بيان
شروع في القصة بعد ذكر البشارة التي هي كالمقدمة الملوحة إلى إجمال الغاية التي تنتهي إليها القصة، و الآيات تتضمن الفصل الأول من فصول القصة و فيه مفارقة يوسف ليعقوب (عليهما السلام) و خروجه من بيت أبيه إلى استقراره في بيت العزيز بمصر، و قد حدث خلال هذه الأحوال أن ألقاه إخوته في البئر، و أخرجته السيارة منها، و باعه إخوته من السيارة، و هم حملوه إلى مصر و باعوه من العزيز فبقي عنده.
قوله تعالى: «لقد كان في يوسف و إخوته آيات للسائلين» شروع في القصة و فيه التنبيه على أن القصة مشتملة على آيات إلهية دالة على توحيد الله سبحانه، و أنه هو الولي يلي أمور عباده المخلصين حتى يرفعهم إلى عرش العزة، و يثبتهم في أريكة الكمال فهو تعالى الغالب على أمره يسوق الأسباب إلى حيث يشاء لا إلى حيث يشاء غيره و يستنتج منها ما يريد لا ما هو اللائح الظاهر منها.
فهذه إخوة يوسف (عليه السلام) حسدوا أخاهم و كادوه و ألقوه في قعر بئر ثم شروه من السيارة عبدا يريدون بذلك أن يسوقوه إلى الهلاك فأحياه الله بعين هذا السبب اللائح منه الهلاك.
و أن يذللوه فأعزه الله بعين سبب التذليل، و وضعوه فرفعه الله بعين سبب الوضع و الخفض، و أن يحولوا حب أبيهم إلى أنفسهم فيخلوا لهم وجه أبيهم فعكس الله الأمر، و ذهبوا ببصر أبيهم حيث نعوا إليه يوسف بقميصه الملطخ بالدم فأعاد الله إليه بصره بقميصه الذي جاء به إليه البشير و ألقاه على وجهه.
و لم يزل يوسف (عليه السلام) كلما قصده قاصد بسوء أنجاه الله منه و جعل فيه ظهور كرامته و جمال نفسه، و كلما سير به في مسير أو ركب في سبيل يهديه إلى هلكة أو رزية هداه الله بعين ذلك السبيل إلى غاية حسنة و منقبة شريفة ظاهرة، و إلى ذلك يشير يوسف (عليه السلام) حيث يعرف نفسه لإخوته و يقول: «أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا إنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين»: الآية 91 من السورة، و يقول لأبيه بحضرة من إخوته: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي» ثم تأخذه الجذبية الإلهية فيقبل بكلية نفسه الوالهة إلى ربه و يعرض عن غيره فيقول: «رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة»: الآية 101 من السورة.
و في قوله تعالى: «للسائلين» دلالة على أنه كان هناك جماعة سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن القصة أو عما يرجع بوجه إلى القصة فأنزلت في هذه السورة.
قوله تعالى: «إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين» ذكر في المجمع، أن العصبة هي الجماعة التي يتعصب بعضها لبعض، و يقع على جماعة من عشرة إلى خمسة عشر، و قيل: ما بين العشرة إلى الأربعين، و لا واحد له من لفظه كالقوم و الرهط و النفر.
انتهى.
و قوله: «إذ قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا» القائلون هم أبناء يعقوب ما خلا يوسف و أخاه الذي ذكروه معه، و كانت عدتهم عشرة و هم رجال أقوياء بيدهم تدبير بيت أبيهم يعقوب و إدارة مواشيه و أمواله كما يدل عليه قولهم: «و نحن عصبة».
و قولهم: «ليوسف و أخوه» بنسبته إلى يوسف مع أنهم جميعا أبناء ليعقوب و إخوة فيما بينهم يشعر بأن يوسف و أخاه هذا كانا أخوين لأم واحدة و أخوين لهؤلاء القائلين لأب فقط، الروايات تذكر أن اسم أخي يوسف هذا «بنيامين»، و السياق يشهد أنهما كانا صغيرين لا يقومان بشيء من أمر بيت يعقوب و تدبير مواشيه و أمواله.
و قولهم: «و نحن عصبة» أي عشرة أقوياء مشدود ضعف بعضنا بقوة بعض، و هو حال عن الجملة السابقة يدل على حسدهم و حنقهم لهما و غيظهم على أبيهم يعقوب في حبه لهما أكثر منهم، و هو بمنزلة تمام التعليل لقولهم بعده: «إن أبانا لفي ضلال مبين».
و قولهم: «إن أبانا لفي ضلال مبين» قضاء منهم على أبيهم بالضلال و يعنون بالضلال الاعوجاج في السليقة و فساد السيرة دون الضلال في الدين.
أما أولا: فلأن ذلك هو مقتضى ما تذاكروا فيما بينهم إنهم جماعة إخوان أقوياء متعاضدون متعصب بعضهم لبعض يقومون بتدبير شئون أبيهم الحيوية و إصلاح معاشه و دفع كل مكروه يواجهه، و يوسف و أخوه طفلان صغيران لا يقويان من أمور الحياة على شيء، و ليس كل منهما إلا كلا عليه و عليهم، و إذا كان كذلك كان توغل أبيهم في حبهما و اشتغاله بكليته بهما دونهم و إقباله عليهما بالإعراض عنهم طريقة معوجة غير مرضية فإن حكمة الحياة تستدعي أن يهتم الإنسان بكل من أسبابه و وسائله على قدر ما له من التأثير، و قصر الإنسان اهتمامه على من هو كل عليه و لا يغني عنه طائلا، و الإعراض عمن بيده مفاتيح حياته و أزمة معاشه ليس إلا ضلالا من صراط الاستقامة و اعوجاجا في التدبير، و أما الضلال في الدين فله أسباب أخر كالكفر بالله و آياته و مخالفة أوامره و نواهيه.
و أما ثانيا: فلأنهم كانوا مؤمنين بالله مذعنين بنبوة أبيهم يعقوب كما يظهر من قولهم: «و تكونوا من بعده قوما صالحين» و قولهم أخيرا: «يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا»: الآية 97 من السورة و قولهم ليوسف أخيرا: «تالله لقد آثرك الله علينا» و غير ذلك، و لو أرادوا بقولهم: «إن أبانا لفي ضلال مبين» ضلاله في الدين لكانوا بذلك كافرين.
و هم مع ذلك كانوا يحبون أباهم و يعظمونه و يوقرونه، و إنما فعلوا بيوسف ما فعلوا ليخلص لهم حب أبيهم كما قالوا: «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم» فهم - كما يدل عليه هذا السياق - كانوا يحبونه و يحبون أن يخلص لهم حبه، و لو كان خلاف ذلك لانبعثوا بالطبع إلى أن يبدءوا بأبيهم دون أخيهم و أن يقتلوا يعقوب أو يعزلوه أو يستضعفوه حتى يخلو لهم الجو و يصفو لهم الأمر ثم الشأن في يوسف عليهم أهون.
و لقد جبهوا أباهم أخيرا بمثل قولهم هذا حين قال لهم: «إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم»: الآية 95 من السورة، و من المعلوم أن ليس المراد به الضلال في الدين بل الإفراط في حب يوسف و المبالغة في أمره بما لا ينبغي.
و يظهر من الآية و ما يرتبط بها من الآيات أنه كان يعقوب (عليه السلام) يسكن البدو و كان له اثنا عشر ابنا و هم أولاد علة، و كان عشرة منهم كبارا هم عصبة أولو قوة و شدة يدور عليهم رحى حياته و يدبر بأيديهم أمور أمواله و مواشيه، و كان اثنان منهم صغيرين أخوين لأم واحدة في حجر أبيهما و هما يوسف و أخوه لأمه و أبيه، و كان يعقوب (عليه السلام) مقبلا إليهما يحبهما حبا شديدا لما يتفرس في ناصيتهما من آثار الكمال و التقوى لا لهوى نفساني فيهما كيف؟ و هو من عباد الله المخلصين الممدوح بمثل قوله تعالى: «إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار»: ص: 46 و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك.
فكان هذا الحب و الإيثار يثير حسد سائر الإخوة لهما و يؤجج نائرة الأضغان منهم عليهما و يعقوب (عليه السلام) يتفرس ذلك و يبالغ في حبهما و خاصة في حب يوسف و كان يخافهم عليه و لا يرضى بخلوتهم به و لا يأمنهم عليه و ذلك يزيد في حسدهم و غيظهم فصار يتفرس من وجوههم الشر و المكر كما مرت استفادته من قوله فيكيدوا لك كيدا» حتى رأى يوسف الرؤيا و قصها لأبيه فزاد بذلك إشفاق أبيه عليه و ازداد حبه له و وجده فيه، و أوصاه أن يكتم رؤياه و لا يخبر إخوته بها لعله يأمن بذلك كيدهم لكن التقدير غلب تدبيره.
فاجتمع الكبار من بني يعقوب و تذاكروا فيما بينهم ما كانوا يشاهدونه من أمر أبيهم و ما يصنعه بيوسف و أخيه حيث يشتغل بهما عنهم و يؤثرهما عليهم و هما طفلان صغيران لا يغنيان عنه بطائل و هم عصبة أولو قوة و شدة أركان حياته و أياديه الفعالة في دفع كل رزية عادية و جلب منافع المعيشة و إدارة الأموال و المواشي، و ليس من حسن السيرة و استقامة الطريقة إيثار هذين الضعيفين على ضعفهما على أولئك العصبة القوية على قوتهم فذموا سيرة أبيهم و حكموا بأنه في ضلال مبين من جهة طريقته هذه.
