بيان
الآيتان الأوليان تذكران الهجرة و تعدان المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا و الآخرة، و باقي الآيات تعقب حديث شركهم بالله و تشريعهم بغير إذن الله، و هي بحسب المعنى تفصيل القول في الجواب عن عد المشركين الدعوة النبوية إلى ترك عبادة الآلهة و تحريم ما لم يحرمه الله أمرا محالا كما أشير إليه في قوله: «و قال الذين أشركوا» إلخ.
قوله تعالى: «و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا لنبوئنهم في الدنيا حسنة و لأجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون» وعد جميل للمهاجرين و قد كانت من المؤمنين هجرتان عن مكة: إحداهما إلى حبشة هاجرتها عدة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإذن من الله و رسوله إليها و لبثوا فيها حينا في أمن و راحة من أذى مشركي مكة و عذابهم و فتنتهم.
و الثانية هجرتهم من مكة إلى المدينة بعد مهاجرة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الظاهر أن المراد بالهجرة في الآية هي الهجرة الثانية فسياق الآيتين أكثر ملاءمة لها من الأولى و هو ظاهر.
و قوله: «في الله» متعلق بهاجروا، و المراد بكون المهاجرة في الله أن يكون طلب مرضاته محيطا بهم في مهاجرتهم لا يخرجون منه إلى غرض آخر كما يقال: سافر في طلب العلم و خرج في طلب المعيشة أي لا غاية له إلا طلب العلم و لا بغية له إلا طلب المعيشة، و السياق يعطي أن قوله: «من بعد ما ظلموا» أيضا مقيد بذلك معنى، و التقدير: و الذين هاجروا في الله من بعد ما ظلموا فيه، و إنما حذف اختصارا و إنما اكتفى به قيدا للمهاجرة لأنها محل الابتلاء فتخصيصه بإيضاح الحال أولى.
و قوله: «لنبوئنهم في الدنيا حسنة» قيل: أي بلدة حسنة بدلا مما تركوه من وطنهم كمكة و حواليها بدليل قوله: «لنبوئنهم» فإنه من بوأت له مكانا أي سويت و أقررته فيه.
و قيل: أي حالة حسنة من الفتح و الظفر و نحو ذلك فيكون قوله: «لنبوئنهم» إلخ، من الاستعارة بالكناية.
و الوجهان متحدان مآلا فإنهم إنما كانوا يهاجرون ليعقدوا مجتمعا إسلاميا طيبا لا يعبد فيه إلا الله، و لا يحكم فيه إلا العدل و الإحسان أو ليدخلوا في مجتمع هذا شأنه فلو رجعوا في مهاجرهم غاية حسنة أو وعدوا بغاية حسنة كان ذلك هذا المجتمع الصالح، و لو حمدوا البلدة التي يهاجرون إليها لكان حمدهم للمجتمع الإسلامي المستقر فيها لا لمائها أو هوائها فالغاية الحسنة التي يعدهم الله في الدنيا هي هذا المجتمع سواء أريد بالحسنة البلدة أو الغاية.
و قوله: «و لأجر الآخرة خير لو كانوا يعلمون» تتميم للوعد و إشارة إلى أن أجر الآخرة أفضل من هذا الأجر الدنيوي لو كانوا يعلمون ما أعد الله لهم فيها من النعم فإن فيها سعادة من غير شقاء و خلودا من غير فناء و لذة غير مشوبة بألم و جوار رب العالمين.
قوله تعالى: «الذين صبروا و على ربهم يتوكلون» لا يبعد أن يستفاد من سياق الآيتين أن جملة العناية فيهما إلى وعد المهاجرين في الله وعدا حسنا في الدنيا و الآخرة من غير نظر إلى الإخبار بتحقق المهاجرة قبل حال الخطاب فيكون الكلام في معنى الاشتراط: من يهاجر في الله فله كذا و كذا، و تكون العناية في قوله: «الذين صبروا» إلخ بتوصيف المهاجرين بالصبر و التوكل من غير نظر إلى ما تحقق منهم من ذلك أيام توقفهم في أوطانهم بين المشركين قبال أذاهم و فتنتهم.
و العناية بالتوصيف إنما هي لكون كلتا الصفتين دخيلتين في الغاية الحسنة التي وعدوا بها إذ لو لم يصبروا على مر الجهاد و أظهروا الجزع عند هجوم العظائم و لم يتأيدوا بالتوكل على الله و اعتمدوا على أنفسهم الضعيفة أحيط بهم و لم يتهيأ لهم المستقر و فرقهم العدو المصر على عداوته بددا و تلاشى المجتمع الصالح الذي أقاموه في مهاجرهم هذا في الدنيا، و أما أمر الآخرة ففساده بفساد المجتمع أو تلاشيه أوضح.
و لو كان المراد وعد المهاجرين الذين تحقق منهم الهجرة قبل نزول الآية تطييبا لنفوسهم و تسلية لهم عما أخرجوا من ديارهم و أموالهم و قاسوا الفتن و المحن كان قوله: «الذين صبروا و على ربهم يتوكلون» مدحا لهم بما ظهر منهم أيام إقامتهم بمكة و غيرها من الصبر في الله على أذى المشركين و التوكل على الله فيما عزموا عليه من الإسلام لله.
قوله تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» رجوع ثان إلى بيان كيفية إرسال الرسل و إنزال الكتب حتى يتضح للمشركين أنه لم تكن الدعوة الدينية إلا دعوة عادية من رجال يوحى إليهم من البشر يندبون إلى ما فيه صلاح الناس في دنياهم و عقباهم.
و أنه لم يدع أحد من الرسل و لا ادعي في كتاب من كتب الشرائع أن الدعوة الدينية ظهور للقدرة الغيبية القاهرة لكل شيء و الإرادة التكوينية لهدم النظام الجاري و نقض سنة الاختيار و إبطالها حتى يقول القائل منهم: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» إلخ.
و على هذا فقوله سبحانه: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم» مسوق لحصر الرسالة على البشر العادي من رجال يوحى إليهم قبال ما ادعاه المشركون أنها لو كانت لكانت نقضا لنظام الطبيعة و إبطالا للاختيار و الاستطاعة.
و به يظهر عدم استقامة ما ذكره غير واحد منهم أن الآية مسوقة لرد المشركين من قريش حيث كانوا يزعمون أن البشر لا يصلح للرسالة و أنها لو كانت فهي من شأن الملائكة فالآية تخبر أن السنة الإلهية جرت حسب ما اقتضته الحكمة على أن لا يبعث للدعوة الدينية إلا رجالا من البشر يوحي إليهم المعارف و الأوامر و النواهي.
و ذلك أن سياق الآيات لا يساعد على ذلك، و لم يتقدم في الكلام ذكر لقولهم ذلك أو لاقتراحهم بعثة الملائكة للرسالة حتى يوجه الكلام إلى ذلك.
و إنما الذي تقدم هو قول المشركين: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» إلخ و كان مسوقا لإثبات استحالة النبوة لا لكونها من شأن الملائكة.
و استدل بعضهم بالآية على أن الله سبحانه لم يرسل صبيا و لا امرأة، و استشكل بنبوة عيسى (عليه السلام) في المهد و أجيب بأن النبوة أعم من الرسالة و الذي أثبته عيسى لنفسه بقوله: «إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا»: مريم: 30، هي النبوة دون الرسالة.
و فيه أن الاستدلال المذكور بالآية إنما هو بقوله: «و ما أرسلنا» و هذا الفعل كما يتعلق في القرآن بالرسول كذلك يتعلق بالنبي غير الرسول قال تعالى: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» الآية فلو تم الاستدلال المذكور لدل على حرمان الأطفال و النساء عن الرسالة و النبوة جميعا، و قد حكى الله عن عيسى (عليه السلام) قوله: «إني عبد الله آتاني الكتاب و جعلني نبيا»: مريم: 30، و قال في يحيى (عليه السلام): «و آتيناه الحكم صبيا»: مريم: 12.
و الحق أن الآية: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا» إنما هي في مقام بيان أن الرسل كانوا رجالا من البشر العادي من غير عناية بكونهم أول ما بعثوا للرسالة أفرادا بالغين مبلغ الرجال فالغرض أن نوحا و إبراهيم و موسى و عيسى و يحيى (عليهما السلام) - و هم رسل - كانوا رجالا يوحى إليهم و لم يكونوا أشخاصا مجهزين بقدرة قاهرة غيبية و إرادة إلهية تكوينية.
و يقرب من الآية قوله تعالى: في موضع آخر: «و ما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحي إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون و ما جعلناهم جسدا لا يأكلون الطعام و ما كانوا خالدين»: الأنبياء: 8.
و قوله: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون الظاهر أنه خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لقومه، و قد كان الخطاب في سابق الكلام للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة و المعنى موجه إلى الجميع فهو تعميم الخطاب للجميع ليتخذ كل من المخاطبين سبيله فمن كان لا يعلم ذلك كبعض المشركين راجع أهل الذكر و سألهم و من كان يعلم ذلك كالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين به كان في غنى عن الرجوع و السؤال.
و قيل: إن الخطاب في الآية للمشركين فإنهم هم المنكرون فليرجعوا و ليسألوا و فيه أن لازم ذلك كون الجملة التفاتا من خطاب الفرد إلى خطاب الجميع و لا نكتة ظاهرة تصحح ذلك و الله أعلم.
و الذكر حفظ معنى الشيء أو استحضاره، و يقال لما به يحفظ أو يستحضر قال الراغب في المفردات: الذكر تارة يقال و يراد به هيئة للنفس بها يمكن للإنسان أن يحفظ ما يقتنيه من المعرفة و هو كالحفظ إلا أن الحفظ يقال اعتبارا بإحرازه و الذكر يقال اعتبارا باستحضاره، و تارة يقال لحضور الشيء في القلب أو القول و لذلك قيل: الذكر ذكران: ذكر بالقلب، و ذكر باللسان، و كل واحد منهما ضربان: ذكر عن نسيان و ذكر لا عن نسيان بل عن إدامة الحفظ، انتهى موضع الحاجة.
و الظاهر أن الأصل فيه ما هو للقلب و إنما يسمى اللفظ ذكرا اعتبارا بإفادته المعنى و إلقائه إياه في الذهن، و على هذا المعنى جرى استعماله في القرآن غير أن مورده فيه ذكر الله تعالى فالذكر إذا أطلق فيه و لم يتقيد بشيء هو ذكره.
