بيان
هذه هي الطائفة الثالثة من الآيات الموردة إثر ما ذكر في مفتتح السورة من استهزاء الكفار بالكتاب و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و اقتراحهم عليه آية أخرى غير القرآن، و قد ذكر الله سبحانه في هذه الطائفة بدء خلقة الإنسان و الجان و أمره الملائكة و إبليس أن يسجدوا له و سجودهم و إباء إبليس و هو من الجن و رجمه و إغواءه بني آدم، و ما قضى الله سبحانه عند ذلك من سعادة المتقين و شقاء الغاوين.
قوله تعالى: «و لقد خلقنا الإنسان من صلصال من حمإ مسنون» قال الراغب في المفردات: أصل الصلصال تردد الصوت من الشيء اليابس و منه قيل: صل المسمار و سمي الطين الجاف صلصالا، قال تعالى: «من صلصال كالفخار» «من صلصال من حمإ مسنون» و الصلصلة بقية ماء سميت بذلك لحكاية صوت تحركه في المزادة و قيل: الصلصال المنتن من الطين من قولهم: صل اللحم.
و قال: و الحمأة و الحمأ طين أسود منتن، و قال: و قوله: من حمإ مسنون قيل: متغير و قوله: لم يتسنه معناه لم يتغير و الهاء للاستراحة.
انتهى.
و قوله: «و لقد خلقنا الإنسان» إلخ المراد به بدء خلقة الإنسان بدليل قوله: «و بدأ خلق الإنسان من طين ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين»: الم السجدة: 8، فهو إخبار عن خلقة النوع و ظهوره في الأرض فإن خلق أول من خلق منهم و منه خلق الباقي خلق الجميع.
قال في مجمع البيان: و أصل آدم كان من تراب و ذلك قوله: «خلقه من تراب» ثم جعل التراب طينا و ذلك قوله: «و خلقته من طين» ثم ترك ذلك الطين حتى تغير و استرخى و ذلك قوله: «من حمإ مسنون» ثم ترك حتى جف و ذلك قوله: «من صلصال» فهذه الأقوال لا تناقض فيها إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة.
انتهى.
قوله تعالى: «و الجان خلقناه من قبل من نار السموم» قال الراغب: السموم الريح الحارة تؤثر تأثير السم.
انتهى.
و أصل الجن الستر و هو معنى سار في جميع ما اشتق منه كالجن و المجنة و الجنة و الجنين و الجنان بالفتح و جن عليه الليل و غير ذلك.
و الجن طائفة من الموجودات مستورة بالطبع عن حواسنا ذات شعور و إرادة تكرر في القرآن الكريم ذكرهم و نسب إليهم أعمال عجيبة و حركات سريعة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و هم مكلفون و يعيشون و يموتون و يحشرون تدل على ذلك كله آيات كثيرة متفرقة في كلامه تعالى.
و أما الجان فهل هو الجن بعينه أو هو أبو الجن كما أن آدم (عليه السلام) أبو البشر كما عن ابن عباس أو هو إبليس نفسه كما عن الحسن أو الجان نسل إبليس من الجن أو هو نوع من الجن كما ذكره الراغب؟ أقوال مختلفة لا دليل على أكثرها.
و الذي يهدي إليه التدبر في كلامه تعالى أنه قابل في هاتين الآيتين الإنسان بالجان فجعلهما نوعين اثنين لا يخلوان عن نوع من الارتباط في خلقتهما، و نظير ذلك قوله: «خلق الإنسان من صلصال كالفخار و خلق الجان من مارج من نار»: الرحمن: 15.
و لا يخلو سياق ما نحن فيه من الآيات من دلالة على أن إبليس كان جانا و إلا لغا قوله: «و الجان خلقناه من قبل» إلخ، و قد قال تعالى في موضع آخر من كلامه في إبليس: «كان من الجن ففسق عن أمر ربه»: الكهف: 50، فأفاد أن هذا الجان المذكور هو الجن نفسه أو هو نوع من أنواع الجن ثم ترك سبحانه في سائر كلامه ذكر الجان من أصله و لم يذكر إلا الجن حتى في موارد يعم الكلام فيها إبليس و قبيله كقوله تعالى: «شياطين الإنس و الجن»: الأنعام: 112، و قوله: «و حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس»: حم السجدة: 25، و قوله: «سنفرغ لكم أيها الثقلان - إلى أن قال - يا معشر الجن و الإنس إن استطعتم أن تنفذوا من أقطار السماوات و الأرض فانفذوا»: الرحمن: 33.
و ظاهر هذه الآيات من جهة المقابلة الواقعة فيها بين الإنسان و الجان تارة و بين الإنس و الجن أخرى أن الجن و الجان واحد و إن اختلف التعبير.
و ظاهر المقابلة بين قوله: «و لقد خلقنا الإنسان» إلخ، و قوله: «و الجان خلقناه من قبل» إلخ أن خلق الجان من نار السموم المراد به الخلق الابتدائي و بدء ظهور النوع كخلق الإنسان من صلصال، و هل كان استمرار الخلقة في أفراد الجان المستتبع لبقاء النوع على سنة الخلق الأول من نار السموم بخلاف الإنسان حيث بدىء خلقه من تراب ثم استمر بالنطفة كلامه سبحانه خال عن بيانه ظاهرا غير ما في بعض كلامه من نسبة الذرية إلى إبليس كما قال: «أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني»: الكهف: 50، و نسبة الموت إليهم كما في قوله: «قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس»: حم السجدة: 25، و المألوف من نوع فيه ذرية و موت هو التناسل و الكلام بعد في هذا التناسل هل هو بسفاد كسفاد نوع من الحيوان أو بغير ذلك؟.
و قوله: «خلقناه من قبل» مقطوع الإضافة أي من قبل خلق الإنسان و القرينة هي المقابلة بين الخلقين.
و عد مبدإ خلق الجان في الآية هو نار السموم لا ينافي ما في سورة الرحمن من عده مارجا من نار أي لهيبا مختلطا بدخان فإن الآيتين تلخصان أن مبدأ خلقه ريح سموم اشتعلت فكانت مارج نار.
فمعنى الآيتين: أقسم لقد بدأنا خلق النوع الإنسان من طين قد جف بعد أن كان سائلا متغيرا منتنا و نوع الجان بدأنا خلقه من ريح حارة حادة اشتعلت فصارت نارا.
قوله تعالى: «و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا» إلى آخر الآية، قال في المفردات: البشرة ظاهر الجلد و الأدمة باطنه كذا قال عامة الأدباء - إلى أن قال - و عبر عن الإنسان بالبشر اعتبارا بظهور جلده من الشعر بخلاف الحيوانات التي عليها الصوف أو الشعر أو الوبر، و استوى في لفظ البشر الواحد و الجمع و ثنى فقال تعالى: «أ نؤمن لبشرين» و خص في القرآن في كل موضع اعتبر من الإنسان جثته و ظاهره بلفظ البشر نحو: «و هو الذي خلق من الماء بشرا» انتهى موضع الحاجة.
و قوله: «و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا» بإضمار فعل و التقدير: و اذكر إذ قال ربك، و في الكلام التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كان العناية فيه مثل العناية التي مرت في قوله: «و إن ربك هو يحشرهم» فإن هذه الآيات أيضا تكشف عن نبإ ينتهي إلى الحشر و السعادة و الشقاوة الخالدتين.
على أن التكلم مع الغير في السابق «و لقد خلقنا» «خلقناه» من قبيل تكلم العظماء عنهم و عن خدمهم و أعوانهم تعظيما أي بأخذه تعالى ملائكته الكرام معه في الأمر و هذه العناية مما لا يستقيم في مثل المقام الذي يخاطب فيه الملائكة في إخبارهم بإرادته خلق آدم (عليه السلام) و أمرهم بالسجود له إذا سواه و نفخ فيه من روحه فافهم ذلك و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين» التسوية جعل الشيء مستويا قيما على أمره بحيث يكون كل جزء منه على ما ينبغي أن يكون عليه فتسوية الإنسان أن يكون كل عضو من أعضائه في موضع الذي ينبغي أن يكون فيه و على الحال التي ينبغي أن يكون عليها.