و لم يريدوا برمي أبيهم بالضلال الضلال في الدين حتى يكفروا بذلك بل الضلال في مشيته الاجتماعية كما توفرت بذلك شواهد الآيات و قد تقدمت الإشارة إليها.
و بذلك يظهر ما في مختلف التفاسير من الانحراف في تقرير معنى الآية: منها: ما ذكره بعضهم أن هذا الحكم منهم بضلال أبيهم عن طريق العدل و المساواة جهل مبين و خطأ كبير لعل سببه اتهام إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات و لا سيما الإماء منهن و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم و كانا أصغر أولاده.
قال: و من فوائد القصة وجوب عناية الوالدين بمداراة الأولاد و تربيتهم على المحبة و العدل، و إنقاء وقوع التحاسد و التباغض بينهم و منه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له و محاباة لأخيه بالهوى، و قد نهى عنه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مطلقا، و منه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله تعالى بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق و التقوى و العلم و الذكاء.
و ما كان يعقوب بالذي يخفى عليه هذا و ما نهى يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه، و لكن ما يفعل الإنسان بغريزته و قلبه و روحه؟ أ يستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه؟ كلا.
انتهى.
أما قوله: إن منشأ حسدهم و بغيهم اختلاف الأمهات و خاصة الإماء منهن «إلخ» ففيه: أن استدعاء اختلاف الأمهات اختلاف الأولاد و إن كان مما لا يسوغ إنكاره، و وجود ذلك في المورد محتمل، لكن السبب المذكور في كلامه تعالى لذلك غير هذا، و لو كان هو السبب الوحيد لفعلوا بأخي يوسف ما فعلوا به و لم يقنعوا به.
و أما قوله: «و هو الذي أضلهم من غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد و ضعافهم» و مفاده أن محبة يعقوب ليوسف إنما كانت رقة و ترحما غريزيا منه لصغرهما كما هو المشهود من الآباء بالنسبة إلى صغار أولادهم ما داموا صغارا فإذا كبروا انتقلت إلى من هو أصغر منهم.
ففيه: أن هذا النوع من الحب المشوب بالرقة و الترحم مما يسلمه الكبار للصغار و ينقطعون عن مزاحمتهم و معارضتهم في ذلك، ترى كبراء الأولاد إذا شاهدوا زيادة اهتمام الوالدين بصغارهم و ضعفائهم و اعترضوا بأن ذلك خلاف التعديل و التسوية فأجيبوا بأنهم صغار ضعفاء يجب أن يرق لهم و يرحموا و يعانوا حتى يصلحوا للقيام على ساقهم في أمر الحياة سكتوا و انقطعوا عن الاعتراض و أقنعهم ذلك.
فلو كانت صورة حب يعقوب ليوسف و أخيه صورة الرقة و الرأفة و الرحمة لهما لصغرهما و هي التي يعهدها كل من العصبة في نفسه و يذكرها من أبيه له في حال صغره لم يعيبوها و لم يذموا أباهم عليها و لكان قولهم «و نحن عصبة» دليلا عليهم يدل على ضلالهم في نسبة أبيهم إلى الضلال لا دليلا لهم يدل على ضلال أبيهم في زيادة حبه لهما.
على أنهم قالوا لأبيهم حينما كلموا أباهم في أمر يوسف: «ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون» و من المعلوم أن إكرامه ليوسف و ضمه إليه و مراقبته له و عدم أمن أحد منهم عليه، أمر وراء المحبة بالرقة و الرحمة له و لصغره و ضعفه.
و أما قوله: و ما كان يعقوب يخفى عليه هذا إلى آخر ما قال و معناه أن هوى يعقوب في ابنه صرفه عن الواجب في تربية أولاده على علم منه بأن ذلك خلاف العدل و الإنصاف و أنه سيدفعه إلى بلوى في أولاده ثم تعذيره بأن مخالفة هوى القلب و علقة الروح مما لا يستطيعه الإنسان.
ففيه أنه إفساد للأصول المسلمة العقلية و النقلية التي يستنتج منها حقائق مقامات الأنبياء و العلماء بالله من الصديقين و الشهداء و الصالحين و ما بني عليه البحث عن كرائم الأخلاق أن الإنسان بحسب فطرته في سعة من التخلق بها و محق الرذائل النفسانية التي أصلها و أساسها اتباع هوى النفس و إيثار مرضاة الله سبحانه على كل مرضاة و بغية، و هذا أمر نرجوه من كل من ارتاض بالرياضات الخلقية من أهل التقوى و الورع فما الظن بالأنبياء ثم بمثل يعقوب (عليه السلام) منهم.
و ليت شعري إذا لم يكن في استطاعة الإنسان أن يخالف هوى نفسه في أمثال هذه الأمور فما معنى هذه الأوامر و النواهي الجمة في الدين المتعلقة بها و هل هي إلا مجازفة صريحة.
على أن فيما ذكره إزراء لمقامات أنبياء الله و أوليائه و حطا لمواقفهم العبودية إلى درجة المتوسطين من الناس أسراء هوى أنفسهم الجاهلين بمقام ربهم، و قد عرف سبحانه الأنبياء بمثل قوله «و اجتبيناهم و هديناهم إلى صراط مستقيم» الأنعام: 87 و قال في يعقوب و أبويه إبراهيم و إسحاق (عليهما السلام): «و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا و أوحينا إليهم فعل الخيرات و إقام الصلاة و إيتاء الزكاء و كانوا لنا عابدين»: الأنبياء: 73، و قال فيهم أيضا: «إنا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار»: ص 46.
فأخبر أنه هداهم إلى مستقيم صراطه و لم يقيد ذلك بقيد، و أنه اجتباهم و جمعهم و أخلصهم لنفسه فهم مخلصون - بفتح اللام - لله سبحانه لا يشاركه فيهم مشارك.
فلا يبتغون إلا ما يريده من الحق و لا يؤثرون على مرضاته مرضاة غيره سواء كان ذلك الغير أنفسهم أو غيره، و قد كرر سبحانه في كلامه حكاية إغواء بني آدم عن الشيطان و استثنى المخلصين: «لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين»: ص 83.
فالحق أن يعقوب إنما كان يحب يوسف و أخاه في الله سبحانه لما كان يتفرس منهما التقوى و الكمال و من يوسف خاصة ما كانت تدل عليه رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب، و لم يكن حبه هوى البتة.
و منها ما ذكره بعضهم أن مرادهم من قولهم: «إن أبانا لفي ضلال مبين» ضلاله في الدين، و قد عرفت أن سياق الآيات الكريمة يدفعه.
و يقابل هذا القول بوجه قول آخرين: إن إخوة يوسف كانوا أنبياء و إنما نسبوا أباهم إلى الضلال في سيرته و العدول في أمرهم عن العدل و الاستقامة، و إذا اعترض عليهم بما ارتكبوه من المعصية و الظلم في أخيهم و أبيهم.
أجابوا عنه بأن ذلك كانت معصية صغيرة صدرت عنهم قبل النبوة أو لا بأس به بناء على جواز صدور الصغائر عن الأنبياء قبل النبوة و ربما أجيب بجواز أن يكونوا حين صدور المعصية صغارا مراهقين و من الجائز صدور أمثال هذه الأمور عن الأطفال المراهقين.
و هذه أوهام مدفوعة، و ليس قوله تعالى: «و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط: النساء: 163 الظاهر في نبوة الأسباط صريحا في إخوة يوسف.
و الحق أن إخوة يوسف لم يكونوا أنبياء بل كانوا أولاد أنبياء حسدوا يوسف و أذنبوا بما ظلموا يوسف الصديق ثم تابوا إلى ربهم و أصلحوا و قد استغفر لهم يعقوب و يوسف (عليه السلام) كما حكى الله عن أبيهم قوله: «سوف أستغفر لكم ربي»: الآية: 98 من السورة بعد قولهم: «يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين» و عن يوسف قوله: «يغفر الله لكم و هو أرحم الراحمين»: الآية: 92 من السورة بعد اعترافهم له بقولهم: «و إن كنا لخاطئين».
و منها: قول بعضهم: إن إخوة يوسف إنما حسدوه بعد ما قص عليهم رؤياه و قد كان يعقوب نهاه أن يقص رؤياه على إخوته و الحق أن الرؤيا إنما أوجبت زيادة حسدهم و قد لحق بهم الحسد قبل ذلك كما مر بيانه.
قوله تعالى: «اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين» تتمة قول إخوة يوسف و الآية تتضمن الفصل الثاني من مؤامرتهم في مؤتمرهم الذي عقدوه في أمر يوسف ليرسموا بذلك خطة تريح نفوسهم منه كما ذكره تعالى بقوله: «و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون»: الآية 102 من السورة.
و قد ذكر الله سبحانه متن مؤامرتهم في هذه الآيات الثلاث: «قالوا ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إلى قوله - إن كنتم فاعلين».
فأوردوا أولا ذكر مصيبتهم في يوسف و أخيه إذ صرفا وجه يعقوب عنهم إلى أنفسهما و جذبا نفسه إليهما عن سائر الأولاد فصار يلتزمها و لا يعبأ بغيرهما ما فعلوا، و هذه محنة حالة بهم توعدهم بخطر عظيم في مستقبل الأمر فيه سقوط شخصيتهم و خيبة مسعاهم و ذلتهم بعد العزة و ضعفهم بعد القوة، و هو انحراف من يعقوب في سيرته و طريقته.
