بيان
الآيات تذكر عدة أخرى من النعم الإلهية ثم تعطف الكلام إلى ما تكشف عنه من حق القول في وحدانيته تعالى في الربوبية و في البعث و في النبوة و التشريع نظيره القبيل السابق الذي أوردناه من الآيات.
قوله تعالى: «و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا» إلى آخر الآية.
الأمهات جمع أم و الهاء زائدة نظير أهراق و أصله أراق و قد تأتي أمات، و قيل: الأمهات في الإنسان و الأمات في غيره من الحيوان، و الأفئدة جمع قلة للفؤاد و هو القلب و اللب، و لم يبن له جمع كثرة.
و قوله: «و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم» إشارة إلى التولد و «لا تعلمون شيئا» حال من ضمير الخطاب أي أخرجكم من أرحامهن بالتولد و الحال أن نفوسكم خالية من هذه المعلومات التي أحرزتموها من طريق الحس و الخيال و العقل بعد ذلك.
و الآية تؤيد ما ذهب إليه علماء النفس أن لوح النفس خالية عن المعلومات أول تكونها ثم تنتقش فيها شيئا فشيئا - كما قيل - و هذا في غير علم النفس بذاتها فلا يطلق عليه عرفا «يعلم شيئا» و الدليل عليه قوله تعالى في خلال الآيات السابقة فيمن يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم من بعد علم شيئا» فإن من الضروري أنه في تلك الحال عالم بنفسه.
و احتج بعضهم بعموم الآية على أن العلم الحضوري يعني به علم الإنسان بنفسه كسائر العلوم الحصولية مفقود في بادىء الحال حادث بعد ذلك ثم ناقش في أدلة كون علم النفس بذاتها حضوريا مناقشات عجيبة.
و فيه أن العموم منصرف إلى العلم الحصولي و يشهد بذلك الآية المتقدمة.
و قوله: «و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون» إشارة إلى مبادىء العلم الذي أنعم بها على الإنسان فمبدأ التصور هو الحس، و العمدة فيه السمع و البصر و إن كان هناك غيرهما من اللمس و الذوق و الشم، و مبدأ الفكر هو الفؤاد.
قوله تعالى: «أ لم يروا إلى الطير مسخرات في جو السماء ما يمسكهن إلا الله» إلخ، قال في المجمع: الجو الهواء البعيد من الأرض.
انتهى.
يقول: أ لم ينظروا إلى الطير حال كونها مسخرات لله سبحانه في جو السماء و الهواء البعيد من الأرض، ثم استأنف فقال مشيرا إلى ما هو نتيجة هذا النظر: «ما يمسكهن إلا الله».
و إثبات الإمساك لله سبحانه و نفيه عن غيره مع وجود أسباب طبيعية هناك مؤثرة في ذلك و كلامه تعالى يصدق ناموس العلية و المعلولية إنما هو من جهة أن توقف الطير في الجو من دون أن تسقط كيفما كان و إلى أي سبب استند هو و سببه و الرابطة التي بينهما جميعا مستندة إلى صنعه تعالى فهو الذي يفيض الوجود عليه و على سببه و على الرابطة التي بينهما فهو السبب المفيض لوجوده حقيقة و إن كان سببه الطبيعي القريب معه يتوقف هو عليه.
و معنى توقفه في وجوده على سببه ليس أن سببه يفيد وجوده بعد ما استفاد وجود نفسه منه تعالى بل أن هذا المسبب يتوقف في أخذه الوجود منه تعالى إلى أخذ سببه الوجود منه تعالى قبل ذلك، و قد تقدم بعض الكلام في توضيح ذلك من قريب.
و هذا معنى توحيد القرآن، و الدليل عليه من جهة لفظه أمثال قوله: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54، و قوله: «أن القوة لله جميعا»: البقرة: 165، و قوله: «الله خالق كل شيء»: الزمر: 62، و قوله: «إن الله على كل شيء قدير»: النحل: 77. و الدليل على ما قدمناه في معنى النفي و الإثبات في الآية قوله تعالى: «مسخرات» فإن التسخير إنما يتحقق بقهر أحد السببين الآخر في فعله على ما يريده السبب القاهر ففي لفظه دلالة على أن للمقهور نوعا من السببية.
و ليس طيران الطائر في جو السماء بالحقيقة بأعجب من سكون الإنسان في الأرض فالجميع ينتهي إلى صنعه تعالى على حد سواء لكن ألفة الإنسان لبعض الأمور و كثرة عهده به توجب خمود قريحة البحث عنه فإذا صادف ما يخالف ما ألفه و كثر عهده به كالمستثنى من الكلية انتبه لذلك و انتزعت القريحة للبحث عنه و الإنسان يرى الأجسام الأرضية الثقيلة معتمدة على الأرض مجذوبة إليها فإذا وجد الطير مثلا تنقض كلية هذا الحكم بطيرانها تعجب منه و انبسط للبحث عنه و الحصول على علته، و للحق نصيب من هذا البحث و هذا هو أحد الأسباب في أخذ هذا النوع من الأمور في القرآن مواد للاحتجاج.
و قوله: «إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون» أي في كونها مسخرات في جو السماء فإن للطير و هو في الجو دفيفا و صفيفا و بسطا لأجنحتها و قبضا و سكونا و انتقالا و صعودا و نزولا و هي جميعا آيات لقوم يؤمنون كما ذكره الله.
