بيان
الآيات تذكر عذاب قوم لوط، و هي من وجه تتمة الآيات السابقة التي قصت نزول الملائكة و دخولهم على إبراهيم (عليه السلام) و تبشيره بإسحاق فإنما كانت كالتوطئة لقصة عذاب قوم لوط.
قوله تعالى: «و لما جاءت رسلنا لوطا سيىء بهم و ضاق بهم ذرعا و قال هذا يوم عصيب» يقال: ساءه الأمر مساءة أي أوقع عليه السوء، و سيء بالأمر بالبناء للمجهول أي أوقع عليه من ناحيته و بسببه.
و الذرع مقايسة الأطوال مأخوذ من الذراع العضو المعروف لأنهم كانوا يقيسون بها، و يطلق على نفس المقياس أيضا، و يقال: ضاق بالأمر ذرعا و هو كناية عن انسداد طريق الحيلة و العجز عن الاهتداء إلى مخلص ينجو به الإنسان من النائبة كالذي يذرع ما لا ينطبق عليه ذرعه.
و العصيب فعيل بمعنى المفعول من العصب بمعنى الشد و اليوم العصيب هو اليوم الذي شد بالبلاء شدا لا يقبل الانحلال و لا بعض أجزائه ينفك عن بعض.
و المعنى لما جاءت رسلنا لوطا و هم الملائكة النازلون بإبراهيم (عليه السلام) ساء مجيئهم لوطا، و عجز عن الاحتيال لنجاتهم من شر القوم فإنهم دخلوا عليه في صور غلمان مرد صبيحي المنظر و كان قومه ذوي حرص شديد على إتيان الفحشاء ما كان من المترقب أن يعرضوا عنهم و يتركوهم على حالهم، و لذلك لم يملك لوط نفسه دون أن قال: «هذا يوم عصيب» أي شديد ملتف بعض شره ببعض.
قوله تعالى: «و جاءه قومه يهرعون إليه و من قبل كانوا يعملون السيئات» قال الراغب: يقال: هرع و أهرع ساقه سوقا بعنف و تخويف، انتهى.
و عن كتاب العين، الإهراع السوق الحثيث، انتهى.
و قوله: «و من قبل كانوا يعملون السيئات» أي و من قبل ذلك كانوا يقترفون المعاصي و يأتون بالمنكرات فكانوا مجترءين على إيقاع الفحشاء معتادين بذلك لا ينصرفون عنه بصارف، و لا يحجبهم عن ذلك استحياء أو استشناع، و لا ينزجرون بموعظة أو ملامة أو مذمة لأن العادة تسهل كل صعب و تزين كل قبيح و وقيح.
و الجملة كالمعترضة بين قوله: «و جاءه قومه يهرعون إليه» و قوله: «قال يا قوم هؤلاء بناتي» إلخ، و هي نافعة في مضمون طرفيها أما فيما قبلها فإنها توضح أن الذي كان يهرعهم و يسوقهم إلى لوط (عليه السلام) هو أنهم كانوا يعملون السيئات و صاروا بذلك معتادين على إتيان الفحشاء و لعين به فساقهم ذلك إلى المجيء إليه و قصد السوء بأضيافه.
و أما فيما بعدها فإنها تفيد أنهم لرسوخ الملكة و استقرار العادة سلبوا سمع القبول و أن يزجرهم زاجر من عظة أو نصيحة، و لذلك بدأ لوط في تكليمهم بعرض بناته عليهم ثم قال لهم: «اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي» إلخ.
قوله تعالى: «قال يا قوم هؤلاء بناتي هن أطهر لكم» إلى آخر الآية، لما رآهم تجمعوا على الشر لا يصرفهم عن ذلك مجرد القول بعظة أو أغلاظ في الكلام أراد أن يصرفهم عنه بتبديل ما يريدون من الفحشاء مما لا معصية فيه من الحلال فعرض بناته عليهم و رجحه لهم بأنهن أطهر لهم.
و إنما المراد بصيغة التفضيل - أطهر - مجرد الاشتمال على الطهارة من غير شوب بقذارة، و المراد هي طهارة محضا، و هو استعمال شائع، قال تعالى: «ما عند الله خير من اللهو:» الجمعة: - 11، و قال «و الصلح خير:» النساء: - 128.
و تفيد معنى الأخذ بالمتيقن.
و تقييد قوله: «هؤلاء بناتي» بقوله: «هن أطهر لكم» شاهد صدق على أنه إنما عرض لهم مسهن عن نكاح لا عن سفاح و حاشا مقام نبي الله عن ذلك، و ذلك لأن السفاح لا طهارة فيه أصلا و قد قال تعالى: «و لا تقربوا الزنى إنه كان فاحشة و ساء سبيلا:» إسراء: - 32، و قال: «و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن:» الأنعام: - 151، و قد تقدم في تفسير هذه الآية أن ما تتضمنه هو من الأحكام العامة المشرعة في جميع الشرائع الإلهية النازلة على أنبيائه.
و من هنا يظهر فساد قول من يقول: إنه عرض عليهم بناته من غير تقييده بنكاح.
و لست أدري ما معنى علاج فحشاء بفحشاء غيرها؟ و ما معنى قوله حينئذ: «فاتقوا الله»؟ و لو كان يريد دفع الفضيحة و العار عن نفسه فقط لاكتفى بقوله: «و لا تخزون في ضيفي».
و ربما قيل: إن المراد بقوله: «هؤلاء بناتي» الإشارة إلى نساء القوم لأن النبي أبو أمته فنساؤهم بناته كما أن رجالهم بنوه، يريد أن قصد الإناث و هو سبيل فطري خير لكم و أطهر من قصد الذكور من طريق الفحشاء.
و هو تحكم لا دليل عليه من جهة اللفظ البتة، و أما كونهم كفارا و بناته مسلمات و لا يجوز إنكاح المسلمة من الكافر فليس من المعلوم أن ذلك من شريعة إبراهيم حتى يتبعه لوط (عليه السلام) فمن الجائز أن يكون تزويج المؤمنة بالكافر جائزا في شرعه كما أنه كان جائزا في صدر الإسلام، و قد زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بنته من أبي العاص بن الربيع و هو كافر قبل الهجرة ثم نسخ ذلك.
على أن قولهم في جوابه: «لقد علمت ما لنا في بناتك من حق» لا يلائم كون المراد بالبنات في كلامه إنما هي نساؤهم لا بناته من صلبه فإنهم ما كانوا مؤمنين به حتى يعترفوا بكون نسائهم بناته إلا أن يكون المراد التهكم و لا قرينة عليه.
لا يقال تعبيره (عليه السلام) بالبنات و ليس له عندئذ إلا بنتان يدل على أن مراده بناته من نساء أمته لا بنتاه غير الصادق عليه لفظ الجمع.
لأنا نقول: لا دليل على ذلك من كلامه تعالى و لا وقع ذلك في نقل يعتمد عليه، نعم وقع في التوراة الحاضرة أنه كان للوط بنتان فقط.
و لا اعتماد على ما تتضمنه.