ثم تذاكروا ثانيا في طريق التخلص من الرزية بطرح كل منهم ما هيأه من الخطة و يراه من الرأي فأشار بعضهم إلى لزوم قتل يوسف، و آخرون إلى طرحه أرضا بعيدة لا يستطيع معه العود إلى أبيه و اللحوق بأهله فينسى بذلك اسمه و يمحو رسمه فيخلو وجه أبيهم لهم و ينبسط حبه و حبائه فيهم.
ثم اتفقوا على ما يقرب من الرأي الثاني و هو أن يلقوه في قعر بئر ليلتقطه بعض السيارة و يذهبوا به إلى بعض البلاد النائية البعيدة فينقطع بذلك خبره و يعفى أثره.
فقوله تعالى: «اقتلوا يوسف» حكاية لأحد الرأيين منهم في أمره، و في ذكرهم يوسف وحده - و قد ذكروا في مفتتح كلامهم في المؤامرة يوسف و أخاه معا: «ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا» - دليل على أنه كان مخصوصا بمزيد حب يعقوب و بلوغ عنايته و اهتمامه و إن كان أخوه أيضا محبوا بالحب و الإكرام من بينهم و كيف لا؟ و يوسف هو الذي رأى الرؤيا و بشر بأخص العنايات الإلهية و الكرامات الغيبية، و قد كان أكبرهما و الخطر المتوجه من قبله إليهم أقرب مما من قبل أخيه، و لعل في ذكر الأخوين معا إشارة إلى حب يعقوب لأمهما الموجب لحبه بالطبع لهما و تهييج حسد الإخوة و غيظهم و حقدهم بالنسبة إليهما.
و قوله: «أو اطرحوه أرضا» حكاية رأيهم الثاني فيه، و المعنى صيروه أو غربوه في أرض لا يقدر معه على العود إلى بيت أبيه فيكون كالمقتول ينقطع أثره و يستراح من خطره كإلقائه في بئر أو تغريبه إلى مكان ناء و نظير ذلك.
و الدليل عليه تنكير «أرض» و لفظ الطرح الذي يستعمل في إلقاء الإنسان المتاع أو الأثاث الذي يستغني عنه و لا ينتفع به للإعراض عنه.
و في نسبة الرأيين بالترديد إليهم، دليل على أن مجموع الرأيين كان هو المرضي عند أكثر الإخوة حتى قال قائل منهم: لا تقتلوا يوسف إلخ.
و قوله: «يخل لكم وجه أبيكم» أي افعلوا به أحد الأمرين حتى يخلو لكم وجه أبيكم و هو كناية عن خلوص حبه لهم بارتفاع المانع الذي يجلب الحب و العطف إلى نفسه كأنهم و يوسف إذا اجتمعوا و أباهم حال يوسف بينه و بينهم و صرف وجهه إلى نفسه فإذا ارتفع خلا وجه أبيهم لهم و اختص حبه بهم و انحصر إقباله عليهم.
و قوله: «و تكونوا من بعده قوما صالحين» أي و تكونوا من بعد يوسف أو من بعد قتله أو نفيه - و المال واحد - قوما صالحين بالتوبة من هذه المعصية.
و في هذا دليل على أنهم كانوا يرونه ذنبا، و إثما، و كانوا يحترمون أمر الدين و يقدسونه لكن غلبهم الحسد و سولت لهم أنفسهم اقتراف الذنب و ارتكاب المظلمة و آمنهم من عقوبة الذنب بتلقين طريق يمكنهم من الاقتراف من غير لزوم العقوبة الإلهية و هو أن يقترفوا الذنب ثم يتوبوا.
و هذا من الجهل فإن التوبة التي شأنها هذا الشأن غير مقبولة البتة فإن من يوطن نفسه من قبل على المعصية ثم التوبة منها لا يقصد بتوبته الرجوع إلى الله و الخضوع لمقامه حقيقة بل إنما يقصد المكر بربه في دفع ما أوعده من العذاب و العقوبة مع المخالفة لأمره أو نهيه، فتوبته ذيل لما وطن عليه نفسه أولا: أن يذنب فيتوب فهي في الحقيقة تتمة ما رامه أولا من نوع المعصية و هو الذنب الذي تعقبه توبة و ليست رجوعا إلى ربه بالندم على ما فعل.
و قد تقدم البحث عن معنى التوبة في تفسير قوله تعالى: «إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة» الآية:. النساء: 17 في الجزء الرابع من الكتاب.
و قيل المراد بالصلاح في الآية صلاح الأمر من حيث سعادة الحياة الدنيا و انتظام الأمور فيها و المعنى و تكونوا من بعده قوما صالحين بصلاح أمركم مع أبيكم.
قوله تعالى: «قال قائل منهم لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابت الجب يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين» الجب هو البئر التي لم يطو أي لم يبن داخلها بالحجارة، و إن بني بها سميت البئر طويا، و الغيابة بفتح الغين المنهبط من الأرض الذي يغيب ما فيه من الأنظار و غيابة الجب قعره الذي لا يرى لما فيه من الظلمة.
و قد اختار هذا القائل الرأي الثاني المذكور في الآية السابقة الذي يشير إليه قوله: «أو اطرحوه أرضا» إلا أنه قيده بما يؤمن معه القتل أو أمر آخر يؤدي إلى هلاكه كأن يلقى في بئر و يترك فيها حتى يموت جوعا أو ما يشاكل ذلك، فما أبداه من الرأي يتضمن نفي يوسف من الأرض من غير أن يتسبب إلى هلاكه بقتل أو موت أو نقص يشبهه فيكون إهلاكا لذي رحم، و هو أن يلقى في بعض الآبار التي على طريق المارة حتى يعثروا به عند الاستقاء فيأخذوه و يسيروا به إلى بلاد نائية تعفو أثره و تقطع خبره، و السياق يشهد بأنهم ارتضوا هذا الرأي إذ لم يذكر رد منهم بالنسبة إليه و قد جرى عملهم عليه كما هو مذكور في الآيات التالية.
و اختلف المفسرون في اسم هذا القائل بعد القطع بأنه كان أحد إخوته لقوله تعالى «قال قائل منهم» فقيل: هو روبين ابن خالة يوسف، و قيل: هو يهوذا، و قد كان أسنهم و أعقلهم، و قيل: هو لاوى، و لا يهمنا البحث فيه بعد ما سكت القرآن عن تعريفه باسمه لعدم ترتب فائدة هامة عليه.
و ذكر بعضهم: أن تعريف الجب باللام يدل على أنه كان جبا معهودا فيما بينهم.
و هو حسن لو لم يكن اللام للجنس، و قد اختلفوا أيضا في أن هذا الجب أين كان؟ هو على أقوال مختلفة لا يترتب على شيء منها فائدة طائلة.
قوله تعالى: «قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون» أصل «لا تأمنا» لا تأمننا ثم أدغم بالإدغام الكبير.
و الآية تدل على أن الإخوة أجمعوا على قول القائل: لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب، و أجمعوا على أن يمكروا بأبيهم فيأخذوا يوسف و يفعلوا به ما عزموا عليه و قد كان أبوهم لا يأمنهم على يوسف و لا يخليه و إياهم فكان من الواجب قبلا أن يزكوا أنفسهم عند أبيهم و يجلوا قلبه من كدر الشبهة و الارتياب حتى يتمكنوا من أخذه و الذهاب به.
و لذلك جاءوا أباهم و خاطبوه بقولهم: «يا أبانا - و فيه إثارة للعطف و الرحمة و إيثار للمودة - ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون» أي و الحال أنا لا نريد به إلا الخير و لا نبتغي إلا ما يرضيه و يسره.
ثم سألوه ما يريدونه و هو أن يرسله معهم إلى مرتعهم الذي كانوا يخرجون إليه ماشيتهم و غنمهم ليرتع و يلعب هناك، و هم حافظون له فقالوا: «أرسله معنا» إلخ.
قوله تعالى: «أرسله معنا غدا يرتع و يلعب و إنا له لحافظون» الرتع هو توسع الحيوان في الرعي و الإنسان في التنزه و أكل الفواكه و نحو ذلك.
و قولهم «أرسله معنا غدا يرتع و يلعب» اقتراح لمسئولهم كما تقدمت الإشارة إليه و قولهم: «و إنا له لحافظون» أكدوه بوجوه التأكيد: إن و اللام و الجملة الاسمية على وزان قولهم: «و إنا له لناصحون» كما يدل أن كل واحدة من الجملتين تتضمن نوعا من التطيب لنفس أبيهم كأنهم قالوا: ما لك لا تأمنا على يوسف فإن كنت تخاف عليه إيانا معشر الإخوة كأن نقصده بسوء فإنا له لناصحون و إن كنت تخاف عليه غيرنا مما يصيبه أو يقصده بسوء كان يدهمه المكروه و نحن مساهلون في حفظه و مستهينون في كلاءته فإنا له لحافظون.
فالكلام مسوق على ترتيبه الطبعي: ذكروا أولا أنه في أمن من ناحيتهم دائما ثم سألوا أن يرسله معهم غداة غد ثم ذكروا أنهم حافظون له ما دام عندهم، و بذلك يظهر أن قولهم: «و إنا له لناصحون» تأمين له دائمي من ناحية أنفسهم، و قولهم: «و إنا له لحافظون» تأمين له موقت من غيرهم.