و لا يبعد أن يستفاد من قوله: «إني خالق» «فإذا سويته» أن خلق بدن الإنسان الأول كان على سبيل التدريج الزماني فكان أولا الخلق و هو جمع الأجزاء ثم التسوية و هو تنظيم الأجزاء و وضع كل جزء في موضعه الذي يليق به و على الحال التي تليق به ثم النفخ و لا ينافيه ما في قوله تعالى: «خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59، فإن قوله: «ثم قال له» إلخ ناظر إلى كينونة الروح و هو النفس الإنسانية دون البدن كما عبر عنه في موضع آخر بعد بيان خلق البدن بالتدريج بقوله: «ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14.
و قوله: «و نفخت فيه من روحي» النفخ إدخال الهواء في داخل الأجسام بفم أو غيره و يكنى به عن إلقاء أثر أو أمر غير محسوس في شيء، و يعني به في الآية إيجاده تعالى الروح الإنساني بما له من الرابطة و التعلق بالبدن، و ليس بداخل فيه دخول الهواء في الجسم المنفوخ فيه كما يشير إليه قوله سبحانه: «ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14، و قوله تعالى: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11.
فالآية الأولى - كما ترى - تبين أن الروح الإنساني هو البدن منشأ خلقا آخر و البدن على حاله من غير أن يزاد فيه شيء، و الآية الثانية تبين أن الروح عند الموت مأخوذ من البدن و البدن على حاله من غير أن ينقص منه شيء.
فالروح أمر موجود في نفسه له نوع اتحاد بالبدن بتعلقه به و له استقلال عن البدن إذا انقطع تعلقه به و فارقه و قد تقدم بعض ما يتعلق من الكلام بهذا المقام في تفسير قوله تعالى: «و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات»: البقرة: 154 في الجزء الأول من الكتاب.
و نرجو أن نستوفي هذا البحث في ذيل قوله: «قل الروح من أمر ربي»: الآية 85 من سورة إسراء إن شاء الله.
و إضافة الروح إليه تعالى في قوله: «من روحي» للتكرمة و التشريف من الإضافة اللامية المفيدة للملك، و قوله: «فقعوا له ساجدين» أي اسجدوا، و لا يبعد أن يفهم منه أن خروا على الأرض ساجدين له فيفيد التأكيد في الخضوع من الملائكة لهذا المخلوق الجديد كما قيل.
و معنى الآية فإذا عدلت تركيبه و أتممت صنع بدنه و أوجدت الروح الكريم المنسوب إلي الذي أربط بينه و بين بدنه فقعوا و خروا على الأرض ساجدين له.
قوله تعالى: «فسجد الملائكة كلهم أجمعون إلا إبليس أبى أن يكون مع الساجدين» لفظة أجمعون تأكيد بعد تأكيد لتشديده، و المراد أن الملائكة سجدوا له بحيث لم يبق منهم أحد و قد استثنى من ذلك إبليس و لم يكن منهم لقوله تعالى: «كان من الجن ففسق عن أمر ربه»: الكهف: 50، و أما قول من قال: إن طائفة من الملائكة كانوا يسمون الجن و كان إبليس منهم أو إن الجن بمعنى الستر فيعم الملائكة و غيرهم فمما لا يصغى إليه، و قد تقدم في تفسير سورة الأعراف كلام في معنى شمول الأمر بالسجود لإبليس مع عدم كونه من الملائكة و معنى الآيتين ظاهر.
قوله تعالى: «قال يا إبليس ما لك ألا تكون مع الساجدين» «ما لك» مبتدأ و خبر أي ما الذي هو كائن لك؟ و قوله: «ألا تكون» من قبيل نزع الخافض و التقدير في أن لا تكون مع الساجدين و هم الملائكة، و محصل المعنى: ما بالك لم تسجد؟.
قوله تعالى: «قال لم أكن لأسجد لبشر خلقته من صلصال من حمإ مسنون» في التعبير بقوله: «لم أكن لأسجد» دون أن يقول: لا أسجد أو لست أسجد دلالة على أن الإباء عن السجدة مقتضى ذاته و كان هو المترقب منه لو اطلع على جوهره فتفيد الآية بالكناية ما يفيده قوله في موضع آخر: «أنا خير منه خلقتني من نار و خلقته من طين»: ص: 76 بالتصريح.
و قد تقدم كلام في معنى السجود لآدم و أمر الملائكة و إبليس بذلك و ائتمارهم و تمرده عنه، نافع في هذا الباب في تفسير سورتي البقرة و الأعراف من هذا الكتاب.
قوله تعالى: «فاخرج منها فإنك رجيم و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين» الرجيم فعيل بمعنى المفعول من الرجم و هو الطرد و شاع استعماله في الطرد بالحجارة و الحصاة، و اللعن هو الطرد و الإبعاد من الرحمة.
و من هنا يظهر أن قوله: «و إن عليك اللعنة» إلخ بمنزلة البيان لقوله: «فإنك رجيم» فإن الرجم كان سببا لخروجه من بين الملائكة من السماء أو من المنزلة الإلهية و بالجملة من مقام القرب و هو مستوى الرحمة الخاصة الإلهية فينطبق على الإبعاد من الرحمة و هو اللعن.
و قد نسب سبحانه هذه اللعنة المجعولة على إبليس في موضع آخر إلى نفسه فقال: «و إن عليك لعنتي إلى يوم الدين»: ص: 58، و قيدها في الآيتين جميعا بقوله: «إلى يوم الدين».
أما جعل مطلق اللعنة عليه في قوله: «عليك اللعنة» فلأن اللعن يلحق المعصية و ما من معصية إلا و لإبليس فيه صنع بالإغواء و الوسوسة فهو الأصل الذي يرجع إليه كل معصية و ما يلحقها من لعن حتى في عين ما يعود إلى أشخاص العصاة من اللعن و الوبال، و تذكر في ذلك ما تقدم في ذيل قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب و يجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه فيجعله في جهنم»: الأنفال: 37 في الجزء التاسع من الكتاب.
على أنه لعنه الله أول فاتح فتح باب معصية الله و عصاه في أمره فإليه يعود وبال هذا الطريق بسالكيه ما سلكوا فيه.
و أما جعل لعنته خاصة عليه في قوله: «عليك لعنتي» فلأن الإبعاد من الرحمة بالحقيقة إنما يؤثر أثره إذا كان منه تعالى إذ لا يملك أحد من رحمته إعطاء و منعا إلا بإذنه فإليه يعود حقيقة الإعطاء و المنع.
على أن اللعن من غيره تعالى بالحقيقة دعاء عليه بالإبعاد من الرحمة و أما نفس الإبعاد الذي هو نتيجة الدعاء فهو من صنعه القائم به تعالى و حقيقته المبالغة في منع الرحمة.
و قال في المجمع: و قال بعض المحققين: إنما قال سبحانه هنا: «و إن عليك اللعنة» بالألف و اللام، و قال في سورة ص: «لعنتي» بالإضافة لأن هناك يقول: «لما خلقت بيدي» مضافا، فقال: «و إن عليك لعنتي» على المطابقة، و قال هنا: «ما لك ألا تكون مع الساجدين» و ساق الآية على اللام في قوله: «و لقد خلقنا الإنسان» و قوله: «و الجان» فأتى باللام أيضا في قوله: «و إن عليك اللعنة» انتهى و قال أيضا في الآية بيان أنه لا يؤمن قط.
و أما تقييد اللعنة بقوله: «إلى يوم الدين» فلأن اللعنة هي عنوان الإثم و الوبال العائد إلى النفس من المعصية و المعصية محدودة بيوم القيامة فاليوم عمل و لا جزاء و غدا جزاء و لا عمل، و إن شئت فقل: هذه الدار دار كتابة الأعمال و حفظها و يوم القيامة دار الحساب و الجزاء.
و أما قول القائل: إن تحديد اللعن بيوم الدين دليل على كونه مغيا به مرفوعا فيه و فيما بعده فمما يدفعه ظاهر الآيات المبينة للعذاب يوم القيامة.
و يؤيد ذلك التعبير في الآية عن يوم القيامة بيوم الدين المشعر بأنه ملعون قبل يوم القيامة و مجزي به فيه، و لو انقطع العذاب بقيام الساعة لكان اليوم يوم انقطاع الدين لا يوم الدين.
و ربما قيل في دفع إشكال الغاية إن ذلك أبعد غاية يضربها الخلائق فهو كقوله: «خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض» الآية، و هو كما ترى و قد عرفت معنى الآية المقيس عليها في تفسير سورة هود.