قوله تعالى: «و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا» إلى آخر الآية، في المفردات: البيت مأوى الإنسان بالليل لأنه يقال: بات أقام بالليل كما يقال: ظل بالنهار.
ثم قد يقال: للمسكن بيت من غير اعتبار الليل فيه، و جمعه أبيات و بيوت لكن البيوت بالمسكن أخص و الأبيات بالشعر، قال: و يقع ذلك على المتخذ من حجر و مدر و صوف و وبر.
انتهى موضع الحاجة.
و السكن ما يسكن إليه، و الظعن الارتحال و هو خلاف الإقامة، و الصوف للضأن و الوبر للإبل كالشعر للإنسان و يسمى ما للمعز شعرا كالإنسان، و الأثاث متاع البيت الكثير و لا يقال للواحد منه أثاث، قال في المجمع: و لا واحد للأثاث كما أنه لا واحد للمتاع.
انتهى.
و المتاع أعم من الأثاث فإنه مطلق ما يتمتع به و لا يختص بما في البيت.
و قوله: «و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا» أي جعل لكم بعض بيوتكم سكنا تسكنون إليه، و من البيوت ما لا يسكن إليه كالمتخذ لادخار الأموال و اختزان الأمتعة و غير ذلك و قوله: «و جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا» إلخ، أي من جلودها بعد الدبغ و هي الأنطاع و الأدم «بيوتا» و هي القباب و الخيام «تستخفونها» أي تعدونها خفيفة من جهة الحمل «يوم ظعنكم» و ارتحالكم «و يوم إقامتكم» من غير سفر و ظعن.
و قوله: «و من أصوافها و أوبارها و أشعارها» إلخ، معطوف على موضع «من جلود» أي و جعل لكم «من أصوافها» و هي للضأن و «أوبارها» و هي للإبل «و أشعارها» و هي للمعز «أثاثا» تستعملونه في بيوتكم «و متاعا» تتمتعون به «إلى حين» محدود، قيل: و فيه إشارة إلى أنها فانية داثرة فلا ينبغي للعاقل أن يختارها على نعيم الآخرة.
قوله: «تعالى و الله جعل لكم مما خلق ظلالا» إلى آخر الآية، الظرفان أعني قوله: «لكم» و «مما خلق» متعلقان بجعل و تعليق الظلال بما خلق لكونها أمرا عدميا محققا بتبع غيره و هي مع ذلك من النعم العظيمة التي أنعم الله بها على الإنسان و سائر الحيوان و النبات فما الانتفاع بالظل للإنسان و غيره بأقل من الانتفاع بالنور و لو لا الظل و هو ظل الليل و ظل الأبنية و الأشجار و الكهوف و غيرها لما عاش على وجه الأرض عائش.
و قوله: «و جعل لكم من الجبال أكنانا» الكن ما يستتر به الشيء حتى أن القميص كن للابسه، و أكنان الجبال هي الكهوف و الثقب الموجودة فيها.
و قوله: «و جعل لكم سرابيل تقيكم الحر» أي قميصا يحفظكم من الحر، قال في المجمع:، و لم يقل: و تقيكم البرد لأن ما وقى الحر وقى البرد، و إنما خص الحر بذلك مع أن وقايتها للبرد أكثر لأن الذين خوطبوا بذلك أهل حر في بلادهم فحاجتهم إلى ما يقي الحر أكثر، عن عطاء.
قال: على أن العرب يكتفي بذكر أحد الشيئين عن الآخر للعلم به قال الشاعر: و ما أدري إذا يممت أرضا.
أريد الخير أيهما يليني.
فكنى عن الشر و لم يذكره لأنه مدلول عليه، ذكره الفراء انتهى.
و لعل بعض الوجه في ذكره الحر و الاكتفاء به أن البشر الأولى كانوا يسكنون المناطق الحارة من الأرض فكان شدة الحر أمس بهم من شدة البرد و تنبههم لاتخاذ السراويل إنما هو للاتقاء مما كان الابتلاء به أقرب إليهم و هو الحر و الله أعلم.
و قوله: «و سرابيل تقيكم بأسكم» الظاهر أن المراد به درع الحديد و نحوه.
و قوله: «كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون» امتنان عليهم بإتمام النعم التي ذكرها، و كانت الغاية المرجوة من ذلك إسلامهم لله عن معرفتها فإن المترقب المتوقع ممن يعرف النعم و إتمامها عليه أن يسلم لإرادة منعمه و لا يقابله بالاستكبار لأن منعما هذا شأنه لا يريد به سوء.
قوله تعالى: «فإن تولوا فإنما عليك البلاغ المبين» قال في المجمع:، البلاغ الاسم و التبليغ المصدر مثل الكلام و التكليم، انتهى.