قوله تعالى: «قال إني ليحزنني أن تذهبوا به و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون» هذا ما ذكر أبوهم جوابا لما سألوه، و لم ينف عن نفسه أنه لا يأمنهم عليه و إنما ذكر ما يأخذه من الحالة النفسانية لو ذهبوا به فقال و قد أكد كلامه: «إني ليحزنني أن تذهبوا به» و قد كشف عن المانع أنه نفسه التي يحزنها ذهابهم به و لا ذهابهم به الموجب لحزنه تلطفا في الجواب معهم و لئلا يهيج ذلك عنادهم و لجاجهم و هو من لطائف النكت.
و اعتذر إليهم في ذلك بقوله: «و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون» و هو عذر موجه فإن الصحاري ذوات المراتع التي تأوي إليها المواشي و ترتع فيها الأغنام لا تخلو طبعا من ذئاب أو سباع تقصدها و تكمن فيها للافتراس و الاصطياد فمن الجائز أن يقبلوا على بعض شأنهم و يغفلوا عنه فيأكله الذئب.
قوله تعالى: «قالوا لئن أكله الذئب و نحن عصبة إنا إذا لخاسرون» تجاهلوا لأبيهم كأنهم لم يفقهوا إلا أنه يأمنهم عليه لكن يخاف أن يأكله الذئب على حين غفلة منهم فردوه رد منكر مستغرب، و ذكروا لتطيب نفسه أنهم جماعة أقوياء متعاضدون ذوو بأس و شدة، و أقسموا بالله إن أكل الذئب إياه و هم عصبة يقضي بخسرانهم و لن يكونوا خاسرين البتة، و إنما أقسموا - كما يدل عليه لام القسم - ليطيبوا نفسه و يذهبوا بحزنه فلا يمنعهم من الذهاب به، و هذا شائع في الكلام «و في الكلام وعد ضمني منهم له أنهم لن يغفلوا» لكنهم لم يلبثوا يوما حتى كذبوا أنفسهم فيما أقسموا له و أخلفوه ما وعدوه إذ قالوا: «يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب» الآية.
قوله تعالى: «و لما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابت الجب قال الراغب: أجمعت على كذا أكثر ما يقال فيما يكون جمعا يتوصل إليه بالفكرة نحو فأجمعوا أمركم و شركاءكم.
قال: و يقال أجمع المسلمون على كذا اتفقت آراؤهم عليه.
انتهى.
و في المجمع،: أجمعوا أي عزموا جميعا أن يجعلوه في غيابة الجب أي قعر البئر و اتفقت دواعيهم عليه فإن من دعاه داع واحد إلى الشيء لا يقال فيه أنه أجمع عليه فكأنه مأخوذ من اجتماع الدواعي.
انتهى.
و الآية تشعر بأنهم أقنعوا أباهم بما قالوا له من القول و أرضوه أن لا يمنعهم أن يخرجوا يوسف معهم إلى الصحراء فحملوه معهم لإنفاذ ما أزمعوا عليه من إلقائه في غيابة الجب.
و جواب لما محذوف للدلالة على فجاعة الأمر و فظاعته، و هي صنعة شائعة في الكلام ترى المتكلم يصف أمرا فظيعا كقتل فجيع يحترق به القلب و لا يطيقه السمع فيشرع في بيان أسبابه و الأحوال التي تؤدي إليه فيجري في وصفه حتى إذا بلغ نفس الحادثة سكت سكوتا عميقا ثم وصف ما بعد القتل من الحوادث فيدل بذلك على أن صفة القتل بلغت من الفجاعة مبلغا لا يسع المتكلم أن يصرح به و لا يطيق السامع أن يسمعه.
فكأن الذي يصف القصة - عز اسمه - لما قال: «و لما ذهبوا به و أجمعوا أن يجعلوه في غيابة الجب» سكت مليا و أمسك عن ذكر ما فعلوا به أسى و أسفا لأن السمع لا يطيق وعي ما فعلوا بهذا الطفل المعصوم المظلوم النبي ابن الأنبياء و لم يأت بجرم يستحق به شيئا مما ارتكبوه فيه و هم إخوته و هم يعلمون مبلغ حب أبيه النبي الكريم يعقوب له فيا قاتل الله الحسد يهلك شقيقا مثل يوسف الصديق بأيدي إخوته، و يثكل أبا كريما مثل يعقوب بأيدي أبنائه، و يزين بغيا شنيعا كهذا في أعين رجال ربوا في حجر النبوة و نشئوا في بيت الأنبياء.
و لما حصل الغرض بالسكوت عن جواب لما جرى سبحانه في ذيل القصة فقال: «و أوحينا إليه» إلخ.
قوله تعالى: «و أوحينا إليه لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون» الضمير ليوسف و ظاهر الوحي أنه من وحي النبوة، و المراد بأمرهم هذا إلقاؤهم إياه في غيابة الجب، و كذا الظاهر أن جملة «و هم لا يشعرون» حال من الإيحاء المدلول عليه بقوله: «و أوحينا» «إلخ» و متعلق «لا يشعرون» هو الأمر أي لا يشعرون بحقيقة أمرهم هذا أو الإيحاء أي و هم لا يشعرون بما أوحينا إليه.
و المعنى - و الله أعلم - و أوحينا إلى يوسف أقسم لتخبرنهم بحقيقة أمرهم هذا و تأويل ما فعلوا بك فإنهم يرونه نفيا لشخصك و إنساء لاسمك و إطفاء لنورك و تذليلا لك و حطا لقدرك و هو في الحقيقة تقريب لك إلى أريكة العزة و عرش المملكة و إحياء لذكرك و إتمام لنورك و رفع لقدرك و هم لا يشعرون بهذه الحقيقة و ستنبئهم بذلك و هو قوله لهم و قد اتكى على أريكة العزة و هم قيام أمامه يسترحمونه بقولهم: «يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين» إذ قال: «هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون - إلى أن قال - أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا» إلخ.
انظر إلى موضع قوله: «هل علمتم» فإنه إشارة إلى أن هذا الذي تشاهدونه اليوم من الحال هو حقيقة ما فعلتم بيوسف، و قوله: «إذ أنتم جاهلون» فإنه يحاذي من هذه الآية التي نحن فيها قوله: «و هم لا يشعرون».
و قيل: في معنى الآية وجوه أخر: منها: أنك ستخبر إخوتك بما فعلوا بك في وقت لا يعرفونك، و هو الذي أخبرهم به في مصر و هم لا يعرفونه ثم عرفهم نفسه.
و منها: أن المراد بإنبائه إياهم مجازاتهم بسوء ما فعلوا كمن يتوعد من أساء إليه فيقول: لأنبئنك و لأعرفنك.
و منها: قول بعضهم كما روي عن ابن عباس أن المراد بإنبائه إياهم بأمرهم ما جرى له مع إخوته بمصر حيث رآهم فعرفهم و هم له منكرون فأخذ جاما فنقره فظن فقال: إن هذا الجام يخبرني أنكم كان لكم أخ من أبيكم ألقيتموه في الجب و بعتموه بثمن بخس.
و هذه وجوه لا تخلو من سخافة و الوجه ما قدمناه، و قد كثر ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى في معنى بيان حقيقة العمل كقوله تعالى: «إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون»: المائدة: 105 و قوله: «و سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون»: المائدة: 14 و قوله: «يوم يبعثهم الله جميعا فينبئهم بما عملوا»: المجادلة: 6 إلى غير ذلك من الآيات و هي كثيرة.
و منها: قول بعضهم إن المعنى و أوحينا إليه ستخبرهم بما فعلوا بك و هم لا يشعرون بهذا الوحي.
و هذا الوجه غير بعيد لكن الشأن في بيان نكتة لتقييد الكلام بهذا القيد و لا حاجة إليه ظاهرا.
و منها: قول بعضهم: إن معنى الآية لتخبرنهم برقي حياتك و عزتك و ملكك بأمرهم هذا إذ يظهرك الله عليهم و يذلهم لك و يجعل رؤياك حقا و هم لا يشعرون يومئذ بما آتاك الله.
و عمدة الفرق بين هذا القول و ما قدمناه من الوجه أن في هذا القول صرف الإنباء عن الإنباء الكلامي إلى الإنباء بالحال الخارجي و الوضع العيني، و لا موجب له بعد ما حكاه سبحانه عنه قوله: «هل علمتم ما فعلتم بيوسف» إلخ.
قوله تعالى: «و جاءوا أباهم عشاء يبكون» العشاء آخر النهار، و قيل: من صلاة المغرب إلى العتمة، و إنما كانوا يبكون ليلبسوا الأمر على أبيهم فيصدقهم فيما يقولون و لا يكذبهم.
قوله تعالى: «قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب» إلى آخر الآية، قال الراغب في المفردات،: أصل السبق التقدم في السير نحو «فالسابقات سبقا» و الاستباق التسابق و قال: «إنا ذهبنا نستبق» «و استبقا الباب» انتهى، و قال الزمخشري في الكشاف،: نستبق أي نتسابق، و الافتعال و التفاعل يشتركان كالانتضال و التناضل و الارتماء و الترامي و غير ذلك، و المعنى نتسابق في العدو أو في الرمي.
انتهى.
و قال صاحب المنار في تفسيره،: إنا ذهبنا نستبق أي ذهبنا من مكان اجتماعنا إلى السباق يتكلف كل منا أن يسبق غيره فالاستباق تكلف السبق و هو الغرض من المسابقة و التسابق بصيغتي المشاركة التي يقصد بها الغلب.
