بيان
فصل آخر مختار من قصة يوسف (عليه السلام) يذكر الله تعالى فيه مجيء إخوته إليه في خلال سني الجدب لاشتراء الطعام لبيت يعقوب، و كان ذلك مقدمة لضم يوسف (عليه السلام) أخاه من أمه - و هو المحسود المذكور في قوله تعالى حكاية عن الإخوة ليوسف و أخوه أحب إلى أبينا منا و نحن عصبة - إليه ثم تعريفهم نفسه و نقل بيت يعقوب (عليه السلام) من البدو إلى مصر.
و إنما لم يعرفهم نفسه ابتداء لأنه أراد أن يلحق أخاه من أمه إلى نفسه و يرى إخوته من أبيه عند تعريفهم نفسه صنع الله بهما و من الله عليهما أثر تقواهما و صبرهما على ما آذوهما عن الحسد و البغي ثم يشخصهم جميعا، و الآيات الخمس تتضمن قصة دخولهم مصر و اقتراحه أن يأتوا بأخيهم من أبيهم إليه إن عادوا إلى اشتراء الطعام و الميرة و تقبلهم ذلك.
قوله تعالى: «و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون» في الكلام حذف كثير و إنما ترك الاقتصاص له لعدم تعلق غرض هام به، و إنما الغرض بيان لحوق أخي يوسف من أمه به و إشراكه معه في النعمة و المن الإلهي ثم معرفتهم بيوسف و لحوق بيت يعقوب به فهو شطر مختار من قصته و ما جرى عليه بعد عزة مصر.
و الذي جاء إليه من إخوته هم العصبة ما خلا أخيه من أمه فإن يعقوب (عليه السلام) كان يأنس به و لا يخلي بينه و بينهم بعد ما كان، من أمر يوسف ما كان و الدليل على ذلك كله ما سيأتي من الآيات.
و كان بين دخولهم هذا على أخيهم يوسف و بين انتصابه على خزائن الأرض و تقلده عزة مصر بعد الخروج من السجن أكثر من سبع سنين فإنهم إنما جاءوا إليه في بعض السنين المجدبة و قد خلت السبع السنون المخصبة، و لم يروه منذ سلموه إلى السيارة يوم أخرج من الجب و هو صبي و قد مر عليه سنون في بيت العزيز و لبث بضع سنين في السجن و تولى أمر الخزائن منذ أكثر من سبع سنين، و هو اليوم في زي عزيز مصر لا يظن به أنه رجل عبري من غير القبط، و هذا كله صرفهم عن أن يظنوا به أنه أخوهم و يعرفوه لكنه عرفهم بكياسته أو بفراسة النبوة كما قال تعالى: «و جاء إخوة يوسف فدخلوا عليه فعرفهم و هم له منكرون».
قوله تعالى: «و لما جهزهم بجهازهم قال ائتوني بأخ لكم من أبيكم أ لا ترون إني أوفي الكيل و أنا خير المنزلين» قال الراغب في المفردات،: الجهاز ما يعد من متاع و غيره، و التجهيز حمل ذلك أو بعثه.
انتهى.
فالمعنى و لما حملهم ما أعد لهم من الجهاز و الطعام الذي باعه منهم أمرهم بأن يأتوا إليه بأخ لهم من أبيهم و قال ائتوني «إلخ».
و قوله: «أ لا ترون إني أوفي الكيل - أي لا أبخس فيه و لا أظلمكم بالاتكاء على قدرتي و عزتي - و أنا خير المنزلين» أكرم النازلين بي و أحسن مثواهم، و هذا تحريض لهم أن يعودوا إليه ثانيا و يأتوا إليه بأخيهم من أبيهم كما أن قوله في الآية التالية: «فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون» تهديد لهم لئلا يعصوا أمره، و كما أن قولهم في الآية الآتية: «سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون» تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام).
ثم من المعلوم أن قوله (عليه السلام) أوان خروجهم: «ائتوني بأخ لكم من أبيكم» مع ما فيه من التأكيد و التحريض و التهديد ليس من شأنه أن يورد كلاما ابتدائيا من غير مقدمة و توطئة تعمي عليهم و تصرفهم أن يتفطنوا أنه يوسف أو يتوهموا فيه ما يريبهم في أمره.
و هو ظاهر.
و قد أورد المفسرون في القصة من مفاوضته لهم و تكليمه إياهم أمورا كثيرة لا دليل على شيء منها من كلامه تعالى في سياق القصة و لا أثر يطمأن إليه في أمثال المقام.
و كلامه تعالى خال عن التعرض لذلك، و إنما الذي يستفاد منه أنه سألهم عن خطبهم فأخبروه و هم عشرة أنهم إخوة و أن لهم أخا آخر بقي عند أبيهم لا يفارقه أبوه و لا يرضى أن يفارقه لسفر أو غيره فأحب العزيز أن يأتوا به إليه فيراه.
قوله تعالى: «فإن لم تأتوني به فلا كيل لكم عندي و لا تقربون» الكيل بمعنى المكيل و هو الطعام، و لا تقربون أي لا تقربوني بدخول أرضي و الحضور عندي للامتيار و اشتراء الطعام.
و معنى الآية ظاهر، و هو تهديد منه لهم لو خالفوا عن أمره كما تقدم.
قوله تعالى: «قالوا سنراود عنه أباه و إنا لفاعلون» المراودة كما تقدم هي الرجوع في أمر مرة بعد مرة بالإلحاح أو الاستخدام، ففي قولهم ليوسف (عليه السلام) «سنراود عنه أباه» دليل على أنهم قصوا عليه قصته أن أباهم يضن به و لا يرضى بمفارقته له و يأبى أن يبتعد منه لسفر أو أي غيبة، و في قولهم: «أباه» و لم يقولوا: أبانا تأييد لذلك.
و قولهم: «و إنا لفاعلون» أي فاعلون للإتيان به أو للمراودة لحمله معهم و الإتيان به إليه، و معنى الآية ظاهر، و فيه تقبل منهم لذلك في الجملة و تطييب لنفس يوسف (عليه السلام) كما تقدم.
قوله تعالى: «و قال لفتيانه اجعلوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون» الفتيان جمع الفتى و هو الغلام، و قال الراغب: البضاعة قطعة وافرة من المال يقتنى للتجارة يقال: أبضع بضاعة و ابتضعها، قال تعالى: «هذه بضاعتنا ردت إلينا» و قال تعالى: «ببضاعة مزجاة» و الأصل في هذه الكلمة البضع - بفتح الباء - و هو جملة من اللحم يبضع أي يقطع - قال - و فلان بضعة مني أي جار مجرى بعض جسدي لقربه مني - قال - و البضع بالكسر المنقطع من العشرة، و يقال ذلك لما بين الثلاث إلى العشرة و قيل: بل هو فوق الخمس و دون العشرة.
انتهى، و الرحال جمع رحل و هو الوعاء و الأثاث، و الانقلاب الرجوع.
و معنى الآية: و قال يوسف (عليه السلام) لغلمانه: اجعلوا مالهم و بضاعتهم التي قدموها ثمنا لما اشتروه من الطعام في أوعيتهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا و رجعوا إلى أهلهم - و فتحوا الأوعية - لعلهم يرجعون إلينا و يأتوا بأخيهم فإن ذلك يقع في قلوبهم و يطمعهم إلى الرجوع و التمتع من الإكرام و الإحسان.
|