و قوله: «فاتقوا الله و لا تخزون في ضيفي» بيان للمطلوب، و قوله: «و لا تخزون في ضيفي» عطف تفسيري لقوله: «فاتقوا الله» فإنه (عليه السلام) إنما كان يطلب منهم أن لا يتعرضوا لضيفه لتقوى الله لا لهوى نفسه و عصبية جاهلية منه، و لم يكن عنده فرق بين ضيفه و غيرهم فيما كان يردعهم، و قد وعظهم بالردع عن هذا الذنب الشنيع و ألح على ذلك سنين متمادية.
و إنما علق الردع على معنى الضيافة و إضافة الضيف إلى نفسه و ذكر الخزي الوارد عليه من التعرض لهم كل ذلك رجاء أن يهيج صفة الفتوة و الكرامة فيهم و لذلك عقب ذلك بالاستغاثة و الاستنصار بقوله: «أ ليس منكم رجل رشيد» لعله يجد فيهم ذا رشد إنساني فينتصر له و ينجيه و ضيوفه من أيدي أولئك الظالمين لكن القوم كانوا كما قال الله تعالى: «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون:» الحجر: - 72 و لم يؤثر ذلك فيهم أثرا و لم ينتهوا عن قوله بل أجابوا بما أيأسوه به من أي إلحاح في ذلك.
قوله تعالى: «قالوا لقد علمت ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد» هذا جواب القوم عما دعاهم إليه لوط من النكاح المباح أجابوا بنفي أن يكون لهم في بناته من حق و أنه يعلم ذلك و يعلم ما هو بغيتهم في هذا الهجوم و ما ذا يريدون.
و قد قيل في معنى نفيهم الحق: إن معناه ما لنا في بناتك من حاجة و ما ليس للإنسان فيه حاجة فكأنه لا حق له فيه ففي الكلام نوع استعارة.
و قيل: إن المراد ليس لنا في بناتك من حق لأنا لا نتزوجهن و من لم يتزوج بامرأة فلا حق له فيها فالمراد بنفي الحق نفي سببه و هو الازدواج.
و قيل: المراد بالحق هو الحظ و النصيب دون الحق الشرعي أو العرفي أي لا رغبة لنا فيهن لأنهن نساء و لا ميل لنا إليهن.
و الذي يجب الالتفات إليه أنهم لم يقولوا: ما لنا في بناتك من حق بل قالوا: «لقد علمت ما لنا في بناتك من حق» فلم يجيبوا عنه بذلك بل بعلمه بذلك و بين القولين فرق فالظاهر أنهم ذكروه بما كان يعلم من السنة القومية الجارية بينهم، و هو المنع من التعرض لنساء الناس و خاصة بالقهر و الغلبة أو ترك إتيان النساء بالمرة و استباحة التعرض للغلمان و قضاء الوطر منهم، و قد كان لوط يردعهم عن سنتهم ذلك إذ يقول لهم: «إنكم لتأتون الرجال شهوة من دون النساء:» الأعراف: - 81 «أ تأتون الذكران من العالمين و تذرون ما خلق لكم ربكم من أزواجكم:» الشعراء: - 166 «أ إنكم لتأتون الرجال و تقطعون السبيل و تأتون في ناديكم المنكر:» العنكبوت: - 29، و لا شك أن السنة القومية الجارية على فعل شيء يثبت حقا فيه، و الجارية على تركه ينفي الحق.
و بالجملة هم يلفتون نظره (عليه السلام) إلى ما يعلم من انتفاء حقهم عن بناته بما هن نساء بحسب السنة القومية و ما يعلم من إرادتهم في الهجوم على داره هذا و لعل هذا أحسن الوجوه، و بعده الوجه الثالث.
قوله تعالى: «قال لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد» «يقال: أوى إلى كذا يأوي أويا و مأوى أي انضم إليه، و آواه إليه يؤويه إيواء أي ضمه إليه.
و الركن هو ما يعتمد عليه البناء بعد الأساس.
الظاهر أنه لما وعظهم لوط (عليه السلام) بالأمر بتقوى الله و تهييج فتوتهم في حفظ موقعه و رعاية حرمته في عدم التعرض لضيفه بما يجلب إليه العار و الخزي، و قد قطع عذرهم بعرض بناته عليهم بالنكاح ثم استغاث بالاستنصار من أولي الرشد منهم رجاء أن يوجد فيهم رجل رشيد ينصره عليهم و يدفعهم عنه فلم يجبه أحد فيما سأل و لا انماز من بينهم ذو رشد ينصره و يدفع عنه بل أيأسوه بقولهم: «لقد علمت ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد» لم يبق له إلا أن يظهر ما به من البث و الحزن في صورة التمني فتمنى أن يكون له منهم قوة يقوى به على دفع عتاتهم الظالمين - و هو الرجل الرشيد الذي كان يسأل عنه في استغاثته - أو يكون له ركن شديد و عشيرة منيعة ينضم إليهم فيدفعهم بهم.
فقوله: «لو أن لي بكم قوة» أي ليت لي قدرة بسببكم بانضمام رجل منكم رشيد إلي يقوم بنصرتي فأدفعكم به، و قوله: «أو آوي إلى ركن شديد» أي أو كنت أنضم إلى ركن شديد أي عشيرة منيعة يمنعكم مني هذا ما يعطيه ظاهر السياق.
و قيل: إن معنى قوله: «لو أن لي بكم قوة» أتمنى أن يكون لي منعة و قدرة و جماعة أتقوى بها عليكم فأدفعكم عن أضيافي.
و فيه أن فيه تبديل قوله: «بكم» إلى قولنا: بهم عليكم.
و هو كما ترى.
و قيل: إن معنى «لو أن لي بكم قوة» لو قويت عليكم بنفسي.
و فيه أنه أبعد من لفظ الآية.
و قيل: إن الخطاب في الآية للأضياف دون القوم، و معنى الآية أنه قال لأضيافه: أتمنى أن يكون لي بسببكم قوة ألقاهم بها.
و فيه أن الانتقال من خطاب القوم إلى خطاب الأضياف و لا دليل من اللفظ ظاهرا يدل عليه إبهام و تعقيد من غير موجب، و كلامه تعالى أجل من ذلك.
قوله تعالى: «قالوا يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك» إلى آخر الآية عدم وصولهم إليه كناية عن عدم قدرتهم على ما يريدون، و المعنى لما بلغ الأمر هذا المبلغ قالت الملائكة مخاطبين للوط: إنا رسل ربك فأظهروا له أنهم ملائكة و عرفوه أنهم مرسلون من عند الله، و طيبوا نفسه أن القوم لن يصلوا إليه و لن يقدروا أن يصيبوا منه ما يريدون فكان ما ذكره الله تعالى في موضع آخر من كلامه: «و لقد راودوه عن ضيفه فطمسنا أعينهم:» القمر: - 37، فأذهب الله بأبصار الذين تابعوا على الشر و ازدحموا على بابه فصاروا عميانا يتخبطون.
و قوله: «فأسر بأهلك بقطع من الليل و لا يلتفت منكم أحد» الإسراء و السري بالضم السير بالليل فيكون قوله: «بقطع من الليل» نوع توضيح له، و الباء للمصاحبة أو بمعنى في.
و القطع من الشيء طائفة منه و بعضه، و الالتفات افتعال من اللفت، قال الراغب: يقال: لفته عن كذا صرفه عنه، قال تعالى: «قالوا أ جئتنا لتلفتنا» أي تصرفنا، و منه التفت فلان إذا عدل عن قبله بوجهه، و امرأة لفوت تلفت من زوجها إلى ولدها من غيره.