و قد يقصد لذاته أو لغرض آخر في السبق، و منه «فاستبقوا الخيرات» فهذا يقصد به السبق لذاته لا للغلب، و قوله الآتي في هذه السورة «و استبقا الباب» كان يقصد به يوسف الخروج من الدار هربا من حيث تقصد امرأة العزيز باتباعه إرجاعه، و صيغة المشاركة لا تؤدي هذا المعنى، و لم يفطن الزمخشري علامة اللغة و من تبعه لهذا الفرق الدقيق انتهى.
أقول: و الذي مثل به من قوله تعالى: «فاستبقوا الخيرات» من موارد الغلب فإن من المندوب شرعا أن لا يؤثر الإنسان غيره على نفسه في الخيرات و المثوبات و القربات و أن يتقدم على من دونه في حيازه البركات فينطبق الاستباق حينئذ قهرا على التسابق و كذا قوله تعالى: «و استبقا الباب» فإن المراد به قطعا أن كلا منها كان يريد أن يسبق الآخر إلى الباب هذا ليفتحه و هذه لتمنعه من الفتح و هو معنى التسابق فالحق أن معنيي الاستباق و التسابق متحدان صدقا على المورد، و في الصحاح،: سابقته فسبقته سبقا و استبقنا في العدو أي تسابقنا.
انتهى، و في لسان العرب،: سابقته فسبقته، و استبقنا في العدو، أي تسابقنا.
انتهى.
و لعل الوجه في تصادق استبق و تسابق أن نفس السبق معنى إضافي في نفسه، وزنة «افتعل» تفيد تأكد معنى «فعل» و إمعان الفاعل في فعله و أخذه حلية لنفسه كما يشاهد في مثل كسب و اكتسب و حمل و احتمل و صبر و اصطبر و قرب و اقترب و خفي و اختفى و جهد و اجتهد و نظائرها، و طرو هذه الخصوصية على معنى السبق على ما به من الإضافة يفيد جهد الفاعل أن يخص السبق لنفسه و لا يتم إلا مع تسابق في المورد.
و قوله: «بمؤمن لنا» أي بمصدق لقولنا، و الإيمان يتعدى باللام كما يتعدى بالباء قال تعالى: «فآمن له لوط»: العنكبوت: 26.
و المعنى - أنهم حينما جاءوا أباهم عشاء يبكون - قالوا لأبيهم: يا أبانا إنا معشر الإخوة ذهبنا إلى البيداء نتسابق في عدو أو رمي - و لعله كان في عدو - فإن ذلك أبلغ في إبعادهم من رحلهم و متاعهم و كان عنده يوسف على ما ذكروا - و تركنا يوسف عند رحلنا و متاعنا فأكله الذئب، و من خيبتنا و مسكنتنا أنك لست بمصدق لنا فيما نقوله و نخبر به و لو كنا صادقين فيه.
و قولهم: «و ما أنت بمؤمن لنا و لو كنا صادقين» كلام يأتي بمثله المعتذر إذا انقطع عن الأسباب و انسدت عليه طرق الحيلة، للدلالة على أن كلامه غير موجه عند من يعتذر إليه و عذره غير مسموع و هو يعلم بذلك لكنه مع ذلك مضطر أن يخبر بالحق و يكشف عن الصدق و إن كان غير مصدق فيه، فهو كناية عن الصدق في المقال.
قوله تعالى: «و جاءوا على قميصه بدم كذب» الكذب بالفتح فالكسر مصدر أريد به الفاعل للمبالغة أي بدم كاذب بين الكذب.
و في الآية إشعار بأن القميص و عليه دم - و قد نكر الدم للدلالة على هوان دلالته و ضعفها على ما وصفوه - كان على صفة تكشف عن كذبهم في مقالهم فإن من افترسته السباع و أكلته لم تترك له قميصا سالما غير ممزق.
و هذا شأن الكذب لا يخلو الحديث الكاذب و لا الأحدوثة الكاذبة من تناف بين أجزائه و تناقض بين أطرافه أو شواهد من أوضاع و أحوال خارجية تحف به و تنادي بالصدق و تكشف القناع عن قبيح سريرته و باطنه و إن حسنت صورته.
كلام في أن الكذب لا يفلح
من المجرب أن الكذب لا يدوم على اعتباره و إن الكاذب لا يلبث دون أن يأتي بما يكذبه أو يظهر ما يكشف القناع عن بطلان ما أخبر به أو ادعاه، و الوجه فيه أن الكون يجري على نظام يرتبط به بعض أجزائه ببعض بنسب و إضافات غير متغيرة و لا متبدلة فلكل حادث من الحوادث الخارجية الواقعة لوازم و ملزومات متناسبة لا ينفك بعضها من بعض، و لها جميعا فيما بينها أحكام و آثار يتصل بعضها ببعض، و لو اختل واحد منها لاختل الجميع و سلامة الواحد تدل على سلامة السلسلة.
و هذا قانون كلي غير قابل لورود الاستثناء عليه.
فلو انتقل مثلا جسم من مكان إلى مكان آخر في زمان كان من لوازمه أن يفارق المكان الأول و يبتعد منه و يغيب عنه و عن كل ما يلازمه و يتصل به و يخلو عنه المكان الأول و يشغل به الثاني و أن يقطع ما بينهما من الفصل إلى غير ذلك من اللوازم، و لو اختل واحد منها كأن يكون في الزمان المفروض شاغلا للمكان الأول اختلت جميع اللوازم المحتفة به.
و ليس في وسع الإنسان و لا أي سبب مفروض إذا ستر شيئا من الحقائق الكونية بنوع من التلبيس أن يستر جميع اللوازمات و الملزومات المرتبطة به أو أن يخرجها عن محالها الواقعية أو يحرفها عن مجراها الكونية فإن ألقى سترا على واحدة منها ظهرت الأخرى و إلا فالثالثه و هكذا.
و من هنا كانت الدولة للحق و إن كانت للباطل جولة، و كانت القيمة للصدق و إن تعلقت الرغبة أحيانا بالكذب قال تعالى: «إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار»: الزمر: 3 و قال: «إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب»: المؤمن: 28.
و قال: «إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون»: النحل: 116 و قال: «بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج»: ق: 5 و ذلك أنهم لما عدوا الحق كذبا بنوا على الباطل و اعتمدوا عليه في حياتهم فوقعوا في نظام مختل يناقض بعض أجزائه بعضا و يدفع طرف منه طرفا.
قوله تعالى: «قال بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون» هذا جواب يعقوب و قد فوجىء بنعي ابنه و حبيبه يوسف دخلوا عليه و ليس معهم يوسف و هم يبكون يخبرونه أن يوسف قد أكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بالدم، و قد كان يعلم بمبلغ حسدهم له و هم قد انتزعوه من يده بإلحاح و إصرار و جاءوا بقميصه و عليه دم كذب ينادي بكذبهم فيما قالوه و أخبروا به.
فأضرب عن قولهم: «إنا ذهبنا نستبق» إلخ بقوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا» و التسويل الوسوسة أي ليس الأمر على ما تخبرون بل وسوست لكم أنفسكم فيه أمرا، و أبهم الأمر و لم يعينه ثم أخبر أنه صابر في ذلك من غير أن يؤاخذهم و ينتقم منهم لنفسه انتقاما و إنما يكظم ما هجم نفسه كظما.
فقوله: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا» تكذيب لما أخبروا به من أمر يوسف و بيان أنه على علم من أن فقد يوسف لا يستند إلى ما ذكروه من افتراس السبع و إنما يستند إلى مكر مكروه و تسويل من أنفسهم لهم، و الكلام بمنزلة التوطئة لما ذكره بعد من قوله: «فصبر جميل» إلى آخر الآية.
و قوله فصبر جميل مدح للصبر و هو من قبيل وضع السبب موضع المسبب و التقدير: سأصبر على ما أصابني فإن الصبر جميل و تنكير الصبر و حذف صفته و إبهامها للإشارة إلى فخامة أمره و عظم شأنه أو مرارة طعمه و صعوبة تحمله.
و قد فرع قوله: «فصبر جميل» على ما تقدم للإشعار بأن الأسباب التي أحاطت به و أفرغت عليه هذه المصيبة هي بحيث لا يسمع له معها إلا أن يسلك سبيل الصبر، و ذلك أنه (عليه السلام) فقد أحب الناس إليه يوسف و هو ذا يذكر له أنه صار أكلة للذئب و هذا قميصه ملطخا بالدم و هو يرى أنهم كاذبون فيما يخبرونه به، و يرى أن لهم صنعا في افتقاده و مكرا في أمره و لا طريق له إلى التحقيق فيما جرى على يوسف و التجسس مما آل إليه أمره و أين هو؟ و ما حاله؟ فإنما أعوانه على أمثال هذه النوائب و أعضاده لدفع ما يقصده من المكاره إنما هم أبناؤه و هم عصبة أولوا قوة و شدة فإذا كانوا هم الأسباب لنزول النائبة و وقوع المصيبة فبمن يقع فيهم؟ و بما ذا يدفعهم عن نفسه؟ فلا يسعه إلا الصبر.
غير أن الصبر ليس هو أن يتحمل الإنسان ما حمله من الرزية و ينقاد لمن يقصده بالسوء انقيادا مطلقا كالأرض الميتة التي تطؤها الأقدام و تلعب بها الأيدي فإن الله سبحانه طبع الإنسان على دفع المكروه عن نفسه و جهزه بما يقدم به على النوائب و الرزايا ما استطاع، و لا فضيلة في إبطال هذه الغريزة الإلهية بل الصبر هو الاستقامة في القلب و حفظ النظام النفساني الذي به يستقيم أمر الحياة الإنسانية من الاختلال، و ضبط الجمعية الداخلية من التفرق و التلاشي و نسيان التدبير و اختباط الفكر و فساد الرأي فالصابرون هم القائمون في النوائب على ساق لا تزيلهم هجمات المكاره، و غيرهم المنهزمون عند أول هجمة ثم لا يلوون على شيء.