و بهذه العناية أيضا سمي القرآن وحي النبوة و الكتب المنزلة على الأنبياء ذكرا، و الآيات في ذلك كثيرة لا حاجة إلى إيرادها في هذا الموضع.
و قد سمى الله سبحانه في الآية التالية القرآن ذكرا.
فالقرآن الكريم ذكر كما أن كتاب نوح و صحف إبراهيم و توراة موسى و زبور داود و إنجيل عيسى (عليه السلام) - و هي الكتب السماوية المذكورة في القرآن - كلها ذكر، و أهلها المتعاطون لها المؤمنين بها أهل الذكر.
و لما كان أهل الشيء و خاصته أعرف بحاله و أبصر بأخباره كان على من يريد التبصر في أمره أن يرجع إلى أهله، و أهل الكتب السماوية القائمون على دراستها و تعلمها و العمل بشرائعها هم أهل الخبرة بها و العالمون بأخبار الأنبياء الجائين بها فعلى من أراد الاطلاع على شيء من أمرهم أن يراجعهم و يسألهم.
لكن المشركين المخاطبين بمثل قوله: «فاسألوا أهل الذكر» لما كانوا لا يسلمون للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النبوة و لا يصدقونه في دعواه و يستهزءون بالقرآن ذي الذكر كما يذكره تعالى في قوله: «و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون»: الحجر: 6، لم ينطبق قوله: «فاسألوا أهل الذكر» بحسب المورد إلا على أهل التوراة، و خاصة من حيث كونهم أعداء للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رادين لنبوته و كانت نفوس المشركين طيبة بهم لذلك، و قد قالوا في المشركين: «هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلا»: النساء: 51.
و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل العلم بأخبار من مضى من الأمم سواء أ كانوا مؤمنين أم كفارا؟ و سمي العلم ذكرا لأن العلم بالمدلول يحصل غالبا من تذكر الدليل فهو من قبيل تسمية المسبب باسم السبب.
و فيه أنه من المجاز من غير قرينة موجبة للحمل عليه على أن المعهود من الموارد التي ورد فيها الذكر في القرآن الكريم غير هذا المعنى.
و قال بعضهم: المراد بأهل الذكر أهل القرآن لأن الله سماه ذكرا و أهله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصحابه و خاصة المؤمنين.
و فيه أن كون القرآن ذكرا و أهله أهله لا ريب فيه لكن إرادة ذلك من الآية خاصة لا تلائم تمام الحجة فإن أولئك لم يكونوا مسلمين لنبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يقبلون من أتباعه من المؤمنين؟.
و كيف كان فالآية إرشاد إلى أصل عام عقلائي و هو وجوب رجوع الجاهل إلى أهل الخبرة، و ليس ما تتضمنه من الحكم حكما تعبديا، و لا أمر الجاهل بالسؤال عن العالم و لا بالسؤال عن خصوص أهل الذكر أمرا مولويا تشريعيا و هو ظاهر.
قوله تعالى: «بالبينات و الزبر» متعلق بمقدر يدل عليه ما في الآية السابقة من قوله: «و ما أرسلنا» أي أرسلناهم بالبينات و الزبر و هي الآيات الواضحة الدالة على رسالتهم و الكتب المنزلة عليهم.
و ذلك أن العناية في الآية السابقة إنما هي ببيان كون الرسل بشرا على العادة فحسب فكأنه لما ذكر ذلك اختلج في ذهن السامع أنهم بما ذا أرسلوا؟ فأجيب عنه فقيل: بالبينات و الزبر أما البينات فلإثبات رسالتهم و أما الزبر فلحفظ تعليماتهم.
و قيل: هو متعلق بقوله: «و ما أرسلنا» أي و ما أرسلنا بالبينات و الزبر إلا رجالا نوحي إليهم.
و فيه أنه لا بأس به في نفسه لكنه مفوت لما تقدم من النكتة.
قوله تعالى: «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون» لا شك أن تنزيل الكتاب على الناس و إنزال الذكر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) واحد بمعنى أن تنزيله على الناس هو إنزاله إليه ليأخذوا به و يوردوه مورد العمل كما قال تعالى: «يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم و أنزلنا إليكم نورا مبينا»: النساء: 174، و قال: «لقد أنزلنا إليكم كتابا فيه ذكركم أ فلا تعقلون»: الأنبياء: 10.
فيكون محصل المعنى أن القصد بنزول هذا الذكر إلى عامة البشر و أنك و الناس في ذلك سواء، و إنما اخترناك لتوجيه الخطاب و إلقاء القول لا لنحملك قدرة غيبية و إرادة تكوينية إلهية فنجعلك مسيطرا عليهم و على كل شيء بل لأمرين: أحدهما: أن تبين للناس ما نزل تدريجا إليهم لأن المعارف الإلهية لا ينالها الناس بلا واسطة فلا بد من بعث واحد منهم للتبيين و التعليم، و هذا هو غرض الرسالة ينزل إليه الوحي فيحمله ثم يؤمر بتبليغه و تعليمه تبيينه.
و الثاني: رجاء أن يتفكروا فيك فيتبصروا أن ما جئت به حق من عند الله فإن الأوضاع المحيطة بك و الحوادث و الأحوال الواردة عليك في مدى حياتك من اليتم و خمود الذكر و الحرمان من التعلم و الكتابة و فقدان مرب صالح و الفقر و الاحتباس بين قوم جهلة أخساء صفر الأيدي من مزايا المدنية و فضائل الإنسانية كانت جميعا أسبابا قاطعة أن لا تذوق من عين الكمال قطرة، و لا تقبض من عرى السعادة على مسكة، لكن الله سبحانه أنزل إليك ذكرا تتحدى به على الجن و الإنس مهيمنا على سائر الكتب السماوية تبيانا لكل شيء و هدى و رحمة و برهانا و نورا مبينا.
فالتفكر فيك نعم الدليل الهادي إلى أن ليس لك فيما جئت به صنع و لا لك من الأمر شيء و إن الله أنزله بعلمه و أيدك لذلك بقدرته من غير أن يداخله من الأسباب العادية شيء.
هذا ما تفيده الآية الكريمة نظرا إلى سياقها و سياق ما قبلها و محصله أن قوله: «لتبين» إلخ، غاية للإنزال لا لنفسه بل من حيث تعلقه بشخص النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن متعلق «يتفكرون» المحذوف هو نحو قولنا: فيك لا قولنا: في الذكر.
لكن القوم ذكروا أن قوله: «لتبين» غاية للإنزال و أن المراد بالتفكر التفكر في الذكر ليعلم بذلك أنه حق و معنى الآية على هذا: و أنزلنا إليك الذكر أي القرآن لتبين للناس كافة ما نزل إليهم في ذلك الذكر من أصول المعارف و الأحكام و الشرائع و أحوال الأمم الماضية و ما جرى فيهم من سنة الله تعالى، و لرجاء أن يتفكروا في الذكر فيهتدوا إلى أنه حق من عند الله أو يتفكروا فيما تبينه لهم.
و أنت خبير بأن لازم ذلك أولا شبه تحصيل الحاصل في إنزاله إليه ليبين لهم ما نزل إليهم، و الإنزال واحد، و لا مدفع له إلا أن يغير النظم إلى مثل قولنا: و أنزلنا إليك الذكر لتبينه لهم.
و ثانيا: كون قوله: «إليك» مستدركا مستغنى عنه و خاصة بالنظر إلى قوله: «و لعلهم يتفكرون» و ذلك أن الإنزال غايته التبيين و لا أثر في ذلك لكونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المنزل إليه دون غيره، و كذلك التفكر في الذكر غاية مرجوة للعلم بأنه حق من عند الله من غير نظر إلى من أنزل إليه، و لازم ذلك كون قوله: «إليك» زائدا في الكلام لا حاجة إليه.
و ثالثا: انقطاع الآية بسياقها عن سياق الآية السابقة عليها: «و ما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم» و الآيات المتقدمة عليها.
و هاهنا وجه آخر يمكن أن يندفع به بعض الإشكالات السابقة و هو كون المراد بالذكر المنزل لفظ القرآن الكريم و بما نزل إليهم معاني الأحكام و الشرائع و غيرها، و يكون قوله: «لتبين» غاية للإنزال، و قوله: «و لعلهم يتفكرون» معطوفا على مقدر و غاية للتبيين لا للإنزال، و هو خلاف ظاهر الآية، و عليك بإجادة التدبر فيها.
و من لطيف التعبير في الآية قوله: «و أنزلنا إليك» و «ما نزل إليهم» بتفريق الفعلين بالأفعال الدال على اعتبار الجملة و الدفعة و التفعيل الدال على اعتبار التدريج، و لعل الوجه في ذلك أن العناية في قوله: «و أنزلنا إليك» بتعلق الإنزال بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط من غير نظر إلى خصوصية نفس الإنزال، و لذلك أخذ الذكر جملة واحدة فعبر عن نزوله من عنده تعالى بالإنزال.
و أما الناس فإن الذي لهم من ذلك هو الأخذ و التعلم و العمل، و قد كان تدريجيا و لذلك عني به و عبر عن نزوله إليهم بالتنزيل.
و في الآية دلالة على حجية قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في بيان الآيات القرآنية، و أما ما ذكره بعضهم أن ذلك في غير النص و الظاهر من المتشابهات أو فيما يرجع إلى أسرار كلام الله و ما فيه من التأويل فمما لا ينبغي أن يصغى إليه.
هذا في نفس بيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) و يلحق به بيان أهل بيته لحديث الثقلين المتواتر و غيره و أما سائر الأمة من الصحابة أو التابعين أو العلماء فلا حجية لبيانهم لعدم شمول الآية و عدم نص معتمد عليه يعطي حجية بيانهم على الإطلاق.
و أما قوله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» فقد تقدم أنه إرشاد إلى حكم العقلاء بوجوب رجوع الجاهل إلى العالم من غير اختصاص الحكم بطائفة دون طائفة.
هذا كله في نفس بيانهم المتلقى بالمشافهة، و أما الخبر الحاكي له فما كان منه بيانا متواترا أو محفوفا بقرينة قطعية و ما يلحق به فهو حجة لكونه بيانهم، و أما ما كان مخالفا للكتاب أو غير مخالف لكنه ليس بمتواتر و لا محفوفا بالقرينة فلا حجية فيه لعدم كونه بيانا في الأول و عدم إحراز البيانية في الثاني و للتفصيل محل آخر.