انتهى.
و القول دستور من الملائكة للوط (عليه السلام) إرشادا له إلى النجاة من العذاب النازل بالقوم صبيحة ليلتهم هاتيك، و فيه معنى الاستعجال كما يشعر به قوله بعد: «إن موعدهم الصبح».
و المعنى أنا مرسلون لعذاب القوم و هلاكهم فانج أنت بنفسك و أهلك و سيروا أنت و أهلك بقطع من هذا الليل و أخرجوا من ديارهم فإنهم هالكون بعذاب الله صبيحة ليلتهم هذه، و لا كثير وقت بينك و بين الصبح و لا ينظر أحدكم إلى وراء.
و ما ذكره بعضهم أن المراد بالالتفات الالتفات إلى مال أو متاع في المدينة يأخذه معه أو الالتفات بمعنى التخلف عن السري مما لا يلتفت إليه.
و قوله: «إلا امرأتك إنه مصيبها ما أصابهم» ظاهر السياق أنه استثناء من قوله: «أهلك» لا من قوله: «أحد» و في قوله: «إنه مصيبها ما أصابهم» بيان السبب لاستثنائها، و قال تعالى في غير هذا الموضع: «إلا امرأته قدرنا إنها لمن الغابرين:» الحجر: - 60.
و قوله: «إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب» أي موعد هلاكهم الصبح و هو صدر النهار بعد طلوع الفجر حين الشروق، كما قال تعالى في موضع آخر: «فأخذتهم الصيحة مشرقين:» الحجر: - 73.
و الجملة الأولى تعليل لقوله: «فأسر بأهلك بقطع من الليل» و فيه نوع استعجال كما تقدم، و يؤكده قوله: «أ ليس الصبح بقريب» و من الجائز أن يكون لوط (عليه السلام) يستعجلهم في عذاب القوم فيجيبوه بقولهم: «إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب» أي إن من المقدر أن يهلكوا بالصبح و ليس موعدا بعيدا أو يكون الجملة الأولى استعجالا من الملائكة، و الثانية تسلية منهم للوط في استعجاله.
و لم يذكر في الآيات ما هي الغاية لسراهم و المحل الذي يتوجهون إليه، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه: «فأسر بأهلك بقطع من الليل و اتبع أدبارهم و لا يلتفت منكم أحد و امضوا حيث تؤمرون:» الحجر: - 65، و ظاهره أن الملائكة لم يذكروا له المقصد و أحالوا ذلك إلى ما سيأتيه من الدلالة بالوحي الإلهي.
قوله تعالى: «فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود مسومة عند ربك» ضمائر التأنيث الثلاث راجعة إلى أرض القوم أو القرية أو بلادهم المعلومة من السياق، و السجيل على ما في المجمع، بمعنى السجين و هو النار، و قال الراغب: السجين حجر و طين مختلط، و أصله فيما قيل فارسي معرب، انتهى.
يشير إلى ما قيل إن أصله سنكك كل، و قيل: إنه مأخوذ من السجل بمعنى الكتاب كأنها كتب فيها ما فيها من عمل الإهلاك، و قيل: مأخوذ من أسجلت بمعنى أرسلت.
و الظاهر أن الأصل في جميع هذه المعاني هو التركيب الفارسي المعرب المفيد معنى الحجر و الطين، و السجل بمعنى الكتاب أيضا منه فإنهم على ما قيل كانوا يكتبون على الحجر المعمول ثم توسع فسمي كل كتاب سجلا و إن كان من قرطاس، و الإسجال بمعنى الإرسال مأخوذ من ذلك.
و النضد هو النظم و الترتيب، و التسويم جعل الشيء ذا علامة من السيماء بمعنى العلامة.
و المعنى: و لما جاء أمرنا بالعذاب و هو أمره تعالى الملائكة بعذابهم و هو كلمة «كن» التي أشار إليها في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له - كن:» يس: - 83، جعلنا عالي أرضهم و بلادهم سافلها بتقليبها عليهم و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود معلمة عند ربك و في علمه ليس لها أن تخطىء هدفها الذي رميت لأجل إصابته.
و ذكر بعضهم أن القلب وقع على بلادهم و الإمطار بالسجيل عذب به الغائبون منهم.
و قيل: إن القرية هي التي أمطرت حين رفعها جبرئيل ليخسفها.
و قيل: إنما أمطرت عليهم الحجارة بعد ما قلبت قريتهم تغليظا في العقوبة.
و الأقوال جميعا من التحكم من غير دليل من اللفظ.
و في قوله تعالى في غير هذا الموضع: «فأخذتهم الصيحة مشرقين:» الحجر: - 73، فقد كان هناك قلب و صيحة و إمطار بالحجارة و من الممكن أن يكون ذلك بحدوث بركان من البراكين بالقرب من بلادهم و تحدث به زلزلة في أرضهم و انفجار أرضي بصيحة توجب قلب مدنهم، و يمطر البركان عليهم من قطعات الحجارة التي يثيرها و يرميها، و الله أعلم.
قوله تعالى: «و ما هي من الظالمين ببعيد» قيل المراد بالظالمين ظالموا أهل مكة أو المشركون من قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الكلام مسوق للتهديد، و المعنى و ليست هذه الحجارة من ظالمي مكة ببعيد أو المعنى: ليست هذه القرى المخسوفة من ظالمي قومك ببعيد فإنه في طريقهم بين مكة و الشام، كما قال تعالى في موضع آخر: «و إنها لسبيل مقيم:» الحجر: - 76، و قال: «و إنكم لتمرون عليهم مصبحين و بالليل أ فلا تعقلون:» الصافات: - 138.
و يؤيده العدول من سياق التكلم إلى الغيبة في قوله: «مسومة عند ربك» فكأنه تعالى عدل عن مثل قولنا: مسومة عندنا إلى هذا التعبير ليتعرض لقومه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتهديد أو بإنهاء الحديث إلى حسهم ليكون أقوى تأثيرا في الحجاج عليهم.
