بيان
كان القبيل السابق من الآيات يذكر كيفية جريان السنة الإلهية في هداية الإنسان إلى سبيل الحق و دين التوحيد ثم إسعاد من استجاب الدعوة الحقة في الدنيا و الآخرة و عقاب من كفر بالحق و فسق عن الأمر في دنياه و عقباه، و كان ذكر نزول التوراة و ما جرى بعد ذلك على بني إسرائيل كالمثال الذي يورد في الكلام لتطبيق الحكم الكلي على أفراده و مصاديقه، و هذا القبيل من الآيات يذكر جريان السنة المذكورة في هذه الأمة كما جرت في أمة موسى، و قد استنتج من الآيات لزوم التجنب عن الشرك و وجوب التزام طريق التوحيد حيث قيل: «لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا».
قوله تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» أي للملة التي هي أقوم كما قال تعالى: «قل إنني هداني ربي إلى صراط مستقيم دينا قيما ملة إبراهيم حنيفا»: الأنعام: 161.
و الأقوم أفعل تفضيل و الأصل في الباب القيام ضد القعود الذي هو أحد أحوال الإنسان و أوضاعه، و هو أعدل حالاته يتسلط به على ما يريده من العمل بخلاف القعود و الاستلقاء و الانبطاح و نحوها ثم كني به عن حسن تصديه للأمور إذا قوي عليها من غير عجز و عي و أحسن إدارتها للغاية يقال: قام بأمر كذا إذا تولاه و قام على أمر كذا أي راقبه و حفظه و راعى حاله بما يناسبه.
و قد وصف الله سبحانه هذه الملة الحنيفية بالقيام كما قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30، و قال: «فأقم وجهك للدين القيم»: الروم: 43.
و ذلك لكون هذا الدين مهيمنا على ما فيه خير دنياهم و آخرتهم قيما على إصلاح حالهم في معاشهم، و معادهم و ليس إلا لكونه موافقا لما تقتضيه الفطرة الإنسانية و الخلقة التي سواه الله سبحانه عليها و جهزه بحسبها بما يهديه إلى غايته التي أريدت له، و سعادته التي هيئت لأجله.
و على هذا فوصف هذه الملة في قوله: «للتي هي أقوم» بأنها أقوم إن كان بقياسها إلى سائر الملل إنما هو من جهة أن كلا من تلك الملل سنة حيوية اتخذها ناس لينتفعوا بها في شيء من أمور حياتهم لكنها إن كان تنفعهم في بعضها فهي تضرهم في بعض آخر و إن كانت تحرز لهم شطرا مما فيه هواهم فهي تفوت عليهم شطرا عظيما مما فيه خيرهم، و إنما ذلك الإسلام يقوم على حياتهم و بجميع ما يهمهم في الدنيا و الآخرة من غير أن يفوته فائت فالملة الحنيفية أقوم من غيرها على حياة الإنسان.
و إن كان بالقياس إلى سائر الشرائع الإلهية السابقة كشريعة نوح و موسى و عيسى (عليهما السلام) كما هو ظاهر جعلها مما يهدي إليها القرآن قبال ما تقدم من ذكر التوراة و جعلها هدى لبني إسرائيل فإنما هو من جهة أن هذه الملة الحنيفية أكمل من الملل السابقة التي تتضمنها كتب الأنبياء السابقين فهي تشتمل من المعارف الإلهية على آخر ما تتحمله البنية الإنسانية و من الشرائع على ما لا يشذ منه شاذ من أعمال الإنسان الفردية و الاجتماعية، و قد قال تعالى: «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه»: المائدة - 48 فما يهدي إليه القرآن أقوم مما يهدي إليه غيره من الكتب.
قوله تعالى: «و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرا كبيرا» الصالحات صفة محذوف موصوفها اختصارا و التقدير و عملوا الأعمال الصالحات.
و في الآية جعل حق للمؤمنين الذين آمنوا و عملوا الصالحات على الله سبحانه كما يؤيده تسمية ذلك أجرا، و يؤيده أيضا قوله في موضع آخر: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون»: حم السجدة: 8 و لا محذور في أن يكون لهم على الله حق إذا كان الله سبحانه هو الجاعل له، و نظيره قوله: «ثم ننجي رسلنا و الذين آمنوا كذلك حقا علينا ننج المؤمنين»: يونس: 103.
و العناية في الآية ببيان الوعد المنجز كما أن الآية التالية تعني ببيان الوعيد المنجز و هو العذاب لمن يكفر بالآخرة، و أما من آمن و لم يعمل الصالحات فليس ممن له على الله أجر منجز و حق ثابت بل أمره مراعى بتوبة أو شفاعة حتى يلحق بذلك على معشر الصالحين من المؤمنين قال تعالى: «و آخرون اعترفوا بذنوبهم خلطوا عملا صالحا و آخر سيئا عسى الله أن يتوب عليهم»: التوبة - 102 و قال: «و آخرون مرجون لأمر الله إما يعذبهم و إما يتوب عليهم»: التوبة: 106.
نعم لهم ثبات على الحق بإيمانهم كما قال تعالى: «و بشر الذين آمنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم»: يونس: 2 و قال: «يثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا و في الآخرة»: إبراهيم - 27.
قوله تعالى: «و أن الذين لا يؤمنون بالآخرة اعتدنا لهم عذابا أليما» الإعتاد الإعداد و التهيئة من العتاد بالفتح و هو على ما ذكره الراغب ادخار الشيء قبل الحاجة إليه كالإعداد.
و ظاهر السياق أنه عطف على قوله في الآية السابقة: «أن لهم» إلخ فيكون التقدير و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن الذين لا يؤمنون «إلخ» و كون ذلك بشارة للمؤمنين من حيث إنه انتقام إلهي من أعدائهم في الدين.
و إنما خص بالذكر من أوصاف هؤلاء عدم إيمانهم بالآخرة مع جواز أن يكفروا بغيرها كالتوحيد و النبوة لأن الكلام مسوق لبيان الأثر الذي يعقبه الدين القيم، و لا موقع للدين و لا فائدة له مع إنكار المعاد و إن اعترف بوحدانية الرب تعالى و غيرها من المعارف، و لذلك عد سبحانه نسيان يوم الحساب أصلا لكل ضلال في قوله: «إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب»: ص - 26.