قوله تعالى: «أ فأمن الذين مكروا السيئات أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون» هذه الآية و الآيتان بعدها إنذار و تهديد للمشركين و هم الذين يعبدون غير الله سبحانه و يشرعون لأنفسهم سننا يستنون بها في الحياة فما يعملون من الأعمال مستقلين فيها بأنفسهم معرضين عن شرائع الله النازلة من طريق النبوة استنادا إلى حجج داحضة اختلقوها لأنفسهم كلها سيئات و ما يتقلبون فيها مدى حياتهم من حركة أو سكون و أخذ أو رد و فعل أو ترك و هم على ما هم عليه من استكبار و غرور، كلها ذنوب يقترفونها مكرا بالله ربهم و برسله الداعين إلى الأخذ بدين الله و لزوم سبيله.
فقوله: «السيئات» مفعول «مكروا» بتضمينه بمعنى عملوا أي عملوا السيئات ماكرين، و ما احتمله بعضهم من كون السيئات وصفا سادا مسد المفعول المطلق و التقدير: يمكرون المكرات السيئات بعيد من السياق.
و بالجملة الكلام لتهديد المشركين و إنذارهم بالعذاب الإلهي و يدخل فيهم مشركوا مكة، و الكلام متفرع على ما تقدم كما يدل عليه قوله: «أ فأمن» بفاء التفريع.
و المعنى - و الله أعلم - فإذا دلت الآيات البينات على أن الله هو ربهم لا شريك له في ربوبيته و أن الرسالة ليست بأمر محال بل هي دعوة إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم و خير دنياهم و أخراهم من رجال هم أمثالهم يبعثهم الله و يوحي إليهم بما تشتمل عليه الدعوة، فهؤلاء الذين يعرضون عن ذلك و يمكرون بالله و رسله بالتشبث بهذه الحجج الواهية لتسوية الطريق إلى ترك دين الله و تشريع ما يوافق أهواءهم و يعملون السيئات هل أمنوا أن يخسف الله بهم الأرض أو يأتيهم العذاب و هم لا يشعرون، أي يفاجئهم من غير أن يتنبهوا بتوجهه إليهم قبل نزوله.
قوله تعالى: «أو يأخذهم في تقلبهم فما هم بمعجزين» الفاعل هو الله سبحانه و قد كثرت في القرآن نسبة الأخذ إليه، و قيل: الضمير للعذاب، و التقلب هو التحول من حال إلى حال و المراد به تحول المشركين في مقاصدهم و أعمالهم السيئة و انتقالهم من نعمة إلى نعمة أخرى من نعم الحياة الدنيا، قال تعالى: «لا يغرنك تقلب الذين كفروا في البلاد متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد»: آل عمران: 197.
فالمراد بأخذهم في تقلبهم أن يأخذهم في عين ما يتقلبون فيه من السيئات مكرا بالله و رسله بالعذاب أو المعنى يعذبهم بنفس ما يتقلبون فيه فيعود النعمة نقمة، و هذا أنسب بالنظر إلى قوله: «فما هم بمعجزين».
و قوله: «فما هم بمعجزين» في مقام التعليل لأخذهم في تقلبهم و مكرهم السيئات أي لأنهم ليسوا بمعجزين لله فيما أراد بالتغلب عليه أو بالفرار من حكمه، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «أو يأخذهم على تخوف فإن ربكم لرءوف رحيم» التخوف تمكن الخوف من النفس و استقراره فيها فالأخذ على تخوف هو العذاب مبنيا على المخافة بأن يشعروا بالعذاب فيتقوه و يحذروه بما استطاعوا من توبة و ندامة و نحوهما فيكون الأخذ على تخوف مقابلا لإتيان العذاب من حيث لا يشعرون.
و ربما قيل: إن الأخذ على تخوف هو العذاب بما يخاف منه من غير هلاك كالزلزلة و الطوفان و غيرهما.
و ربما قيل: إن معنى التخوف التنقص بأن يأخذهم الله بنقص النعم واحدة بعد واحدة تدريجيا كأخذ الأمن ثم الأمطار ثم الرخص ثم الصحة و هكذا.
و قوله: «إن ربكم لرءوف رحيم» في مقام التعليل أي يأخذهم على تخوف و يتنزل في عذابهم إلى هذا النوع من العذاب الذي هو أهون الأنواع المعدودة لأنه رءوف رحيم، و في التعبير بقوله: «ربكم» إشارة إلى ذلك، و كونه في مقام التعليل بالنسبة إلى الوجهين الأولين ظاهر، و أما بالنسبة إلى الثالث فلأن الأخذ بالنقص لا يخلو من مهلة و فرصة يتنبه فيها من تنبه فيأخذ بالحذر بتوبة أو غيرها.
و الكلام في تعداد أنواع العذاب المذكورة ليس مسوقا للحصر كما نبه به بعضهم بل إحصاء لأنواع منه.
قوله تعالى: «أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شيء يتفيؤا ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله و هم داخرون» المراد بالرؤية الرؤية البصرية و النظر الحسي إلى الأشياء الجسمانية لأن المطلوب إلفات النظر إلى الأجسام ذوات الأظلال.
و التفيؤ من الفيء و هو الظل راجعا، و لذا قيل: إن الظل هو ما في أول النهار إلى زوال الشمس و الفيء هو ما يكون بعد زوال الشمس إلى آخر النهار، و الظاهر أن الظل أعم من الفيء كما تقدم و تؤيده الآية.
فالتفيؤ رجوع الظل بعد زواله.
و الشمائل جمع شمأل و هو خلاف اليمين، و جمعه باعتبار أخذ كل سمت مفروض خلف الشيء و عن يساره جهة شمال على حدة فهي شمائل تقابل اليمين كما أن عد كل شيء ذا أظلال بهذه العناية أخذا للظل بالنسبة إلى كل جهة من اليمين و الشمائل ظلا غيره بالنسبة إلى جهة أخرى لا لأن الشيء المذكور جمع بحسب المعنى و إن كان مفردا بحسب اللفظ.
و الدخور هو الخضوع و الصغار.
و كون المراد بالرؤية الرؤية البصرية قرينة على أن المراد بما خلق الله من شيء - و من شيء بيان لما خلق الله - هو الأشياء المرئية، و ما تعقبه من حديث تفيؤ الظلال يحصرها في الأجسام الكثيفة التي لها ظلال كالجبال و الأشجار و الأبنية و الأجسام القائمة على الأرض فلا يرد أن ما خلق الله و خاصة بعد بيانه بالشيء لا يلازمه الظل كالأجرام العلوية المضيئة و الأجسام الشفافة و أعراض الأجسام.
و لدفع هذا الإشكال جعل بعضهم قوله: «يتفيؤا ظلاله» إلخ، وصفا لشيء حتى يخص البيان بالأشياء المخلوقة التي لها أفياء و أظلال و لا يخلو من وجه.
و الآية تهدي المشركين و هم منكرون للتوحيد و النبوة إلى النظر في حال الأجسام التي لها أظلال تدور عن يمينها و عن شمائلها فإنها تمثل سجودها لله و خضوعها له و صغارها قبال عظمته و كبريائه، و كذا سجود ما في السماوات و الأرض من دابة و الملائكة.
فهي جميعا ساجدة لله وحده لانقيادها الذاتي لأمره ممثلة للخضوع و الصغار بهذا النسك الوجودي و العبادة التكوينية.
و هذا من أوضح الدليل على أن في العالم إلها معبودا واحدا هو الله سبحانه و أن من حقه أن يسجد له و يخضع لأمره، و هذا هو التوحيد و النبوة اللذان ينكرونهما فهل التوحيد إلا الإذعان بكونه سبحانه هو الإله الذي يجب الخضوع له و التوجه بالذلة و الصغار إليه؟ و هل الدين الذي تتضمنه دعوة الأنبياء و الرسل إلا الخضوع لله سبحانه و الانقياد لأمره فيما أراد؟ فما بالهم ينكرون ذلك؟ و هم يرون و يعلمون أن ما على الأرض من أظلال الأجسام الكثيفة يسجد له، و ما في السماوات و الأرض من الملائكة و الذوات ساجدة له منقادة لأمره حتى أرباب أصنامهم الذين يتخذونهم آلهة دون الله فإنهم إما من الملائكة و إما من الجن و إما من كملي البشر، و هم جميعا داخرون له منقادون لأمره.
فمعنى الآية - و الله أعلم - «أ و لم يروا» هؤلاء المشركون المنكرون لتوحيد الربوبية و لدعوة النبوة أ و لم ينظروا «إلى ما خلق الله من شيء» من هذه الأجسام القائمة على بسيط الأرض من جبل أو بناء أو شجر أو أي جسم منتصب «يتفيؤا» و يرجع و يدور «ظلاله عن اليمين و الشمائل سجدا لله» واقعة على الأرض تذللا و تعبدا له سبحانه «و هم داخرون» خاضعون صاغرون.
و قد تقدم الكلام في معنى سجدة الظلال ذيل قوله تعالى: «و ظلالهم بالغدو و الآصال»: الرعد: 15، في الجزء الحادي عشر من الكتاب.
قوله تعالى: «و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض من دابة و الملائكة» إلى آخر الآيتين.
ذكرت الآية السابقة سجود الظلال و هو معنى مشهود فيها يمثل معنى السجود لله، و تذكر هذه الآية سجود ما في السماوات و الأرض من دابة - و الدابة ما يدب و يتحرك بالانتقال من مكان إلى مكان - بحقيقة السجود التي هي نهاية التذلل و التواضع قبال العظمة و الكبرياء فإن صورة السجدة التي هي خرور الإنسان و وقوعه على وجهه على الأرض إنما تعد عبادة إذا أريد بها تمثيل هذا المعنى فحقيقة السجدة هي التذلل المذكور.
و يدخل في عموم الدابة الإنسان و كذا الجن لأنه سبحانه يصفهم في كلامه بما يفيد أن لهم دبيبا كما لسائر الدواب من الإنسان و الحيوان، و لم يدخل سبحانه الملائكة في عموم الدابة و أفردهم بالذكر، و في ذلك من التلويح إلى أن ما نسب إليهم في كلامه تعالى من النزول و الصعود و الذهاب و المجيء مما ظاهره النقلة و الحركة المكانية ليس من نوع ما للدواب من الدبيب و الانتقال المكاني ما لا يخفى.
فقوله: «و لله يسجد ما في السماوات و ما في الأرض من دابة» أي له يخضع و ينقاد خضوعا و انقيادا ذاتيا هي حقيقة السجود فمن حقه تعالى أن يعبد و يسجد له.
و في الآية دلالة على أن في غير الأرض من السماوات شيئا من الدواب يسكنها و يعيش فيها.
