بيان
في الآيات وعيد على الكفر بعد الإيمان و هو الارتداد و وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا المجاهدين الصابرين في الله، و فيها تعرض لحكم التقية.
قوله تعالى: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره» الاطمئنان السكون و الاستقرار، و الشرح البسط، قال في المفردات: أصل الشرح بسط اللحم و نحوه، يقال: شرحت اللحم و شرحته، و منه شرح الصدر أي بسطه بنور إلهي و سكينة من جهة الله و روح منه، قال تعالى: «رب اشرح لي صدري» «أ لم نشرح لك صدرك» «أ فمن شرح الله صدره» و شرح المشكل من الكلام بسطه و إظهار ما يخفى من معانيه.
انتهى.
و قوله: «من كفر بالله من بعد إيمانه» شرط جوابه قوله: «فعليهم غضب من الله» و عطف عليه قوله: «و لهم عذاب عظيم» و ضمير الجمع في الجزاء عائد إلى اسم الشرط «من» لكونه بحسب المعنى كليا ذا أفراد.
و قوله: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان» استثناء من عموم الشرط و المراد بالإكراه الإجبار على كلمة الكفر و التظاهر به فإن القلب لا يقبل الإكراه و المراد أستثني من أكره على الكفر بعد الإيمان فكفر في الظاهر و قلبه مطمئن بالإيمان.
و قوله: «و لكن من شرح بالكفر صدرا» أي بسط صدره للكفر فقبله قبول رضى و وعاه، و الجملة استدراك من الاستثناء فيعود إلى معنى المستثنى منه فإن المعنى ما أريد بقولي: «من كفر بالله من بعد إيمانه» من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و لكن أريد به من شرح بالكفر صدرا، و في مجموع الاستثناء و الاستدراك بيان كامل للشرط، و هذه هي النكتة لاعتراض الاستثناء بين الشرط و الجزاء و عدم تأخيره إلى أن تتم الشرطية.
و قيل: قوله: «من كفر» بدل من «الذين لا يؤمنون بآيات الله» في الآية السابقة، و قوله: «و أولئك هم الكاذبون» جملة معترضة، و قوله: «إلا من أكره» استثناء من ذلك و قوله: «و لكن من شرح» مبتدأ خبره أو القائم مقام خبره قوله: «فعليهم غضب من الله».
و المعنى - على هذا - إنما يفتري الكذب الذين كفروا من بعد إيمانهم إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان و عند ذلك تم الكلام ثم بدأ فقال: و لكن من شرح بالكفر صدرا فعليهم غضب من الله.
و الذوق السليم يكفي مئونة هذا الوجه على ما به من السخافة.
قوله تعالى: «ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة و أن الله لا يهدي القوم الكافرين» بيان لسبب حلول غضب الله بهم و ثبوت العذاب العظيم عليهم و هو أنهم اختاروا الحياة الدنيا و هي الحياة المادية التي لا غاية لها إلا التمتع الحيواني و الاشتغال بمشتهيات النفس على الآخرة التي هي حياة دائمة مؤبدة في جوار رب العالمين و هي غاية الحياة الإنسانية.
و بعبارة أخرى هؤلاء لم يريدوا إلا الدنيا و انقطعوا عن الآخرة و كفروا بها و الله لا يهدي القوم الكافرين و إذ لم يهدهم الله ضلوا عن طريق السعادة و الجنة و الرضوان فوقعوا في غضب من الله و عذاب عظيم.
قوله تعالى: «أولئك الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و أولئك هم الغافلون» إشارة إلى أن اختيار الحياة الدنيا على الآخرة و الحرمان من هداية الله سبحانه هو الوصف الذي يوصف به الذين طبع الله على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم و الذين يسمون غافلين.
فإنهم باختيارهم الحياة الدنيا غاية لأنفسهم و حرمانهم من الاهتداء إلى الأخرى انقطعوا عن الآخرة و تعلقوا بالدنيا و جعلوها غاية لأنفسهم فوقف حسهم و عقلهم فيها دون أن يتعدياها إلى ما وراءها و هو الآخرة فليسوا يبصرون ما يعتبرون به و لا يسمعون عظة يتعظون بها و لا يعقلون حجة يهتدون بها إلى الآخرة.