قوله تعالى: «و يدع الإنسان بالشر دعاءه بالخير و كان الإنسان عجولا» المراد بالدعاء على ما يستفاد من السياق مطلق الطلب سواء كان بلفظ الدعاء كقوله: اللهم ارزقني مالا و ولدا و غير ذلك أو من غير دعاء لفظي بل بطلب و سعي فإن ذلك كله دعاء و سؤال من الله سواء اعتقد به الإنسان و تنبه له أم لا إذ لا معطي و لا مانع في الحقيقة إلا الله سبحانه، قال تعالى: «يسأله من في السماوات و الأرض»: الرحمن: 29 و قال: «و آتاكم من كل ما سألتموه»: إبراهيم: 34 فالدعاء مطلق الطلب و الباء في قوله: «بالشر» و «بالخير» للصلة و المراد أن الإنسان يدعو الشر و يسأله دعاء كدعائه الخير و سؤاله و طلبه.
و على هذا فالمراد بكون الإنسان عجولا أنه لا يأخذ بالأناة إذا أراد شيئا حتى يتروى و يتفكر في جهات صلاحه و فساده حتى يتبين له وجه الخير فيما يريده من الأمر فيطلبه و يسعى إليه بل يستعجل في طلبه بمجرد ما ذكره و تعلق به هواه فربما كان شرا فتضرر به و ربما كان خيرا فانتفع به.
و الآية و ما يتلوها من الآيات في سياق التوبيخ و اللوم متفرعة على ما تقدم من حديث المن الإلهي بالهداية إلى التي هي أقوم كأنه قيل: إنا أنزلنا كتابا يهدي إلى ملة هي أقوم تسوق الآخذين بها إلى السعادة و الجنة و تؤديهم إلى أجر كبير، و ترشدهم إلى الخير كله لكن جنس الإنسان عجول لا يفرق لعجلته بين الخير و الشر بل يطلب كل ما لاح له و يسأل كل ما بدا له فتعلق به هواه من غير تمييز بين الخير و الشر و الحق و الباطل فيرد الشر كما يرد الخير و يهجم على الباطل كما يهجم على الحق.
و ليس ينبغي له أن يستعجل و يطلب كل ما يهواه و يشتهيه و لا يحق له أن يرتكب كل ما له استطاعة ارتكابه و يقترف كل ما أقدره الله عليه و مكنه منه مستندا إلى أنه من التيسير الإلهي و لو شاء لمنعه فهذان الليل و النهار و آيتان إلهيتان و ليستا على نمط واحد بل آية الليل ممحوة تسكن فيها الحركات و تهدأ فيها العيون، و آية النهار مبصرة تنتبه فيها القوى و يبتغي فيها الناس من فضل ربهم و يعلمون بها عدد السنين و الحساب.
كذلك أعمال الشر و الخير جميعا كائنة في الوجود بإذن الله مقدورة للإنسان بإقداره سبحانه لكن ذلك لا يكون دليلا على جواز ارتكاب الإنسان الشر و الخير جميعا و أن يستعجل فيطلب كل ما بدا له فيرد الشر كما يرد الخير و يقترف المعصية كما يقترف الطاعة بل يجب عليه أن يأخذ عمل الشر ممحوا فلا يقترفه و عمل الخير مبصرا فيأتي به و يبتغي بذلك فضل ربه من سعادة الآخرة و الرزق الكريم فإن عمل الإنسان هو طائره الذي يدله على سعادته و شقائه، و هو لازم له غير مفارقة فما عمله من خير أو شر فهو لا يفارقه إلى غيره و لا يستدل به سواه.
هذا ما يعطيه السياق من معنى الآية و يتبين به: أولا: أن الآية و ما يتلوها من الآيات مسوقة لغرض التوبيخ و اللوم، و هو وجه اتصالها و ما بعدها بما تقدمها من قوله: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» الآية كما أشرنا إليه آنفا فهو سبحانه يلوم الإنسان أنه لما به من قريحة الاستعجال لا يقدر نعمة الهداية الإلهية حق قدرها و لا يفرق بين الملة التي هي أقوم و بين غيرها فيدعو بالشر دعاءه بالخير و يقصد الشقاء كما يقصد السعادة.
و ثانيا: أن المراد بالإنسان هو الجنس دون أفراد معينة منه كالكفار و المشركين كما قيل، و بالدعاء مطلق الطلب لا الدعاء المصطلح كما قيل، و بالخير و الشر ما فيه سعادة حياته أو شقاؤه بحسب الحقيقة دون مطلق ما يضر و ينفع كدعاء الإنسان على من رضي عنه بالنجاح و الفلاح و على من غضب عليه بالخيبة و الخسران و غير ذلك.
و بالعجلة حب الإنسان أن يسرع ما يهواه إلى التحقق دون اللج و التمادي على طلب العذاب و المكروه.
و للمفسرين اختلاف عجيب في مفردات الآية، و كلمات مضطربة في بيان وجه اتصال الآية و كذا الآيات التالية بما قبلها تركنا إيرادها و الغور فيها لعدم جدوى في التعرض لها من أرادها فليراجع كتبهم.
قوله تعالى: «و جعلنا الليل و النهار آيتين فمحونا آية الليل و جعلنا آية النهار مبصرة» إلى آخر الآية، قال في المجمع، مبصرة أي مضيئة منيرة نيرة قال أبو عمرو: أراد يبصر بها كما يقال: ليل نائم و سر كاتم، و قال الكسائي: العرب تقول: أبصر النهار إذا أضاء.
انتهى موضع الحاجة.
الليل و النهار هما النور و الظلمة المتعاقبان على الأرض من جهة مواجهة الشمس بالطلوع و زوالها بالغروب و هما كسائر ما في الكون من أعيان الأشياء و أحوالها آيتان لله سبحانه تدلان بذاتهما على توحده بالربوبية.
و من هنا يظهر أن المراد بجعلهما آيتين هو خلقهما كذلك لا خلقهما و ليستا آيتين ثم جعلهما آيتين و إلباسهما لباس الدلالة فالأشياء كلها آيات له تعالى من جهة أصل وجودها و كينونتها الدالة على مكونها لا لوصف طار يطرء عليها.
و من هنا يظهر أيضا أن المراد بآية الليل كآية النهار نفس الليل كنفس النهار - على أن تكون الإضافة بيانية لا لامية - و المراد بمحو الليل إظلامه و إخفاؤه عن الأبصار على خلاف النهار.
فما ذكره بعضهم أن المراد بآية الليل القمر و محوها ما يرى في وجهه من الكلف كما أن المراد بآية النهار الشمس و جعلها مبصرة خلو قرصها عن المحو و السواد.