و قوله: «و الملائكة و هم لا يستكبرون» الاستكبار و التكبر من الإنسان أن يعد نفسه كبيرا و يضعه موضع الكبر و ليس به و لذلك يعد في الرذائل لكن التكبر ربما يطلق على ما لله سبحانه من الكبرياء بالحق و هو الكبير المتعال فهو تعالى كبير متكبر و ليس يقال: مستكبر و لعل ذلك كذلك اعتبارا باللفظ فإن الاستكبار بحسب أصل هيئته طلب الكبر و لازمه أن لا يكون ذلك حاصلا للطالب من نفسه و إنما يطلب الكبر و العلو على غيره دعوى فكان مذموما، و أما التكبر فهو الظهور بالكبرياء سواء كانت له في نفسه كما لله سبحانه و هو التكبر الحق أو لم يكن له إلا دعوى و غرورا كما في غيره.
فتبين بذلك أن الاستكبار مذموم دائما أما استكبار المخلوق على مخلوق آخر فلأن الفقر و الحاجة قد استوعبهما جميعا و شيء منهما لا يملك لنفسه نفعا و لا ضرا و لا لغيره فاستكبار أحدهما على الآخر خروج منه عن حده و تجاوز عن طوره و ظلم و طغيان.
و أما استكبار المخلوق على الخالق فلا يتم إلا مع دعوى المخلوق الاستقلال و الغنى لنفسه و ذهوله عن مقام ربه فإن النسبة بين العبد و ربه نسبة الذلة و العزة و الفقر و الغنى فما لم يغفل العبد عن هذه النسبة و لم يذهل عن مشاهدة مقام ربه لم يعقل استكباره على ربه فإن الصغير الوضيع القائم أمام الكبير المتعالي و هو يشاهد صغار نفسه و ذلته و كبرياء من هو أمامه و عزته لا يتيسر له أن يرى لنفسه كبرياء و عزة إلا أن يأخذه غفلة و ذهول.
و إذ كان الكبرياء و العلو لله جميعا فدعواه الكبرياء و العلو تغلب منه على ربه و غصب منه لمقامه و استكبار و استعلاء عليه دعوى، و هذا هو الاستكبار بحسب الذات و يتبعه الاستكبار بحسب الفعل و هو أن لا يأتمر بأمره و لا ينتهي عن نهيه فإنه ما لم ير لنفسه إرادة مستقلة قبال الإرادة الإلهية مغايرة لها لم ير لنفسه أن يخالفه في أمره و نهيه.
و على هذا فقوله: «و هم لا يستكبرون» في تعريف الملائكة و الكلام في سياق العبودية دليل على أنهم لا يستكبرون على ربهم فلا يغفلون عنه تعالى و لا يذهلون عن الشعور بمقامه و مشاهدته.
و قد أطلق نفي الاستكبار من غير أن يقيده بما بحسب الذات أو بحسب الفعل فأفاد أنهم لا يستكبرون عليه في ذات و لا فعل أي لا يغفلون عنه سبحانه و لا يستنكفون عن عبادته و لا يخالفون عن أمره، و لبيان هذا الإطلاق و الشمول عقبه بيانا له بقوله: «يخافون ربهم من فوقهم و يفعلون ما يؤمرون» و أشار بذلك إلى نفي الاستكبار عنهم ذاتا و فعلا.
توضيح ذلك أن قوله: «يخافون ربهم من فوقهم» يثبت لهم الخوف من ربهم و الله سبحانه ليس عنده إلا الخير و لا شر عنده و لا سبب شر يخاف منه إلا أن يكون الشر و سببه عند العبد و قد أخذ متعلق الخوف هو ربهم لا عذابه تعالى أو عصيان أمره كما في قوله: «و يرجون رحمته و يخافون عذابه»: إسراء: 57.
فهذه المخافة هي المخافة منه تعالى و هو و إن لم يكن عنده إلا الخير، و الخوف إنما يكون من شر مترقب إلا أن حقيقته التأثر و الانكسار و الصغار و تأثر الضعيف قبال القوي الظاهر بقوته، و انكسار الصغير الوضيع أمام الكبير المتعال القاهر بكبريائه و تعاليه ضروري فمخافتهم هي تأثرهم الذاتي عما يشاهدونه من مقام ربهم و لا يغفلون عنه قط.
و يؤيد ما ذكرناه تقييد قوله: «يخافون ربهم» بقوله «من فوقهم» فإن فيه إشارة إلى أن كونه تعالى فوقهم قاهرا لهم متعاليا بالنسبة إليهم هو السبب في مخافتهم، و ليس هذا إلا الخوف من مقامه تعالى لا من عذابه فهو خوف ذاتي و يرجع إلى نفي الاستكبار عن ذواتهم.
و أما قوله: «و يفعلون ما يؤمرون» فإشارة إلى عدم استكبارهم في مقام الفعل و قد تقدم أنه إذا لم يستكبر عليه تعالى في ذات لم يستكبر عليه في فعل فهم لا يعصون الله سبحانه في أمر بل يفعلون ما يؤمرون، و في إتيان قوله: «يؤمرون» مبنيا للمجهول من التعظيم و التفخيم لمقامه سبحانه ما لا يخفى.
فتبين أن الملائكة نوع من خلق الله تعالى لا تأخذهم غفلة عن مقام ربهم و لا يطرأ عليهم ذهول و لا سهو و لا نسيان عن ذلك و لا يشغلهم عنه شاغل، و هم لا يريدون إلا ما يريده الله سبحانه.
و إنما خص سبحانه الملائكة من بين الساجدين المذكورين في الآية بذكر شأنهم و تعريف أوصافهم و تفصيل عبوديتهم لأن أكثر آلهة الوثنيين من الملائكة كإله السماء و إله الأرض و إله الرزق و إله الجمال و غيرهم، و للدلالة على أنهم - بالرغم من زعم الوثنيين - أمعن خلق الله تعالى في عبوديته و عبادته.
و من عجيب الاستدلال ما استدل به بعضهم بالآية على أن الملائكة مكلفون مدارون بين الخوف و الرجاء كمثلنا أما دلالتها على التكليف فلمكان الأمر، و أما إدارتهم بين الخوف و الرجاء فلأن الآية ذكرت خوفهم و الخوف يستلزم الرجاء.
و هو ظاهر الفساد أما الأمر فقد ورد في كلامه تعالى في موارد لا تكليف فيها قطعا كالسماء و الأرض و غيرهما قال تعالى: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين»: حم السجدة: 11، و قال: «و يوم يقول كن فيكون».
و أما استلزام الخوف للرجاء فإنما الملازمة ما بين الخوف من نزول العذاب و أصابة المكروه و بين الرجاء، و قد تقدم أن الذي في الآية إنما هو خوف مهابة و إجلال بمعنى تأثر الضعيف من القوي و انكسار الصغير الحقير قبال العظيم الكبير الظاهر عليه بعظمته و كبريائه و لا مقابلة بين الخوف بهذا المعنى و بين الرجاء.
و قد استدل بالآية أيضا على أن الملائكة أفضل من البشر، و فيه أن من الممكن استظهار أفضليتهم من عصاة البشر و كفارهم ممن يفقد الصفات المذكورة لكونها مسوقة في مقام المدح و أما غيرهم فلا تعرض للآية لهم إثباتا و نفيا و سيأتي تفصيل القول في الملائكة في موضع يليق به إن شاء الله.
قوله تعالى: «و قال الله لا تتخذوا إلهين اثنين إنما هو إله واحد فإياي فارهبون» الرهبة الخوف و تقابل الرغبة كما أن الخوف يقابل به الرجاء.
و الكلام معطوف على قوله: «و لله يسجد» و قيل: معطوف على قوله: «و أنزلنا إليك الذكر» و قيل: على قوله: «ما خلق الله» على طريقة قوله: علفتها تبنا و ماء باردا أي و سقيتها ماء باردا، و التقدير في الآية أ و لم يروا إلى ما خلق الله من شيء و أ لم يسمعوا إلى ما قال الله «لا تتخذوا» إلخ؟ و الأول هو الوجه.
و قوله: «لا تتخذوا إلهين اثنين» أريد به - و الله أعلم - النهي عن التعدي عن الإله الواحد باتخاذ غيره معه فيشمل الاثنين و ما فوقه من العدد و يؤيده تأكيده بقوله: «إنما هو إله واحد» و «اثنين» صفة «إلهين» كما أن «واحد» صفة «إله» جيء بهما للإيضاح و التبيين.
و بعبارة أخرى العناية متعلقة بالنهي عن اتخاذ غيره معه سواء كان واحدا أو أكثر من واحد لكن لما كان كل عدد اختاروه في الإله فوق الاثنين يجب أن يسلكوا إليه من الاثنين إذ لا يتحقق عدد هو فوق الاثنين إلا بعد تحقق الاثنين نهى عن اتخاذ الاثنين و اكتفى به عن النهي عن كل عدد فوق الواحد.
و يمكن أن يكون اعتبار الاثنين نظرا إلى ما عليه دأبهم و سنتهم فإنهم يعتقدون من الإله بإله الصنع و الإيجاد و هو الذي له الخلق فحسب و هو إله الآلهة و موجد الكل، و بإله العبادة و هو الذي له الربوبية و التدبير، و هذا المعنى أنسب بما يتلوه من الجمل.
و على هذا فالمعنى لا تتخذوا إلهين اثنين: إله الخلق و إله التدبير الذي له العبادة إنما هو أي الإله إله واحد له الخلق و التدبير جميعا لأن كل تدبير ينتهي إلى الإيجاد، و إذ كنت أنا الخالق الموجد فأنا المدبر الذي تجب عبادته فإياي فارهبون و إياي فاعبدون.
و من هنا يظهر وجه تفرع قوله: «فإياي فارهبون» على ما تقدمه و أنه من لطيف الاستدلال، و الجملة تفيد الحصر بتقديم المفعول على سبيل الاشتغال، و القصر قصر قلب لا قصر إفراد كما يفيده كلامهم فإن الوثنيين لا يعبدون الله و آلهتهم غير الله، و إنما يعبدون آلهتهم فحسب معتذرين بأن الله سبحانه لا يحيط به علم و لا يناله فهم فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة فمن الواجب أن يعبد الكرام أو الأقوياء من خلقه كالملائكة و الكاملين من البشر و الجن فهم المدبرون لأمر العالم ينال بالعبادة خيرهم و يتقى بها شرهم و هذا معنى التقرب إلى الله بشفاعتهم.
