنا أرسلنا إلى قوم لوط» لا يأبى وحدة الحمل على ما بعد الهلاك، و كذا جملة «إنه قد جاء أمر ربك» لو لا ما يحفها من قيود الكلام.
و بالجملة مفاد الآيات في سورة هود هو وقوع البشرى بإسحاق قبل هلاك قوم لوط، و عند ذلك كان جدال إبراهيم (عليه السلام)، و مقتضى ذلك أن تكون ما وقع من القصة في سورة الذاريات هي الواقعة قبل هلاك القوم لا بعد الهلاك، و كذا كون ما وقع من القصة في سورة الحجر و فيه التصريح بكونه قبل هلاكهم و فيه جدال إبراهيم (عليه السلام) خاليا عن بشرى إسحاق و يعقوب لا بشرى إسماعيل.
و الحاصل أن اشتمال آيات هود على بشرى إسحاق و جدال إبراهيم (عليه السلام) الظاهر في كونها قبل هلاك قوم لوط يوجب أن يكون المذكور من البشرى في جميع السور الثلاث: هود و الحجر و الذاريات قصة واحدة هي قصة البشرى بإسحاق قبل وقوع العذاب، و هذا مما يوهن الرواية جدا.
و في الرواية شيء آخر و هو أنها أخذت الضحك بمعنى العجب و أخذت قوله: «فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب» من التقديم و التأخير، و أن التقدير: فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب فضحكت» و هو خلاف الظاهر من غير نكتة ظاهرة.
و في تفسير العياشي، أيضا عن الفضل بن أبي قرة قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أوحى الله إلى إبراهيم أنه سيلد لك فقال لسارة فقالت: أ ألد و أنا عجوز؟ فأوحى الله إليه: أنها ستلد و يعذب أولادها أربعمائة سنة بردها الكلام علي. قال: فلما طال على بني إسرائيل العذاب ضجوا و بكوا إلى الله أربعين صباحا فأوحى الله إلى موسى و هارون أن يخلصهم من فرعون فحط عنهم سبعين و مائة سنة. قال: و قال أبو عبد الله (عليه السلام): هكذا أنتم. لو فعلتم فرج الله عنا فأما إذا لم تكونوا فإن الأمر ينتهي إلى منتهاه.
أقول: وجود الرابطة بين أحوال الإنسان و ملكاته و بين خصوصيات تركيب بدنه مما لا شك فيه فلكل من جانبي الربط استدعاء و تأثير خاص في الآخرة ثم النطفة مأخوذة من المادة البدنية حاملة لما في البدن من الخصوصيات المادية و الروحية طبعا فمن الجائز أن يرث الأخلاف بعض خصوصيات أخلاق أسلافهم المادية و الروحية.
و قد تقدم كرارا في المباحث السابقة أن بين صفات الإنسان الروحية و أعماله و بين الحوادث الخارجية خيرا و شرا رابطة تامة كما يشير إليه قوله تعالى: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض:» الأعراف: - 96، و قوله: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم:» الشورى: - 30.
فمن الجائز أن يصدر عن فرد من أفراد الإنسان أو عن مجتمع من المجتمعات الإنسانية عمل من الأعمال صالح أو طالح أو تظهر صفة من الصفات فضيلة أو رذيلة ثم يظهر أثره الجميل أو وباله السيىء في أعقابه، و الملاك في ذلك نوع من الوراثة كما مر، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: «و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم:» النساء: - 9 كلام في هذا المعنى في الجزء الرابع من الكتاب.
و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) و عن عبد الرحمن عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «إن إبراهيم لحليم أواه منيب» قال: دعاء: أقول: و روي في الكافي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) مثله.
و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: إن إبراهيم جادل في قوم لوط و قال: إن فيها لوطا. قالوا: نحن أعلم بمن فيها فزاده إبراهيم فقال جبرئيل: يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الأنباري في كتاب الوقف و الابتداء عن حسان بن أبجر قال: كنت عند ابن عباس فجاءه رجل من هذيل فقال له ابن عباس: ما فعل فلان؟ قال: مات و ترك أربعة من الولد و ثلاثة من الوراء. فقال ابن عباس: «فبشرناها بإسحاق - و من وراء إسحاق يعقوب» قال: ولد الولد.