و من هنا يعلم أن الصبر نعم السبيل على مقاومة النائبة و كسر سورتها إلا أنه ليس تمام السبب في إعادة العافية و إرجاع السلامة فهو كالحصن يتحصن به الإنسان لدفع العدو المهاجم، و أما عود نعمة الأمن و السلامة و حرية الحياة فربما احتاج إلى سبب آخر يجر إليه الفوز و الظفر، و هذا السبب في ملة التوحيد هو الله عز سلطانه فعلى الإنسان الموحد إذا نابته نائبة و نزلت عليه مصيبة أن يتحصن أولا بالصبر حتى لا يختل ما في داخله من النظام العبودي و لا يتلاشى معسكر قواه و مشاعره ثم يتوكل على ربه الذي هو فوق كل سبب راجيا أن يدفع عنه الشر و يوجه أمره إلى غاية صلاح حاله، و الله سبحانه غالب على أمره، و قد تقدم شيء من هذا البحث في تفسير قوله تعالى: «و استعينوا بالصبر و الصلاة»: البقرة: 45 في الجزء الأول من الكتاب.
و لهذا كله لما قال يعقوب (عليه السلام): «فصبر جميل» عقبه بقوله: «و الله المستعان على ما تصفون» فتمم كلمة الصبر بكلمة التوكل نظير ما أتى به في قوله في الآيات المستقبلة: «فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا إنه هو العليم الحكيم»: الآية 83 من السورة.
فقوله: «و الله المستعان على ما تصفون» - و هو من أعجب الكلام - بيان لتوكله على ربه يقول: إني أعلم أن لكم في الأمر مكرا و إن يوسف لم يأكله ذئب لكني لا أركن في كشف كذبكم و الحصول على يوسف بالأسباب الظاهرة التي لا تغني طائلا بغير إذن من الله و لا أتشحط بينها بل أضبط استقامة نفسي بالصبر و أوكل ربي أن يظهر على ما تصفون أن يوسف قد قضى نحبه و صار أكلة لذئب.
فظهر أن قوله: «و الله المستعان على ما تصفون» دعاء في موقف التوكل و معناه: اللهم إني توكلت عليك في أمري هذا فكن عونا لي على ما يصفه بني هؤلاء، و الكلمة مبنية على توحيد الفعل فإنها مسوقة سوق الحصر و معناها أن الله سبحانه هو المستعان لا مستعان لي غيره فإنه (عليه السلام) كان يرى أن لا حكم حقا إلا حكم الله كما قال فيما سيأتي من كلامه: «إن الحكم إلا لله عليه توكلت»، و لتكميل هذا التوحيد بما هو أعلى منه لم يذكر نفسه فلم يقل: سأصبر و لم يقل و الله أستعين على ما تصفون بل ترك نفسه و ذكر اسم ربه و إن الأمر منوط بحكمه الحق و هو من كمال توحيده و هو مستغرق في وجده و أسفه و حزنه ليوسف غير أنه ما كان يحب يوسف و لا يتوله فيه و لا يجد لفقده إلا لله و في الله.
قوله تعالى: «و جاءت سيارة فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه قال يا بشرى هذا غلام و أسروه بضاعة و الله عليم بما يعملون» قال الراغب: الورود أصله قصد الماء ثم يستعمل في غيره.
انتهى، و قال: دلوت الدلو إذا أرسلتها، و أدليتها إذا أخرجتها.
انتهى، و قيل بالعكس، و قال: الإسرار خلاف الإعلان.
انتهى.
و قوله: «قال يا بشرى هذا غلام» إيراده بالفصل مع أنه متفرع وقوعا على إدلاء الدلو للدلالة على أنه كان أمرا غير مترقب الوقوع فإن الذي يترقب وقوعه عن الإدلاء هو خروج الماء دون الحصول على غلام فكان مفاجئا لهم و لذا قال: «قال يا بشرى» و نداء البشرى كنداء الأسف و الويل و نظائرهما للدلالة على حضوره و جلاء ظهوره.
و قوله: «و الله عليم بما يعملون» مفاده ذم عملهم و الإبانة عن كونه معصية محفوظة عليهم سيؤاخذون بها، و يمكن أن يكون المراد به أن ذلك إنما كان بعلم من الله أراد بذلك أن يبلغ يوسف مبلغه الذي قدر له فإنه لو لم يخرج من الجب و لم يسر بضاعة لم يدخل بيت العزيز بمصر فلم يؤت ما أوتيه من الملك و العزة.
و معنى الآية: و جاءت جماعة مارة إلى هناك فأرسلوا من يطلب لهم الماء فأرسل دلوه في الجب ثم لما أخرجها فاجأهم بقوله: يا بشرى هذا غلام - و قد تعلق يوسف بالحبل فخرج - فأخفوه بضاعة يقصد بها البيع و التجارة و الحال أن الله سبحانه عليم بما يعملون يؤاخذهم عليه أو أن ذلك كان بعلمه تعالى و كان يسير يوسف هذا المسير ليستقر في مستقر العزة و الملك و النبوة.
قوله تعالى: «و شروه بثمن بخس دراهم معدودة و كانوا فيه من الزاهدين» الثمن البخس هو الناقص عن حق القيمة، و دراهم معدودة أي قليلة و الوجه فيه - على ما قيل - إنهم كانوا إذا كثرت الدراهم أو الدنانير وزنوها و لا يعدون إلا القليلة منها و المراد بالدراهم النقود الفضية الدائرة بينهم يومئذ، و الشراء هو البيع، و الزهد هو الرغبة عن الشيء أو هو كناية عن الاتقاء.
و الظاهر من السياق أن ضميري الجمع في قوله: «و شروه» «و كانوا» للسيارة و المعنى أن السيارة الذين أخرجوه من الجب و أسروه بضاعة باعوه بثمن بخس ناقص و هي دراهم معدودة قليلة و كانوا يتقون أن يظهر حقيقة الحال فينتزع هو من أيديهم.
و معظم المفسرين على أن الضميرين لإخوة يوسف و المعنى أنهم باعوا يوسف من السيارة بعد أن ادعوا أنه غلام لهم سقط في البئر و هم إنما حضروا هناك لإخراجه من الجب فباعوه من السيارة و كانوا يتقون ظهور الحال.
أو أن أول الضميرين للإخوة و الثاني للسيارة و المعنى أن الإخوة باعوه بثمن بخس دراهم معدودة و كانت السيارة من الراغبين عنه يظهرون من أنفسهم الزهد و الرغبة لئلا يعلو قيمته أو يرغبون عن اشترائه حقيقة لما يحدسون أن الأمر لا يخلو من مكر و إن الغلام ليس فيه سيماء العبيد.
و سياق الآيات لا يساعد على شيء من الوجهين فضمائر الجمع في الآية السابقة للسيارة و لم يقع للإخوة بعد ذلك ذكر صريح حتى يعود ضمير «و شروه» و «كانوا» أو أحدهما إليهم على أن ظاهر قوله في الآية التالية: «و قال الذي اشتراه من مصر» أنه اشتراه متحقق بهذا الشراء.
و أما ما ورد في الروايات «أن إخوة يوسف حضروا هناك و أخذوا يوسف منهم بدعوى أنه عبدهم سقط في البئر ثم باعوه منهم بثمن بخس» فلا يدفع ظاهر السياق في الآيات و لا أنه يدفع الروايات.
و ربما قيل: إن الشراء في الآية بمعنى الاشتراء و هو مسموع و هو نظير الاحتمالين السابقين مدفوع بالسياق.
قوله تعالى: «و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا» السياق يدل على أن السيارة حملوا يوسف معهم إلى مصر و عرضوه هناك للبيع فاشتراه بعض أهل مصر و أدخله في بيته.
و قد أعجبت الآيات في ذكر هذا الذي اشتراه و تعريفه فذكر فيها أولا بمثل قوله تعالى: «و قال الذي اشتراه من مصر» فأنبأت أنه كان رجلا من أهل مصر، و ثانيا بمثل قوله: «و ألفيا سيدها لدى الباب» فعرفته بأنه كان سيدا مصمودا إليه، و ثالثا بمثل قوله: «و قال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه» فأوضحت أنه كان عزيزا في مصر يسلم له أهل المدينة العزة و المناعة، ثم أشارت إلى أنه كان له سجن و هو من شئون مصدرية الأمور و الرئاسة بين الناس، و علم بذلك أن يوسف كان ابتيع أول يوم لعزيز مصر و دخل بيت العزة.
و بالجملة لم يعرف الرجل كل مرة في كلامه تعالى إلا بمقدار ما يحتاج إليه موقف الحديث من القصة، و لم يكن لأول مرة في تعريفه حاجة إلى أزيد من وصفه بأنه كان رجلا من أهل مصر و بها بيته فلذا اقتصر في تعريفه بقوله: «و قال الذي اشتراه من مصر».
و كيف كان، الآية تنبىء على إيجازها بأن السيارة حملوا يوسف معهم و أدخلوه مصر و شروه من بعض أهلها فأدخله بيته و وصاه امرأته قائلا: أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا.