و الظاهر أن الأمر بالرهبة كناية عن الأمر بالعبادة و إنما اختصت الرهبة بالذكر ليوافق ما تقدم في حديث سجدة الكل التي هي الأصل في تشريع العبادة من خوف الملائكة، و على هذا فالظاهر أن المراد بالرهبة ما هي رهبة إجلال و مهابة لا ما هي رهبة مؤاخذة و عذاب، فافهم ذلك.
قوله تعالى: «و له ما في السماوات و الأرض و له الدين واصبا أ فغير الله تتقون» قال في المفردات: الوصب السقم اللازم و قد وصب فلان فهو وصب و أوصبه كذا فهو يتوصب نحو يتوجع، قال تعالى: «و لهم عذاب واصب» «و له الدين واصبا» فتوعد لمن اتخذ إلهين و تنبيه أن جزاء من فعل ذلك عذاب لازم شديد.
و يكون الدين هاهنا الطاعة، و معنى الواصب الدائم أي حق الإنسان أن يطيعه دائما في جميع أحواله كما وصف به الملائكة حيث قال: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون» و يقال: وصب وصوبا دام، و وصب الدين وجب، و مفازة واصبة بعيدة لا غاية لها.
انتهى.
و الآية و ما بعدها تحتج على وحدانيته تعالى في الألوهية بمعنى المعبودية بالحق و أن الدين له وحده ليس لأحد أن يشرع من ذلك شيئا و لا أن يطاع فيما شرع فالآية و ما بعدها في مقام التعليل لقوله: «و قال الله لا تتخذوا إلهين اثنين» إلى آخر الآية، و احتجاج على مضمونها و عود بعد عود إلى ما تقدم بيانه من التوحيد و النبوة اللذين ينكرهما المشركون.
فقوله: «و له ما في السماوات و الأرض» احتجاج على توحده تعالى في الربوبية فإن ما في السماوات و الأرض من شيء فهو مملوك له بحقيقة معنى الملك إذ ما في العالم المشهود من شيء فهو بما له من الصفات و الأفعال، قائم به تعالى موجود بإيجاده و ظاهر بإظهاره لا يسعه أن ينقطع منه و لا لحظة فالأشياء قائمة به قيام الملك بمالكه مملوكة له ملكا حقيقيا لا يقبل تغييرا و لا انتقالا كما هو خاصة الملك الحقيقي كملك الإنسان لسمعه و بصره مثلا.
و إذا كان كذلك كان هو تعالى المدبر لأمر العالم إذ لا معنى لكون العالم مملوكا له بهذا الملك ثم يستقل غيره بتدبير أمره و التصرف فيه و ينعزل هو تعالى عما خلقه و ملكه، و إذا كان هو المدبر لأمره كان هو الرب له إذ الرب هو المالك المدبر، و إذا كان هو الرب كان هو الذي يجب أن يتقى و يخضع له بالعبادة.
و قوله: «و له الدين واصبا» أي دائما لازما، و ذلك أنه لما كان تعالى هو الرب الذي يملك الأشياء و يدبر أمرها و من واجب التدبير أن يستن العالم الإنساني بسنة يبلغ به الجري عليها غايته و يهديه إلى سعادته - و هذه السنة و الطريقة هي التي يسميها القرآن دينا - كان من الواجب أن يكون تعالى هو القائم على وضع هذه السنة و تشريع هذه الطريقة فهو تعالى المالك للدين كما قال: «و له الدين واصبا» و عليه أن يشرع ما يصلح به التدبير كما قال فيما مر: «و على الله قصد السبيل» الآية.
و قيل: المراد بالدين الطاعة، و قيل: الملك، و قيل: الجزاء، و لكل منها وجه غير خفي على المتأمل، و الأوجه هو ما قدمناه لأنه أوفق و أنسب بسياق ما يحفها من الآيات السابقة و اللاحقة الباحثة عن توحيد الربوبية و تشريع الدين من طريق الوحي و الرسالة.
و قوله: «أ فغير الله تتقون» استفهام إنكاري - متفرع على الجملتين جميعا - على الظاهر، و المعنى: و إذا كان كذلك فهل غيره تعالى تتقون و تعبدون؟ و ليس يملك شيئا و لا يدبر أمرا حتى يعبد، و ليس من حقه أن يشرع دينا فيطاع فيما وضعه و شرعه.
قوله تعالى: «و ما بكم من نعمة فمن الله ثم إذا مسكم الضر فإليه تجأرون» بيان آخر لوحدانيته تعالى في الربوبية يفرع سبحانه عليه ذمهم و توبيخهم على شركهم بالله و على تشريعهم أمورا من عند أنفسهم من غير إذن منه و رضى و يجري الكلام في هذا المجرى إلى تمام بضع آيات.
و المراد بالضر سوء الحال من جهة فقدان النعمة التي تصلح بها الحال، و الجؤار بضم الجيم صوت الوحوش استعير لرفع الصوت بالدعاء و التضرع و الاستغاثة تشبيها له به.
و قوله: «و ما بكم من نعمة فمن الله» الكلام مسوق للعموم و ليس مجرد دعوى غير مستدل فقد بين ذلك في الآيات السابقة.
على أن السامعين يسلمون ذلك و يقولون به و يدل عليه جؤارهم و استغاثتهم إليه عند مسيس الضر بفقدان نعمة من النعم.
فالمعنى: أن جميع النعم التي عندكم من إنعامه تعالى عليكم و أنتم تعلمون ذلك ثم إذا حل بكم شيء من الضر و سوء حال يسير رفعتم أصواتكم بالتضرع و جأرتم إليه لا إلى غيره و لو كان لغيره صنيعة عندكم لتوجهتم إليه فهو سبحانه منعم النعمة و كاشف الضر فما بالكم لا تخصونه بالعبادة و لا تطيعونه.
و الاستغاثة به تعالى و التضرع إليه عند حلول المصائب و هجوم الشدائد التي ينقطع عندها الرجاء عن الأسباب الظاهرية ضرورية لا يرتاب فيها فإن الإنسان و لو لم ينتحل إلى دين و لم يؤمن بالله سبحانه فإنه لا ينقطع رجاؤه عند الشدائد إذا رجع إلى ما يجده من نفسه، و لا رجاء إلا و هناك مرجو منه فمن الضروري أن تحقق ما لا يخلو من معنى التعلق كالحب و البغض و الإرادة و الكراهة و الجذب و نظائرها في الخارج لا يمكن إلا مع تحقق طرف تعلقها في الخارج فلو لم يكن في الخارج مراد لم تتحقق إرادة من مريد، و لو لم يكن هناك مطلوب لم يكن طلب و لو لم يكن جاذب يجذب لم يتصور مجذوب ينجذب، و هذا حال جميع المعاني الموجودة التي لا تخلو كينونتها عن نسبة.
فتعلق الرجاء من الإنسان بالتخلص من البلية عند انقطاع الأسباب دليل على أنه يرى أن هناك سببا فوق هذه الأسباب المنقطع عنها لا تعجزه عظائم الحوادث و داهمات الرزايا و لا ينقطع عنه الإنسان، و لا يزول و لا يفنى و لا يسهو و لا ينسى قط.
هذا شيء يجده الإنسان من نفسه و تقضي به فطرته و إن ألهاه عنه الاشتغال بالأسباب الظاهرة و جذبته إلى نفسها أمتعة الحياة و زخارف المادة المحسوسة لكنه إذا أحاطت به البلية و أعيته الحيلة و سدت عليه طرق النجاة و انهزمت الأسباب الظاهرة عن آخرها و طارت الموانع عن نظره و لم يبق هناك مله يلهيه و لا شاغل يشغله ظهر له ما أخفته الأسباب و عاين ما كان على غفلة منه فتعلقت نفسه به، و هو السبب الذي فوق كل سبب و هو الله عز اسمه.
قوله تعالى: «ثم إذا كشف الضر عنكم إذا فريق منكم بربهم يشركون» شروع في ذمهم و توبيخهم و ينتهي إلى إيعادهم و حق لهم ذلك لأن الذي يستدعيه كشف الضر عن استغاثتهم و رجوعهم الفطري إلى ربهم أن يوحدوه بالربوبية بعد ما انكشفت لهم الحقيقة باندفاع البلية و نزول الرحمة لكن فريقا منهم تفاجئهم الشقوة فيعودون إلى التعلق بالأسباب فينتبه عندئذ الراقد من رذائل ملكاتهم فيثير لهم الأهواء و يشركون بربهم غيره، و منه الأسباب التي يتعلقون بها، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «ليكفروا بما آتيناهم فتمتعوا فسوف تعلمون» اللام للغاية أي إنهم إنما يشركون بربهم ليكفروا بما أعطيناهم من النعمة بكشف الضر عنهم و لا يشكروه.
و جعل الكفر بالنعمة غاية للشرك إنما هو بدعوى أنهم لا غاية لهم في مسير حياتهم إلا الكفر بنعمة الله و عدم شكره على ما أولى فإن اشتغالهم بالحس و المادة أورثهم في قلوبهم ملكة التعلق بالأسباب الظاهرة و إسناد النعم الإلهية إليها و ضربهم إياها حجابا ثخينا على عرفان الفطرة فأنساهم ذلك توحيد ربهم في ربوبيته فصاروا يذكرون عند كل نعمة أسبابها الظاهرة دون الله، و يتعلقون بها و يخشون انقطاعها و يخضعون لها دون الله فكأنهم بل إنهم لا غاية لهم إلا كفر نعمة الله و عدم شكرها.
فالكفر بالله سبحانه هو غايتهم العامة في كل شأن أبدوه و كل عمل أتوا به فإذا أشركوا بربهم بعد كشف الضر بالخضوع لسائر الأسباب فإنما أشركوا ليكفروا بما آتاهم من النعمة.
و لما كان كفرانهم هذا - و هو كفر دائم يصرون عليه و استكبار على الله، و قد قال تعالى: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7 أثار ذكر ذلك الغضب الإلهي فعدل عن خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم على نعت الغيبة إلى خطابهم و إيعادهم من غير توسيط فقال: «فتمتعوا فسوف تعلمون».
و لم يذكر ما يتمتعون به ليفيد بالإطلاق أن كل ما تمتعوا به سيؤاخذون عليه و لا ينفعهم شيء منه، و لم يذكر ما يعلمونه - و هو لا محالة أمر يسوؤهم - ليكونوا على جهل منه حتى يحل بهم مفاجأة و يبدو لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون و فيه تشديد للإيعاد.
و ذكر بعضهم: أن اللام في قوله: «ليكفروا بما آتيناهم» لام الأمر و المراد به الإيعاد على نحو التعجيز و هو تكلف.