فهم مطبوع على قلوبهم و سمعهم و أبصارهم فلا تنال قلوبهم و لا سمعهم و أبصارهم ما يدلهم على الآخرة، و هم غافلون عنها لا يتنبهون لشيء من أمرها.
فظهر أن ما في الآية السابقة من الوصف بمنزلة المعرف لما في هذه الآية من الطبع و من الغفلة فعدم هداية الله إياهم إثر ما تعلقوا بالدنيا هو معنى الطبع و الغفلة، و الطبع صنع إلهي منسوب إليه تعالى فعله بهم مجازاة و الغفلة صفة منسوبة إليهم أنفسهم.
قوله تعالى: «لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون» لأنهم ضيعوا رأس مالهم في الدنيا فبقوا لا زاد لهم يعيشون به في أخراهم، و قد وقع في نظير المقام من سورة هود: «لا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون»: هود: 22، و لعل وجه التشديد هناك أنه تعالى أضاف إلى صفاتهم هناك أنهم صدوا عن سبيل الله فراجع.
قوله تعالى: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا إن ربك من بعدها لغفور رحيم» الفتنة في الأصل إدخال الذهب النار ليظهر جودته ثم استعمل في مطلق البلاء و التعذيب، و قد كانت قريش و مشركو مكة يفتنون المؤمنين ليردوهم عن دينهم و يعذبونهم بأنواع العذاب حتى ربما كانوا يموتون تحت العذاب كما فتنوا عمارا و أباه و أمه فقتل أبواه و ارتد عمار ظاهرا فتفصى منهم بالتقية و في ذلك نزلت الآيات السابقة كما سيأتي إن شاء الله في البحث الروائي.
و من هنا يظهر أن للآية اتصالا بما قبلها من قوله: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان» و هي في معنى قولنا: و بعد ذلك كله إن الله غفور رحيم للذين هاجروا من بعد ما فتنوا ثم جاهدوا و صبروا.
فقوله: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا وعد جميل للمهاجرين من بعد ما فتنوا بالمغفرة و الرحمة يوم القيامة قبال ما أوعد غيرهم بالخسران التام يومئذ و قد قيد ذلك بالجهاد و الصبر بعد المهاجرة.
و قوله: «إن ربك من بعدها لغفور رحيم» بمنزلة تلخيص صدر الكلام - لطوله - ليلحق به ذيله، و يفيد فائدة التأكيد كقولنا: زيد في الدار زيد في الدار كذا و كذا، و يفيد أن لما ذكر من قيود الكلام دخلا في الحكم فالله سبحانه لا يرضى عنهم إلا أن يهاجروا و لا عن هجرتهم إلا أن يجاهدوا بعدها و يصبروا.
قوله تعالى: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون» إتيان النفس يوم القيامة كناية عن حضورها عند الملك الديان، كما قال: «فإنهم لمحضرون»: الصافات: 127 و الضمير في قوله: «عن نفسها» للنفس و لا ضير في إضافة النفس إلى ضمير النفس فإن النفس ربما يراد بها الشخص الإنساني كقوله: «من قتل نفسا بغير نفس»: المائدة: 22، و ربما يراد بها التأكيد و يتحد معناها بما تقدمها من المؤكد سواء كان إنسانا أو غيره، كما يقال: الإنسان نفسه و الفرس نفسه و الحجر نفسه و السواد نفسه، و يقال: نفس الإنسان و نفس الفرس و نفس الحجر و نفس السواد، و قوله: «عن نفسها» المراد فيه بالمضاف المعنى الثاني و بالمضاف إليه المعنى الأول، و قد دفع التعبير بالضمير بشاعة تكرار اللفظ بالإضافة، و في هذا المقدار كفاية عن الأبحاث الطويلة التي أوردها المفسرون.