ليس بسديد فإن الكلام في الآيتين لا آيتي الآيتين.
على أن ما فرع على ذلك من قوله: «لتبتغوا فضلا من ربكم» إلخ متفرع على ضوء النهار و ظلمة الليل لا على ما يرى من الكلف في وجه القمر و خلو قرص الشمس من ذلك.
و نظيره في السقوط قول بعضهم: إن المراد بآية الليل ظلمته و بآية النهار ضوءه و المراد بمحو آية الليل إمحاء ظلمته بضوء النهار و نظيره إمحاء ضوء النهار بظلمة الليل و إنما اكتفى بذكر أحدهما لدلالته على الآخر.
و لا يخفى عليك وجه سقوطه بتذكر ما أشرنا إليه سابقا فإن الغرض بيان وجود الفرق بين الآيتين مع كونهما مشتركتين في الآئية و الدلالة، و ما ذكره من المعنى يبطل الفرق.
و قوله: «لتبتغوا فضلا من ربكم» متفرع على قوله: «و جعلنا آية النهار مبصرة» أي جعلناها مضيئة لتطلبوا فيه رزقا من ربكم فإن الرزق فضله و عطاؤه تعالى.
و ذكر بعضهم أن التقدير: لتسكنوا بالليل و لتبتغوا فضلا من ربكم بالنهار إلا أنه حذف لتسكنوا بالليل» لما ذكره في مواضع أخر و فيه أن التقدير ينافي كون الكلام مسوقا لبيان ترتب الآثار على إحدى الآيتين دون الأخرى مع كونهما معا آيتين.
و قوله: «و لتعلموا عدد السنين و الحساب» أي لتعلموا بمحو الليل و إبصار النهار عدد السنين بجعل عدد من الأيام واحدا يعقد عليه، و تعلموا بذلك حساب الأوقات و الآجال، و ظاهر السياق أن علم السنين و الحساب متفرع على جعل النهار مبصرا نظير تفرع ما تقدمه من ابتغاء الرزق على ذلك و ذلك أنا إنما نتنبه للأعدام و الفقدانات من ناحية الوجودات لا بالعكس و الظلمة فقدان النور و لو لا النور لم ننتقل لا إلى نور و لا إلى ظلمة، و نحن و إن كنا نستمد في الحساب بالليل و النهار معا و نميز كلا منهما بالآخر ظاهرا لكن ما هو الوجودي منهما أعني النهار هو الذي يتعلق به إحساسنا أولا ثم نتنبه لما هو العدمي منها أعني الليل بنوع من القياس، و كذلك الحال في كل وجودي و عدمي مقيس إليه.
و ذكر الرازي في تفسيره أن الأولى أن يكون المراد بمحو آية الليل على القول بأنها القمر هو ما يعرض القمر من اختلاف النور من المحاق إلى المحاق بالزيادة و النقيصة ليلة فليلة لما فيه من الآثار العظيمة في البحار و الصحاري و أمزجة الناس.
و لازم ذلك - كما أشار إليه - أن يكون قوله: «لتبتغوا فضلا من ربكم» و قوله: «و لتعلموا عدد السنين و الحساب» متفرعين على محو آية الليل و جعل آية النهار مبصرة جميعا، و المعنى أنا جعلنا ذلك كذلك لتبتغوا بإضاءة الشمس و اختلاف نور القمر أرزاقكم، و لتعلموا بذلك أيضا السنين و الحساب فإن الشمس هي التي تميز النهار من الليل و القمر باختلاف تشكلاته يرسم الشهور القمرية و الشهور ترسم السنين فاللام في الجملتين أعني «لتبتغوا» و «لتعلموا» متعلق بالفعلين «محونا» و «و جعلنا» جميعا.
و فيه أن الآية في سياق لا يلائمه جعل ما ذكر فيها من الغرض غرضا مترتبا على الآيتين معا أعني الآية الممحوة و الآية المثبتة فقد عرفت أن الآيات في سياق التوبيخ و اللوم، و الآية أعني قوله: «و جعلنا الليل و النهار آيتين» كالجواب عما قدر أن الإنسان يحتج به في دعائه بالشر كدعائه بالخير.
و ملخصه: أن الإنسان لمكان عجلته لا يعتني بما أنزله الله من كتاب و هداه إليه من الملة التي هي أقوم بل يقتحم الشر و يطلبه كما يطلب الخير من غير أن يتروى في عمله و يتأمل وجه الصلاح و الفساد فيه بل يقتحمه بمجرد ما تعلق به هواه و يسرته قدرته، و هو يعتمد في ذلك على حريته الطبيعية في العمل كأنه يحتج فيه بأن الله أقدره على ذلك و لم يمنع عنه كما نقله الله من قول المشركين: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آبائنا»: النحل - 35.
فأجيب عنه بعد ما أورد في سياق التوبيخ و اللوم بأن مجرد تعلق القدرة و صحة الفعل لا يستلزم جواز العمل و لا أن إقداره على الخير و الشر معا يدل على جواز اقتحام الشر كالخير فالليل و النهار آيتان من آيات الله يعيش فيهما الإنسان لكن الله سبحانه محى آية الليل و قدر فيها السكون و الخمود، و جعل آية النهار مبصرة مدركة يطلب فيها الرزق و يعلم بها عدد السنين و الحساب.
فكما أن كون الليل و النهار مشتركين في الآئية لا يوجب اشتراكهما في الحركات و التقلبات بل هي للنهار خاصة كذلك اشتراك أعمال الخير و الشر في أنها جميعا تتحقق بإذن الله سبحانه و هي مما أقدر الله الإنسان عليه سواء لا يستلزم جواز ارتكابه لهما و إتيانه بهما على حد سواء بل جواز الإتيان و الارتكاب من خواص عمل الخير دون عمل الشر فليس للإنسان أن يسلك كل ما بدا له من سبيل و لا أن يأتي بكل ما اشتهاه و تعلق به هواه معتمدا في ذلك على ما أعطي من الحرية الطبيعية و الأقدار الإلهي.
و مما تقدم يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن الآية مسوقة للاحتجاج على التوحيد فإن الليل و النهار و ما يعرضهما من الاختلاف و ما يترتب على ذلك من البركات من أوضح آيات التوحيد.
و فيه أن دلالتهما على التوحيد لا توجب أن يكون الغرض إفادته و الاحتجاج بهما على ذلك في أي سياق وقعا.