و ربما قيل: إن المراد باللعنة في الآية لعن الخلائق و ذلك منقطع بمجيء يوم الدين دون لعنه تعالى و إبعاده له من رحمته فإنه متصل إلى الأبد.
و كأن هذا القائل ذهب عليه قوله تعالى في سورة ص: «و إن عليك لعنتي إلى يوم الدين»: الآية: 78.
قوله تعالى: «قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون» الإنظار هو الإمهال و قد صدر كلامه بقوله: «رب» و هو يخاصمه و قد عصاه و استكبر عليه تعالى لأنه في مقام الدعاء لا مفر له من دعوته تعالى بما يثير به الرحمة الإلهية المطلقة و هو الالتجاء إليه بربوبيته له ليستجيب له و هو مغضوب عليه.
و قد صدر مسألته بفاء التفريع في قوله: «فأنظرني» و ذكر فيه بعثة عامة البشر من غير أن يخص بالذكر آدم أباهم الذي ابتلي بالرجم و اللعن من أجل الإباء عن السجود له و ذلك كله مبني على ما تقدم في تفسير آيات القصة في سورة الأعراف أن المأمور به كان هو السجود لعامة البشر و كان آدم (عليه السلام) كالقنبلة المنصوبة للسجود يمثل به النوع الإنساني.
و توضيحه أنه قد تقدم في قوله تعالى: «و لقد خلقناكم ثم صورناكم ثم قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس»: الأعراف: 11 أنهم إنما أمروا بالسجدة لنوع الإنسان لا لشخص آدم (عليه السلام) و لم يكن هذه السجدة تشريفا اجتماعيا من غير غاية حقيقية بل كانت خضوعا بحسب الخلقة فهم بحسب ما أريد من خلقتهم خاضعون للإنسان بحسب ما أريد من كمال خلقته، أي إنهم مسخرون لأجله عاملون في سبيل سعادة حياته أي إن للإنسان منزلة من القرب و مرحلة من كمال السعادة تفوق ما للملائكة من ذلك.
فسجودهم جميعا له دليل أنهم جميعا مسخرون في سبيل كماله من السعادة عاملون لأجل فوزه و فلاحه كملائكة الحياة و ملائكة الموت و ملائكة الأرزاق و ملائكة الوحي و المعقبات و الحفظة و الكتبة و غيرهم ممن تذكرهم متفرقات الآيات القرآنية فالملائكة أسباب إلهية و أعوان للإنسان في سبيل سعادته و كماله.
و من هنا يظهر للمتدبر الفطن أن إباء إبليس عن السجدة استنكاف منه عن الخضوع لنوع الإنسان و العمل في سبيل سعادته و إعانته على كمال المطلوب على خلاف ما ظهر من الملائكة فهو بإبائه عن السجدة خرج من جمع الملائكة كما يفيده قوله تعالى: «ما لك ألا تكون مع الساجدين» و أظهر الخصومة لنوع الإنسان و البراءة منهم ما حيوا و عاشوا أو خالدا مؤبدا.
و يؤيده جعله تعالى اللعنة المطلقة عليه من يوم أبى إلى يوم الدين و هو مدة مكث النوع الإنساني في هذه الدنيا فجعلها عليه كذلك و لما يدع إبليس أنه سيغويهم و لم يقل بعد: «لأغوينهم أجمعين» مشعر بأن إباءه عن السجدة نوع خصومة و عداوة منه لهذا النوع آخذا من آدم إلى آخر من سيولد و يعيش من ذريته.
فكأنه عليه اللعنة فهم من قوله تعالى: «و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين» أن له شأنا مع النوع الإنساني إلى يوم القيامة و أن لشقائهم و فساد أعمالهم ارتباطا به من حيث امتنع عن السجود و لذلك سأل النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة المجعولة عليه فقال: «رب فأنظرني إلى يوم يبعثون» و لم يقل: رب أنظرني إلى يوم يبعثون و لم يقل: أنظرني إلى يوم يموت آدم أو أنظرني ما دام حيا يعيش بل ذكر آدم و بنيه جميعا و طلب النظرة إلى يوم يبعثون مفرعا ذلك على اللعنة إلى يوم الدين فلما أجيب إلى ما سأل أبدى ما في كمون ذاته و قال: لأغوينهم أجمعين.
قوله تعالى: «قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» جواب منه سبحانه لإبليس و فيه إجابة و رد أما الإجابة فبالنسبة إلى أصل الإنظار الذي سأله و أما الرد فبالنسبة إلى القيد و هو أن يكون الإنظار إلى يوم يبعثون فإن من الواضح اللائح بالنظر إلى سياق الآيتين أن يوم وقت المعلوم غير يوم يبعثون فلم يسمح له بإنظاره إلى يوم يبعثون بل إلى يوم هو غيره و لا محالة هو قبل يوم البعث.
و بذلك يظهر فساد قول من قال إنه لعنه الله أجيب إلى ما سأل و اليومان في الآيتين واحد و من الدليل عليه قوله في سورة الأعراف في القصة: «قال إنك من المنظرين»: الآية: 15 من غير أن يقيد بشيء.
أما فساد دعواه اتحاد اليومين في الآيتين فقد ظهر مما تقدم و أما فساد الاستدلال بإطلاق آية الأعراف فلأنها تتقيد بما في هذه السورة و سورة ص من التقييد بقوله: «إلى يوم الوقت المعلوم» و هذا كثير شائع في كلامه تعالى و القرآن يشهد بعضه على بعض و ينطق بعضه ببعض.
و ظاهر يوم الوقت المعلوم أنه وقت تعين في العلم الإلهي نظير قوله: «و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21، و قوله: «أولئك لهم رزق معلوم»: الصافات: 41 فهو معلوم عند الله قطعا و أما أنه معلوم لإبليس أو مجهول عنده فغير معلوم من اللفظ، و قول بعضهم: إنه سبحانه أبهم اليوم و لم يبين فهو معلوم لله غير معلوم لإبليس لأن في بيانه إغراء بالمعصية كلام خال عن الدليل فإبهام اللفظ بالنسبة إلينا غير إبهام ما ألقي إلى إبليس من القول بالنسبة إليه على أن إغراء إبليس بالمعصية و هو الأصل لكل معصية مفروضة لا يخلو عن إشكال فافهمه.
على أن قول إبليس ثانيا: «لأغوينهم أجمعين» شاهد على أنه سيبقى إلى آخر ما يعيش الإنسان في الدنيا ممن يمكنه إغواؤه فقد كان فهم من قوله تعالى: «إلى يوم الوقت المعلوم» أنه آخر عمر البشر العائشين في الأرض الجائز له إغواؤهم.
و نسب إلى ابن عباس و مال إليه الجمهور: أن اليوم هو آخر أيام التكليف و هو النفخة الأولى يوم يموت الخلائق و كأنه مبني على أن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية، و هو مدة عمر الإنسان في الدنيا، و ينتهي ذلك إلى النفخة الأولى التي بها يموت الخلائق فهو يوم الوقت المعلوم الذي أنظره الله إليه، و بينه و بين النفخة الثانية التي فيها يبعثون أربعمائة سنة أو أربعون سنة على اختلاف الروايات، و هي ما به التفاوت بين ما سأله إبليس و بين ما أجاب إليه الله سبحانه.
و هذا وجه حسن لو لا ما فيه من قولهم: إن إبليس باق ما بقي التكليف و أمكنت المخالفة و المعصية فإنها مقدمة لا بينة و لا مبينة و ذلك أن تعويل القوم في ذلك على أن المستفاد من الآيات و الأخبار كون كل كفر و فسوق موجود في النوع الإنساني مستندا إلى إغواء إبليس و وسوسته كما يدل عليه أمثال قوله تعالى: «أ لم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين»: يس: 60 و قوله: «و قال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق و وعدتكم فأخلفتكم» إلخ إلى غير ذلك من الآيات.
و مقتضاها أن يدوم وجود إبليس ما دام التكليف باقيا، و التكليف باق ما بقي الإنسان و هو المطلوب.
و فيه أن كون المعصية الإنسانية مستندة بالجملة إلى إغواء إبليس مستفادة من الآيات و الروايات لا غبار عليه لكنه إنما يقتضي بقاء إبليس ما دامت المعصية و الغواية باقية لا بقاءه ما دام التكليف باقيا، و لا دليل على الملازمة بين المعصية و التكليف وجودا.