و العادة الجارية تقضي أن لا يهتم السادة و الموالي بأمر أرقائهم دون أن يتفرسوا في وجه الرقيق آثار الأصالة و الرشد، و يشاهد في سيماه الخير و السعادة، و على الخصوص الملوك و السلاطين و الرؤساء الذين كان يدخل كل حين في بلاطاتهم عشرات و مئات من أحسن أفراد الغلمان و الجواري فما كانوا ليتولعوا في كل من اقتنوه و لا ليتولهوا كل من ألفوه فكان لأمر العزيز بإكرام مثواه و رجاء الانتفاع به أو اتخاذه ولدا معنى عميق و على الأخص من جهة أنه أمر بذلك امرأته و سيدة بيته و ليس من المعهود أن تباشر الملكات و العزيزات جزئيات الأمور و سفاسفها و لا أن تتصدى السيدات المنيعة مكانا، أمور العبيد و الغلمان.
نعم: إن يوسف (عليه السلام) كان ذا جمال بديع يبهر العقول و يوله الألباب، و كان قد أوتي مع جمال الخلق حسن الخلق صبورا وقورا لطيف الحركات مليح اللهجة حكيم المنطق كريم النفس نجيب الأصل، و هذه صفات لا تنمو في الإنسان إلا و أعراقها ناجمة فيه أيام صباوته و آثارها لائحة من سيماه من بادىء أمره.
فهذه هي التي جذبت نفس العزيز إلى يوسف - و هو طفل صغير - حتى تمنى أن ينشأ يوسف عنده في خاصة بيته فيكون من أخص الناس به ينتفع به في أموره الهامة و مقاصده العالية أو يدخل في أرومته و يكون ولدا له و لامرأته بالتبني فيعود وارثا لبيته.
و من هنا يمكن أن يستظهر أن العزيز كان عقيما لا ولد له من زوجته و لذلك ترجى أن يتبنى هو و زوجته يوسف.
فقوله: «و قال الذي اشتراه من مصر» أي العزيز «لامرأته» و هي العزيزة «أكرمي مثواه» أي تصدي بنفسك أمره و اجعلي له مقاما كريما عندك «عسى أن ينفعنا» في مقاصدنا العالية و أمورنا الهامة «أو نتخذه ولدا» بالتبني.
قوله تعالى: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض و لنعلمه من تأويل الأحاديث و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون» قال في المفردات، المكان عند أهل اللغة الموضع الحاوي للشيء قال و يقال: مكنته و مكنت له فتمكن، قال تعالى: «و لقد مكناكم في الأرض» «و لقد مكناهم فيما إن مكناكم فيه» «أ و لم نمكن لهم» «و نمكن لهم في الأرض» قال: قال الخليل: المكان مفعل من الكون، و لكثرته في الكلام أجرى مجرى فعال فقيل: تمكن و تمسكن مثل تمنزل.
انتهى.
فالمكان هو مقر الشيء من الأرض، و الإمكان و التمكين الإقرار و التقرير في المحل، و ربما يطلق المكان المكانة لمستقر الشيء من الأمور المعنوية كالمكانة في العلم و عند الناس و يقال: أمكنته من الشيء فتمكن منه أي أقدرته فقدر عليه و هو من قبيل الكناية.
و لعل المراد من تمكين يوسف في الأرض إقراره فيه بما يقدر معه على التمتع من مزايا الحياة و التوسع فيها بعد ما حرم عليه إخوته القرار على وجه الأرض فألقوه في غيابة الجب ثم شروه بثمن بخس ليسير به الركبان من أرض إلى أرض و يتغرب عن أرضه و مستقر أبيه.
و قد ذكر تعالى تمكينه ليوسف في الأرض في خلال قصته مرتين إحداهما بعد ذكر خروجه من غيابة الجب و تسيير السيارة إياه إلى مصر و بيعه من العزيز و هو قوله في هذه الآية «و لقد مكنا ليوسف في الأرض» و ثانيتهما بعد ذكر خروجه من سجن العزيز و انتصابه على خزائن أرض مصر حيث قال تعالى: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض يتبوأ منها حيث يشاء»: الآية 56 من السورة و العناية في الموضعين واحدة.
و قوله: «و كذلك مكنا ليوسف في الأرض» الإشارة إلى ما ذكره من إخراجه من الجب و بيعه و استقراره في بيت العزيز فإن كان المراد من تمكينه في الأرض هذا المقدار من التمكين الذي حصل له من دخوله في بيت العزيز و استقراره فيه على أهنإ عيش بتوصية العزيز فالتشبيه من قبيل تشبيه الشيء بنفسه ليدل به على غزاره الأوصاف المذكورة له و ليس من القسم المذموم من تشبيه الشيء بنفسه كقوله: كأننا و الماء من حولنا.
قوم جلوس حولهم ماء.
بل المراد أن ما فعلنا به من التمكين في الأرض كان يماثل هذا الذي وصفناه و أخبرنا عنه فهو يتضمن من الأوصاف الغزيرة ما يتضمنه ما حدثناه فهو تلطف في البيان بجعل الشيء مثل نفسه بالتشبيه دعوى ليلفت به ذهن السامع إلى غزاره أوصافه و أهميتها و تعلق النفس بها كما هو شأن التشبيه.
و من هذا الباب قوله تعالى: «ليس كمثله شيء»: الشورى: 11 و قوله تعالى: «لمثل هذا فليعمل العاملون»: الصافات: 61 و المراد أن كل ما اتصف من الصفات بما اتصف به الله سبحانه لا يشبهه و لا يماثله شيء، و إن كل ما اشتمل من الصفات على ما اشتملت عليه الجنة و ماثلها في صفاتها فليعمل العاملون لأجل الفوز به.
و إن كان المراد بالتمكين مطلق تمكينه في الأرض فتشبيهه بما ذكر من الوصف من قبيل تشبيه الكلي ببعض أفراده ليدل به على أن سائر الأفراد حالها حال هذا الفرد أو تشبيه الكل ببعض أجزائه للدلالة على أن الأجزاء الباقية حالها حال ذاك الجزء المذكور فيكون المعنى كان تمكيننا ليوسف في الأرض يجري على هذا النمط المذكور في قصة خروجه من الجب و دخوله مصر و استقراره في بيت العزيز على أحسن حال فإن إخوته حسدوه و حرموا عليه القرار على وجه الأرض عند أبيه فألقوه في غيابة الجب و سلبوه نعمة التمتع في وطنه في البادية و باعوه من السيارة ليغربوه من أهله فجعل الله سبحانه كيدهم هذا بعينه سببا يتوسل به إلى التمكن و الاستقرار في بيت العزيز بمصر على أحسن حال ثم تعلقت به امرأة العزيز و راودته هي و نسوة مصر ليوردنه في الصبوة و الفحشاء فصرف الله عنه كيدهن و جعل ذلك بعينه وسيلة لظهور إخلاصه و صدقه في إيمانه ثم بدا لهم أن يجعلوه في السجن و يسلبوا عنه حرية معاشرة الناس و المخالطة لهم فتسبب الله سبحانه بذلك بعينه إلى تمكينه في الأرض تمكينا يتبوأ من الأرض حيث يشاء لا يمنعه مانع و لا يدفعه دافع.
و بالجملة الآية على هذا التقدير من قبيل قوله تعالى: «كذلك يضل الله الكافرين»: المؤمن 74 و قوله: «كذلك يضرب الله الأمثال»: الرعد: 17 أي إن إضلاله تعالى للكافرين يجري دائما هذا المجرى، و ضربه الأمثال أبدا على هذا النحو من المثل المضروب و هو أنموذج ينبغي أن يقاس إليه غيره.
و قوله: «و لنعلمه من تأويل الأحاديث» بيان لغاية التمكين المذكور و اللام للغاية، و هو معطوف على مقدر و التقدير: مكنا له في الأرض لنفعل به كذا و كذا و لنعلمه من تأويل الأحاديث و إنما حذف المعطوف عليه للدلالة على أن هناك غايات أخر لا يسعها مقام التخاطب، و من هذا القبيل قوله تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75 و نظائره.
و قوله: «و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون» الظاهر أن المراد بالأمر الشأن و هو ما يفعله في الخلق مما يتركب منه نظام التدبير قال تعالى: «يدبر الأمر»: يونس: 3، و إنما أضيف إليه تعالى لأنه مالك كل أمر كما قال تعالى: «ألا له الخلق و الأمر تبارك الله رب العالمين: الأعراف: 54.
و المعنى أن كل شأن من شئون الصنع و الإيجاد من أمره تعالى و هو تعالى غالب عليه و هو مغلوب له مقهور دونه يطيعه فيما شاء، ينقاد له فيما أراد، ليس له أن يستكبر أو يتمرد فيخرج من سلطانه كما ليس له أن يسبقه تعالى و يفوته قال تعالى: «إن الله بالغ أمره»: الطلاق: 3.