قوله تعالى: «و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم تالله لتسألن عما كنتم تفترون» ذكروا أنه معطوف على سائر جناياتهم التي دلت عليها الآيات السابقة و التقدير أنهم يفعلون ما قصصناه من جناياتهم و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا و الظاهر أن «ما» في «لما لا يعلمون» موصولة و المراد به آلهتهم و ضمير الجمع يعود إلى المشركين و مفعول «لا يعلمون» محذوف و المعنى و يجعل المشركون لآلهتهم التي لا يعلمون من حالها أنها تضر و تنفع نصيبا مما رزقناهم.
و المراد من هذا الجعل ما ذكره سبحانه في سورة الأنعام بقوله: «و جعلوا لله مما ذرأ من الحرث و الأنعام نصيبا فقالوا هذا لله بزعمهم و هذا لشركائنا فما كان لشركائهم فلا يصل إلى الله و ما كان لله فهو يصل إلى شركائهم ساء ما يحكمون»: الأنعام: 136، هذا ما ذكروه و لا يخلو عن تكلف.
و يمكن أن يكون معطوفا على ما مر من قوله: «يشركون» و التقدير إذا فريق منكم بربهم يشركون و يجعلون لما لا يعلمون نصيبا مما رزقناهم، و المراد بما لا يعلمون الأسباب الظاهرة التي ينسبون إليها الآثار على سبيل الاستقلال و هم جاهلون بحقيقة حالها و لا علم لهم جازما أنها تضر و تنفع مع ما يرون من تخلفها عن التأثير أحيانا.
و إنما نسب إليهم أنهم يجعلون لها نصيبا من رزقهم مع أنهم يسندون الرزق إليها بالاستقلال من غير أن يذكروا الله معها و مقتضاه نفي التأثير عنه تعالى رأسا لا إشراكه معها لأن لهم علما فطريا بأن الله سبحانه له تأثير في الأمر و قد ذكر عنهم آنفا أنهم يجأرون إليه عند مس الضر و إذا اعتبر اعترافهم هذا مع إسنادهم التأثير إلى الأسباب أنتج ذلك أن الأسباب عندهم شركاء لله في الرزق و لها نصيب فيه ثم أوعدهم بقوله: «تالله لتسألن عما كنتم تفترون».
قوله تعالى: «و يجعلون لله البنات سبحانه و لهم ما يشتهون» عتاب آخر لهم في حكم حكموا به جهلا من غير علم فاحترموا لأنفسهم و أساءوا الأدب مجترئين على الله سبحانه حيث اختاروا لأنفسهم البنين و كرهوا البنات لكنهم نسبوها إلى الله سبحانه.
فقوله: «و يجعلون لله البنات سبحانه» هو أخذهم الآلهة دون الله أو بعض الآلهة إناثا، و قولهم: إنهن بنات الله، و قد قيل: إن خزاعة و كنانة كانوا يقولون: إن الملائكة بنات الله.
و كانت الوثنية البرهمية و البوذية و الصابئة يثبتون آلهة كثيرة من الملائكة و الجن إناثا و هن بنات الله، و في القرآن الكريم: «و جعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثا»: الزخرف: 19، و قال تعالى: «و جعلوا بينه و بين الجنة نسبا»: الصافات: 158.
و قال الإمام في تفسيره في وجه ذلك: أظن أنهم سموها بنات لاستتارها عن العيون كالنساء كما أنهم أخذوا الشمس مؤنثا لاستتار قرصها بنورها الباهر و ضوئها عن العيون كالمخدرات من النساء و لا يلزم الاطراد في التسمية حتى يلزم مثل ذلك في الجن لاستتارهم عن العيون مع عدم التأنيث.
انتهى ملخصا.
و ذكر بعضهم: أن الوجه في التأنيث كونها مستترة عن العيون مع كونها في محل لا يصل إليه الأغيار فهي كالبنات التي يغار عليهن الرجل فيسكنهن في محل أمين و مكان مكين، و الجن و إن كانوا مستترين عن العيون لكنه على غير هذه الصورة انتهى.
و هذان الوجهان لا يتعديان طور الاستحسان و أنت لو راجعت آراء الوثنية على اختلافهم - و قد تقدم شطر منها في الجزء العاشر من هذا الكتاب - عرفت أن العرب لم تكن مبتكرة في هذه العقيدة بل لها أصل قديم في آراء قدماء الوثنية في الهند و مصر و بابل و اليونان و الروم.
و الإمعان في أصول آرائهم يعطي أنهم كانوا يتخذون الملائكة الذين ينتهي إليهم وجوه الخير في العالم و الجن الذين يرجع إليهم الشرور آلهة يعبدونهم رغبا و رهبا، و هذه المبادىء العالية و القوى الكلية التي هم يحملونها، و بعبارة أخرى هم مظاهر لها تنقسم إلى فاعلة و منفعلة و هم يعتبرون اجتماع الفاعل و المنفعل منها نكاحا و ازدواجا و الفاعل منها أبا و المنفعل منها أما، و المتحصل من اجتماعهما ولدا و ينقسم الأولاد إلى بنين و بنات فمن الآلهة ما هن أمهات و بنات و منها ما هم آباء و بنون.
فلئن كان بعض وثنية العرب قالت: إن الملائكة جميعا بنات الله فقول أرادوا أن يقلدوا فيه من قبلهم جهلا و من غير تثبت.
و قوله: «و لهم ما يشتهون» ظاهر السياق أنه معطوف على «لله البنات» و التقدير و يجعلون لهم ما يشتهون، أي يثبتون لله سبحانه البنات باعتقاد أن الملائكة بناته و يثبتون لأنفسهم ما يشتهون و هم البنون بقتل البنات و وأدها و المحصل أنهم يرضون لله بما لا يرضون به لأنفسهم.
و قيل: إن «ما يشتهون» مبتدأ مؤخر و «لهم» خبر مقدم و الجملة معطوفة على «يجعلون» و على هذا فالجملة مسوقة للتقريع أو الاستهزاء.
و قد وجهوا ذلك بأن عطف الجملة على «لله البنات» غير جائز لمخالفته القاعدة و هي أن الفعل المتعدي إلى المفعول بنفسه أو بحرف جر إذا كان فاعله ضميرا متصلا مرفوعا فإنه لا يتعدى إلى نفس هذا الضمير بنفسه أو بحرف جر إلا بفاصل مثلا إذا ضرب زيد نفسه لم يقل: زيد ضربه و أنت ضربتك و إذا غضب على نفسه لم يقل: زيد غضب عليه، و إنما يقال: زيد ضرب نفسه أو ما ضرب إلا إياه، و زيد غضب على نفسه أو ما غضب إلا عليه إلا في باب ظن و ما ألحق به من فقد و عدم فيجوز أن يقال: زيد ظنه قويا أي نفسه.
و على هذا فلو كان قوله: «و لهم ما يشتهون» معطوفا على قوله: «لله البنات» كان من الواجب أن يقال: «و لأنفسهم ما يشتهون» انتهى محصلا.
و الحق أن التزام هذه القاعدة إنما هو لدفع اللبس و أن تخلل حرف الجر بين الضميرين من الفصل، و في القرآن الكريم: «و هزي إليك بجذع النخلة»: مريم: 25 «و اضمم إليك جناحك»: القصص: 32، و منهم من رد القاعدة من رأس لانتقاضها بالآيتين، و أجابوا أيضا بوجوه أخر لا حاجة بنا إلى ذكرها من أرادها فليراجع التفاسير.
قوله تعالى: «و إذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودا و هو كظيم» اسوداد الوجه كناية عن الغضب، و الكظيم هو الذي يتجرع الغيظ، و الجملة حالية أي ينسبون إلى ربهم البنات و الحال أنهم إذا بشر أحدهم بالأنثى فقيل: ولدت لك بنت اسود وجهه من الغيظ و هو يتجرع غيظه.
قوله تعالى: «يتوارى من القوم من سوء ما بشر به» إلى آخر الآية، التواري الاستخفاء و التخفي و هو مأخوذ من الوراء، و الهون الذلة و الخزي، و الدس الإخفاء.
و المعنى: يستخفي هذا المبشر بالبنت من القوم من سوء ما بشر به على عقيدته و يتفكر في أمره: أ يمسك ما بشر به و هي البنت على ذلة من إمساكه و حفظه أم يخفيه في التراب كما كان ذلك عادتهم في المواليد من البنات كما قيل: إن أحدهم كان يحفر حفيرة صغيرة فإذا كان المولود أنثى جعلها في الحفيرة و حثا عليها التراب حتى تموت تحته و كانوا يفعلون ذلك مخافة الفقر عليهن فيطمع غير الأكفاء فيهن.
و أول ما بدا لهم ذلك أن بني تميم غزوا كسرى فهزمهم و سبى نساءهم و ذراريهم فأدخلهن دار الملك و اتخذ البنات جواري و سرايا ثم اصطلحوا بعد برهة و استردوا السبايا فخيرن في الرجوع إلى أهلهن فامتنعت عدة من البنات فأغضب ذلك رجال بني تميم فعزموا لا تولد لهم أنثى إلا وأدوها و دفنوها حية ثم تبعهم في ذلك بعض من دونهم فشاع بينهم وأد البنات.
و قوله: «ألا ساء ما يحكمون» هو حكمهم أن له البنات و لهم البنون لا لهوان البنات و كرامة البنين في نفس الأمر بل معنى هذا الحكم عندهم أن يكون لله ما يكرهون و لهم ما يحبون، و قيل: المراد بالحكم حكمهم بوجوب وأد البنات و كون إمساكهن هونا، و أول الوجهين أوفق و أنسب للآية التالية.
قوله تعالى: «للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء و لله المثل الأعلى و هو العزيز الحكيم» المثل هو الصفة و منه سمي المثل السائر مثلا لأنه صفة تسير في الألسن و تجري في كل موضع تناسبه و تشابهه.
و السوء - بالفتح و السكون - مصدر ساء يسوء كما أن السوء بالضم اسمه و إضافة المثل إلى السوء تفيد التنويع فإن الأشياء إنما توصف إما من جهة حسنها و إما من جهة سوئها و قبحها فالمثل مثلان: مثل الحسن و مثل السوء.
و الحسن و القبح ربما كانا من جهة الخلقة لا صنع للإنسان و لا مدخل لاختياره فيهما كحسن الوجه و دمامة الخلقة، و ربما لحقا من جهة الأعمال الاختيارية كحسن العدل و قبح الظلم، و إنما يحمد و يذم العقل ما كان من القسم الثاني دون القسم الأول فيدور الحمد و الذم بحسب الحقيقة مدار العمل بما تستحسنه و تأمر به الفطرة الإنسانية من الأعمال التي توصله إلى ما فيه سعادة حياته و ترك العمل بها و هو الذي يتضمنه الدين الحق من أحكام الفطرة.