و ربما احتمل أن المراد تهديد مطلق الظالمين و المراد أنه ليست الحجارة أي أمطارها من عند الله من معشر الظالمين و منهم قوم لوط الظالمون ببعيد، و يكون وجه الالتفات في قوله: «عند ربك» أيضا التعريض لقوم النبي الظالمين المشركين.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن زكريا بن محمد " عن أبيه " عن عمرو عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان قوم لوط من أفضل قوم خلقهم الله فطلبهم إبليس الطلب الشديد، و كان من فضلهم و خيرتهم أنهم إذا خرجوا إلى العمل خرجوا بأجمعهم و تبقى النساء خلفهم فلم يزل إبليس يعتادهم فكانوا إذا رجعوا خرب إبليس ما يعملون. فقالوا بعضهم لبعض: تعالوا نرصد هذا الذي يخرب متاعنا فرصدوه فإذا هو غلام أحسن ما يكون من الغلمان فقالوا له: أنت الذي تخرب متاعنا مرة بعد أخرى، فاجتمع رأيهم على أن يقتلوه فبيتوه عند رجل فلما كان الليل صاح له فقال له: ما لك؟ فقال فإن: أبي ينومني على بطنه فقال له: تعال فنم على بطني. قال: فلم يزل يدلك الرجل حتى علمه أن يفعل بنفسه فأولا علمه إبليس و الثاني علمه هو ثم انسل يفر منهم، فأصبحوا فجعل الرجل يخبر بما فعل بالغلام و يعجبهم منه و هم لا يعرفونه فوضعوا أيديهم فيه حتى اكتفى الرجال بعضهم ببعض ثم جعلوا يرصدون مارة الطريق فيفعلون بهم حتى تنكب مدينتهم الناس ثم تركوا نسائهم و أقبلوا على الغلمان. فلما رأى أنه قد أحكم أمره في الرجال جاء إلى النساء فصير نفسه امرأة فقال لهن: إن رجالكن يفعل بعضهم ببعض؟ قلن: نعم رأينا ذلك و كل ذلك يعظهم لوط و يوصيهم و إبليس يغويهم حتى استغنى النساء بالنساء. فلما كملت عليهم الحجة بعث الله جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل في زي غلمان عليهم أقبية فمروا بلوط و هو يحرث. قال: أين تريدون؟ ما رأيت أجمل منكم قط. فقالوا: إنا رسل سيدنا إلى رب هذه البلدة. قال: أ و لم يبلغ سيدكم ما يفعل أهل هذه القرية؟ إنهم و الله يأخذون الرجال فيفعلون بهم حتى يخرج الدم. قالوا: أمرنا سيدنا أن نمر وسطها. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما هي؟ قال: تصبرون هنا إلى اختلاط الظلام. قال: فجلسوا. قال: فبعث ابنته. قال: فجيئي لهم بخبز و جيئي لهم بماء في القرعة و جيئي لهم بعباء يتغطون بها من البرد فلما أن ذهبت الابنة أقبل المطر و الوادي فقال لوط: الساعة تذهب بالصبيان الوادي قال: قوموا حتى نمضي، و جعل لوط يمشي في أصل الحائط، و جعل جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل يمشون وسط الطريق. قال: يا بني امشوا هاهنا فقالوا أمرنا سيدنا أن نمر في وسطها و كان لوط يستغنم الظلام. و مر إبليس فأخذ من حجر امرأة صبيا فطرحه في البئر فتصايح أهل المدينة كلهم على باب لوط فلما أن نظروا إلى الغلمان في منزل لوط قالوا: يا لوط قد دخلت في عملنا؟ فقال: هؤلاء ضيفي فلا تفضحون في ضيفي. قالوا: هم ثلاثة خذ واحدا و أعطنا اثنين. قال: و أدخلهم الحجرة و قال: لو أن لي أهل بيت تمنعوني منكم. قال: و تدافعوا على الباب و كسروا باب لوط و طرحوا لوطا فقال له جبرئيل: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأخذ كفا من بطحاء فضرب بها وجوههم و قال: شاهت الوجوه فعمي أهل المدينة كلهم فقال لهم لوط: يا رسل ربي فما أمركم ربي فيهم؟ قالوا: أمرنا أن نأخذهم بالسحر. قال: فلي إليكم حاجة. قالوا: و ما حاجتك؟ قال: تأخذوهم الساعة فإني أخاف أن يبدو لربي فيهم. فقالوا: يا لوط إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب لمن يريد أن يأخذ فخذ أنت بناتك و امض و دع امرأتك. فقال أبو جعفر (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم من معه في الحجرة لعلم أنه منصور حيث يقول: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد» أي ركن أشد من جبرئيل معه في الحجرة؟ فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «و ما هي من الظالمين ببعيد» من ظالمي أمتك إن عملوا ما عمل قوم لوط، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من ألح في وطي الرجال لم يمت حتى يدعو الرجال إلى نفسه.
أقول: و الرواية لا تخلو من تشويش ما في اللفظ، و قد ذكر فيها الملائكة المرسلون ثلاثة، و في بعض الروايات - كالرواية المذكورة في الباب السابق عن أبي يزيد الحمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) - أنهم كانوا أربعة بزيادة كروبيل، و في بعض الروايات من طرق أهل السنة أنهم كانوا ثلاثة و هم جبرئيل و ميكائيل و رفائيل، و الظاهر من الرواية أنها تأخذ قول لوط: «لو أن لي بكم قوة» إلخ خطابا منه للملائكة لا للقوم، و قد تقدمت الإشارة إليه في بيان الآيات.
و قوله (عليه السلام): رحم الله لوطا لو علم «إلخ» في معنى قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - على ما روي عنه - رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد.
و قوله (عليه السلام): فقال عز و جل لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) إلخ إشارة إلى ما تقدم من احتمال كون الآية، مسوقا لتهديد قريش.
و في تفسير القمي، بإسناده عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «و أمطرنا عليها حجارة من سجيل منضود» قال: ما من عبد يخرج من الدنيا يستحل عمل قوم لوط إلا رماه الله جندلة من تلك الحجارة تكون منيته فيه و لكن الخلق لا يرونه.
أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن ميمون البان عنه (عليه السلام) مثله. و فيه: من بات مصرا على اللواط لم يمت حتى يرميه الله بحجارة تكون فيه منيته و لا يراه أحد، و في الحديثين إشعار بكون قوله: «و ما هي من الظالمين ببعيد» غير خاص بقريش، و إشعار بكون العذاب المذكور روحانيا غير مادي.
و في الكافي، بإسناده عن يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول لوط: «هؤلاء بناتي هن أطهر لكم» قال: عرض عليهم التزويج.
و في التهذيب عن الرضا (عليه السلام): عن إتيان الرجل المرأة من خلفها فقال: أحلتها آية من كتاب الله عز و جل: قول لوط: «هؤلاء بناتي هي أطهر لكم» قد علم أنهم لا يريدون الفرج.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال: عشيرة الرجل للرجل خير من الرجل لعشيرته إنه إن كف يده عنهم كف يدا واحدة، و كفوا عنه أيدي كثيرة مع مودتهم و حفاظتهم و نصرتهم حتى لربما غضب الرجل للرجل و ما يعرفه إلا بحسبه و سأتلو عليكم بذلك آيات من كتاب الله تعالى فتلا هذه الآية: «لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد». قال علي رضي الله عنه: و الركن الشديد العشيرة فلم يكن للوط عشيرة فوالذي لا إله غيره ما بعث الله نبيا بعد لوط إلا في ثروة من قومه.
أقول: و آخر الرواية مروي من طرق أهل السنة و الشيعة.