بل الحجة قائمة من العقل و النقل على أن غاية الإنسان النوعية و هي السعادة ستعم النوع و يتخلص المجتمع الإنساني إلى الخير و الصلاح و لا يعبد على الأرض يومئذ إلا الله سبحانه، و ينطوي وقتئذ بساط الكفر و الفسوق، و يصفو العيش و يرتفع أمراض القلوب و وساوس الصدور، و قد تقدم تفصيل ذلك في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
قال تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون»: الروم: 41، و قال: «و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون»: الأنبياء: 105.
و من ذلك يظهر أن الذي استندوا إليه من الحجة إنما يدل على كون يوم الوقت المعلوم الذي جعله الله غاية إنظار إبليس هو يوم يصلح الله سبحانه المجتمع الإنساني فينقطع دابر الفساد و لا يعبد يومئذ إلا الله لا يوم يموت الخلائق بالنفخة الأولى.
قوله تعالى: «قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين» الباء في قوله: «بما أغويتني» للسببية و «ما» مصدرية أي أتسبب بإغوائك إياي إلى التزيين لهم و ألقي إليهم ما استقر في من الغواية كما قالوا يوم القيامة على ما حكى الله: «أغويناهم كما غوينا»: القصص: 63.
و قول بعضهم: إن الباء للقسم أي أقسم بإغوائك لأزينن من أردإ القول فلم يعهد في كتاب و لا سنة أن يقسم بمثل الإغواء و الإضلال و ليس فيه شيء مفهوم من التعظيم اللازم في القسم.
و قد نسب لعنه الله في قوله: «بما أغويتني» إلى الله سبحانه أنه أغواه و لم يرده الله سبحانه إليه و لا أجاب عنه و ليس مراده به غوايته إذ عصى أمر السجدة و لم يسجد لآدم (عليه السلام) و الدليل على ذلك أن لا رابطة بين معصيته في نفسه و بين معصية الإنسان لربه حتى يكون معصيته سبب معصيتهم و يتسبب هو بها إلى إغوائهم.
و إنما يريد به ما يفيده قوله تعالى: «و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين» من استقرار اللعنة المطلقة فيه و هي الإبعاد من الرحمة و الإضلال عن طريق السعادة و هي إغواء له أثر الغواية التي أبداها من نفسه و أتى بها من عنده فيكون من إضلاله تعالى مجازاة لا إضلالا ابتدائيا و هو جائز غير ممتنع عليه تعالى، و لذلك لم يرده كما قال تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26، و قد بينا ذلك في ذيل الآية و مواضع أخرى من هذا الكتاب.
و عند هذا يستقيم معنى السببية أعني إغواءه الناس بسبب الإغواء الذي مسه و استقر فيه فإن البعد من الرحمة و البون من السعادة لما كان لازما لنفسه بلزوم اللعنة الإلهية له كان كلما اقترب من قلب إنسان بالوسوسة و التسويل أو استولى على نفس من النفوس و هو بعيد من الرحمة و السعادة أوجب ذلك بعد من اقترب منه أو تسلط عليه، و هو إغواؤه بإلقاء أثر الغواية التي عنده إليه و هو ظاهر.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية و محصله أن المراد بالإغواء ليس هو الإضلال الابتدائي بل الإضلال على سبيل المجازاة الذي يدل عليه قوله: «و إن عليك لعنتي» الآية.
و أما القوم فكالمسلم عندهم أن قوله: «بما أغويتني» لو كان بمعناه الظاهر و هو الإضلال لكان هو الإضلال الابتدائي و كان ناظرا إلى إبائه و امتناعه عن السجدة و لذا استشكلوا الآية و اختلفوا في تفسير الإغواء على اختلاف مذاهبهم في استناد الشر إليه تعالى و صدوره منه جوازا و امتناعا.
فقال بعضهم و هم أهل الجبر: إن إسناد الإغواء إليه تعالى بلا إنكار منه لذلك يدل على أن الشر كالخير من الله تعالى، و المعنى رب بما أضللتني بالامتناع عن السجدة - فهو منك - أقسم لأضلنهم أجمعين.
و قال آخرون و هم غيرهم: أنه لا يجوز استناد الشر و المعصية و كل قبيح إليه تعالى و وجهوا الآية بوجوه.
أحدها: أن الإغواء في الآية بمعنى التخييب و المعنى رب بما خيبتني من رحمتك لأخيبنهم بالدعوة إلى معصيتك.
الثاني: أن المراد بالإغواء الإضلال عن طريق الجنة و المعنى بما أضللتني عن طريق جنتك لما صدر مني من معصيتك لأضلنهم بالدعوة.
الثالث: أن المراد بقوله: «بما أغويتني» بما كلفتني أمرا ضللت عنده بالمعصية و هو السجود فسمى ذلك إضلالا منه له توسعا و أنت بالتأمل فيما قدمناه تعرف أن الآية في غنى عن هذا البحث و ما أبدىء فيه من الوجوه.
و نظير هذا البحث بحثهم عن الإنظار الواقع في قوله: «إنك من المنظرين» من جهة أنه مفض إلى الإغواء القبيح و ترجيح للمرجوح على الراجح.
فقال المجوزون: إن الآية تدل على أن الحسن و القبح اللذين يعلل بهما العقل أفعالنا لا تأثير لهما في أفعاله تعالى فله أن يثيب من يشاء و يعذب من يشاء من غير جهة مرجحة حتى مع رجحان الخلاف، قالوا: و من زعم أن حكيما يحصر قوما في دار و يرسل فيها النار العظيمة و الأفاعي القاتلة الكثيرة و لم يرد أذى أحد من أولئك القوم بالإحراق و اللسع فقد خرج عن الفطرة الإنسانية فإذن من حكم الفطرة أن الله تعالى أراد بإنظار إبليس إضلال بعض الناس.
و المانعون يوجهون الإنظار بأنه تعالى كان يعلم من إبليس و أتباعه أنهم يموتون على الكفر و الفسوق و يصيرون إلى النار أنظر إبليس أو لم ينظر على أنه تعالى تدارك تأييده ذلك بمزيد ثواب المؤمنين المتقين.
على أنه يقول: «و لأغوينهم» و لو كان الإغواء من الله لأنكره عليه إلى غير ذلك مما أوردوه من الوجوه.
و ليت شعري ما الذي أغفلهم عن آيات الامتحان و الابتلاء على كثرتها كقوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب»: الأنفال: 37، و قوله: «و ليبتلي الله ما في صدوركم و ليمحص ما في قلوبكم»: آل عمران: 154، و غيرهما من الآيات الدالة على أن نظام السعادة و الشقاء و الثواب و العقاب مبني على أساس الامتحان و الابتلاء، و الإنسان واقع بين الخير و الشر و السعادة و الشقاء له ما يختاره من العمل بنتائجه.
فلو لا أن يكون هناك داع إلى الخير و هم الملائكة الكرام و إن شئت فقل: هو الله، و داع إلى الشر و هم إبليس و قبيله لم يكن للامتحان معنى قال تعالى: «الشيطان يعدكم الفقر و يأمركم بالفحشاء و الله يعدكم مغفرة منه و فضلا»: البقرة: 268.
و لئن أيد الله إبليس على الإنسان بالإنظار إلى يوم الوقت المعلوم فقد أيده عليه بالملائكة الباقين ببقاء الدنيا و لم يقل سبحانه له: إنك منظر بل قال: «إنك من المنظرين» فأثبت منظرين غيره و جعله بعضهم.
و لئن أيده بالتمكين بتزيين الباطل من الكفر و الفسوق للإنسان أيد الإنسان بأن هداه إلى الحق و زين الإيمان في قلبه و فطرة على التوحيد، و عرفه الفجور و التقوى، و جعل له نورا يمشي به في الناس إن آمن بربه إلى غير ذلك من الأيادي، قال: «قل الله يهدي للحق»: يونس: 35، و قال: «و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم»: الحجرات: 7، و قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها»: الروم: 30، و قال: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8، و قال: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122، «و قال إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد»: المؤمن: 51، و التكلم بالغير مشعر بوساطة الملائكة.