لما فرغ عن ذكر ما أريد ذكره من النعم و الاحتجاج بها ختمها بما مدلولها العتاب و اللوم و الوعيد على الكفر و يتضمن ذكر وحدانيته تعالى في الربوبية و المعاد و النبوة و بدأ ذلك ببيان وظيفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في رسالته و هو البلاغ فقال: «فإن تولوا» أي يتفرع على هذا البيان الذي ليس فيه إلا دعوتهم إلى ما فيه صلاح معاشهم و معادهم من غير أن يتبعه إجبار أو إكراه أنهم إن تولوا و أعرضوا عن الإصغاء إليه و الاهتداء به «فإنما عليك البلاغ المبين» و التبليغ الواضح الذي لا إبهام فيه و لا ستر عليه لأنك رسول و ما على الرسول إلا ذلك.
و في الآية تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بيان وظيفة له.
قوله تعالى: «يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها و أكثرهم الكافرون» المعرفة و الإنكار متقابلان كالعلم و الجهل و هذا هو الدليل على أن المراد بالإنكار و هو عدم المعرفة لازم معناه و هو الإنكار في مقام العمل و هو عدم الإيمان بالله و رسوله و اليوم الآخر أو الجحود لسانا مع معرفتها قلبا، لكن قوله: «و أكثرهم الكافرون» يخص الجحود بأكثرهم كما سيجيء فيبقى للإنكار المعنى الأول.
و قوله: «و أكثرهم الكافرون» دخول اللام على «الكافرون» يدل على الكمال أي إنهم كافرون بالنعم الإلهية أو بما تدل عليه من التوحيد و غيره جميعا لكن أكثرهم كاملون في كفرهم و ذلك بالجحود عنادا و الإصرار عليه و الصد عن سبيل الله.
و المعنى: يعرفون نعمة الله بعنوان أنها نعمة منه و مقتضاه أن يؤمنوا به و برسوله و اليوم الآخر و يسلموا في العمل ثم إذا وردوا مورد العمل عملوا بما هو من آثار الإنكار دون المعرفة، و أكثرهم لا يكتفون بمجرد الإنكار العملي بل يزيدون عليه بكمال الكفر و العناد مع الحق و الجحود و الإصرار عليه.
و فيما قدمناه كفاية لك عما أطال فيه المفسرون في معنى قوله: «و أكثرهم الكافرون» مع أنهم جميعا كافرون بإنكارهم من قول بعضهم، إنما قال: «أكثرهم» لأن منهم من لم تقم عليه الحجة كمن لم يبلغ حد التكليف أو كان مئوفا في عقله أو لم تصل إليه الدعوة فلا يقع عليه اسم الكفر.
و فيه أن هؤلاء خارجون عن إطلاق الآية رأسا فإنها تذكر توبيخا و إيعادا أنهم ينكرون نعمة الله بعد ما عرفوها، و هؤلاء إن كانوا ينكرونها كانوا بذلك كافرين و إن لم ينكروها لم يدخلوا في إطلاق الآية قطعا، و كيف يصح أن يقال: إنهم لم تقم عليهم الحجة و ليست الحجة إلا النعمة التي يعدها الله سبحانه و هم يعرفونها؟.
و قول بعضهم: إنما قال: «و أكثرهم الكافرون» لأنه كان يعلم أن فيهم من سيؤمن، و فيه أنه قول لا دليل عليه.
و قول بعضهم: إن المراد بالأكثر الجميع و إنما عدل عن البعض احتقارا له أن يذكره، و نسب إلى الحسن البصري، و هو قول عجيب.
قيل: و في الآية دليل على فساد قول المجبرة إنه ليس لله على الكافر نعمة و إن جميع ما فعله بهم إنما هو خذلان و نقمة لأنه سبحانه نص في هذه الآية على خلاف قولهم، انتهى.
و الحق أن للنعمة اعتبارين: أحدهما كونها نعمة أي ناعمة ملائمة لحال المنعم عليه من حيث كونه في صراط التكوين أي من حيث سعادته الجسمية، و الآخر من حيث وقوع المنعم عليه في صراط التشريع أي من حيث سعادته الروحية الإنسانية بأن تكون النعمة بحيث توجب معرفتها إيمانه بالله و رسوله و اليوم الآخر و استعمالها في طريق مرضاة الله، و المؤمن منعم بالنعمتين كلتيهما و الكافر منعم في الدنيا بالطائفة الأولى محروم من الثانية، و في كلامه سبحانه شواهد كثيرة تشهد على ذلك.
قوله تعالى: «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون» قال في المجمع:، قال الزجاج: و العتب الموجدة يقال: عتب عليه يعتب إذا وجد عليه فإذا فاوضه ما عتب عليه قالوا: عاتبه، و إذا رجع إلى مسرته قيل: أعتب، و الاسم العتبي و هو رجوع المعتوب عليه إلى ما يرضي العاتب، و استعتبه طلب منه أن يعتب.
انتهى.
و قوله: «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا» يفيد السياق أن المراد بهذا اليوم يوم القيامة، و بهؤلاء الشهداء الذين يبعث كل واحد منهم من أمة، شهداء الأعمال الذين تحملوا حقائق أعمال أمتهم في الدنيا و هم يستشهد بهم و يشهدون عليهم يوم القيامة و قد تقدم بعض الكلام في معنى هذه الشهادة في تفسير قوله: «لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»: البقرة: 143 في الجزء الأول من الكتاب.