و قوله: «يوم تأتي كل نفس تجادل عن نفسها» الظرف متعلق بقوله في الآية السابقة: «لغفور رحيم» و مجادلة النفس عن نفسها دفاعها عن نفسها و قد نسيت كل شيء وراء نفسها على خلاف ما كانت عليه في الدنيا من التعلق بكل شيء دون نفسها بنسيانها و ليس ذلك إلا لظهور حقيقة الأمر عليها و هي أن الإنسان لا سبيل له إلى ما وراء نفسه، و ليس له في الحقيقة إلا أن يشتغل بنفسه.
فاليوم تأتي النفس و تحضر للحساب و هي تجادل و تصر على الدفاع عن نفسها بما تقدر عليه من الأعذار.
و قوله: «و توفى كل نفس ما عملت و هم لا يظلمون» التوفية إعطاء الحق تاما من غير تنقيص، و قد علق التوفية على نفس العمل إذ قيل: «ما عملت» فأفيد أن الذي أعطيته نفس العمل من غير أن يتصرف فيه بتغيير أو تعويض، و فيه كمال العدل حيث لم يضف إلى ما استحقته شيء و لا نقص منه و لذلك عقبه بقوله: «و هم لا يظلمون». ففي الآية إشارة: أولا: إلى أن نفسا لا تدافع يوم القيامة و لا تجادل عن غيرها بل إنما تشتغل بنفسها لا فراغ لها لغيرها كما قال: «يوم لا يغني مولى عن مولى شيئا»: الدخان: 41، و قال: «يوم لا ينفع مال و لا بنون»: الشعراء: 88، و قال: «يوم لا بيع فيه و لا خلة و لا شفاعة»: البقرة: 254.
و ثانيا: إلى أن الجدال لا ينفعها في صرف ما استحقتها من الجزاء شيئا فإن الذي تجزاه هو عين ما عملت و لا سبيل إلى تغيير هذه النسبة و ليس من الظلم في شيء.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يهاجر إلى المدينة قال لأصحابه: تفرقوا عني فمن كانت به قوة فليتأخر إلى آخر الليل و من لم تكن به قوة فليذهب في أول الليل فإذا سمعتم بي قد استقرت بي الأرض فالحقوا بي. فأصبح بلال المؤذن و خباب و عمار و جارية من قريش كانت أسلمت فأصبحوا بمكة فأخذهم المشركون و أبو جهل فعرضوا على بلال أن يكفر فأبى فجعلوا يضعون درعا من حديد في الشمس ثم يلبسونها إياه فإذا ألبسوها إياه قال أحد أحد، و أما خباب فجعلوا يجرونه في الشوك. و أما عمار فقال لهم كلمة أعجبتهم تقية، و أما الجارية فوتد لها أبو جهل أربعة أوتاد ثم مدها فأدخل الحربة في قلبها حتى قتلها ثم خلوا عن بلال و خباب و عمار فلحقوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بالذي " كان " من أمرهم و اشتد على عمار الذي كان تكلم به فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): كيف كان قلبك حين قلت الذي قلت؟ أ كان منشرحا بالذي قلت أم لا؟ قال: لا قال و أنزل الله: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان». أقول: و الجارية المذكورة في الرواية هي سمية أم عمار، و كان معهم ياسر أبو عمار، و قيل: و كان أبو عمار أول شهيدين في الإسلام، و قد استفاضت الروايات على قتلهما بالفتنة و إظهار عمار الكفر تقية و نزول الآية فيه.