و في الكافي، في حديث أبي يزيد الحمار عن أبي جعفر (عليه السلام) المنقول في البحث الروائي السابق قال: فأتوا يعني الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلموا عليه و هم معتمون فلما رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض قال لهم: المنزل فقالوا: نعم فتقدمهم و مشوا خلفه فندم على عرضه المنزل عليهم فقال: أي شيء صنعت؟ آتي بهم قومي و أنا أعرفهم؟ فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. قال جبرئيل: لا نعجل عليهم حتى يشهد عليهم ثلاث مرات. فقال جبرئيل: هذه واحدة فمشى ساعة ثم التفت إليهم فقال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثم مشى فلما بلغ باب المدينة التفت إليهم ثم قال: إنكم لتأتون شرارا من خلق الله. فقال جبرئيل: هذه الثالثة ثم دخل و دخلوا معه حتى دخل منزلة. فلما رأتهم امرأته رأت هيئة حسنة فصعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا فدخنت فلما رأوا الدخان أقبلوا إلى الباب يهرعون حتى جاءوا على الباب فنزلت إليهم فقالت: عندنا قوم ما رأيت قط قوما أحسن منهم هيئة فجاءوا إلى الباب ليدخلوا. فلما رآهم لوط قام إليهم فقال لهم: يا قوم اتقوا الله و لا تخزون في ضيفي أ ليس منكم رجل رشيد؟ ثم قال: هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فدعاهم كلهم إلى الحلال فقالوا: ما لنا في بناتك من حق و إنك لتعلم ما نريد، فقال لهم: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد، فقال جبرئيل: لو يعلم أي قوة له. فتكاثروه حتى دخلوا الباب فصاح بهم جبرئيل فقال: يا لوط دعهم يدخلون فلما دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم و هو قول الله عز و جل: «فطمسنا أعينهم» ثم ناداه جبرئيل فقال له: إنا رسل ربك لن يصلوا إليك فأسر بأهلك بقطع من الليل. و قال له جبرئيل: إنا بعثنا في إهلاكهم فقال: يا جبرئيل عجل فقال: إن موعدهم الصبح أ ليس الصبح بقريب. فأمره يتحمل و من معه إلا امرأته ثم اقتلعها يعني المدينة جبرئيل بجناحه من سبع أرضين ثم رفعها حتى سمع أهل السماء الدنيا نياح الكلاب و صراخ الديوك ثم قلبها و أمطر عليها و على من حول المدينة بحجارة من سجيل.
أقول: و ما اشتمل عليه آخر الرواية من اقتلاعها من سبع أرضين ثم رفعها إلى حيث سمع أهل السماء الدنيا نياح كلابهم و صراخ ديوكهم أمر خارق للعادة، و هو و إن كان لا يستبعد من قدرة الله سبحانه لكنه مما لا يكفي في ثبوته أمثال هذه الرواية و هي من الآحاد.
على أن السنة الإلهية جارية على أن تقتفي في الكرامات و المعجزات الحكمة و أي حكمة في رفعهم إلى هذا الحد و لا أثر له في عذابهم و لا في تشديده؟ و قول بعض أهل الكلام: من الجائز أن يكون هذا الفعال العجيب الخارق للعادة لطفا من الله ليكون الإخبار بذلك من طريق المعصومين مقربا للمؤمنين إلى الطاعة مبعدا لهم من المعصية كلام مدخول فإن خلق الأمور العظيمة المعجبة و الحوادث الخارقة للعادة ليتأكد بها إيمان المؤمنين و يعتبر بها المعتبرون و إن كان لا يخلو من لطف إلا أنه إنما يكون لطفا فيما كان بلوغه لهم من طريق الحس أو أي طريق علمي آخر، و أما رواية واحدة أو ضعيفة و هي خالية عن الحجية لا يعبأ بها فلا معنى لإيجاد الأمور الخارقة و الحوادث العجيبة لأجل حصول اعتبار أو مخافة من طريقها، و لا وجه لتشديد عذاب قوم ليعتبر به قوم آخرون إلا في سنة الجهال من طغاة البشر و جبابرتهم.
قال صاحب المنار في تفسيره: و في خرافات المفسرين المروية عن الإسرائيليات أن جبرئيل قلعها من تخوم الأرض بجناحه و صعد بها إلى عنان السماء حتى سمع أهل السماء أصوات الكلاب و الدجاج فيها ثم قلبها قلبا مستويا فجعل عاليها سافلها.
و هذا تصور مبني على اعتقاد متصوره إن الأجرام السماوية المأهولة بالسكان مما يمكن أن يقرب منهم سكان الأرض و ما فيها من الحيوان و يبقون أحياء.
و قد ثبت بالمشاهدة و الاختبار الفعلي في هذه الأيام التي يكتب هذا فيها أن الطيارات و المناطيد التي تخلق في الجو تصل إلى حيث يخف ضغط الهواء و يستحيل حياة الناس فيها، و هم يصنعون أنواعا منها يصنعون فيها من أكسجين الهواء ما يكفي استنشاقه و تنفسه للحياة في طبقات الجو العليا و يصعدون فيها.
و قد أشير في الكتاب العزيز إلى ما يكون للتصعيد في جو السماء من التأثير في ضيق الصدر من عسر التنفس بقوله تعالى: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا كأنما يصعد في السماء».
فإن قيل: إن هذا الفعل المروي عن جبرئيل من الممكنات العقلية و كان وقوعه من خوارق العادات فلا يصح أن يجعل تصديقه موقوفا على ما عرف من سنن الكائنات.
قلت: نعم و لكن الشرط الأول لقبول الرواية في أمر جاء على غير السنن و النواميس التي أقام الله بها نظام العالم من عمران و خراب أن تكون الرواية عن وحي إلهي نقل بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة على الأقل، و لم يذكر في كتاب الله تعالى، و لم يرد فيه حديث مرفوع إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا تظهر حكمة الله فيه، و إنما روي عن بعض التابعين دون الصحابة.
و لا شك أنه من الإسرائيليات.
و مما قالوه فيها: أن عدد أهلها كان أربعة آلاف ألف و بلاد فلسطين كلها لا تسع هذا العدد فأين كان هؤلاء الملايين يسكنون من تلك القرى الأربع؟ انتهى.
و الذي ذكره أن الحديث إنما روي عن التابعين دون الصحابة فإنه أن هذا المعنى مروي عن ابن عباس و عن الحذيفة بن اليمان، ففي رواية ابن عباس كما في الدر المنثور، عن إسحاق بن بشر و ابن عساكر من طريق جويبر و مقاتل عن الضحاك عنه: «فلما كان عند وجه الصبح عمد جبريل إلى قرى لوط بما فيها من رجالها و نسائها و ثمارها و طيرها فحواها و طواها ثم قلعها من تخوم الثرى ثم احتملها تحت جناحه ثم رفعها إلى السماء الدنيا فسمع سكان سماء الدنيا أصوات الكلاب و الطير و النساء و الرجال من تحت جناح جبرئيل ثم أرسلها منكوسة ثم أتبعها بالحجارة، و كانت الحجارة للرعاة و التجار و من كان خارجا عن مدائنهم» الحديث.
و في رواية حذيفة بن اليمان على ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه: «فاستأذن جبرئيل في هلاكهم فأذن له فاحتمل الأرض التي كانوا عليها، و أهوى بها حتى سمع أهل سماء الدنيا صغاء كلابهم و أوقد تحتهم نارا ثم قلبها بهم فسمعت امرأة لوط الوجبة و هي معهم فالتفتت فأصابها العذاب، و تبعت سفارهم الحجارة» الحديث.
و أما من التابعين فقد روي هذا المعنى عن سعيد بن جبير و مجاهد و أبي صالح و محمد بن كعب القرظي و عن السدي ما هو أغلظ من ذلك قال: «لما أصبحوا نزل جبرئيل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ السماء الدنيا ثم أهوى بها جبرئيل إلى الأرض» الحديث.