و من المعلوم أن الطبع الإنساني لا رادع له عن اقتراف العمل السيىء إلا أليم المؤاخذة و شديد العقاب و إذعانه بإيقاعه و إنجازه، و أما الذم فإنه يتبدل مدحا إذا شاع الفعل و خرج بذلك عن كونه منكرا غير معروف.
و من هنا يظهر أن الإيمان بالآخرة و الإذعان بالحساب و الجزاء هو الأصل الوحيد الذي يضمن حفظ الإنسان عن اقتراف الأعمال السيئة و يجيره من لحوق أي ذم و خزي و هو المنشأ الذي يقوم أعمال الإنسان تقويما يحمله على ملازمة طريق السعادة، و لا يؤثر أثره أي شيء آخر من المعارف الأصلية حتى التوحيد الذي إليه ينتهي كل أصل.
و إلى ذلك يشير قوله تعالى: «و لا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص: 26.
فعدم الإيمان بالآخرة و استخفاف أمر الحساب و الجزاء هو مصدر كل عمل سيىء و مورده، و بالمقابلة الإيمان بالآخرة هو منشأ كل حسنة و منبع كل خير و بركة.
فكل مثل سوء و صفة قبح يلزم الإنسان و يلحقه فإنما يأتيه من قبل نسيان الآخرة كما أن كل مثل حسن و صفة حمد بالعكس من ذلك.
و بما تقدم يظهر النكتة في قوله: «للذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء» فقد كان يصفهم في الآيات السابقة بالشرك فلما أراد بيان أن لهم مثل السوء بدل ذلك من وصفهم بعدم إيمانهم بالآخرة.
فالذين لا يؤمنون بالآخرة هم الأصل في عروض كل مثل سوء و صفة قبح فإن ملاكه و هو إنكار الآخرة نعتهم اللازم لهم.
و لو لحق بعض المؤمنين بالآخرة شيء من مثل السوء فإنما يلحقه لنسيان ما ليوم الحساب و المنكرون هم الأصل في ذلك.
هذا في صفات السوء التي يستقبحها العقل و يذمها و هناك صفات سوء لا يستقبحها العقل و إنما يكرهها الطبع كالأنوثة عند قوم و إيلاد البنات عند آخرين و الفقر المالي و المرض و كالموت و الفناء و العجز و الجهل تشترك بين المؤمن و الكافر و صفات أخرى تحليلية كالفقر و الحاجة و النقص و العدم و الإمكان لا تختص بالإنسان بل هي مشتركة بين جميع الممكنات سارية في عامة الخلق، و الكافر يتصف بها كما يتصف بها غيره فالكافر في معرض الاتصاف بكل مثل سوء منها ما يختص به و منها ما يشترك بينه و بين غيره كما بين تفصيلا.
و الله سبحانه منزه من أن يتصف بشيء من هذه الصفات التي هي أمثال السوء أما أمثال السوء التي تتحصل من ناحية سيئات الأعمال مما يستقبحه العقل و يذمه و يجمعها الظلم فلأنه لا يظلم شيئا قال تعالى: «و لا يظلم ربك أحدا»: الكهف: 49، و قال: «و هو الحكيم العليم»: الزخرف: 84، فما قضاه من حكم أو فعله من شيء فهو المتعين في الحكمة لا يصلح بالنظر إلى النظام الجاري في الوجود إلا ذاك.
و أما أمثال السوء مما يستكرهه الطبع أو يحلله العقل فلا سبيل لها إليه تعالى فإنه عزيز مطلق يمتنع جانبه من أن تسرب إليه ذلة فإن له كل القدرة لا يعرضه عجز، و له العلم كله فلا يطرأ عليه جهل، و له محض الحياة لا يهدده موت و لا فناء منزه عن كل نقص و عدم فلا يتصف بصفات الأجسام مما فيه نقص أو فقد أو قصور أو فتور، و الآيات في هذه المعاني كثيرة ظاهرة لا حاجة إلى إيرادها.
فهو سبحانه ذو علو و نزاهة من أن يتصف بشيء من أمثال السوء التي يتصف بها غيره، و لا هذا المقدار من التنزه و التقدس فحسب بل منزه من أن يتصف بشيء من الأمثال الحسنة و الصفات الجميلة الكريمة بمعانيها التي يتصف بها غيره كالحياة و العلم و القدرة و العزة و العظمة و الكبرياء و غيرها، فإن الذي يوجد من هذه الصفات الحسنة الكمالية في الممكنات محدودة متناه مشوب بالفقر و الحاجة مخلوط بالفقدان و النقيصة لكن الذي له سبحانه من الصفات محض الكمال و حقيقته غير محدودة و لا متناه و لا مشوب بنقص و عدم، فله حياة لا يهددها موت، و قدرة لا يعتريها عي و عجز، و علم لا يقارنه جهل، و عزة ليس معها ذلة.
فله المثل الأعلى و الصفة الحسنى، قال تعالى: «و له المثل الأعلى في السماوات و الأرض: الروم: 27، و قال: «له الأسماء الحسنى»: طه: 8، فالأمثال منها دانية و منها عالية و العالية منها أعلى و منها غيره، و الأعلى مثله تعالى و الأسماء سيئة و حسنة و الحسنة منها أحسن و غيره و لله منها ما هو أحسن فافهم ذلك.
فقد تبين بما تقدم معنى كون مثله أعلى، و أن قوله: «و لله المثل الأعلى» مسوق للحصر أي لله المثل الذي هو أعلى دون المثل الذي هو سيىء دان و دون المثل الذي هو حسن عال من صفات الكمال الذي تتصف به الممكنات و ليس بأعلى.
و تبين أيضا أن المثل الأعلى الذي يظهر له تعالى من البيان السابق هو انتفاء جميع الصفات السيئة عنه كما قال: «ليس كمثله شيء»: الشورى: 11، و من الصفات الثبوتية كل صفة حسنة منفيا عنه الحدود و النواقص.
و قوله: «و هو العزيز الحكيم» مسوق لإفادة الحصر و تعليل ما تقدمه أي و هو الذي له كل العزة فلا تعتريه ذلة أصلا لأن كل ذلة فهو فقد عزة ما و ليس يفقد عزة ما، و له كل الحكمة فلا يعرضه جهالة لأنها فقد حكمة ما و ليس يفقد شيئا من الحكمة.
و إذ لا سبيل لذلة و لا جهالة إليه فلا يتصف بشيء من صفات النقص، و لا ينعت بشيء من نعوت الذم و أمثال السوء، لكن الكافر ذليل في ذاته جهول في نفسه فتلحقه و تلازمه صفات النقص و يتصف بصفات الذم و أمثال السوء فللذين لا يؤمنون بالآخرة مثل السوء.
و المؤمن و إن كان ذليلا في ذاته جهولا في نفسه كالكافر إلا أنه لدخوله في ولاية الله أعزه ربه بعزته و أظهره على الجهالة بتأييده بروح منه قال تعالى: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران: 68، و قال: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: المنافقون: 8، و قال: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22.
قوله تعالى: «و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم ما ترك عليها من دابة» إلى آخر الآية.
ضمير «عليها» عائد إلى الأرض لدلالة «الناس» عليها.
و لا يبعد أن يدعى أن السياق يدل على كون المراد بالدابة الإنسان فقط من جهة كونه يدب و يتحرك، و المعنى و لو أخذ الله الناس بظلمهم مستمرا على المؤاخذة ما ترك على الأرض من إنسان يدب و يتحرك، أما جل الناس فإنهم يهلكون بظلمهم و أما الأشذ الأندر و هم الأنبياء و الأئمة المعصومون من الظلم فهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل.
و القوم أخذوا الدابة في الآية بإطلاق معناها و هو كل ما يدب على الأرض من إنسان و حيوان فعاد معنى الآية إلى أنه لو يؤاخذهم بظلمهم لأهلك البشر و كل حيوان على الأرض فتوجه إليه: أن هذا هو الإنسان يهلك بظلمه فما بال سائر الحيوان يهلك و لا ظلم له أو يهلك بظلم من الإنسان؟.
و أوجه ما أجيب به عنه قول بعضهم بإصلاح منا: إن الله تعالى لو أخذهم بظلمهم بكفر أو معصية لهلك عامة الناس بظلمهم إلا المعصومين منهم و أما المعصومون على شذوذهم و قلة عددهم فإنهم لا يوجدون لهلاك آبائهم و أمهاتهم من قبل، و إذا هلك الناس و بطل النسل هلكت الدواب من سائر الحيوان لأنها مخلوقة لمنافع العباد و مصالحهم كما يشعر به قوله تعالى: «خلق لكم ما في الأرض جميعا»: البقرة: 29.
و لهم وجوه أخر في الذب عن الآية على تقدير عموم الدابة فيها لا جدوى في نقلها من أرادها فليراجع مطولات التفاسير.
و احتج بعضهم بالآية على عدم عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، و فيه أن الآية لا تدل على أزيد من أنه تعالى لو أخذ بالظلم لهلك جميع الناس و انقرض النوع، و أما أن كل من يهلك فإنما هلك عن ظلمه فلا دلالة لها عليه فمن الجائز أن يهلك الأكثرون بظلمهم و يفنى الأقلون بفناء آبائهم و أمهاتهم كما تقدم فلا دلالة في الآية على استغراق الظلم الأفراد حتى الأنبياء و المعصومين و إنما تدل على استغراق الفناء.
و ربما قيل في الجواب إن المراد بالناس الظالمون منهم بقرينة قوله: «بظلمهم» فلا يشمل المعصومين من رأس.
و ربما أجيب: أن المراد بالظلم أعم من المعصية التي هي مخالفة الأمر المولوي و ترك الأولى الذي هو مخالفة الأمر الإرشادي و ربما صدر عن الأنبياء (عليهم السلام) كما حكى عن آدم و زوجه: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا»: الأعراف: 23، و غيره من الأنبياء فحسنات الأبرار سيئات المقربين و حينئذ فلا يدل عموم الظلم في الآية للأنبياء على عدم عصمة الأنبياء عن المعصية بمعنى مخالفة الأمر المولوي.