و لا دلالة في لفظ الآية على أن المراد بشهيد الأمة نبيها، و لا أن المراد بالأمة أمة الرسول فمن الجائز أن يكون غير النبي من أمته كالإمام شهيدا كما يدل عليه آية البقرة السابقة و قوله تعالى: «و جيء بالنبيين و الشهداء»: الزمر: 69، و على هذا فالمراد بكل أمة أمة الشهيد المبعوث و أهل زمانه.
و قوله: «ثم لا يؤذن للذين كفروا و لا هم يستعتبون» ذكر بعث شهداء الأمم دليل على أنهم يشهدون على أممهم بما عملوا في الدنيا، و قرينة على أن المراد من نفي الإذن للكافرين أنهم لا يؤذن لهم في الكلام و هو الاعتذار لا محالة و نفي الإذن في الكلام إنما هو تمهيد لأداء الشهود شهادتهم كما تلوح إليه آيات أخر كقوله: «اليوم نختم على أفواههم و تكلمنا أيديهم و تشهد أرجلهم»: يس: 65، و قوله: «هذا يوم لا ينطقون و لا يؤذن لهم فيعتذرون»: المرسلات: 36.
على أن سياق قوله: «ثم لا يؤذن» إلخ، يفيد أن المراد بهذا الذي ذكر نفي ما يتقى به الشر يومئذ من الحيل و بيان أنه لا سبيل إلى تدارك ما فات منهم و إصلاح ما فسد من أعمالهم في الدنيا يومئذ و هو أحد أمرين: الاعتذار أو استئناف العمل، أما الثاني فيتكفله قوله: «و لا هم يستعتبون» و لا يبقى للأول و هو الاعتذار بالكلام إلا قوله: «ثم لا يؤذن للذين كفروا».
و من هنا يظهر أن قوله: «و لا هم يستعتبون» أي لا يطلب منهم أن يعتبوا الله و يرضوه بيان لعدم إمكان تدارك ما فات منهم بتجديد العمل و الرجوع إلى السمع و الطاعة فإن اليوم يوم جزاء لا يوم عمل و لا سبيل إلى رجوعهم القهقرى إلى الدنيا حتى يعملوا صالحا فيجزوا به.
و قد بين سبحانه ذلك في مواضع أخرى من كلامه بلسان آخر كقوله تعالى: «يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون، خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون»: القلم: 43، و قوله: «و لو ترى إذ المجرمون ناكسوا رءوسهم عند ربهم ربنا أبصرنا و سمعنا فارجعنا نعمل صالحا إنا موقنون»: الم السجدة: 12. قوله تعالى: «و إذا رءا الذين ظلموا العذاب فلا يخفف عنهم و لا هم ينظرون» كانت الآية السابقة بالحقيقة مسوقة لبيان الفرق بين يوم الجزاء الذي هو يوم القيامة و بين سائر ظروف الجزاء في الدنيا بأن جزاء يوم القيامة لا يرتفع و لا يتغير باعتذار و لا باستعتاب، و هذه الآية بيان فرق عذاب اليوم مع العذابات الدنيوية التي تتعلق بالظالمين في الدنيا فإنها تقبل بوجه التخفيف أو الإنظار بتأخير ما و عذاب يوم القيامة لا يقبل تخفيفا و لا إنظارا.
فقوله: «و إذا رءا الذين ظلموا العذاب» ذكر الظلم في الصلة دون الكفر و نحوه للدلالة على سبب الحكم و ملاكه، و المراد برؤية العذاب إشرافه عليهم و إشرافهم عليه بعد فصل القضاء كما يفيده السياق، و المراد بالعذاب عذاب يوم القيامة و هو عذاب النار.
و المعنى - و الله أعلم - و إذا قضي الأمر بعذابهم و أشرفوا على العذاب بمشاهدة النار فلا مخلص لهم عنه بتخفيف أو بإنظار و إمهال.
قوله تعالى: «و إذا رءا الذين أشركوا شركاءهم» إلى آخر الآية، مضي في حديث يوم البعث، و قوله: «و إذا رءا الذين أشركوا» و هم في عرف القرآن عبدة الأصنام و الأوثان قرينة على أن المراد بقوله: «شركاءهم» الذين أشركوهم بالله زعما منهم أنهم شركاء لله و افتراء و يدل أيضا عليه ذيل الآية و الآية التالية.
فتسميتهم شركاءهم و هم يسمونهم شركاء الله للدلالة بها على أن ليس لهم من الشركة إلا الشركة بجعلهم بحسب وهمهم فليس لإشراكهم شركاءهم من الحقيقة إلا أنها لا حقيقة لها.
و بذلك يظهر أن تفسير شركائهم بالأصنام أو بالمعبودات الباطلة و أنهم إنما عدوا شركائهم لأنهم جعلوا لها نصيبا من أموالهم و أنعامهم، أو الشياطين لأنهم شاركوهم في الأموال و الأولاد أو شركاؤهم في الكفر و هم الذين كفروا مثل كفرهم أو شاركوهم في وبال كفرهم، كل ذلك في غير محله و لا نطيل بالمناقشة في كل واحد منها.
و قوله: «قالوا ربنا هؤلاء شركاؤنا الذين كنا ندعوا من دونك» معناه ظاهر و هو تعريف منهم إياهم لربهم، و لا حاجة إلى البحث عن غرض المشركين في تعريفهم فإن اليوم يوم أحاط بهم الشقاء و العذاب من كل جانب، و الإنسان في مثل ذلك يلوي إلى كل ما يخطر بباله من طرق السعي في خلاص نفسه و تنفيس كربه.