و قوله في ذيل الآية: «و كل شيء فصلناه تفصيلا» إشارة إلى تمييز الأشياء و أن الخلقة لا تتضمن إبهامها و لا إجمالها.
قوله تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» قال في المجمع،: الطائر هنا عمل الإنسان شبه بالطائر الذي يسنح و يتبرك به و الطائر الذي يبرح فيتشأم به، و السانح الذي يجعل ميامنه إلى مياسرك، و البارح الذي يجعل مياسره إلى ميامنك، و الأصل في هذا أنه إذا كان سانحا أمكن الرامي و إذا كان بارحا لم يمكنه قال أبو زيد: كل ما يجري من طائر أو ظبي أو غيره فهو عندهم طائر.
انتهى.
و في الكشاف،: أنهم كانوا يتفألون بالطير و يسمونه زجرا فإذا سافروا و مر بهم طير زجروه فإن مر بهم سانحا بأن مر من جهة اليسار إلى اليمين تيمنوا و إن مر بارحا بأن مر من جهة اليمين إلى الشمال تشأموا و لذا سمي تطيرا.
انتهى.
و قال في المفردات،: تطير فلان و أطير أصله التفاؤل بالطير ثم يستعمل في كل ما يتفاءل به و يتشاءم «قالوا إنا تطيرنا بكم» و لذلك قيل: لا طير إلا طيرك و قال: «إن تصبهم سيئة يطيروا» أي يتشاءموا به «ألا إنما طائرهم عند الله» أي شؤمهم ما قد أعد الله لهم بسوء أعمالهم و على ذلك قوله: «قالوا اطيرنا بك و بمن معك» «قال طائركم عند الله» «قالوا طائركم معكم» «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» أي عمله الذي طار عنه من خير و شر و يقال: تطايروا إذا أسرعوا و يقال إذا تفرقوا.
انتهى.
و بالجملة سياق ما قبل الآية و ما بعدها و خاصة قوله: «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه» إلخ، يعطي أن المراد بالطائر ما يستدل به على الميمنة و المشأمة و يكشف عن حسن العاقبة و سوءها فلكل إنسان شيء يرتبط بعاقبة حاله يعلم به كيفيتها من خير أو شر.
و إلزام الطائر جعله لازما له لا يفارقه، و إنما جعل الإلزام في العنق لأنه العضو الذي لا يمكن أن يفارقه الإنسان أو يفارق هو الإنسان بخلاف الأطراف كاليد و الرجل، و هو العضو الذي يوصل الرأس بالصدر فيشاهد ما يعلق عليه من قلادة أو طوق أو غل أول ما يواجه الإنسان.
فالمراد بقوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» أن الذي يستعقب لكل إنسان سعادته أو شقاءه هو معه لا يفارقه بقضاء من الله سبحانه فهو الذي ألزمه إياه، و هذا هو العمل الذي يعمله الإنسان لقوله تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى»: النجم: 41.
فالطائر الذي ألزمه الله الإنسان في عنقه هو عمله، و معنى إلزامه إياه أن الله قضى أن يقوم كل عمل بعامله و يعود إليه خيره و شره و نفعه و ضره من غير أن يفارقه إلى غيره، و قد استفيد من قوله تعالى: «و إن جهنم لموعدهم أجمعين... إن المتقين في جنات و عيون» الآيات: الحجر: 45 أن من القضاء المحتوم أن حسن العاقبة للإيمان و التقوى و سوء العاقبة للكفر و المعصية.
و لازم ذلك أن يكون مع كل إنسان من عمله ما يعين له حاله في عاقبة أمره معية لازمة لا يتركه و تعيينا قطعيا لا يخطىء و لا يغلط لما قضي به أن كل عمل فهو لصاحبه ليس له إلا هو و أن مصير الطاعة إلى الجنة و مصير المعصية إلى النار.
و بما تقدم يظهر أن الآية إنما تثبت لزوم السعادة و الشقاء للإنسان من جهة أعماله الحسنة و السيئة المكتسبة من طريق الاختيار من دون أن يبطل تأثير العمل في السعادة و الشقاء بإثبات قضاء أزلي يحتم للإنسان سعادة أو شقاء سواء عمل أم لم يعمل و سواء أطاع أم عصى كما توهمه بعضهم.
قوله تعالى: «و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا» يوضح حال هذا الكتاب قوله بعده: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» حيث يدل أولا على أن الكتاب الذي يخرج له هو كتابه نفسه لا يتعلق بغيره، و ثانيا أن الكتاب متضمن لحقائق أعماله التي عملها في الدنيا من غير أن يفقد منها شيئا كما في قوله: «يقولون يا ويلتنا ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة و لا كبيرة إلا أحصاها»: الكهف: 49، و ثالثا أن الأعمال التي أحصاها بادية فيها بحقائقها من سعادة أو شقاء ظاهرة بنتائجها من خير أو شر ظهورا لا يستتر بستر و لا يقطع بعذر، قال تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22.
و يظهر من قوله تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران: 30 أن الكتاب يتضمن نفس الأعمال بحقائقها دون الرسوم المخطوطة على حد الكتب المعمولة فيما بيننا في الدنيا فهو نفس الأعمال يطلع الله الإنسان عليها عيانا، و لا حجة كالعيان.
و بذلك يظهر أن المراد بالطائر و الكتاب في الآية أمر واحد و هو العمل الذي يعمله الإنسان غير أنه سبحانه قال: «و نخرج له يوم القيامة كتابا» ففرق الكتاب عن الطائر و لم يقل: «و نخرجه» لئلا يوهم أن العمل إنما يصير كتابا يوم القيامة و هو قبل ذلك طائر و ليس بكتاب أو يوهم أن الطائر خفي مستور غير خارج قبل يوم القيامة فلا يلائم كونه ملزما له في عنقه.
و بالجملة في قوله: «و نخرج له» إشارة إلى أن كتاب الأعمال بحقائقها مستور عن إدراك الإنسان محجوب وراء حجاب الغفلة و إنما يخرجه الله سبحانه للإنسان يوم القيامة فيطلعه على تفاصيله، و هو المعنى بقوله: «يلقاه منشورا».
و في ذلك دلالة على أن ذلك أمر مهيأ له غير مغفول عنه فيكون تأكيدا لقوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» لأن المحصل أن الإنسان ستناله تبعة عمله لا محالة أما أولا فلأنه لازم له لا يفارقه.