و ربما أجيب بأن إهلاك جميع الناس إنما هو بأن الله يمسك عن إنزال المطر على الأرض لظلم الظالمين من الناس فيهلك به الظالمون و الأولياء و الدواب فإن العذاب إذا نزل لم يفرق بين الشقي و السعيد فيكون على العدو نقمة و نكالا و على غيره محنة و مزيد أجر.
و الأجوبة الثلاثة غير تامة جميعا: أما الأول: فإن اختصاص الناس بالظالمين يوجب اختصاص الهلاك بهم كما ادعي فلا يعم الهلاك المعصومين، و لا موجب حينئذ لهلاك سائر الدواب المخلوقة للإنسان فلا يستقيم قوله: «ما ترك عليها من دابة» كما لا يخفى.
و أما الثاني: فلأن الآيات بما لها من السياق تبحث عن الظلم بمعنى الشرك و سائر المعاصي المولوية فتعميم الظلم في الآية لترك الأولى و خاصة بالنظر إلى ذيل الآية «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى» الظاهر في الإيعاد لا يلائم السياق.
و أما الثالث: فلعدم دليل من جهة اللفظ على ما ذكر فيه.
و قوله: «و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون» استدراك عن مقدر يدل عليه الجملة الشرطية في صدر الآية و التقدير: فلا يعاجل في مؤاخذتهم و لكن يؤخرهم إلى أجل مسمى و الأجل المسمى بالنسبة إلى الفرد من الإنسان موته المحتوم، و بالنسبة إلى الأمة يوم انقراضها و بالنسبة إلى عامة البشر نفخ الصور و قيام الساعة، و لكل منها ذكر في كلامه تعالى قال: «و منكم من يتوفى من قبل و لتبلغوا أجلا مسمى»: المؤمن: 67، و قال: «و لكل أمة أجل فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة و لا يستقدمون»: الأعراف: 34، و قال: «و لو لا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم»: الشورى: 14.
قوله تعالى: «و يجعلون لله ما يكرهون و تصف ألسنتهم الكذب أن لهم الحسنى» إلى آخر الآية، عود إلى نسبة المشركين إليه تعالى البنات و اختيارهم لأنفسهم البنين و هم يكرهون البنات و يحبون البنين و يستحسنونهم.
فقوله: «و يجعلون لله ما يكرهون» يعني البنات و قوله: «و تصف ألسنتهم الكذب» أي تخبر ألسنتهم الخبر الكاذب و هو «أن لهم الحسنى» أي العاقبة الحسنى من الحياة و هي أن يخلفهم البنون، و قيل المراد بالحسنى الجنة على تقدير صحة البعث و صدق الأنبياء فيما يخبرون به كما حكاه عنهم في قوله: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50، و هذا الوجه لا بأس به لو لا ذيل الآية بما سيجيء من معناه.
و قوله: «لا جرم أن لهم النار و أنهم مفرطون» أي المقدمون إلى عذاب النار يقال فرط و أفرط أي تقدم و الإفراط الإسراف في التقدم كما أن التفريط التقصير فيه، و الفرط بفتحتين هو الذي يسبق السيارة لتهيئة المسكن و الماء، و يقال: أفرطه أي قدمه.
و لما كان قولهم كذبا و افتراء إن لله ما يكرهون و لهم الحسنى في معنى دعوى أنهم سبقوا ربهم إلى الحسنى و تركوا له ما يكرهون أوعدهم بحقيقة هذا الزعم جزاء لكذبهم و هو أن لهم النار و أنهم مقدمون إليها حقا و ذلك قوله: «لا جرم أن لهم النار» إلخ.
قوله تعالى: «تالله لقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فزين لهم الشيطان أعمالهم فهو وليهم اليوم و لهم عذاب أليم» ظاهر السياق أن المراد باليوم يوم نزول الآية و المراد بكون الشيطان وليا لهم يومئذ اتفاقهم على الضلال في زمان الوحي و المراد بالعذاب الموعود عذاب يوم القيامة كما هو ظاهر غالب الآيات التي توعد بالعذاب.
و المعنى: تالله لقد أرسلنا رسلنا إلى أمم من قبلك كاليهود و النصارى و المجوس ممن لم ينقرضوا كعاد و ثمود فزين لهم الشيطان أعمالهم فاتبعوه و أعرضوا عن رسلنا فهو وليهم اليوم و هم متفقون على الضلال و لهم يوم القيامة عذاب أليم.
و جوز الزمخشري على هذا الوجه أن يكون ضمير «وليهم» لقريش و المعنى أن الشيطان زين للأمم الماضين أعمالهم و هو اليوم ولي قريش و يبعده لزوم اختلاف الضمائر.
و يمكن أن يكون المراد بالأمم الأمم الماضين و الهالكين فولاية الشيطان لهم اليوم كونهم من أولياء الشيطان في البرزخ و لهم هناك عذاب أليم.
و قيل: المراد باليوم مدة الدنيا فهي يوم الولاية و العذاب يوم القيامة.
و قيل: المراد به يوم القيامة فهناك ولاية الشيطان لهم و لهم هناك عذاب أليم.
و قيل: المراد يوم تزيين الشيطان أعمالهم و هو من قبيل حكاية الحال الماضية.
و أقرب الوجوه أولها ثم التالي فالتالي و الله أعلم.
قوله تعالى: «و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه» إلخ ضمير لهم للمشركين و المراد بالذي اختلفوا فيه هو الحق من اعتقاد و عمل فيكون المراد بالتبين الإيضاح و الكشف لإتمام الحجة، و الدليل على هذا الذي ذكرنا تفريق أمر المؤمنين منهم و إفرادهم بالذكر في قوله: «و هدى و رحمة لقوم يؤمنون».
و المعنى: هذا حال الناس في الاختلاف في المعارف الحقة و الأحكام الإلهية و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتكشف لهؤلاء المختلفين الحق الذي اختلف فيه فيتم لهم الحجة، و ليكون هدى و رحمة لقوم يؤمنون يهديهم الله به إلى الحق و يرحمهم بالإيمان به و العمل.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن عبد الرحمن بن كثير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» قال: الذكر محمد و نحن أهله المسئولون الحديث.
أقول: يشير (عليه السلام) إلى قوله تعالى: «قد أنزل الله عليكم ذكرا رسولا»: الطلاق: 11 و في معناه روايات كثيرة.
و في تفسير البرهان، عن البرقي بإسناده عن عبد الكريم بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال جل ذكره: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» قال: الكتاب الذكر و أهله آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الله عز و جل بسؤالهم و لم يأمر بسؤال الجهال و سمى الله عز و جل القرآن ذكرا فقال تبارك و تعالى «و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم و لعلهم يتفكرون» و قال تعالى: «و إنه لذكر لك و لقومك و سوف تسئلون».
أقول: و هذا احتجاج على كونهم أهل الذكر بأن الذكر هو القرآن و أنهم أهله لكونهم قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآيتان في آخر الكلام للاستشهاد على ذلك كما صرح بذلك في غيره من الروايات، و في معنى الحديث أحاديث أخر.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له إن من عندنا يزعمون أن قول الله تعالى: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» أنهم اليهود و النصارى فقال: إذا يدعونكم إلى دينهم قال ثم قال: بيده إلى صدره: نحن أهل الذكر و نحن المسئولون. قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): الذكر القرآن.
أقول: و روي نظير هذا البيان عن الرضا (عليه السلام) في مجلس المأمون.
و قد مر أن الخطاب في الآية على ما يفيده السياق للمشركين من الوثنيين المحيلين للرسالة أمروا أن يسألوا أهل الذكر و هم أهل الكتب السماوية: هل بعث الله للرسالة رجالا من البشر يوحي إليهم؟ و من المعلوم أن المشركين لما كانوا لا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يكن معنى لإرجاعهم إلى غيره من أهل القرآن لأنهم لم يكونوا يقرون للقرآن أنه ذكر من الله فتعين أن يكون المسئول عنه بالنظر إلى مورد الآية هم أهل الكتاب و خاصة اليهود.
و أما إذا أخذ قوله: «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» في نفسه مع قطع النظر عن المورد و من شأن القرآن ذلك - و من المعلوم أن المورد لا يخصص بنفسه - كان القول عاما من حيث السائل و المسئول و المسئول عنه ظاهرا فالسائل كل من يمكن أن يجهل شيئا من المعارف حقيقية و المسائل من المكلفين، و المسئول عنه جميع المعارف و المسائل التي يمكن أن يجهله جاهل، و أما المسئول فإنه و إن كان بحسب المفهوم عاما فهو بحسب المصداق خاص و هم أهل بيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ذلك أن المراد بالذكر إن كان هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في آية الطلاق فهم أهل الذكر، و إن كان هو القرآن كما في آية الزخرف فهو ذكر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لقومه - و هم قومه أو المتيقن من قومه - فهم أهله و خاصته و هم المسئولون و قد قارنهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالقرآن و أمر الناس بالتمسك بهما في حديث الثقلين المتواتر قائلا: إنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الحديث.
و من الدليل على أن كلامهم (عليهم السلام) من الجهة التي ذكرناها عدم تعرضهم لشيء من خصوصيات مورد الآية.
و مما قدمناه يظهر فساد ما أورده بعضهم على الأحاديث أن المشركين الذين أمروا بالسؤال ما كانوا يقبلون من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكيف يقبلون من أهل بيته؟.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن جابر قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا ينبغي للعالم أن يسكت على علمه، و لا ينبغي للجاهل أن يسكت على جهله و قد قال الله «فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون» فينبغي للمؤمن أن يعرف عمله على هدى أم على خلافه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ فأمن الذين مكروا السيئات إلى قوله بمعجزين» قال: قال (عليه السلام): إذا جاءوا و ذهبوا في التجارات فيأخذهم في تلك الحالة «أو يأخذهم على تخوف» قال: قال: على تيقظ. و في تفسير العياشي، عن سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألت عن قول الله: «و له الدين واصبا» قال: واجبا. و في المعاني، بإسناده عن حنان بن سدير عن الصادق (عليه السلام) في حديث قال (عليه السلام): «و لله المثل الأعلى» الذي لا يشبهه شيء و لا يوصف و لا يتوهم و في الدر المنثور،: في قوله: «و لو يؤاخذ الله الناس بظلمهم» الآية أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو أن الله يؤاخذني و عيسى بن مريم بذنوبنا و في لفظ: بما جنت هاتان الإبهام و التي تليها لعذبنا ما يظلمنا شيئا.
أقول: و الحديث مخالف لما يثبته الكتاب و السنة من عصمة الأنبياء (عليهم السلام) و لا وجه لحمله على إرادة ترك الأولى من الذنوب إذ لا عذاب عليه.
|