و فيه، أخرج عبد الرزاق و ابن سعد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم و صححه و البيهقي في الدلائل من طريق أبي عبيدة بن محمد بن عمار عن أبيه قال: أخذ المشركون عمار بن ياسر فلم يتركوه حتى سب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذكر آلهتهم بخير ثم تركوه. فلما أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: ما وراءك شيء؟ قال: شر. ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير. قال: كيف تجد قلبك؟ قال: مطمئن بالإيمان. قال: إن عادوا فعد، فنزلت: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان». و في المجمع، عن ابن عباس و قتادة: أن الآية نزلت في جماعة أكرهوا و هم عمار و ياسر أبوه و أمه سمية و صهيب و بلال و خباب عذبوا و قتل أبو عمار و أمه و أعطاهم عمار بلسانه ما أرادوا منه ثم أخبر سبحانه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال قوم: كفر عمار فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا إن عمارا مليء إيمانا من قرنه إلى قدمه و اختلط الإيمان بلحمه و دمه. و جاء عمار إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و هو يبكي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) ما وراءك؟ فقال: شر يا رسول الله ما تركت حتى نلت منك و ذكرت آلهتهم بخير فجعل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يمسح عينيه و يقول: إن عادوا لك فعد لهم بما قلت فنزلت الآية. و في الدر المنثور، أخرج ابن سعد عن عمر بن الحكم قال: كان عمار بن ياسر يعذب حتى لا يدري ما يقول، و كان صهيب يعذب حتى لا يدري ما يقول، و كان أبو فكيهة يعذب حتى لا يدري ما يقول، و بلال و عامر و ابن فهيرة و قوم من المسلمين و فيهم نزلت هذه الآية: «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا.
أقول: و سمي منهم في بعض الروايات عباس بن أبي ربيعة و في بعضها الآخر هو و الوليد بن أبي ربيعة و الوليد بن الوليد بن المغيرة و أبو جندل بن سهيل بن عمرو و أجمع رواية في ذلك ما عن ابن عباس: أن هذه الآية نزلت فيمن كان يفتن من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ثم إن ربك للذين هاجروا من بعد ما فتنوا».
و في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: فأما ما فرض على القلب من الإيمان الإقرار و المعرفة و العقد و الرضا و التسليم بأن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إلها واحدا لم يتخذ صاحبة و لا ولدا و أن محمدا عبده و رسوله، و الإقرار بما جاء به من عند الله من نبي أو كتاب: فذلك ما فرض الله على القلب من الإقرار و المعرفة و هو عمله و هو قول الله عز و جل: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان - و لكن من شرح بالكفر صدرا.
و فيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة قال: قيل لأبي عبد الله (عليه السلام): إن الناس يروون أن عليا (عليه السلام) قال على منبر الكوفة: يا أيها الناس إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة مني فلا تبرءوا مني. قال: ما أكثر ما يكذبون الناس على علي (عليه السلام) ثم قال: إنما قال: إنكم ستدعون إلى سبي فسبوني ثم تدعون إلى البراءة و إني لعلى دين محمد و لم يقل: و لا تبرءوا مني. فقال له السائل: أ رأيت إن اختار القتل دون البراءة؟ قال: و الله ما ذاك عليه و ما له إلا ما مضى عليه عمار بن ياسر حيث أكرهه أهل مكة و قلبه مطمئن بالإيمان فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندها: يا عمار إن عادوا فعد فقد أنزل الله عذرك «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان» و أمرك أن تعود إن عادوا: أقول: و روى هذا المعنى العياشي في تفسيره، عن معمر بن يحيى بن سالم عن أبي جعفر (عليه السلام)، و قوله (عليه السلام): «و أمرك أن تعود إن عادوا» يستفاد ذلك من الآية حيث لم يرد الاستثناء فيها من الشخص بل وردت على العنوان و هو إكراه من اطمأن قلبه بالإيمان، و أما كونه أمرا منه تعالى كما أمر به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلعل الوجه أن صريح الاستثناء هو الجواز و مع جواز ذلك لا مساغ للإباء الذي هو عرض النفس للقتل و إلقاؤها في التهلكة فيجامع هذا الجواز الوجوب دون الإباحة.
و في تفسير العياشي، عن عمرو بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): رفع عن أمتي أربعة خصال: ما أخطئوا و ما نسوا و ما أكرهوا عليه و ما لم يطيقوا، و ذلك في كتاب الله: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان».
|