و أما ثانيا فلأنه مكتوب كتابا سيظهر له فيلقاه منشورا.
قوله تعالى: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» أي يقال: له: اقرأ كتابك «إلخ».
و قوله: «كفى بنفسك» الباء فيه زائدة للتأكيد و أصله كفت نفسك و إنما لم يؤنث الفعل لأن الفاعل مؤنث مجازي يجوز معه التذكير و التأنيث، و ربما قيل: إنه اسم فعل بمعنى اكتف و الباء غير زائدة، و ربما وجه بغير ذلك.
و في الآية دلالة على أن حجة للكتاب قاطعة بحيث لا يرتاب فيها قارئه و لو كان هو المجرم نفسه و كيف لا؟ و فيه معاينة نفس العمل و به الجزاء، قال تعالى: «لا تعتذروا اليوم إنما تجزون ما كنتم تعملون»: التحريم: 7.
و قد اتضح مما أوردناه في وجه اتصال قوله: «و يدع الإنسان بالشر» الآية بما قبله وجه اتصال هاتين الآيتين أعني قوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره - إلى قوله - حسيبا» فمحصل معنى الآيات و السياق سياق التوبيخ و اللوم أن الله سبحانه أنزل القرآن و جعله هاديا إلى ملة هي أقوم جريا على السنة الإلهية في هداية الناس إلى التوحيد و العبودية و إسعاد من اهتدى منهم و إشقاء من ضل لكن الإنسان لا يميز الخير من الشر و لا يفرق بين النافع و الضار بل يستعجل كل ما يهواه فيطلب الشر كما يطلب الخير.
و الحال أن العمل سواء كان خيرا أو شرا لازم لصاحبه لا يفارقه و هو أيضا محفوظ عليه في كتاب سيخرج له يوم القيامة و ينشر بين يديه و يحاسب عليه، و إذا كان كذلك كان من الواجب على الإنسان أن لا يبادر إلى اقتحام كل ما يهواه و يشتهيه و لا يستعجل ارتكابه بل يتوقف في الأمور و يتروى حتى يميز بينها و يفرق خيرها من شرها فيأخذ بالخير و يتحرز الشر.
قوله تعالى: «من اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و من ضل فإنما يضل عليها و لا تزر وازرة وزر أخرى» قال في المفردات،: الوزر الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة» الآية كقوله: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم» قال: و قوله: «و لا تزر وازرة وزر أخرى» أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه.
انتهى.
و الآية في موضع النتيجة لقوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره» إلخ و الجملة الثالثة «و لا تزر وازرة وزر أخرى» تأكيد للجملة الثانية «و من ضل فإنما يضل عليها».
و المعنى إذا كان العمل خيرا كان أو شرا يلزم صاحبه و لا يفارقه و هو محفوظ على صاحبه سيشاهده عند الحساب فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه و ينتفع به نفسه من غير أن يتبع غيره.
و من ضل عن السبيل فإنما يضل على نفسه و يتضرر به نفسه من دون أن يفارقه فيلحق غيره، و لا تتحمل نفس حاملة حمل نفس أخرى لا كما ربما يخيل لاتباع الضلال أنهم إن ضلوا فوبال ضلالهم على أئمتهم الذين أضلوهم و كما يتوهم المقلدون لآبائهم و أسلافهم أن آثامهم و أوزارهم لآبائهم و أسلافهم لا لهم.
نعم لأئمة الضلال مثل أوزار متبعيهم، و لمن سن سنة سيئة أوزار من عمل بها و لمن قال: اتبعونا لنحمل خطاياكم آثام خطاياهم لكن ذلك كله وزر الإمامة و جعل السنة و تحمل الخطايا لا عين ما للعامل من الوزر بحيث يفارق العمل عامله و يلحق المتبوع بل إن كان عينه فمعناه أن يعذب بعمل واحد اثنان.
قوله تعالى: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» ظاهر السياق الجاري في الآية و ما يتلوها من الآيات بل هي و الآيات السابقة أن يكون المراد بالتعذيب التعذيب الدنيوي بعقوبة الاستئصال، و يؤيده خصوص سياق النفي «و ما كنا معذبين» حيث لم يقل: و لسنا معذبين و لا نعذب و لن نعذب بل قال: «و ما كنا معذبين» الدال على استمرار النفي في الماضي الظاهر في أنه كانت السنة الإلهية في الأمم الخالية الهالكة جارية على أن لا يعذبهم إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا ينذرهم بعذاب الله.
و يؤيده أيضا أنه تعالى عبر عن هذا المبعوث بالرسول دون النبي فلم يقل حتى نبعث نبيا، و قد تقدم في مباحث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب في الفرق بين النبوة و الرسالة أن الرسالة منصب خاص إلهي يستعقب الحكم الفصل في الأمة إما بعذاب الاستئصال و إما بالتمتع من الحياة إلى أجل مسمى، قال تعالى: «و لكل أمة رسول فإذا جاء رسولهم قضي بينهم بالقسط و هم لا يظلمون»: يونس: 47 و قال: «قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السماوات و الأرض يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم و يؤخركم إلى أجل مسمى»: إبراهيم: 10.
فالتعبير بالرسول لإفادة أن المراد نفي التعذيب الدنيوي دون التعذيب الأخروي أو مطلق التعذيب.
فقوله: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» كالدفع لما يمكن أن يتوهم من سابق الآيات المنبئة عن لحوق أثر الأعمال بصاحبها و بشارة الصالحين بالأجر الكبير و الطالحين بالعذاب الأليم فيوهم أن تبعات السيئات أعم من العذاب الدنيوي و الأخروي سيترتب عليها فيغشى صاحبها من غير قيد و شرط.
فأجيب أن الله سبحانه برحمته الواسعة و عنايته الكاملة لا يعذب الناس بعذاب الاستئصال و هو عذاب الدنيا إلا بعد أن يبعث رسولا ينذرهم به و إن كان له أن يعذبهم به لكنه برحمته و رأفته يبالغ في الموعظة و يتم الحجة بعد الحجة ثم ينزل العقوبة فقوله: «و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا» نفي لوقوع العذاب لا لجوازه.
فالآية - كما ترى - ليست مسوقة لإمضاء حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان بل هي تكشف عن اقتضاء العناية الإلهية أن لا يعذب قوما بعذاب الاستئصال إلا بعد أن يبعث إليهم رسولا فيؤكد لهم الحجة و يقرعهم بالبيان بعد البيان.