و قوله: «فألقوا إليهم القول إنكم لكاذبون» قال في المجمع:، تقول: ألقيت الشيء إذا طرحته، و اللقى الشيء الملقى، و ألقيت إليه مقالة إذا قلتها له، و تلقاها إذا قبلها، انتهى.
و المعنى: أن شركائهم ردوا إليهم و كذبوهم، و قد عبر سبحانه في موضع آخر عن هذا التكذيب بالكفر كقوله: «و يوم القيامة يكفرون بشرككم»: فاطر: 14 و قوله حكاية عن مخاطبة الشيطان لهم يوم القيامة «إني كفرت بما أشركتمون من قبل»: إبراهيم: 22.
قوله تعالى: «و ألقوا إلى الله يومئذ السلم و ضل عنهم ما كانوا يفترون» السلم الإسلام و الاستسلام، و كان في التعبير بإلقاء السلم إشارة إلى انضمام شيء من الخضوع و المقهورية بالقهر الإلهي إلى سلمهم.
و ضمير «ألقوا» عائد إلى الذين أشركوا بقرينة قوله بعد «و ضل عنهم ما كانوا يفترون» فالمراد أن المشركين يسلمون يوم القيامة لله و قد كانوا يدعون إلى الإسلام في الدنيا و هم يستكبرون.
و ليس المراد بإلقاء السلم هذا يوم القيامة هو انكشاف الحقيقة و ظهور الوحدانية و هو مدلول قوله في صفة يوم القيامة: «و يعلمون أن الله هو الحق المبين»: النور: 25، لأن العلم بثبوت شيء أمر، و التسليم و الإيمان بثبوته أمر آخر كما يظهر من قوله تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14.
و مجرد العلم بأن الله هو الحق لا يكفي في سعادة الإنسان بل تحتاج في تمامها إلى تسليمه و الإيمان به بترتيب آثاره عليه ثم من التسليم و الإيمان ما كان عن طوع و اختيار و منه ما كان عن كره و اضطرار، و الذي ينفع في السعادة هو التسليم و الإيمان عن اختيار و موطن الاختيار الدنيا التي هي دار العمل دون الآخرة التي هي دار الجزاء.
و هم لم يسلموا للحق ما داموا في الدنيا و إن أيقنوا به حتى إذا وردوا الدار الآخرة و أوقفوا موقف الحساب عاينوا أن الله هو الحق المبين، و أن عذاب الشقاء أحاط بهم من كل جانب أسلموا للحق و هم مضطرون و ليس ينفعهم، و إلى هذا العلم و التسليم الاضطراري يشير قوله تعالى: «يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين»: النور: 25، فصدر الآية يخبر عن إسلامهم لأنه الدين الحق، قال تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران: 19، و ذيل الآية عن انكشاف الحق لهم و ظهور الحقيقة عليهم.
و الآية المبحوث عنها أعني قوله: «و ألقوا إلى الله يومئذ السلم و ضل عنهم ما كانوا يفترون» صدرها يشير إلى إسلامهم و ذيلها إلى كون ذاك الإسلام اضطراريا لا ينفعهم لأنهم كانوا يرون لله ألوهية و لشركائهم ألوهية فاختاروا تسليم شركائهم و عبادتهم على التسليم لله ثم لما ظهر لهم الحق يوم القيامة و كذبهم شركائهم بطل ما زعموه و ضل عنهم ما افتروه فلم يبق للتسليم إلا الله سبحانه فسلموا له مضطرين و انقادوا له كارهين.
قوله تعالى: «الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله زدناهم عذابا فوق العذاب بما كانوا يفسدون» استئناف متعرض لحال أئمة الكفر بالخصوص بعد ما أشار إلى حال عامة الظالمين و المشركين في الآيات السابقة.
و السامع إذا سمع ما شرحه الله من حالهم يوم القيامة في هذه الآيات و أنهم معذبون جميعا من غير أن يخفف عنهم أو ينظروا فيه، و قد سمع منه أن منهم طائفة هم أشد كفرا و أشقى من غيرهم إذ يقول: «و أكثرهم الكافرون» خطر بباله طبعا أنهم هل يساوون غيرهم في العذاب الموعود و هم يزيدون عليهم في السبب و هو الكفر.
فاستؤنف الكلام جوابا عن ذلك فقيل: «الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله» بالعناد و اللجاج فاكتملوا في الكفر و اقتدى بهم غيرهم «زدناهم عذابا» و هو الذي للصد و هم يختصون به «فوق العذاب» و هو الذي بإزاء مطلق الظلم و الكفر و يشاركون فيه عامة إخوانهم، و كان اللام في العذاب للعهد الذكري يشار بها إلى ما ذكر في قوله: «و إذا رءا الذين ظلموا العذاب» إلخ، «بما كانوا يفسدون» تعليل لزيادة العذاب.
و من هنا يظهر أن المراد بالإفساد الواقع في التعليل هو الصد لأنه الوصف الذي يزيدون به على غيرهم و هو إفساد الغير بصرفه عن سبيل الله، و بتقرير آخر: إفساد في الأرض بالمنع عن انعقاد مجتمع صالح كان من المترقب حصوله بإقبال أولئك المصروفين على دين الله و سلوك سبيله.