و أما ما ذكره من أنه «يشترط في قبول الرواية أن تكون منقولة بالتواتر عن المعصوم أو بسند صحيح متصل الإسناد لا شذوذ فيه و لا علة» فمسألة أصولية، و الذي استقر عليه النظر اليوم في المسألة أن الخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية فلا ريب في حجيتها، و أما غير ذلك فلا حجية فيه إلا الأخبار الواردة في الأحكام الشرعية الفرعية إذا كان الخبر موثوق الصدور بالظن النوعي فإن لها حجية.
و ذلك أن الحجية الشرعية من الاعتبارات العقلائية فتتبع وجود أثر شرعي في المورد يقبل الجعل و الاعتبار الشرعي و القضايا التاريخية و الأمور الاعتقادية لا معنى لجعل الحجية فيها لعدم أثر شرعي و لا معنى لحكم الشارع بكون غير العلم علما و تعبيد الناس بذلك، و الموضوعات الخارجية و إن أمكن أن يتحقق فيها أثر شرعي إلا أن آثارها جزئية و الجعل الشرعي لا ينال إلا الكليات و ليطلب تفصيل القول في المسألة من علم الأصول.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي بن كعب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رحم الله لوطا إن كان ليأوي إلى ركن شديد.
أقول: مقتضى المقام الذي كان يجاري فيه لوط قومه و يأمرهم بتقوى الله و الاجتناب عن الفجور، و ظاهر سياق الآيات الحاكية للمشاجرة بينه و بين قومه أن لوطا إنما كان يتمنى أنصارا أولي رشد من بين قومه أو من غيرهم فقوله: «أو آوي إلى ركن شديد» يريد به أنصارا من غير القوم من عشيرة أو أخلاء و أصدقاء في الله ينصرونه في الدفع عن أضيافه هذا و الركن الشديد معه في داره و هم جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و لذلك لبوه من غير فصل و قالوا: يا لوط إنا رسل ربك لن يصلوا إليك.
و لم يكن ليغفل في حال من تلك الأحوال عن ربه و أن كل النصر من عنده حتى ينساه و يتمنى ناصرا غيره، و حاشا مقام هذا النبي الكريم عن مثل هذا الجهل المذموم و قد قال الله تعالى في حقه: «آتيناه حكما و علما - إلى أن قال - و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين:» الأنبياء: - 75.
فقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن كان ليأوي إلى ركن شديد» معناه أن معه جبرئيل و سائر الملائكة و هو لا يعلم بذلك، و ليس معناه أن معه الله سبحانه و هو جاهل بمقام ربه.
فما في بعض الروايات الناقلة للفظة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإشعار بأن مراده بالركن الشديد هو الله سبحانه دون الملائكة إنما نشأ عن فهم بعض رواة الحديث كما عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رحم الله لوطا كان يأوي إلى ركن شديد يعني الله تعالى.
الحديث.
و كما عنه من طريق آخر قال: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «يغفر الله للوط إن كان ليأوي إلى ركن شديد» و لعل فيه نقلا بالمعنى و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: رحم الله لوطا فغيره الراوي إلى قوله: يغفر الله للوط المشعر بكون لوط أهمل أدبا من آداب العبودية أو أذنب ذنبا بجهله مقام ربه و نسيانه ما لم يكن له أن ينساه.
كلام في قصة لوط و قومه في فصول
1 - قصته و قصة قومه في القرآن:
كان لوط (عليه السلام) من كلدان في أرض بابل و من السابقين الأولين ممن آمن بإبراهيم (عليه السلام) آمن به و قال: «إني مهاجر إلى ربي: العنكبوت - 26 فنجاه الله مع إبراهيم إلى الأرض المقدسة أرض فلسطين الأنبياء: 71 فنزل في بعض بلادها و هي مدينة سدوم على ما في التواريخ و التوراة و بعض الروايات.
و كان أهل المدينة و ما والاها من المدائن و قد سماها الله في كلامه بالمؤتفكات التوبة 70 يعبدون الأصنام، و يأتون بالفاحشة: اللواط، و هم أول قوم شاع فيهم ذلك الأعراف: 80 حتى كانوا يأتون به في نواديهم من غير إنكار العنكبوت: 29 و لم يزل تشيع الفاحشة فيهم حتى عادت سنة قومية ابتلت به عامتهم و تركوا النساء و قطعوا السبيل العنكبوت: 29.
فأرسل الله لوطا إليهم الشعراء: 162 فدعاهم إلى تقوى الله و ترك الفحشاء و الرجوع إلى طريق الفطرة و أنذرهم و خوفهم فلم يزدهم إلا عتوا و لم يكن جوابهم إلا أن قالوا ائتنا بعذاب الله إن كنت من الصادقين، و هددوه بالإخراج من بلدتهم و قالوا له: لئن لم تنته لتكونن من المخرجين الشعراء: 167 و قالوا أخرجوا آل لوط من قريتكم إنهم أناس يتطهرون النمل: 56.
2 - عاقبة أمرهم:
لم يزل لوط (عليه السلام) يدعوهم إلى سبيل الله و ملازمة سنة الفطرة و ترك الفحشاء و هم يصرون على عمل الخبائث حتى استقر بهم الطغيان و حقت عليهم كلمة العذاب فبعث الله رسلا من الملائكة المكرمين لإهلاكهم فنزلوا أولا على إبراهيم (عليه السلام) و أخبروه بما أمرهم الله به من إهلاك قوم لوط فجادلهم إبراهيم (عليه السلام) لعله يرد بذلك عنهم العذاب، و ذكرهم بأن فيهم لوطا فردوا عليه بأنهم أعلم بموقع لوط و أهله، و أنه قد جاء أمر الله و أن القوم آتيهم عذاب غير مردود العنكبوت: 32 - هود: 76.
فمضوا إلى لوط في صور غلمان مرد و دخلوا عليه ضيفا فشق ذلك على لوط و ضاق بهم ذرعا لما كان يعلم من قومه أنهم سيتعرضون لهم و أنهم غير تاركيهم البتة فلم يلبث دون أن سمع القوم بذلك و أقبلوا يهرعون إليه و هم يستبشرون و هجموا على داره فخرج إليهم و بالغ في وعظهم و استثارة فتوتهم و رشدهم حتى عرض عليهم بناته و قال: يا قوم إن هؤلاء بناتي هن أطهر لكم فاتقوا الله و لا تخزون في ضيفي ثم استغاث و قال: أ ليس منكم رجل رشيد فردوا عليه أنه ليس لهم في بناته إربة و أنهم غير تاركي أضيافه البتة حتى أيس لوط و قال: لو أن لي بكم قوة أو آوي إلى ركن شديد: هود: - 80.
قالت الملائكة عند ذلك يا لوط: إنا رسل ربك طب نفسا إن القوم لن يصلوا إليك فطمسوا أعين القوم فعادوا عميانا يتخبطون و تفرقوا القمر: 37.
ثم أمروا لوطا (عليه السلام) أن يسري بأهله من ليلته بقطع من الليل و يتبع أدبارهم و لا يلتفت منهم أحد إلا امرأته فإنه مصيبها ما أصابهم، و أخبروه أنهم سيهلكون القوم مصبحين هود: 81 - الحجر: 66.
فأخذت الصيحة القوم مشرقين، و أرسل الله عليهم حجارة من طين مسومة عند ربك للمسرفين، و قلب مدائنهم عليهم فجعل عاليها سافلها و أخرج من كان فيها من المؤمنين فلم يجد فيها غير بيت من المسلمين و هو بيت لوط و ترك فيها آية للذين يخافون العذاب الأليم الذاريات: 37 - و غيرها.