و أما النبوة التي يبلغ بها التكاليف و نبين بها الشرائع فهي التي تستقر بها المؤاخذة الإلهية و المغفرة، و يثبت بها الثواب و العقاب الأخرويان فيما لا يتبين فيه الحق و الباطل إلا من طريق النبوة كالتكاليف الفرعية، و أما الأصول التي يستقل العقل بإدراكها كالتوحيد و النبوة و المعاد فإنما تلحق آثار قبولها و تبعات ردها الإنسان بالثبوت العقلي من غير توقف على نبوة أو رسالة.
و بالجملة أصول الدين و هي التي يستقل العقل ببيانها و يتفرع عليها قبول الفروع التي تتضمنها الدعوة النبوية، تستقر المؤاخذة الإلهية على ردها بمجرد قيام الحجة القاطعة العقلية من غير توقف على بيان النبي و الرسول لأن صحة بيان النبي و الرسول متوقفة عليها فلو توقف هي عليها لدارت.
و تستقر المؤاخذة الأخروية على الفروع بالبيان النبوي و لا تتم الحجة فيها بمجرد حكم العقل، و قد فصلنا القول فيه في مباحث النبوة في الجزء الثاني و في قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب، و في غيرهما.
و المؤاخذة الدنيوية بعذاب الاستئصال يتوقف على بعث الرسول بعناية من الله سبحانه لا لحكم عقلي يحيل هذا النوع من المؤاخذة قبل بعث الرسول كما عرفت.
و للمفسرين في الآية مشاجرات طويلة تركنا التعرض لها لخروج أكثرها عن غرض البحث التفسيري، و لعل الذي أوردناه من البحث لا يوافق ما أوردوه لكن الحق أحق بالاتباع.
قوله تعالى: «و إذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا» قال الراغب: الترفة التوسع في النعمة يقال: أترف فلان فهو مترف - إلى أن قال في قوله أمرنا مترفيها - هم الموصوفون بقوله سبحانه: «فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه و نعمه» انتهى.
و قال في المجمع،: الترفة النعمة، قال ابن عرفة: المترف المتروك يصنع ما يشاء و لا يمنع منه، و قال: التدمير الإهلاك و الدمار الهلاك.
انتهى.
و قوله: «إذا أردنا أن نهلك قرية» أي إذا دنا وقت هلاكهم من قبيل قولهم: إذا أراد العليل أن يموت كان كذا، و إذا أرادت السماء أن يمطر كان كذا، أي إذا دنا وقت موته و إذا دنا وقت إمطارها فإن من المعلوم أنه لا يريد الموت بحقيقة معنى الإرادة و أنها لا تريد الإمطار كذلك، و في القرآن: «فوجدا جدارا يريد أن ينقض» الآية.
و يمكن أن يراد به الإرادة الفعلية و حقيقتها توافق الأسباب المقتضية للشيء و تعاضدها على وقوعه، و هو قريب من المعنى الأول و حقيقته تحقق ما لهلاكهم من الأسباب و هو كفران النعمة و الطغيان بالمعصية كما قال سبحانه: «لئن شكرتم لأزيدنكم و لئن كفرتم إن عذابي لشديد»: إبراهيم: 7، و قال: «الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيها الفساد فصب عليهم ربك سوط عذاب إن ربك لبالمرصاد»: الفجر: 14.
و قوله: «أمرنا مترفيها ففسقوا فيها» من المعلوم من كلامه تعالى أنه لا يأمر بالمعصية أمرا تشريعيا فهو القائل: «قل إن الله لا يأمر بالفحشاء»: الأعراف: 28 و أما الأمر التكويني فعدم تعلقه بالمعصية من حيث إنها معصية أوضح لجعله الفعل ضروريا يبطل معه تعلقه باختيار الإنسان و لا معصية مع عدم الاختيار قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82.
فمتعلق الأمر في قوله: «أمرنا» إن كان هو الطاعة كان الأمر بحقيقة معناه و هو الأمر التشريعي و كان هو الأمر الذي توجه إليهم بلسان الرسول الذي يبلغهم أمر ربهم و ينذرهم بعذابه لو خالفوا و هو الشأن الذي يختص بالرسول كما تقدمت الإشارة إليه فإذا خالفوا و فسقوا عن أمر ربهم حق عليهم القول و هو أنهم معذبون إن خالفوا فأهلكوا و دمروا تدميرا.
و إن كان متعلق الأمر هو الفسق و المعصية كان الأمر مرادا به الإكثار من إفاضة النعم عليهم و توفيرها على سبيل الإملاء و الاستدراج و تقريبهم بذلك من الفسق حتى يفسقوا فيحق عليهم القول و ينزل عليهم العذاب.
و هذان وجهان في معنى قوله: «أمرنا مترفيها ففسقوا فيها» يجوز توجيهه بكل منهما لكن يبعد أول الوجهين أولا أن قولنا: أمرته ففعل و أمرته ففسق ظاهره تعلق الأمر بعين ما فرع عليه، و ثانيا عدم ظهور وجه لتعلق الأمر بالمترفين مع كون الفسق لجميع أهل القرية و إلا لم يهلكوا.
قال في الكشاف،: و الأمر مجاز لأن حقيقة أمرهم بالفسق أن يقول لهم: افسقوا، و هذا لا يكون فبقي أن يكون مجازا، و وجه المجاز أنه صب عليهم النعمة صبا فجعلوها ذريعة إلى المعاصي و اتباع الشهوات فكأنهم مأمورون بذلك لتسبب إيلاء النعمة فيه، و إنما خولهم إياها ليشكروا و يعملوا فيها الخير و يتمكنوا من الإحسان و البر كما خلقهم أصحاء أقوياء و أقدرهم على الخير و الشر و طلب منهم إيثار الطاعة على المعصية فآثروا الفسوق فلما فسقوا حق عليهم القول و هو كلمة العذاب فدمرهم.
فإن قلت: هلا زعمت أن معناه أمرناهم بالطاعة ففسقوا قلت لأن حذف ما لا دليل عليه غير جائز فكيف يحذف ما الدليل قائم على نقيضه؟ و ذلك أن المأمور به إنما حذف لأن فسقوا يدل عليه و هو كلام مستفيض يقال: أمرته فقام و أمرته فقرأ لا يفهم منه إلا أن المأمور به قيام أو قراءة و لو ذهبت تقدر غيره لزمت من مخاطبك علم الغيب.