و بالجملة هو تعالى غالب على هذه الأسباب الفعالة بإذنه يحمل عليها ما يريده فليس لها إلا السمع و الطاعة و لكن أكثر الناس لا يعلمون لحسبانهم أن الأسباب الظاهرة مستقلة في تأثيرها فعاله برءوسها فإذا ساقت الحوادث إلى جانب لم يحولها عن وجهتها شيء و قد أخطئوا.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: صليت مع علي بن الحسين (عليهما السلام) الفجر بالمدينة يوم الجمعة فلما فرغ من صلاته و تسبيحه نهض إلى منزله و أنا معه فدعا مولاة له تسمى سكينة فقال لها: لا يعبر على بابي سائل إلا أطعمتموه فإن اليوم يوم الجمعة. قلت: ليس كل من يسأل مستحقا فقال: يا ثابت أخاف أن يكون بعض من يسألنا محقا فلا نطعمه و نرده فينزل بنا أهل البيت ما نزل بيعقوب و آله أطعموهم. إن يعقوب كان يذبح كل يوم كبشا فيتصدق به و يأكل هو و عياله منه، و إن سائلا مؤمنا صواما محقا له عند الله منزلة و كان مجتازا غريبا اعتر على باب يعقوب عشية جمعة عند أوان إفطاره يهتف على بابه: أطعموا السائل المجتاز الغريب الجائع من فضل طعامكم. يهتف بذلك على بابه مرارا قد جهلوا حقه و لم يصدقوا قوله. فلما أيس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر و شكى جوعه إلى الله و بات طاويا و أصبح صائما جائعا صابرا حامدا لله و بات يعقوب و آل يعقوب شباعا بطانا، و أصبحوا و عندهم من فضل طعامهم. قال: فأوحى الله عز و جل إلى يعقوب في صبيحة تلك الليلة: لقد أذللت يا يعقوب عبدي ذلة استجررت بها غضبي، و استوجبت بها أدبي و نزول عقوبتي و بلواي عليك و على ولدك يا يعقوب إن أحب أنبيائي إلي و أكرمهم علي من رحم مساكين عبادي و قربهم إليه و أطعمهم و كان لهم مأوى و ملجأ. يا يعقوب ما رحمت دميال عبدي المجتهد في عبادته القانع باليسير من ظاهر الدنيا عشاء أمس لما اعتر ببابك عند أوان إفطاره و يهتف بكم أطعموا السائل الغريب المجتاز القانع، فلم تطعموه شيئا فاسترجع و استعبر و شكى ما به إلي، و بات جائعا و طاويا حامدا و أصبح لي صائما و أنت يا يعقوب و ولدك شباع و أصبحت و عندكم فضل من طعامكم. أ و ما علمت يا يعقوب إن العقوبة و البلوى إلى أوليائي أسرع منها إلى أعدائي؟ و ذلك حسن النظر مني لأوليائي و استدراج مني لأعدائي. أما و عزتي لأنزلن بك بلواي، و لأجعلنك و ولدك غرضا لمصابي، و لأؤدبنك بعقوبتي فاستعدوا لبلواي و ارضوا بقضائي و اصبروا للمصائب. فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): جعلت فداك متى رأى يوسف الرؤيا؟ فقال: في تلك الليلة التي بات فيها يعقوب و آل يعقوب شباعا، و بات فيها دميال طاويا جائعا فلما رأى يوسف الرؤيا و أصبح يقصها على أبيه يعقوب اغتم يعقوب لما سمع من يوسف و بقي مغتما فأوحى الله إليه أن استعد للبلاء فقال يعقوب ليوسف: لا تقصص رؤياك على إخوتك فإني أخاف أن يكيدوا لك كيدا فلم يكتم يوسف رؤياه، و قصها على إخوته. قال علي بن الحسين (عليهما السلام): إن أول بلوى نزل بيعقوب و آل يعقوب الحسد ليوسف لما سمعوا منه الرؤيا. قال: فاشتدت رقة يعقوب على يوسف و خاف أن يكون ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء إنما هو في يوسف خاصة فاشتدت رقته عليه من بين ولده. فلما رأى إخوة يوسف ما يصنع يعقوب بيوسف، و تكرمته إياه، و إيثاره إياه عليهم اشتد ذلك عليهم و بدا البلاء فيهم فتأمروا فيما بينهم و «قالوا ليوسف و أخوه - أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين - اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم - و تكونوا من بعده قوما صالحين» أي تتوبون. فعند ذلك «قالوا يا أبانا ما لك لا تأمنا على يوسف و إنا له لناصحون» فقال يعقوب «إني ليحزنني أن تذهبوا به - و أخاف أن يأكله الذئب و أنتم عنه غافلون» فانتزعه مقدرا حذرا عليه منه أن يكون البلوى من الله عز و جل على يعقوب من يوسف خاصة لموقعه في قلبه و حبه له. قال: فغلب قدرة الله و قضاؤه و نافذ أمره في يعقوب و يوسف و إخوته فلم يقدر يعقوب على دفع البلاء عن نفسه و لا يوسف و ولده، فدفعه إليهم و هو لذلك كاره متوقع البلوى من الله في يوسف. فلما خرجوا من منزلهم لحقهم مسرعا فانتزعه من أيديهم و ضمه إليه و اعتنقه و بكى و دفعه إليهم فانطلقوا به مسرعين مخافة أن يأخذه منهم و لا يدفعه إليهم فلما أمعنوا به أتوا به غيضة أشجار فقالوا: نذبحه و نلقيه تحت هذه الشجرة فيأكله الذئب الليلة فقال كبيرهم: «لا تقتلوا يوسف» و لكن «ألقوه في غيابة الجب - يلتقطه بعض السيارة إن كنتم فاعلين. فانطلقوا به إلى الجب فألقوه فيه و هم يظنون أنه يغرق فيه فلما صار في قعر الجب ناداهم: يا ولد رومين أقرءوا يعقوب السلام مني فلما رأوا كلامه، قال بعضهم لبعض: لا تزولوا من هاهنا حتى تعلموا أنه قد مات فلم يزالوا بحضرته حتى أيسوا «و رجعوا إلى أبيهم عشاء يبكون قالوا يا أبانا إنا ذهبنا نستبق و تركنا يوسف عند متاعنا فأكله الذئب». فلما سمع مقالتهم استرجع و استعبر و ذكر ما أوحى الله عز و جل إليه من الاستعداد للبلاء فصبر و أذعن للبلوى و قال لهم: «بل سولت لكم أنفسكم أمرا» و ما كان الله ليطعم لحم يوسف الذئب من قبل أن أرى تأويل رؤياه الصادقة. قال أبو حمزة: ثم انقطع حديث علي بن الحسين (عليهما السلام) عند هذا. قال أبو حمزة: فلما كان من الغد غدوت إليه و قلت له: جعلت فداك إنك حدثتني أمس بحديث ليعقوب و ولده ثم قطعته فيما كان من قصة إخوة يوسف و قصة يوسف بعد ذاك؟ فقال: إنهم لما أصبحوا قالوا: انطلقوا بنا حتى ننظر ما حال يوسف: أ مات أم هو حي؟. فلما انتهوا إلى الجب وجدوا بحضرة الجب سيارة و قد أرسلوا واردهم فأدلى دلوه فإذا جذب دلوه فإذا هو غلام معلق بدلوه فقال لأصحابه: يا بشرى هذا غلام فلما أخرجوه أقبل إليهم إخوة يوسف فقالوا: هذا عبدنا سقط منا أمس في هذا الجب و جئنا اليوم لنخرجه فانتزعوه من أيديهم و نحوا به ناحية فقالوا له: إما أن تقر لنا أنك عبد لنا فنبيعك بعض السيارة أو نقتلك فقال لهم يوسف: لا تقتلوني و اصنعوا ما شئتم. فأقبلوا به إلى السيارة فقالوا: من يشتري منكم هذا العبد منا؟ فاشتراه رجل منهم بعشرين درهما و كان إخوته فيه من الزاهدين و سار به الذي اشتراه من البدو حتى أدخله مصر فباعه الذي اشتراه من البدو من ملك مصر و ذلك قول الله عز و جل: «و قال الذي اشتراه من مصر لامرأته - أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا». قال أبو حمزة: فقلت لعلي بن الحسين (عليهما السلام): ابن كم كان يوسف يوم ألقوه في الجب؟ فقال: ابن تسع سنين فقلت: كم كان بين منزل يعقوب يومئذ و بين مصر فقال: مسيرة اثنا عشر يوما.
الحديث.
أقول: و للحديث ذيل سنورده في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى و فيه نكات ربما لم تلائم ظاهر ما تقدم من بيان الآيات لكنها ترتفع بأدنى تأمل.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري عن ابن عمر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم.
و في تفسير العياشي، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الأنبياء على خمسة أنواع منهم من يسمع الصوت مثل صوت السلسلة فيعلم ما عني به، و منهم من ينبأ في منامه مثل يوسف و إبراهيم (عليهما السلام)، و منهم من يعاين، و منهم من نكت في قلبه و يوقر في أذنه.
و فيه، عن أبي خديجة عن رجل عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما ابتلي يعقوب بيوسف أنه ذبح كبشا سمينا و رجل من أصحابه يدعى بيوم بقوم محتاج لم يجد ما يفطر عليه فأغفله و لم يطعمه فابتلي بيوسف، و كان بعد ذلك كل صباح مناديه ينادي: من لم يكن صائما فليشهد غداء يعقوب، فإذا كان المساء نادى من كان صائما فليشهد عشاء يعقوب.
و في تفسير القمي، قال: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «لتنبئنهم بأمرهم هذا و هم لا يشعرون» يقول: لا يشعرون أنك أنت يوسف. أتاه جبرئيل و أخبره بذلك.
و فيه، و في رواية أبي الجارود: في قول الله: «و جاءوا على قميصه بدم كذب» قال: إنهم ذبحوا جديا على قميصه.
و في أمالي الشيخ، بإسناده: في قوله عز و جل: «فصبر جميل» قال: بلا شكوى.
أقول: و كان الرواية عن الصادق (عليه السلام) بقرينة كونه مسبوقا بحديث عنه، و روي هذا المعنى في الدر المنثور، عن حيان بن جبلة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في المضامين السابقة روايات أخر.
|