فالإنسان خلق هو في نفسه أعزل ليس معه شيء من السعادة و الشقاء بحسب بدء خلقته واقف في ملتقى سبيلين: سبيل الخير و الطاعة و هو سبيل الملائكة ليس لهم إلا الطاعة، و سبيل الشر و المعصية و هو سبيل إبليس و جنوده و ليس معهم إلا المخالفة و المعصية، فإلى أي السبيلين مال في مسير حياته وقع فيه و رافقه أصحابه و زينوا له ما عندهم و هدوه إلى ما ينتهي إليه سبيلهم و هو الجنة أو النار و السعادة أو الشقاء.
فقد بان مما تقدم أن إنظار إبليس إلى يوم الوقت المعلوم ليس من تقديم المرجوح على الراجح و لا إبطالا لقانون العلية بل ليتيسر به و بما يقابله من بقاء الملائكة ما هو الواجب من أمر الامتحان و الابتلاء فلا محل للاستشكال.
و قوله: «لأزينن لهم في الأرض» أي لأزينن لهم الباطل أو لأزينن لهم المعاصي على ما قيل و المعنى الأول أجمع و المفعول محذوف على أي حال، و الظاهر أن المفعول معرض عنه و الفعل مستعمل استعمال اللازم، و الغرض بيان أصل التزيين كناية عن الغرور يقال: زين له كذا و كذا أي حمله عليه غرورا، و ضمير «هم» لآدم و ذريته على ما يدل عليه السياق، و المراد بالتزيين لهم في الأرض غرورهم في هذه الحياة الأرضية و هي الحياة الدنيا و هو السبب القريب للإغواء فيكون عطف قوله: «و لأغوينهم أجمعين» عليه من عطف المسبب على السبب المترتب عليه.
و الآية تشعر بل تدل على ما قدمناه في تفسير آيات جنة آدم في الجزء الأول من الكتاب أن معصية آدم بالأكل من الشجرة المنهية عن وسوسة إبليس لم تكن معصية لأمر مولوي بل مخالفة لأمر إرشادي لا يوجب نقضا في عصمته فإنه يعرف الأرض في الآية ظرفا لتزيينه و إغوائه فما كان غروره لآدم و زوجته في الجنة إلا ليخرجهما منها و ينزلهما إلى الأرض فيتناسلا فيها فيغويهما و بنيهما عن الحق و يضلهم عن الصراط قال تعالى: «يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان كما أخرج أبويكم من الجنة ينزع عنهما لباسهما ليريهما سوآتهما»: الأعراف: 27.
و قوله: «إلا عبادك منهم المخلصين» استثنى من عموم الإغواء طائفة خاصة من البشر و هم المخلصون - بفتح اللام على القراءة المشهورة - و السياق يشهد أنهم الذين أخلصوا لله و ما أخلصهم إلا الله سبحانه، و قد قدمنا في الكلام على الإخلاص في تفسير سورة يوسف أن المخلصين هم الذين أخلصهم الله لنفسه بعد ما أخلصوا أنفسهم لله فليس لغيره سبحانه فيهم شركة و لا في قلوبهم محل فلا يشتغلون بغيره تعالى فما ألقاه إليهم الشيطان من حبائله و تزييناته عاد ذكرا لله مقربا إليه.
و من هنا يترجح أن الاستثناء إنما هو من الإغواء فقط لا منه و من التزيين بمعنى أنه لعنه الله يزين للكل لكن لا يغوي إلا غير المخلصين.
و يستفاد من استثناء العباد أولا ثم تفسيره بالمخلصين أن حق العبودية إنما هو بأن يخلص الله العبد لنفسه أي أن لا يملكه إلا هو و يرجع إلى أن لا يرى الإنسان لنفسه ملكا و أنه لا يملك نفسه و لا شيئا من صفات نفسه و آثارها و أعمالها و أن الملك - بكسر الميم و ضمها - لله وحده.
و قوله تعالى: «قال هذا صراط علي مستقيم» ظاهر الكلام على ما يعطيه السياق أنه كناية على أن الأمر إليه تعالى لا غنى فيه عنه بوجه كما أن كون طريق السفينة على البحر يقضي على راكبيها بأن لا مفر لهم مما يستدعيه العبور على الماء من العدة و الوسيلة و كذا كون طريق القافلة على الجبل يحوجهم إلى ما يتهيأ به لعبور قلله الشاهقة و مسالكه الصعبة فكونه صراطا عليه تعالى بالاستقامة هو أنه أمر متوقف من كل جهة إلى حكمه و قضائه تعالى فإنه الله الذي منه يبدأ كل شيء و إليه ينتهي فلا يتحقق أمر إلا و هو ربه القيوم عليه.
و ظاهر السياق أيضا أن الإشارة بقوله: «هذا صراط إلخ إلى قول إبليس: «لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين» لما أظهر بقوله هذا أنه سينتقم منهم و يبسط سلطته بالتزيين و الإغواء عليهم جميعا فلا يخلص منهم إلا القليل كأنه يشير إلى أنه سيستقل بما عزم عليه و يعلو بإرادته على الله سبحانه فيما أراد من خلقهم و استخلافهم و استعبادهم كما حكاه الله تعالى من قوله في موضع آخر من قوله: «و لا تجد أكثرهم شاكرين»: الأعراف: 17.
فمعنى الآية أن ما ذكرت من أنك ستغويهم أجمعين و استثنيت منهم من استثنيت و أظهرت نسبته إلى قوتك و مشيئتك زاعما فيه أنك مستقل به، أمر لا يملكه إلا أنا و لا يحكم فيه غيري و لا يصدر إلا عن قضائي فإن أغويت فبإذني أغويت و إن منعت فبمشيئتي منعت فليس إليك من الأمر شيء و لا من الملك إلا ما ملكتك و لا من القدرة إلا ما أقدرتك، و الذي أقضيه لك من السلطان أن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك إلخ.
قوله تعالى: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين» هذا هو القضاء الذي أشار سبحانه إليه في الآية السابقة في أمر الإغواء و ذكر أنه له وحده ليس لغيره فيه صنع و لا نصيب.
و محصله أن آدم و بنيه كلهم عباده لا كما قاله إبليس حيث قصر عباده على المخلصين منهم إذ قال: «إلا عبادك منهم المخلصين» و لم يجعل سبحانه له عليهم - أي على العباد - سلطانا حتى يستقل بأمرهم فيغويهم و إنما جعل له السلطان على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و ولوه أمرهم و ألقوا إليه زمام تدبيرهم فهؤلاء هم الذين له عليهم سلطان.
فإذا أمعنت في الآية وجدتها ترد على إبليس قوله: «لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين» من ثلاث جهات أصلية: إحداها: أنه حصر عباده في المخلصين منهم و نفى عنهم سلطان نفسه و عمم سلطانه على الباقين و الله سبحانه عمم عباده على الجميع و قصر سلطان إبليس على طائفة منهم و هم الذين اتبعوه من الغاوين و نفى سلطانه على الباقين.
و الثانية: أنه لعنه الله ادعى لنفسه الاستقلال في إغوائهم كما يظهر من قوله: «لأغوينهم» في سياق المخاصمة و التقريع بالانتقام و الله سبحانه يرد عليه بأنه منه مزعمة باطلة و إنما هو عن قضاء من الله و سلطان بتسليطه و إنما ملكه إغواء من اتبعه و كان غاويا في نفسه و بسوء اختياره.
فلم يأت إبليس بشيء من نفسه و لم يفسد أمرا على ربه لا في إغوائه أهل الغواية فإنه بقضاء من الله سبحانه أن يستقر لأهل الغواية غيهم بسببه - و قد اعترف لعنه الله بذلك بعض الاعتراف بقوله: «رب بما أغويتني» - و لا في استثنائه المخلصين فإنه أيضا بقضاء من الله نافذ فلا حكم إلا لله.
و هذا الذي تفيده الآية الكريمة أعني تسليط إبليس على إغواء الغاوين الذين هم في أنفسهم غاوون و تخليص المخلصين و هم مخلصون في أنفسهم من كيده كل ذلك بقضاء من الله، مبني على أصل عظيم يفيده التوحيد القرآني المفاد بأمثال قوله تعالى: «إن الحكم إلا لله»: يوسف: 67، و قوله: «و هو الله لا إله إلا هو له الحمد في الأولى و الآخرة و له الحكم»: القصص: 70، و قوله: «الحق من ربك»: آل عمران: 60، و قوله: «و يحق الله الحق بكلماته»: يونس: 82، و غير ذلك من الآيات الدالة على أن كل حكم إيجابي أو سلبي فهو مملوك لله نافذ بقضائه.