و لا يلزم على هذا قولهم: أمرته فعصاني أو فلم يمتثل أمري لأن ذلك مناف للأمر مناقض له، و لا يكون ما يناقض الأمر مأمورا به فكان محالا أن يقصد أصلا حتى يجعل دالا على المأمور به فكان المأمور به في هذا الكلام غير مدلول عليه و لا منوي لأن من يتكلم بهذا الكلام فإنه لا ينوي لأمره مأمورا به كأنه يقول: كان مني أمر فلم يكن منه طاعة كما أن من يقول: فلان يعطي و يمنع و يأمر و ينهى غير قاصد إلى مفعول.
فإن قلت: هلا كان ثبوت العلم بأن الله لا يأمر بالفحشاء و إنما يأمر بالقصد و الخير دليلا على أن المراد أمرناهم بالخير ففسقوا؟.
قلت: لا يصح ذلك لأن قوله: ففسقوا يدافعه فكأنك أظهرت شيئا و أنت تدعي إضمار خلافه فكان صرف اللفظ إلى المجاز هو الوجه.
انتهى.
و هو كلام حسن في تقريب ظهور قوله: «أمرنا مترفيها ففسقوا فيها» في كون المأمور به هو الفسق و أما كونه صريحا فيه بحيث لا يحتمل إلا ذلك كما يدعيه فلا، فلم لا يجوز أن تكون الآية من قبيل قولنا: أمرته فعصاني حيث تكون المعصية و هي منافية للأمر قرينة على كون المأمور به هو الطاعة و الفسق و المعصية واحد فإن الفسق هو الخروج عن زي العبودية و الطاعة فهو المعصية و يكون المعنى حينئذ أمرنا مترفيها بالطاعة ففسقوا عن أمرنا و عصوه، أو يكون الأمر في الآية مستعملا استعمال اللازم، و المعنى توجه أمرنا إلى مترفيها ففسقوا فيها عنه.
فالحق أن الوجهين لا بأس بكل منهما و إن كان الثاني لا يخلو من ظهور و قد أجيب عن اختصاص الأمر بالمترفين بأنهم الرؤساء السادة و الأئمة المتبوعون و غيرهم أتباعهم و حكم التابع تابع لحكم المتبوع و لا يخلو من سقم.
و ذكر بعضهم في توجيه الآية أن قوله: «أمرنا مترفيها» إلخ صفة لقرية و ليس جوابا لإذا و جواب إذا محذوف على حد قوله: حتى إذا جاؤها و فتحت أبوابها و قال لهم خزنتها إلى آخر الآية للاستغناء عنه بدلالة الكلام.
و ذكر آخرون أن في الآية تقديما و تأخيرا و التقدير و إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا أن نهلكها، و ذلك أنه لا معنى لإرادة الهلاك قبل تحقق سببه و هو الفسق، و هو وجه سخيف كسابقه.
هذا كله على القراءة المعروفة «أمرنا» بفتح الهمزة ثم الميم مخففة من الأمر بمعنى الطلب، و ربما أخذ من الأمر بمعنى الإكثار أي أكثرنا مترفيها مالا و ولدا ففسقوا فيها.
و قرىء «آمرنا» بالمد و نسب إلى علي (عليه السلام) و إلى عاصم و ابن كثير و نافع و غيرهم و هو من الإيمان بمعنى إكثار المال و النسل أو بمعنى تكليف إنشاء فعل، و قرىء أيضا «أمرنا» بتشديد الميم من التأمير بمعنى تولية الإمارة و نسب ذلك إلى علي و الحسن و الباقر (عليهما السلام) و إلى ابن عباس و زيد بن علي و غيرهم.
قوله تعالى: «و كم أهلكنا من القرون من بعد نوح و كفى بربك بذنوب عباده خبيرا بصيرا» قال في المفردات: القرن القوم المقترنون في زمن واحد و جمعه قرون قال: «و لقد أهلكنا القرون من قبلكم» «و كم أهلكنا من القرون» انتهى و معنى الآية ظاهر، و فيها تثبيت ما ذكر في الآية السابقة من سنة الله الجارية في إهلاك القرى بالإشارة إلى القرون الماضية الهالكة.
و الآية لا تخلو من إشعار بأن سنة الإهلاك إنما شرعت في القرون الإنسانية بعد نوح (عليه السلام) و هو كذلك، و قد تقدم في تفسير قوله تعالى: «كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين»: البقرة - 213 في الجزء الثاني من الكتاب أن المجتمع الإنساني قبل زمن نوح (عليه السلام) كانوا على سذاجة الفطرة ثم اختلفوا بعد ذلك.
قوله تعالى: «من كان يريد العاجلة عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا» العاجلة صفة محذوفة الموصوف و لعل موصوفها الحياة بقرينة مقابلتها للآخرة في الآية التالية و هي الحياة الآخرة، و قيل: المراد النعم العاجلة و قيل: الأعراض الدنيوية العاجلة.
و في المفردات،: أصل الصلى لإيقاد النار.
قال: و قال الخليل: صلي الكافر النار قاسى حرها «يصلونها فبئس المصير» و قيل: صلي النار دخل فيها، و أصلاها غيره قال: «فسوف نصليه نارا» انتهى.
و في المجمع،: الدحر الإبعاد و المدحور المبعد المطرود يقال: اللهم أدحر عنا الشيطان أي أبعده انتهى.
لما ذكر سبحانه سنته في التعذيب الدنيوي إثر دعوة الرسالة و أنه يهدي الأمم الإنسانية إلى الإيمان و العمل الصالح حتى إذا فسدوا و أفسدوا بعث إليهم رسولا فإذا طغوا و فسقوا عذبهم عذاب الاستئصال، عاد إلى بيان سنته في التعذيب الأخروي و الإثابة فيها في هذه الآية و الآيتين بعدها يذكر في آية ملاك عذاب الآخرة، و في آية ملاك ثوابها، و في آية محصل القول و الأصل الكلي في ذلك.
فقوله: «من كان يريد العاجلة» أي الذي يريد الحياة العاجلة و هي الحياة الدنيا، و إرادة الحياة الدنيا إنما هي طلب ما فيها من المتاع الذي تلتذ به النفس و يتعلق به القلب، و التعلق بالعاجلة و طلبها إنما يعد طلبا لها إذا كانت مقصودة بالاستقلال لا لأجل التوسل بها إلى سعادة الأخرى و إلا كانت إرادة للآخرة فإن الآخرة لا يسلك إليها إلا من طريق الدنيا فلا يكون الإنسان مريدا للدنيا إلا إذا أعرض عن الآخرة و نسيها فتمحضت إرادته في الدنيا، و يدل عليه أيضا خصوص التعبير في الآية «من كان يريد» حيث يدل على استمرار الإرادة.