قوله تعالى: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم و جئنا بك شهيدا على هؤلاء» إلخ، صدر الآية تكرار ما تقدم قبل بضع آيات من قوله: «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا» غير أنه كان هناك توطئة و تمهيدا لحديث عدم الإذن لهم في الكلام يومئذ، و هو هاهنا توطئة و تمهيد لذكر شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) لهؤلاء يومئذ و هو في الموضعين مقصود لغيره لا لنفسه.
و كيف كان فقوله: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم» يدل على بعث واحد في كل أمة للشهادة على أعمال غيره و هو غير البعث بمعنى الإحياء للحساب بل بعث بعد البعث، و إنما جعل من أنفسهم ليكون أتم للحجة و أقطع للمعذرة كما يفيده السياق و ذكره المفسرون حتى أنهم ذكروا شهادة لوط على قومه و لم يكن منهم نسبا و وجهوه بأنه كان تأهل فيهم و سكن معهم فهو معدود منهم.
و قوله: «و جئنا بك شهيدا على هؤلاء» يفيد أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على هؤلاء، و استظهروا أن المراد بهؤلاء هم أمته، و أيضا أنهم قاطبة من بعث إليه من لدن عصره إلى يوم القيامة ممن حضره و من غاب و من عاصره و من جاء بعده من الناس.
و آيات الشهادة من معضلات آيات القيامة على ما في جميع آيات القيامة من الإعضال و صعوبة المنال، و قد تقدم في ذيل قوله: «لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»: البقرة: 143 في الجزء الأول من الكتاب نبذة من الكلام في معنى هذه الشهادة.
و من الواجب قبل الورود في بحث الشهادة و سائر الأمور التي تصفها الآيات ليوم القيامة كالجمع و الوقوف و السؤال و الميزان و الحساب أن يعلم أنه تعالى يعد في كلامه هذه الأمور في عداد الحجج التي تقام يوم القيامة على الإنسان لتثبيت ما عمله من خير أو شر و القضاء عليه بما ثبت بالحجة القاطعة للعذر و المنيرة للحق ثم المجازاة بما يستوجبه القضاء من سعادة أو شقاء و جنة أو نار، و هذا من أوضح ما يستفاد من آيات القيامة الشارحة لشئون هذا اليوم و ما يواجه الناس منها.
و هذا أصل مقتضاه أن يكون بين هذه الحجج و أجزائها و نتائجها روابط حقيقية بينة يضطر العقل إلى الإذعان بها، و لا يسع للإنسان بما عنده من الشعور الفطري ردها و لا الشك و الارتياب فيها.
و على هذا فمن الواجب أن تكون الشهادة القائمة هناك بإقامة منه تعالى مشتملة من الحقيقة على ما لا سبيل للمناقشة فيها، و الله سبحانه لو أمر أشقى الناس على أن يشهد على الأولين و الآخرين بما عملوه باختيار من الشاهد أو يخلق الشهادة في لسانه بلا إرادة منه، أو أن يشهد بما عملوه من غير أن يكون قد تحملها في الدنيا و شهدها شهود عيان بل معتمدا على إعلام من الله أو ملائكته أو على حجة ثم أمضى تعالى ذلك و أنفذه و جازى به محتجا في جميع ذلك بشهادته ثانيا عليها لم يكن ذلك مما لا تطيقه سعة قدرته و لا يسعه نفوذ إرادته و لا استطاع أحد أن ينازعه في ملكه أو يعقب حكمه أو يغلبه على أمره.
لكنها حجة تحكمية غير تامة لا تقطع بالحقيقة عذرا و لا تدفع ريبا نظير التحكمات التي نجدها من جبابرة الإنسان و الطواغيت العابثين بالحق و الحقيقة و كيف يتصور لمثل هذه الحجج المختلقة عين أو أثر يوم لا عين فيه إلا للحق و لا أثر فيه إلا للحقيقة؟.
و على هذا فمن الواجب أن يكون هذا الشهيد ذا عصمة إلهية يمتنع عليه الكذب و الجزاف، و أن يكون عالما بحقائق الأعمال التي يشهد عليها لا بظاهر صورها و هيئاتها المحسوسة بل بحقيقة ما انعقدت عليه في القلوب، و أن يستوي عنده الحاضر و الغائب من الناس كما تقدمت الإشارة إليه في تفسير آية سورة البقرة.
و من الواجب أن تكون شهادته شهادة عن معاينة كما هو ظاهر لفظ الشهيد و ظاهر تقييده بقوله: «من أنفسهم» في قوله: «شهيدا عليهم من أنفسهم» غير مستندة إلى حجة عقلية أو دليل سمعي.
و يشهد به قوله تعالى حكاية عن المسيح (عليه السلام): و كنت شهيدا عليهم ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم و أنت على كل شيء شهيد»: المائدة: 117.
و بهذا تتلاءم الآيتان مضمونا أعني قوله: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم و جئنا بك شهيدا على هؤلاء» و قوله.
و كذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»: البقرة: 143.