و من هنا يظهر ما في تفسيرهم قوله: «إلا من اتبعك من الغاوين» من المسامحة فإنهم قالوا: إنه إذا قبل من إبليس و اتبعه صار له سلطان عليه بعدوله عن الهدى إلى ما يدعوه إليه من الغي و ظاهره أنه سلطان قهري يحصل لإبليس عن سوء اختيارهم ليس من عند نفسه و لا بجعل من الله سبحانه.
وجه الفساد: أن فيه أخذ الاستقلال و الحول الذاتي من إبليس و إعطاؤه ذوات الأشياء و لو كان إبليس لا يملك شيئا من عند نفسه و بغير إذن ربه فالأشياء و الأمور أيضا لا تملك لنفسها شيئا و لا حكما حتى الضروريات و لوازم الذوات إلا بإذن من الله و تمليك فافهمه.
و الثالثة: أن سلطانه على إغواء من يغويه و إن كان بجعل و تسليط من الله سبحانه إلا أنه ليس بتسليط على الإغواء و الإضلال الابتدائي غير الجائز إسناده إلى ساحته سبحانه بل تسليط على الإغواء بنحو المجازاة المسبوق بغوايتهم من عندهم و في أنفسهم.
و الدليل على ذلك قوله تعالى: «إلا من اتبعك من الغاوين» فإبليس إنما يغوي من اتبعه بغوايته أي إن الإنسان يتبعه بغوايته أولا فيغويه هو ثانيا فهناك غواية بعدها إغواء و الغواية إجرام من الإنسان و الإغواء بسبب إبليس مجازاة من الله سبحانه.
و لو كان هذا الإغواء إغواء ابتدائيا من إبليس لمن لا يستحق ذلك لكان هو الأليق باللوم دون الإنسان كما يذكره يوم القيامة على ما يحكيه سبحانه بقوله: «و ما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني و لوموا أنفسكم»: إبراهيم: 22.
فاللوم على الإنسان المجرم و هو مسئول عن معصيته دون إبليس.
نعم إبليس ملوم على ما يتلبس به من الفعل بسوء اختياره و هو الإغواء الذي سلطه الله عليه مجازاة لما امتنع من السجود لآدم لما أمر به فالإغواء هو الذي استقرت ولايته عليه كما يشير سبحانه إليه في موضع آخر من كلامه إذ يقول: إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون»: الأعراف: 27، و قال تعالى و هو أوضح ما يؤيد جميع ما قدمناه: «كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله و يهديه إلى عذاب السعير»: الحج: 4.
و قد تحصل مما تقدم أن المراد بقوله: «عبادي» عامة الإنسان، و أن الاستثناء في قوله: «من اتبعك» متصل لا منقطع، و أن «من» في قوله: «من الغاوين» بيانية، و أن الكلام مبني على رد قول إبليس، و أن الآية مشتملة على قضاءين من الله سبحانه في عقدي المستثنى و المستثنى منه و غير ذلك.
و من ذلك يظهر عدم استقامة قول بعضهم: إن المراد بعبادي هم الذين استثناهم إبليس و عبر عنهم بقوله: «عبادك منهم» فيكون الاستثناء منقطعا و الكلام مسوقا لتقرير قول إبليس إن له سلطانا على من يغويه و إن المخلصين لا سبيل له إليهم و المعنى أن المخلصين لا سلطان لك عليهم لكنك مسلط على من اتبعك من الغاوين.
و أنت تعلم بالتأمل فيما تقدم أن هذا هدم لأساس السياق و ما يعطيه مقام المخاصمة و تحق نسبته إلى ساحة العزة و الكبرياء و تنزيل خطابه تعالى منزلة لا يفيد معها أكثر من تغيير صورة كلام إبليس مع حفظ معناه تقريرا أو اعترافا فهو يقول: سأغويهم إلا المخلصين، و الله سبحانه يقول: لا تغوي المخلصين لكن تغوي غيرهم!.
و ربما فسر بعضهم قوله: «عبادي» بجميع البشر و أخذ مع ذلك الاستثناء منقطعا و لعل ذلك بالبناء على عدم جواز استثناء أكثر الأفراد فلا يقال: له على مائة إلا تسعة و تسعون مثلا و من المعلوم أن الغاوين من الناس أكثر من المخلصين بما لا يقاس.
و فيه أن ذلك إنما هو فيما كان النظر في الاستثناء إلى صريح العدد و أما إذا كان المنظور إليه هو النوع أو الصنف بعنوانه فلا بأس بزيادة عدد الأفراد، و للإنسان عدة أصناف: المخلصون و من دونهم من المؤمنين و المستضعفون و الذين اتبعوا إبليس من الغاوين، و قد استثنى الصنف الأخير في الآية بعنوانه و بقي الباقون و هم أصناف.
و منهم من جعل الاستثناء منقطعا حذرا من ثبوت سلطان إبليس حتى على الغاوين زعما منه أنه ينافي إطلاق السلطنة الإلهية أو عدله تعالى و معنى الآية على هذا، أن عبادي ليس لك عليهم سلطان لكن من اتبعك من الغاوين ألقى إليك زمام نفسه و جعل لك على نفسه سلطانا و ليس ذلك من نفسك حتى تعجز الله في خلقه و لا من الله حتى ينافي عدله تعالى.
و فيه: أن له سلطانا على الغاوين لا من نفسه بل بجعل من الله و لا ينافي ذلك عدله في خلقه فإنه تسليط مجازاة لا تسليط ابتدائي، و لا منافاة بين كون السلطان بقضاء منه تعالى و كونه باتباع الغاوين له باختيارهم فكل ذلك مما قد تبين فيما قدمناه.
على أن قوله تعالى فيه: «كتب عليه أنه من تولاه فإنه يضله»: الحج: 4، و قوله: «إنا جعلنا الشياطين أولياء للذين لا يؤمنون»: الأعراف: 27، يدلان صريحا على ثبوت سلطانه و أنه بجعل من الله سبحانه و قضاء.
قوله تعالى: «و إن جهنم لموعدهم أجمعين» الظاهر أن «موعد» اسم مكان و المراد بكون جهنم موعدهم كونه محل إنجاز ما وعدهم الله من العذاب.
و هذا منه سبحانه تأكيد لثبوت قدرته و رجوع الأمر كله إليه كأنه تعالى يقول له: ما ذكرته من السلطان على الغاوين ليس لك من نفسك و لم تعجزنا بل نحن سلطناك عليهم لاتباعهم لك على أنا سنجازيهم بعذاب جهنم.
و لكون الكلام مسوقا لبيان حالهم اقتصر على ذكر جزائهم و لم يذكر معهم إبليس و لا جزاءه بخلاف قوله: «لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85، و قوله: «فإن جهنم جزاؤكم جزاء موفورا»: إسراء: 63، لأن المقام غير المقام.
قوله تعالى: «لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم» لم يبين سبحانه في شيء من صريح كلامه ما هو المراد بهذه الأبواب أ هي كأبواب الحيطان مداخل تهدي الجميع إلى عرصة واحدة أم هي طبقات و دركات تختلف في نوع العذاب و شدته؟ و كثيرا ما يسمى في الأمور المختلفة الأنواع كل نوع بابا كما يقال: أبواب الخير و أبواب الشر و أبواب الرحمة، قال تعالى: «فتحنا عليهم أبواب كل شيء»: الأنعام: 44، و ربما سمي أسباب الشيء و طرق الوصول إليه أبوابا كأبواب الرزق لأنواع المكاسب و المعاملات.
و ليس من البعيد أن يستفاد المعنى الثاني من متفرقات آيات النار كقوله تعالى: «و سيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا حتى إذا جاءوها فتحت أبوابها - إلى أن قال: قيل ادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها»: الزمر: 72، «و قوله إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار»: النساء: 145، إلى غير ذلك من الآيات.
و يؤيده قوله: «لكل باب منهم جزء مقسوم» فإن ظاهره أن نفس الجزء مقسوم موزع على الباب، و هذا إنما يلائم الباب بمعنى الطبقة دون الباب بمعنى المدخل و أما تفسير بعضهم الجزء المقسوم بالفريق المعين المفروز من غيره فوهنه ظاهر.