كلام في قصة البشرى
قصة البشرى و سماها الله تعالى حديث ضيف إبراهيم (عليه السلام) وقعت في خمس من السور القرآنية كلها مكية و هي على ترتيب القرآن سورة هود و الحجر و العنكبوت و الصافات و الذاريات.
فالأولى ما في سورة هود 69 - 76 قوله تعالى: «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام فما لبث أن جاء بعجل حنيذ.
فلما رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم و أوجس منهم خيفة قالوا لا تخف إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
و امرأته قائمة فضحكت فبشرناها بإسحاق و من وراء إسحاق يعقوب.
قالت يا ويلتى أ ألد و أنا عجوز و هذا بعلي شيخا إن هذا لشيء عجيب.
قالوا أ تعجبين من أمر الله رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت إنه حميد مجيد.
فلما ذهب عن إبراهيم الروع و جاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط.
إن إبراهيم لحليم أواه منيب.
يا إبراهيم أعرض عن هذا أنه قد جاء أمر ربك و إنهم آتيهم عذاب غير مردود».
و الثانية ما في سورة الحجر: 51 - 60 قوله تعالى: «و نبئهم عن ضيف إبراهيم.
إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون.
قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم.
قال أ بشرتموني على أن مسني الكبر فبم تبشرون.
قالوا بشرناك بالحق فلا تكن من القانطين.
قال و من يقنط من رحمة ربه إلا الضالون.
قال فما خطبكم أيها المرسلون.
قالوا إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين.
إلا آل لوط إنا لمنجوهم أجمعين.
إلا امرأته قدرنا أنها لمن الغابرين».
و الثالثة ما في سورة العنكبوت: 31 - 32 قوله تعالى: «و لما جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية إن أهلها كانوا ظالمين.
قال إن فيها لوطا قالوا نحن أعلم بمن فيها لننجينه و أهله إلا امرأته كانت من الغابرين».
و الرابعة ما في سورة الصافات: 99 - 113 قوله تعالى: «و قال إني ذاهب إلى ربي سيهدين.
رب هب لي من الصالحين.
فبشرناه بغلام حليم.
فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين.
فلما أسلما و تله للجبين.
و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين.
إن هذا لهو البلاء المبين.
و فديناه بذبح عظيم.
و تركنا عليه في الآخرين.
سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين.
إنه من عبادنا المؤمنين.
و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين.
و باركنا عليه و على إسحاق و من ذريتهما محسن و ظالم لنفسه مبين».
و الخامسة ما في سورة الذاريات 24 - 30 قوله تعالى: «هل أتاك حديث ضيف إبراهيم المكرمين.
إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال سلام قوم منكرون فراغ إلى أهله فجاء بعجل سمين.
فقربه إليهم قال أ لا تأكلون.
فأوجس منهم خيفة قالوا لا تخف و بشروه بغلام عليم فأقبلت امرأته في صرة فصكت وجهها و قالت عجوز عقيم.
قالوا كذلك قال ربك إنه هو الحكيم العليم».
و يقع البحث في قصة البشرى من وجوه: أحدها: أنها هل هي بشرى واحدة و هي المشتملة على بشرى إبراهيم و سارة بإسحاق و يعقوب و قد وقعت قبيل هلاك قوم لوط أو أنها قصتان: إحداهما تشتمل على البشرى بإسماعيل و الأخرى تتضمن البشرى بإسحاق و يعقوب.
ربما رجح الثاني بناء على أن ما وقع من القصة في سورة الذاريات صريح في تقديم العجل المشوي، و أن إبراهيم خافهم لما امتنعوا من الأكل ثم بشروه و امرأته العجوز العقيم و هي سارة أم إسحاق قطعا، و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك بعد إهلاك قوم لوط حيث يقول الملائكة: إنا أرسلنا إلى قوم مجرمين - إلى أن قالوا - فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين و تركنا فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم» الآيات و نظير ذلك ما في سورة هود و قد قال فيها الملائكة لإزالة الروع عن إبراهيم ابتداء: إنا أرسلنا إلى قوم لوط.
و أما ما في سورة الحجر فليس يتضمن حديث تقديم العجل المشوي بل ظاهره أن إبراهيم و أهله خافوهم لدى دخولهم عليه فأسكنوا رعبه بالبشارة كما يقول تعالى: «إذ دخلوا عليه فقالوا سلاما قال إنا منكم وجلون قالوا لا توجل إنا نبشرك بغلام عليم» و ذيل الآيات ظاهر في كون ذلك قبل هلاك لوط.