فإن ظاهر آية البقرة أن بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين الناس الذين هم عامة من بعث إليهم من زمانه إلى يوم القيامة شهداء يشهدون على أعمالهم، و أن الرسول إنما هو شهيد على هؤلاء الشهداء دون سائر الناس إلا بواسطتهم، و لا ينبغي أن يتوهم أن الأمة هم المؤمنون و غيرهم الناس و هم خارجون من الأمة فإن ظاهر الآية السابقة في السورة: «و يوم نبعث من كل أمة شهيدا ثم لا يؤذن للذين كفروا» الآية أن الكفار من الأمة المشهود عليهم.
و لازم ذلك أن يكون المراد بالأمة في الآية المبحوث عنها: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم» جماعة الناس من أهل عصر واحد يشهد أعمالهم شهيد واحد، و يكون حينئذ الأمة التي بعث إليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منقسمة إلى أمم كثيرة.
و يكون المراد بالشهيد الإنسان المبعوث بالعصمة و المشاهدة كما تقدم و يؤيده قوله: «من أنفسهم» إذ لو لا المشاهدة لم يكن لكونه من أنفسهم وقع، و لا لتعدد الشهداء بتعدد الأمم وجه فلكل قوم شهيد من أنفسهم سواء كان نبيا لهم أو غير نبيهم فلا ملازمة كما يؤيده قوله: «و جيء بالنبيين و الشهداء»: الزمر: 69.
و يكون المراد بهؤلاء في قوله: «و جئنا بك شهيدا على هؤلاء» الشهداء دون عامة الناس فالشهداء شهداء على الناس و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على الشهداء و ظاهر الشهادة على الشاهد تعديله دون الشهادة على عمله فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) شهيد على مقامهم لا على أعمالهم و لذلك لم يكن من الواجب أن يعاصرهم و يتحد بهم زمانا فافهم ذلك.
و الإنصاف أنه لو لا هذا التقريب لم يرتفع ما يتراءى ما في آيات الشهادة من الاختلاف كدلالة آية البقرة، و قوله: «ليكون الرسول شهيدا عليكم و تكونوا شهداء على الناس»: الحج: 78، على كون الأمة هم المؤمنين، و دلالة غيرهما على الأعم، و دلالتهما على أن النبي إنما هو شهيد على الشهداء، و أن بينه و بين الناس شهداء و دلالة غيرهما على خلافه و أن على الناس شهيدا واحدا هو نبيهم لأن المفروض حينئذ أن شهيد كل أمة هو نبيهم، و كون أخذ الشهيد من أنفسهم لغوا لا أثر له مع عدم لزوم الحضور و المعاصرة و أن الشهادة إنما تكون من حي كما في الكلام المحكي عن المسيح (عليه السلام) و إشكالات أخرى تتوجه على نجاح الحجة و مضيها، تقدمت الإشارة إليها و الله الهادي.
و قوله: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين» ذكروا أنه استئناف يصف القرآن بكرائم صفاته فصفته العامة أنه تبيان لكل شيء و التبيان و البيان واحد - كما قيل - و إذ كان كتاب هداية لعامة الناس و ذلك شأنه كان الظاهر أن المراد بكل شيء كل ما يرجع إلى أمر الهداية مما يحتاج إليه الناس في اهتدائهم من المعارف الحقيقية المتعلقة بالمبدإ و المعاد و الأخلاق الفاضلة و الشرائع الإلهية و القصص و المواعظ فهو تبيان لذلك كله.
و من صفته الخاصة أي المتعلقة بالمسلمين الذين يسلمون للحق أنه هدى يهتدون به إلى مستقيم الصراط و رحمة لهم من الله سبحانه يحوزون بالعمل بما فيه خير الدنيا و الآخرة و ينالون به ثواب الله و رضوانه، و بشرى لهم يبشرهم بمغفرة من الله و رضوان و جنات لهم فيها نعيم مقيم.
هذا ما ذكروه و هو مبني على ما هو ظاهر التبيان من البيان المعهود من الكلام و هو إظهار المقاصد من طريق الدلالة اللفظية فإنا لا نهتدي من دلالة لفظ القرآن الكريم إلا على كليات ما تقدم، لكن في الروايات ما يدل على أن القرآن فيه علم ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و لو صحت الروايات لكان من اللازم أن يكون المراد بالتبيان الأعم مما يكون من طريق الدلالة اللفظية فلعل هناك إشارات من غير طريق الدلالة اللفظية تكشف عن أسرار و خبايا لا سبيل للفهم المتعارف إليها.
و الظاهر على ما يستفاد من سياق هذه الآيات المسوقة للاحتجاج على الأصول الثلاثة: التوحيد و النبوة و المعاد، و الكلام فيها ينعطف مرة بعد أخرى عليها أن قوله: «و نزلنا عليك الكتاب» إلخ، ليس باستئناف بل حال عن ضمير الخطاب في «جئنا بك» بتقدير «قد» أو بدون تقديرها - على الخلاف بين النحاة في الجملة الحالية المصدرة بالفعل الماضي.
و المعنى: و جئنا بك شهيدا على هؤلاء و الحال أنا نزلنا عليك من قبل في الدنيا الكتاب و هو بيان لكل شيء من أمر الهداية يعلم به الحق من الباطل فيتحمل شهادة أعمالهم فيشهد يوم القيامة على الظالمين بما ظلموا و على المسلمين بما أسلموا لأن الكتاب كان هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت أنت بذلك هاديا و رحمة و مبشرا لهم.