و في اختصاص الإيمان و الإسلام بيت لوط (عليه السلام)، و شمول العذاب لمدائنهم دلالة - أولا - على أن القوم كانوا كفارا غير مؤمنين و - ثانيا - على أن الفحشاء ما كانت شائعة فيما بين الرجال منهم فحسب إذ لو كان الأمر على ذلك و النساء بريئات منها و كان لوط يدعو الناس إلى الرجوع إلى سبيل الفطرة و سنة الخلقة التي هي مواصلة الرجال و النساء لاتبعته عدة من النساء و اجتمعن حوله و آمن به طبعا، و لم يذكر من ذلك شيء في كلامه سبحانه.
و في ذلك تصديق ما تقدم في الأخبار المأثورة أن الفحشاء شاعت بينهم، و اكتفى الرجال بالرجال باللواط، و النساء بالنساء بالسحق.
3 - شخصية لوط المعنوية:
كان (عليه السلام) رسولا من الله إلى أهل المؤتفكات و هي مدينة سدوم و ما والاها من المدائن - و يقال: كانت أربع مدائن: سدوم و عمورة و صوغر و صبوييم و قد أشركه في جميع المقامات الروحية التي وصف بها أنبياءه الكرام.
و مما وصفه به خاصة ما في قوله: «و لوطا آتيناه حكما و علما و نجيناه من القرية التي كانت تعمل الخبائث إنهم كانوا قوم سوء فاسقين و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين:» الأنبياء: - 75.
4 - لوط و قومه في التوراة:
ذكرت 1 التوراة أن لوطا كان ابن أخي أبرام - إبراهيم - هاران بن تارخ و كان هو و أبرام في بيت تارخ في أور الكلدانيين ثم هاجر تارخ أورا قاصدا أرض الكنعانيين فأقام بلدة حاران و معه أبرام و لوط و مات هناك.
ثم إن أبرام بأمر من الرب خرج من حاران و معه لوط و لهما مال كثير و غلمان اكتسبا ذلك في حاران فأتى أرض كنعان، و كان يرتحل أبرام ارتحالا متواليا نحو الجنوب، ثم أتى مصر، ثم صعد من هناك جنوبا نحو بيت إيل فأقام هناك.
و لوط السائر مع أبرام أيضا كان له غنم و بقر و خيام و لم يحتملهما الأرض أن يسكنا و وقعت مخاصمة بين رعاة مواشيهما فتفرقا فأحذرا من وقوع النزاع و التشاجر فاختار لوط دائرة الأردن و سكن في مدن الدائرة و نقل خيامه إلى سدوم، و كان أهل سدوم أشرارا و خطاة لدى الرب جدا، و نقل أبرام خيامه و أقام عند بلوطات ممرا التي في حبرون.
ثم وقعت حرب بين ملوك سدوم و عمورة و إدمة و صبوييم، و صوغر من جانب و أربعة من جيرانهم من جانب، انهزم فيها ملك سدوم و من معه من الملوك، و أخذ العدو جميع أملاك سدوم و عمورة و جميع أطعمتهم، و أسر لوط فيمن أسر و سبي جميع أمواله، و انتهى الخبر إلى أبرام فخرج فيمن معه من الغلمان، و كانوا يزيدون على ثلاث مائة فحاربهم و هزمهم، و أنجى لوطا و جميع أمواله من الأسر و السبي، و رده إلى مكانه الذي كان مقيما فيه ملخص ما في التوراة من صدر قصة لوط.
قالت التوراة 1: و ظهر له - لأبرام - الرب عند بلوطات ممرا و هو جالس في باب الخيمة وقت حر النهار.
فرفع عينيه و نظر و إذا ثلاثة رجال واقفون لديه.
فلما نظر ركض لاستقبالهم من باب الخيمة و سجد إلى الأرض.
و قال: يا سيد إن كنت قد وجدت نعمة في عينيك فلا تتجاوز عبدك.
ليؤخذ قليل ماء و اغسلوا أرجلكم و اتكئوا تحت هذه الشجرة.
فأخذ كسرة خبز فتسندون قلوبكم ثم تجتازون لأنكم قد مررتم على عبدكم.
فقالوا: هكذا نفعل كما تكلمت.
فأسرع إبراهيم إلى الخيمة إلى سارة و قال: أسرعي بثلاث كيلات دقيقا سميدا اعجني و اصنعي خبز ملة، ثم ركض إبراهيم إلى البقر و أخذ عجلا رخصا و جيدا و أعطاه للغلام فأسرع ليعمله.
ثم أخذ زبدا و لبنا و العجل الذي عمله و وضعها قدامهم.
و إذ كان هو واقفا لديهم تحت الشجرة أكلوا.
و قالوا له: أين سارة امرأتك، فقال: ها هي في الخيمة، فقال: إني أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة امرأتك ابن.
و كانت سارة سامعة في باب الخيمة و هو وراءه.
و كان إبراهيم و سارة شيخين متقدمين في الأيام.
و قد انقطع أن يكون لسارة عادة كالنساء.
فضحكت سارة في باطنها قائلة: أ بعد فنائي يكون لي تنعم و سيدي قد شاخ؟ فقال الرب لإبراهيم: لما ذا ضحكت سارة قائلة: أ فبالحقيقة ألد و أنا قد شخت؟ هل يستحيل على الرب شيء؟ في الميعاد أرجع إليك نحو زمان الحياة و يكون لسارة ابن، فأنكرت سارة قائلة: لم أضحك، لأنها خافت.
فقال: لا بل ضحكت.
ثم قام الرجال من هناك و تطلعوا نحو سدوم، و كان إبراهيم ماشيا معهم ليشيعهم.
فقال الرب: هل أخفي عن إبراهيم ما أنا فاعله؟ و إبراهيم يكون أمة كبيرة و قوية و يتبارك به جميع أمم الأرض.
لأني عرفته لكي يوصي بنيه و بيته من بعده أن يحفظوا طريق الرب ليعملوا برا و عدلا لكي يأتي الرب لإبراهيم بما تكلم به.
فقال الرب: إن صراخ سدوم و عمورة قد كثر و خطيئتهم قد عظمت جدا.
أنزل و أرى هل فعلوا بالتمام حسب صراخها الآتي إلي و إلا فأعلم.
و انصرف الرجال من هناك و ذهبوا نحو سدوم.
و أما إبراهيم فكان لم يزل قائما أمام الرب.
فتقدم إبراهيم و قال: أ فتهلك البار مع الأثيم؟ عسى أن يكون خمسون بارا في المدينة.
أ فتهلك المكان و لا تصفح عنه من أجل الخمسين بارا الذين فيه؟ حاشا لك أن تفعل مثل هذا الأمر أن تميت البار مع الأثيم فيكون البار كالأثيم، حاشاك.
أ ديان كل الأرض لا يصنع عدلا؟ فقال الرب: إن وجدت في سدوم خمسين بارا في المدينة فإني أصفح عن المكان كله من أجلهم.
فأجاب إبراهيم و قال: إني قد شرعت أكلم المولى و أنا تراب و رماد ربما نقص الخمسون بارا خمسة أ تهلك كل المدينة بالخمسة؟ فقال الرب: لا أهلك إن وجدت هناك خمسة و أربعين.