و نظيره ما في سورة العنكبوت من القصة و هي أظهر في كون ذلك قبل الهلاك و يتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط، و قد تقدمت في البحث الروائي السابق حديث العياشي في هذا المعنى.
لكن الحق أن الآيات في جميع السور الأربع سورة هود و الحجر و العنكبوت و الذاريات إنما تقص قصة البشارة بإسحاق و يعقوب دون إسماعيل.
و أما ما في ذيل آيات الذاريات من قوله: «قالوا إنا أرسلنا الظاهر في المضي و الفراغ عن الأمر فنظيره واقع في آيات الحجر مع تسليمهم أنها تقص ما قبل الفراغ.
على أن قول الملائكة المرسلين و هم بعد في الطريق: «إنا أرسلنا» لا مانع منه بحسب اللغة و العرف.
و أما قوله: «فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين» إلى آخر الآيات فهو من كلامه تعالى و ليس من تتمة كلام الملائكة لإبراهيم كما يدل عليه سياق القصص الواردة في سورة الذاريات.
و أما ذكر الوجل في آيات الحجر في أول القصة بخلاف سورتي الذاريات و هود فالوجه فيه عدم ذكر تقديم العجل المشوي في آيات الحجر بخلافهما، على أن الارتباط التام بين أجزاء قصة مما يجوز أن يقدم بعضها على بعض حينا و يعكس الأمر حينا آخر كما أنه تعالى يذكر إنكار إبراهيم في آيات الذاريات في صدر القصة بعد سلامهم و في سورة هود في وسط القصة بعد امتناعهم من الأكل، و هذا كثير الورود في نظم القرآن.
على أن آيات هود صريحة في البشرى بإسحاق و يعقوب و هي تتضمن جدال إبراهيم في قوم لوط في سياق لا يشك معه أنه كان قبل هلاك لوط، و لازمه كون بشرى إسحاق قبله لا بعده.
على أن من المتفق عليه أن إسماعيل كان أكبر سنا من إسحاق و بين ولادتيهما سنون، و لو كانت هؤلاء الملائكة بشروا إبراهيم بإسماعيل في مسيرهم إلى هلاك قوم لوط قبيل الهلاك و بشروه بإسحاق في منصرفهم عن هلاكهم بعيدة كان الفصل بين البشريين يوما أو يومين فيكون الفصل بين البشرى بإسحاق و بين ولادته سنون من الزمان و البشرى لا تطلق إلا على الإخبار بالجميل إذا كان مشرفا على الوقوع إلا إذا كانت هناك عناية خاصة و أما الإخبار بمطلق الجميل فهو وعد و نحو ذلك.
و ثانيها أنه هل هناك بشرى بإسماعيل؟ و الحق أن ما ذكرت من البشرى في صدر آيات الصافات إنما هي بشرى بإسماعيل و هي غير ما ذكرت في ذيل الآيات من البشرى بإسحاق صريحا فإن سياق الآيات في ذيل قوله: «فبشرناه بغلام حليم» ثم استيناف البشارة بإسحاق في قوله أخيرا: «و بشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين» لا يدع ريبا لمرتاب أن الغلام الحليم الذي بشر به أولا غير إسحاق الذي بشر به ثانيا، و ليس إلا إسماعيل.
و ذكر الطبري في تاريخه أن المراد بالبشارة الأولى في هذه السورة أيضا البشارة بإسحاق قياسا على ذكر من البشارة في سائر السور، و هو كما ترى.
و قد تقدم كلام في هذا المعنى في قصص إبراهيم (عليه السلام) في الجزء السابع من الكتاب.
و ثالثها: البحث في القصة من جهة تطبيق ما في التوراة الحاضرة منها على ما استفيد من القرآن الكريم، و سيوافيك ذلك عند الكلام على قصة لوط (عليه السلام) في ذيل الآيات التالية.
و رابعها: البحث فيها من جهة جدال إبراهيم الملائكة و قد وقع فيها مثل قوله: «يجادلنا في قوم لوط» و قوله: «يا إبراهيم أعرض عن هذا».
و قد تقدم أن سياق الآيات و خاصة قوله: «إن إبراهيم لحليم أواه منيب» لا يدل إلا على نعته بالجميل فلم يكن جداله إلا حرصا منه في نجاة عباد الله رجاء أن يهتدوا إلى صراط الإيمان.
|