و على هذا فكون جهنم لها سبعة أبواب هو كون العذاب المعد فيها متنوعا إلى سبعة أنواع ثم انقسام كل نوع أقساما حسب انقسام الجزء الداخل الماكث فيه، و ذلك يستدعي انقسام المعاصي الموجبة للدخول فيها سبعة أقسام، و كذا انقسام الطرق المؤدية و الأسباب الداعية إلى تلك المعاصي ذاك الانقسام، و بذلك يتأيد ما ورد من الروايات في هذه المعاني كما سيوافيك إن شاء الله.
قوله تعالى: «إن المتقين في جنات و عيون ادخلوها بسلام آمنين» أي إنهم مستقرون في جنات و عيون يقال لهم: ادخلوها بسلام لا يوصف و لا يكتنه نعته في حال كونكم آمنين من كل شر و ضر.
لما ذكر سبحانه قضاءه فيمن اتبع إبليس من الغاوين ذكر ما قضى به في حق المتقين من الجنة، و قد ورد تفسير التقوى في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالورع عن محارم الله، و قد تكرر في كلامه تعالى بشراهم بالجنة فيكون المتقون أعم من المخلصين.
و ما قيل: إنه لا شبهة في أن السياق يدل على أن المتقين هم المخلصون السابق ذكرهم، و أن المطلق يحمل على الفرد الكامل.
فيه أن ذلك مبني على كون المراد بالعباد في قوله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» هم المخلصين حتى يختص السياق بالكلام فيهم، و قد تقدم أن المراد بالعباد عامة أفراد الإنسان خرج منه الغاوون بالاستثناء و بقي الباقون، و قد ذكر سبحانه قضاءه في الغاوين بالنار و هو ذا يذكر قضاءه في غيرهم ممن أوجب له الجنة و الأمر في المستضعفين مرجأ و في العصاة من أهل الكبائر الذين يموتون بغير توبة منوط بالشفاعة فيبقى أهل التقوى من المؤمنين و هم أعم من المخلصين فقضي فيهم بالجنة.
و أما حديث حمل المطلق على الفرد الكامل فهو خطأ و إنما يحمل على الفرد المتعارف و تفصيل المسألة في فن الأصول.
و ذكر الإمام الرازي في تفسيره أن المراد بالمتقين في الآية الذين اتقوا الشرك و نقله عن جمهور الصحابة و التابعين و أسنده إلى الخبر.
قال: و هذا هو الحق الصحيح و الذي يدل عليه أن المتقي هو الآتي بالتقوى مرة واحدة كما أن الضارب هو الآتي بالضرب مرة فليس من شرط صدق الوصف بكونه متقيا كونه آتيا بجميع أنواع التقوى، و الذي يقرر ذلك أن الآتي بفرد واحد من أفراد التقوى يكون آتيا بالتقوى فإن الفرد مشتمل على الماهية بالضرورة و كل آت بالتقوى يجب أن يكون متقيا فالآتي بفرد يجب كونه متقيا، و لهذا قالوا: ظاهر الأمر لا يفيد التكرار.
فظاهر الآية يقتضي حصول الجنات و العيون لكل من اتقى عن ذنب واحد، إلا أن الأمة مجمعة على أن التقوى عن الكفر شرط في حصول هذا الحكم.
و أيضا هذه الآية وردت عقيب قول إبليس: «إلا عبادك منهم المخلصين» عقيب قوله تعالى: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان» فلذا اعتبر الإيمان في هذا الحكم فوجب أن لا يزاد فيه قيد آخر لأن تخصيص العام لما كان خلاف الظاهر فكلما كان التخصيص أقل كان أوفق بمقتضى الأصل و الظاهر.
فثبت أن الحكم المذكور يتناول جميع القائلين: لا إله إلا الله محمد رسول الله و لو كانوا من أهل المعصية، و هذا تقرير بين و كلام ظاهر، انتهى.
و مقتضى كلامه شمول الآية لمن اتقى الشرك و لو اقترف جميع الكبائر الموبقة التي نص الكتاب العزيز باستحقاق النار بإتيانها و ترك جميع الواجبات التي نص على تركها بمثله، و المستأنس بكلامه تعالى المتدبر في آياته لا يرتاب في أن القرآن لا يسمي مثل هذا متقيا و لا يعده من المتقين، و قد أكثر القرآن ذكر المتقين و بشرهم بالجنة بشارة صريحة فيما يقرب من عشرين موضعا وصفهم في كثير منها باجتناب المحارم و بذلك فسر التقوى في الحديث كما تقدم.
ثم إن مجرد صحة إطلاق الوصف أمر و التسمية أمر آخر فلا يسمى بالمؤمنين و المحسنين و القانتين و المخلصين و الصابرين و خاصة في الأوصاف التي تحتمل البقاء و الاستمرار إلا من استقر فيه الوصف، و لو صح ما ذكره في المتقين لجرى مثل ذلك في الظالمين و الفاسقين و المفسدين و المجرمين و الغاوين و الضالين و قد أوعدهم الله النار، و أدى ذلك إلى تدافع عجيب و اختلال في كلامه تعالى، و لو قيل: إن هناك ما يصرف هذه الآيات أن تشمل المرة و المرتين كآيات التوبة و الشفاعة و نظائرها فهناك ما يصرف هذه الآية أن تشمل المتقي بالمرة و المرتين و هي نفس آيات الوعيد على الكبائر الموبقة كآيات الزنا و القتل ظلما و الربا و أكل مال اليتيم و أشباهها.
ثم الذي ذكره في تقريب الدلالة وجوه واهية كقوله: إن هذه الآية وقعت عقيب قول إبليس إلخ، فإنك قد عرفت فيما تقدم أن ذلك لا ينفعه شيئا، و كقوله: إن زيادة قيد آخر بعد الإيمان خلاف الأصل إلخ، فإن الأصل إنما يركن إليه عند عدم الدليل اللفظي و قد عرفت أن هناك آيات جمة صالحة للتقييد.
و كقوله: إن ذلك خلاف الظاهر.
و كأنه يريد به ظهور المطلق في الإطلاق، و قد ذهب عليه أن ظهور المطلق إنما هو حجة فيما إذا لم يكن هناك ما يصلح للتقييد.
فالحق أن الآية إنما تشمل الذين استرقت فيهم ملكة التقوى و هو الورع عن محارم الله فأولئك هم المقضي عليهم بالسعادة و الجنة قضاء لازما، نعم المستفاد من الكتاب و السنة أن أهل التوحيد و هم من حضر الموقف بشهادة أن لا إله إلا الله لا يخلدون في النار و يدخلون الجنة لا محالة، و هذا غير دلالة آية المتقين على ذلك.
قوله تعالى: «و نزعنا ما في صدورهم من غل إخوانا على سرر متقابلين» إلى آخر الآيتين.
الغل الحقد، و قيل هو ما في الصدر من حقد و حسد مما يبعث الإنسان إلى إضرار الغير، و السرر جمع سرير و النصب هو التعب و العي الوارد من خارج.
يصف تعالى في الآيتين حال المتقين في سعادتهم بدخول الجنة، اختص بالذكر هذه الأمور من بين نعم الجنة على كثرتها فإن العناية باقتضاء من المقام متعلقة ببيان أنهم في سلام و أمن مما ابتلي به الغاوون من بطلان السعادة و ذهاب السيادة و الكرامة فذكر أنهم في أمن من قبل أنفسهم لأن الله نزع ما في صدورهم من غل فلا يهم الواحد منهم بصاحبه سوء بل هم إخوان على سرر متقابلين و لتقابلهم معنى سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله تعالى و أنهم في أمن من ناحية الأسباب و العوامل الخارجة فلا يمسهم نصب أصلا و أنهم في أمن و سلام من ناحية ربهم فما هم من الجنة بمخرجين أبدا فلهم السعادة و الكرامة من كل جهة، و لا يغشاهم و لا يمسهم شقاء و وهن من جهة أصلا لا من ناحية أنفسهم و لا من ناحية سائر ما خلق الله و لا من ناحية ربهم.
كلام
الأقضية التي صدرت عن مصدر العزة في بدء خلقة الإنسان على ما وقع في كلامه سبحانه عشرة: الأول و الثاني قوله لإبليس: «فاخرج منها فإنك رجيم و إن عليك اللعنة إلى يوم الدين»: الحجر: 35، و يمكن إرجاعهما إلى واحد.