فعاد يكلمه أيضا و قال: عسى أن يوجد هناك أربعون، فقال: لا أفعل من أجل الأربعين.
فقال: لا يسخط المولى فأتكلم عسى أن يوجد هناك ثلاثون.
فقال: لا أفعل إن وجدت هناك ثلاثين.
فقال: إني قد شرعت أكلم المولى عسى أن يوجد هناك عشرون، فقال: لا أهلك من أجل العشرين.
فقال: لا يسخط المولى فأتكلم هذه المرة فقط عسى أن يوجد هناك عشرة، فقال: لا أهلك من أجل العشرة.
و ذهب الرب عند ما فرغ من الكلام مع إبراهيم و رجع إبراهيم إلى مكانه.
فجاء 1 الملأكان إلى سدوم مساء و كان لوط جالسا في باب سدوم فلما رآهما لوط قام لاستقبالهما و سجد بوجهه إلى الأرض.
و قال: يا سيدي ميلا إلى بيت عبدكما و بيتا و اغسلا أرجلكما ثم تبكران و تذهبان في طريقكما، فقالا: لا بل في الساحة نبيت، فألح عليهما جدا، فمالا إليه و دخلا بيته، فصنع لهما ضيافة و خبزا فطيرا فأكلا.
و قبل ما اضطجعا أحاط بالبيت رجال المدينة رجال سدوم من الحدث إلى الشيخ كل الشعب من أقصاها فنادوا لوطا و قالوا له: أين الرجلان اللذان دخلا إليك الليلة؟ أخرجهما إلينا لنعرفهما.
فخرج إليهم لوط إلى الباب و أغلق الباب وراءه.
و قال: لا تفعلوا شرا يا إخوتي.
هو ذا لي ابنتان لم يعرفا رجلا أخرجهما إليكم فافعلوا بهما كما يحسن في عيونكم.
و أما هذان الرجلان فلا تفعلوا بهما شيئا لأنهما قد دخلا تحت ظل سقفي.
فقالوا: ابعد إلى هناك.
ثم قالوا: جاء هذا الإنسان ليتغرب و هو يحكم حكما.
الآن نفعل بك شرا أكثر منهما.
فألحوا على الرجل لوط جدا و تقدموا ليكسروا الباب فمد الرجلان أيديهما و أدخلا لوطا إليهما إلى البيت و أغلقا الباب و أما الرجال الذين على باب البيت فضرباهم بالعمى من الصغير إلى الكبير فعجزوا عن أن يجدوا الباب.
و قال الرجلان للوط: من لك أيضا هاهنا أصهارك و بنوك و بناتك و كل من لك في المدينة أخرج من المكان لأننا مهلكان هذا المكان إذ قد عظم صراخهم أمام الرب فأرسلنا الرب لنهلكهم.
فخرج لوط و كلم أصهاره الآخذين بناته و قال: قوموا اخرجوا من هذا المكان لأن الرب مهلك المدينة، فكان كمازح في أعين أصهاره.
و لما طلع الفجر كان الملأكان يعجلان لوطا قائلين: قم خذ امرأتك و ابنتيك الموجودتين لئلا تهلك بإثم المدينة.
و لما توانى أمسك الرجلان بيده و بيد امرأته و بيد ابنتيه لشفقة الرب عليه و أخرجاه و ضعاه خارج المدينة.
و كان لما أخرجاهم إلى خارج أنه قال: اهرب لحياتك.
لا تنظر إلى ورائك و لا تقف في كل الدائرة.
اهرب إلى الجبل لئلا تهلك فقال لهما لوط: لا يا سيد هو ذا عبدك قد وجد نعمة في عينيك و عظمت لطفك الذي صنعت إلي باستبقاء نفسي.
و أنا لا أقدر أن أهرب إلى الجبل لعل الشر يدركني فأموت.
هو ذا المدينة هذه قريبة للهرب إليها.
و هي صغيرة أهرب إلى هناك أ ليست هي صغيرة فتحيا نفسي.
فقال له: إني قد رفعت وجهك في هذا الأمر أيضا أن لا أقلب المدينة التي تكلمت عنها.
أسرع اهرب إلى هناك لأني لا أستطيع أن أفعل شيئا حتى تجيء إلى هناك - لذلك دعي اسم المدينة صوغر.
و إذا أشرقت الشمس على الأرض دخل لوط إلى صوغر فأمطر الرب على سدوم و عمورة كبريتا و نارا من عند الرب من السماء.
و قلب تلك المدن و كل الدائرة و جميع سكان المدن و نبات الأرض.
و نظرت امرأته من ورائه فصارت عمود ملح.
و بكر إبراهيم في الغد إلى المكان الذي وقف فيه أمام الرب و تطلع نحو سدوم و عمورة و نحو كل أرض الدائرة.
و نظر و إذا دخان الأرض يصعد كدخان الأتون.
و حدث لما أخرب الله مدن الدائرة أن الله ذكر إبراهيم.
و أرسل لوطا من وسط الانقلاب حين قلب المدن التي سكن فيها لوط.
و صعد لوط من صوغر و سكن في الجبل و ابنتاه معه لأنه خاف أن يسكن في صوغر فسكن في المغارة هو و ابنتاه.
و قالت البكر للصغيرة: أبونا قد شاخ و ليس في الأرض رجل ليدخل علينا كعادة كل الأرض هلم نسقي أبانا خمرا و نضطجع معه فنحيي من أبينا نسلا.
فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة.
و دخلت البكر و اضطجعت مع أبيها و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها و حدث في الغد أن البكر قالت للصغيرة إني قد اضطجعت البارحة مع أبي.
نسقيه خمرا الليلة أيضا فادخلي اضطجعي معه فنحيي من أبينا نسلا.
فسقتا أباهما خمرا في تلك الليلة أيضا.
و قامت الصغيرة و اضطجعت معه.
و لم يعلم باضطجاعها و لا بقيامها.
فحبلت ابنتا لوط من أبيهما.
فولدت البكر ابنا و دعت اسمه موآب و هو أبو الموآبيين إلى اليوم و الصغيرة أيضا ولدت ابنا و دعت اسمه بن عمى و هو أبو بني عمون إلى اليوم.
انتهى.
هذا ما قصته التوراة في لوط و قومه نقلناه على طوله ليتضح به ما تخالف القرآن الكريم من وجه القصة و من وجوه غيرها.
ففيها كون الملك المرسل للبشرى و العذاب ملكين اثنين.
و قد عبر القرآن بالرسل - بلفظ الجمع و أقله ثلاثة -.
و فيها أن أضياف إبراهيم أكلوا مما صنعه و قدمه إليهم، و القرآن ينفي ذلك و يقص أن إبراهيم خاف إذ رأى أن أيديهم لا تصل إليه.
و فيها: إثبات بنتين للوط، و القرآن يعبر بلفظ البنات.
و فيها كيفية إخراج الملائكة لوطا و كيفية تعذيب القوم و صيرورة المرأة عمودا من ملح و غير ذلك.
و فيها نسبة التجسم صريحة إلى الله سبحانه، و ما ذكرته من قصة لوط مع بنتيه أخيرا، و القرآن ينزه ساحة الحق سبحانه عن التجسم و يبرىء أنبياءه و رسله عن ارتكاب ما لا يليق بساحة قدسهم.
|