و على هذا فصدر الآية كالتوطئة لذيلها كأنه قيل: سيبعث شهداء يشهدون على الناس بأعمالهم و أنت منهم و لذلك نزلنا عليك كتابا يبين الحق و الباطل و يميز بينهما حتى تشهد به يوم القيامة على الظالمين بظلمهم و قد تبين الكتاب و على المسلمين بإسلامهم و قد كان الكتاب هدى و رحمة و بشرى لهم و كنت هاديا و رحمة و مبشرا به.
و من لطيف ما يؤيد هذا المعنى مقارنة الكتاب بالشهادة في بعض آيات الشهادة كقوله: «و أشرقت الأرض بنور ربها و وضع الكتاب و جيء بالنبيين و الشهداء:» الزمر: 69، و سيجيء إن شاء الله أن المراد به اللوح المحفوظ، و قد تكرر في كلامه تعالى أن القرآن من اللوح المحفوظ كقوله: «إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون»: الواقعة: 78، و قوله: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج: 22.
و شهادة اللوح المحفوظ و إن كانت غير شهادة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكنهما جميعا متوقفتان على قضاء الكتاب النازل.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مجاهد: أن أعرابيا أتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله فقرأ عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «و الله جعل لكم من بيوتكم سكنا» قال الأعرابي: نعم. قال: «و جعل لكم من جلود الأنعام بيوتا تستخفونها» قال الأعرابي:. نعم ثم قرأ عليه كل ذلك يقول: نعم حتى بلغ «كذلك يتم نعمته عليكم لعلكم تسلمون» فولى الأعرابي فأنزل الله: «يعرفون نعمة الله ثم ينكرونها - و أكثرهم الكافرون» في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب عن الباقر (عليه السلام): في قوله تعالى: «يعرفون نعمة الله» الآية، قال: عرفهم ولاية علي و أمرهم بولايته ثم أنكروا بعد وفاته.
أقول: و الرواية من الجري.
و في تفسير العياشي، عن جعفر بن أحمد عن التركي النيشابوري عن علي بن جعفر بن محمد عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام): أنه سئل عن هذه الآية: «يعرفون نعمة الله» الآية، قال: عرفوه ثم أنكروه. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم»: قال الصادق (عليه السلام): لكل زمان و أمة شهيد تبعث كل أمة مع إمامها أقول: و ذيل كلامه (عليه السلام): مضمون قوله تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم» و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد، و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن قتادة: قال الله: «و جئنا بك شهيدا على هؤلاء» قال: ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا قرأ هذه الآية فاضت عيناه.
أقول: «و الروايات في باب الشهادة يوم القيامة كثيرة جدا و قد أوردنا بعضها في ذيل قوله: «و كذلك جعلناكم أمة وسطا»: البقرة: 143 و بعضها في ذيل قوله: «و جئنا بك على هؤلاء شهيدا»: النساء: 41، و قوله: «و يوم القيامة يكون عليهم شهيدا»: النساء: 159.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الخطيب في تالي التلخيص عن البراء: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: «زدناهم عذابا فوق العذاب» قال: عقارب أمثال النخل الطوال ينهشونهم في جهنم.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: قد ولدني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أعلم كتاب الله و فيه بدء الخلق و ما هو كائن إلى يوم القيامة، و فيه خبر السماء و خبر الأرض و خبر الجنة و خبر النار و خبر ما كان و خبر ما هو كائن أعلم ذلك كما أنظر إلى كفي إن الله عز و جل يقول: فيه تبيان كل شيء.
أقول: و الآية منقولة في الرواية بالمعنى.
و في تفسير العياشي، عن منصور عن حماد اللحام قال قال: أبو عبد الله (عليه السلام): نحن نعلم ما في السماوات و نعلم ما في الأرض، و ما في الجنة و ما في النار و ما بين ذلك. قال: فبهت أنظر إليه فقال: يا حماد إن ذلك في كتاب الله تعالى ثم تلا هذه الآية: «و يوم نبعث في كل أمة شهيدا عليهم من أنفسهم - و جئنا بك شهيدا على هؤلاء - و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء - و هدى و رحمة و بشرى للمسلمين» إنه من كتاب فيه تبيان كل شيء و في الكافي، عن عدة من أصحابنا عن أحمد بن محمد بن سنان عن يونس بن يعقوب عن الحارث بن المغيرة و عدة من أصحابنا منهم عبد الأعلى و أبو عبيدة و عبد الله بن بشير الخثعمي سمعوا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إني لأعلم ما في السماوات و ما في الأرض و أعلم ما في الجنة و أعلم ما في النار و أعلم ما كان و ما يكون ثم مكث هنيئة فرأى أن ذلك كبر على من سمعه منه فقال: علمت ذلك من كتاب الله عز و جل إن الله يقول: فيه تبيان كل شيء. و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن الوليد قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): قال الله لموسى: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء» فعلمنا أنه لم يكتب لموسى الشيء كله، و قال الله لعيسى: «لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه» و قال الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «و جئنا بك شهيدا على هؤلاء - و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء. أقول: و رواه العياشي بالإسناد عنه (عليه السلام).
|