الثالث قوله سبحانه له: «فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم»: الحجر: 38.
الرابع و الخامس و السادس قوله له: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين»: الحجر: 43.
السابع و الثامن قوله سبحانه لآدم و من معه: «اهبطوا بعضكم لبعض عدو و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36.
التاسع و العاشر قوله لهم: «اهبطوا منها جميعا فإما يأتينكم مني هدى فمن تبع هداي فلا خوف عليهم و لا هم يحزنون و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون»: البقرة: 39.
و هناك أقضية فرعية مترتبة على هذه الأقضية الأصلية يعثر عليها المتدبر الباحث.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و نفخت فيه من روحي» الآية قال: روح خلقها الله فنفخ في آدم منها.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي» قال: خلق خلقا و خلق روحا ثم أمر الملك فنفخ فيه و ليست بالتي نقصت من الله شيئا هي من قدرته تبارك و تعالى.
و فيه، و في رواية سماعة عنه (عليه السلام): خلق آدم و نفخ فيه. و سألته عن الروح قال: هي قدرته من الملكوت.
أقول: أي هي قدرته الفعلية منبعثة عن قدرته الذاتية صادرة منها كما يدل عليه الخبر السابق.
و في المعاني، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و نفخت فيه من روحي» قال: روح اختاره و اصطفاه و خلقه و أضافه إلى نفسه و فضله على جميع الأرواح فأمر فنفخ منه في آدم.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عما يروون أن الله خلق آدم على صورته فقال: هي على صورة مخلوقة محدثة اصطفاها الله و اختارها على سائر الصور المختلفة فأضافها إلى نفسه كما أضاف الكعبة إلى نفسه فقال: «بيتي» «و نفخت فيه من روحي».
أقول: و هذه الروايات من غرر الروايات في معنى الروح تتضمن معارف جمة و سنوضح معناها عند الكلام في حقيقة الروح إن شاء الله.
و في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «إنك لمن المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» يوم ينفخ في الصور نفخة واحدة فيموت إبليس ما بين النفخة الأولى و الثانية.
و في تفسير العياشي، عن وهب بن جميع و في تفسير البرهان، عن شرف الدين النجفي بحذف الإسناد عن وهب و اللفظ للثاني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن إبليس و قوله: «رب فأنظرني إلى يوم يبعثون - قال فإنك من المنظرين إلى يوم الوقت المعلوم» أي يوم هو؟ قال: يا وهب أ تحسب أنه يوم يبعث الله فيه الناس و لكن الله عز و جل أنظره إلى يوم يبعث فيه قائمنا فيأخذ بناصيته و يضرب عنقه فذلك اليوم هو الوقت المعلوم.
و في تفسير القمي، بإسناده عن محمد بن يونس عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: «فأنظرني - إلى قوله إلى يوم الوقت المعلوم قال: يوم الوقت المعلوم يذبحه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصخرة التي في بيت المقدس.
أقول: و هو من أخبار الرجعة و في معناه و معنى الرواية السابقة عليه أخبار أخرى من طرق أهل البيت (عليهم السلام).
و من الممكن أن تكون الرواية الأولى من هذه الثلاث الأخيرة صادرة على وجه التقية، و يمكن أن توجه الروايات الثلاث من غير تناف بينها بما تقدم في الكلام على الرجعة في الجزء الأول من الكتاب و غيره أن الروايات الواردة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) في تفسير غالب آيات القيامة تفسرها بظهور المهدي (عليه السلام) تارة و بالرجعة تارة و بالقيامة أخرى لكون هذه الأيام الثلاثة مشتركة في ظهور الحقائق و إن كانت مختلفة من حيث الشدة و الضعف فحكم أحدها جار في الآخرين فافهم ذلك.
و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت: أ رأيت قول الله: «إن عبادي ليس لك عليهم سلطان»؟ ما تفسير هذا؟ قال: قال الله: إنك لا تملك أن تدخلهم جنة و لا نارا.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لها سبعة أبواب» الآية، قال: قال: يدخل في كل باب أهل مذهب، و للجنة ثمانية أبواب.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد في الزهد عن خطاب بن عبد الله قال: قال علي: أ تدرون كيف أبواب جهنم قلنا كنحو هذه الأبواب. قال: لا، و لكنها هكذا و وضع يده فوق يده و بسط يده على يده.
و فيه، أخرج ابن المبارك و هناد و ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و أحمد في الزهد و ابن أبي الدنيا في صفة النار و ابن جرير و ابن أبي حاتم و البيهقي في البعث من طرق عن علي قال: أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض فيملأ الأول ثم الثاني ثم الثالث حتى يملأ كلها.
و فيه، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تاريخه عن أنس قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «لكل باب منهم جزء مقسوم» قال: جزء أشركوا بالله، و جزء شكوا في الله، و جزء غفلوا عن الله.
أقول: هو تعداد أجزاء الأبواب دون نفسها، و الظاهر أن الكلام غير مسوق للحصر.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لجهنم باب لا يدخل منه إلا من أخفرني في أهل بيتي و أراق دماءهم من بعدي.
أقول: يقال: خفره أي غدر به و نقض عهده.
و فيه، أخرج أحمد و ابن حبان و الطبري و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عتبة بن عبد الله عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: للجنة ثمانية أبواب و للنار سبعة أبواب و بعضها أفضل من بعض.
أقول: و الروايات - كما ترى - تؤيد من قدمناه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و نزعنا ما في صدورهم من غل» الآية، قال: قال العداوة.
و في تفسير البرهان، عن الحافظ أبي نعيم عن رجاله عن أبي هريرة قال: قال علي بن أبي طالب: يا رسول الله أيما أنا أحب إليك أم فاطمة قال: فاطمة أحب إلي منك و أنت أعز علي منها، و كأني بك و أنت على حوضي تذود عنه الناس، و إن عليه أباريق عدد نجوم السماء، و أنت و الحسن و الحسين و حمزة و جعفر في الجنة إخوانا على سرر متقابلين و أنت معي و شيعتك. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) «إخوانا على سرر متقابلين» لا ينظر أحدكم في قفاء صاحبه.
و فيه، عن ابن المغازلي في المناقب يرفعه إلى زيد بن أرقم قال: دخلت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إني مواخ بينكم كما آخى الله بين الملائكة، ثم قال لعلي: أنت أخي ثم تلا هذه الآية: «إخوانا على سرر متقابلين» الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض: أقول: و رواه أيضا عن أحمد في مسنده مرفوعا إلى زيد بن أوفى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الرواية مبسوطة.
و في الروايتين تفسير قوله تعالى: «على سرر متقابلين» بقوله: لا ينظر أحدهم في قفاء صاحبه، و قوله: الأخلاء في الله ينظر بعضهم إلى بعض و فيه إشارة إلى أن التقابل في الآية كناية عن عدم تتبع أحدهم عورات إخوانه و زلاتهم كما يفعل ذلك من في صدره غل و هو معنى لطيف.
و ما قرأه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآية إنما هو من باب الجري و الانطباق لا أن الآية نازلة في أهل البيت (عليهم السلام) فسياق الآيات لا يلائمه البتة.
و نظيرها ما روي عن علي (عليه السلام): أن الآية نزلت فينا أهل بدر، و في رواية أخرى عنه (عليه السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر، و في رواية أخرى عن علي بن الحسين (عليهما السلام): أنها نزلت في أبي بكر و عمر و علي، و في رواية أخرى: أنها نزلت في علي و الزبير و طلحة، و في رواية أخرى: أنها نزلت في علي و عثمان و طلحة و الزبير، و في رواية أخرى عن ابن عباس: أنها نزلت في عشرة: أبي بكر و عمر و عثمان و علي و طلحة و الزبير و سعد و سعيد و عبد الرحمن بن عوف و عبد الله بن مسعود.
و الروايات - على ما بها من الاختلاف - تطبيقات من الرواة، و الآية تأبى بسياقها عن أن تكون نازلة في بعض المذكورين كيف؟ و هي في جملة آيات تقص ما قضاه الله و حكم به يوم خلق آدم و أمر الملائكة و إبليس بالسجود له فأبى إبليس فرجمه ثم قضى ما قضى، و لا تعلق لذلك بأشخاص بخصوصيتهم هذا.
|