و هذا هو الذي لا يرى لنفسه إلا هذه الحياة المادية الدنيوية و ينكر الحياة الآخرة، و يلغو بذلك القول بالنبوة و التوحيد إذ لا أثر للإيمان بالله و رسله و التدين بالدين لو لا الاعتقاد بالمعاد، قال تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله»: النجم: 30.
و قوله: «عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد» أي أسرعنا في إعطائه ما يريده في الدنيا لكن لا بإعطائه ما يريده بل بإعطائه ما نريده فالأمر إلينا لا إليه و الأثر لإرادتنا لا لإرادته، و لا بإعطاء ما نعطيه لكل من يريد بل لمن نريد فليس يحكم فينا إرادة الأشخاص بل إرادتنا هي التي تحكم فيهم.
و إرادته سبحانه الفعلية لشيء هو اجتماع الأسباب على كينونته و تحقق العلة التامة لظهوره فالآية تدل على أن الإنسان و هو يريد الدنيا يرزق منها على حسب ما يسمح له الأسباب و العوامل التي أجراها الله في الكون و قدر لها من الآثار فهو ينال شيئا مما يريده و يسأله بلسان تكوينه لكن ليس له إلا ما يهدي إليه الأسباب و الله من ورائهم محيط.
و قد ذكر الله سبحانه هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون و لبيوتهم أبوابا و سررا عليها يتكؤن و زخرفا و إن كل ذلك لما متاع الحيوة الدنيا»: الزخرف: 35 أي لو لا أن الناس جميعا يعيشون على نسق واحد تحت قانون الأسباب و العلل، و لا فرق بين الكافر و المؤمن قبال العلل الكونية بل من صادفته أسباب الغنى و الثروة أثرته و أغنته مؤمنا كان أم كافرا، و من كان بالخلاف، فبالخلاف خصصنا الكفار بمزيد النعم الدنيوية إذ ليس لها عندنا قدر و لا في سوق الآخرة من قيمة.
و ذكر بعضهم: أن المراد بإرادة العاجلة إرادتها بعمله و هو أن يريد بعمله الدنيا دون الآخرة فهو محروم من الآخرة، و هو تقييد من غير مقيد، و لعله أخذه من قوله تعالى: «من كان يريد الحياة الدنيا و زينتها نوف إليهم أعمالهم فيها و هم فيها لا يبخسون أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار»: هود: 16 لكن الآيتين مختلفتان غرضا فالغرض فيما نحن فيه بيان أن مريد الدنيا لا ينال إلا منها، و الغرض من آية سورة هود أن الإنسان لا ينال إلا عمله فإذا كان مريدا للدنيا وفي إليه عمله فيها و بين الغرضين فرق واضح فافهم ذلك.
و قوله: «ثم جعلنا له جهنم يصلاها مذموما مدحورا» أي و جعلنا جزاءه في الآخرة جهنم يقاسي حرها و هو مذموم مبعد من الرحمة و القيدان يفيدان أنه مخصوص بجهنم محروم من المغفرة و الرحمة.
و الآية و إن كانت تبين حال من تعلق بالدنيا و نسي الآخرة و أنكرها غير أن الطلب و الإنكار مختلفان بالمراتب فمن ذلك ما هو كذلك قولا و فعلا و منه ما هو كذلك فعلا مع الاعتراف به قولا، و تصديق ذلك قوله تعالى فيما سيأتي: «و للآخرة أكبر درجات» الآية.
قوله تعالى: «و من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن فأولئك كان سعيهم مشكورا» قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا، انتهى موضع الحاجة.
و قوله: «من أراد الآخرة» أي الحياة الآخرة نظير ما تقدم من قوله: «من كان يريد العاجلة» و الكلام في قول من قال: يعني من أراد بعمله الآخرة نظير الكلام في مثله في الآية السابقة.
و قوله «و سعى لها سعيها» اللام للاختصاص و كذا إضافة السعي إلى ضمير الآخرة، و المعنى و سعى و جد للآخرة السعي الذي يختص بها، و يستفاد منه أن سعيه لها يجب أن يكون سعيا يليق بها و يحق لها كأن يكون يبذل كمال الجهد في حسن العمل و أخذه من عقل قطعي أو حجة شرعية.
و قوله: «و هو مؤمن» أي مؤمن بالله و يستلزم ذلك توحيده و الإذعان بالنبوة و المعاد فإن من لا يعترف بإحدى الخصال الثلاث لا يعده الله سبحانه في كلامه مؤمنا به و قد تكاثرت الآيات فيه.
على أن نفس التقييد بقوله: «و هو مؤمن» يكفي في التقييد المذكور فإن من أراد الآخرة و سعى لها سعيها فهو مؤمن بالله و بنشأة وراء هذه النشأة الدنيوية قطعا فلو لا أن التقييد بالإيمان لإفادة وجوب كون الإيمان صحيحا و من صحته أن يصاحب التوحيد و الإذعان بالنبوة لم يكن للتقييد وجه فمجرد التقييد بالإيمان يكفي مئونة الاستعانة بآيات أخر.
و قوله: «فأولئك كان سعيهم مشكورا» أي يشكره الله بحسن قبوله و الثناء على ساعيه، و شكره تعالى على عمل العبد تفضل منه على تفضل فإن أصل إثابته العبد على عمله تفضل لأن من وظيفة العبد أن يعبد مولاه من غير وجوب الجزاء عليه فالإثابة تفضل، و الثناء عليه بعد الإثابة تفضل على تفضل و الله ذو الفضل العظيم.
و في الآيتين دلالة على أن الأسباب الأخروية و هي الأعمال لا تتخلف عن غاياتها بخلاف الأسباب الدنيوية فإنه سبحانه يقول فيمن عمل للآخرة: «فأولئك كان سعيهم مشكورا» و يقول فيمن عمل للدنيا: «عجلنا له فيها ما نشاء لمن نريد».
قوله تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا» قال في المفردات، أصل المد الجر و منه المدة للوقت الممتد و مدة الجرح و مد النهر و مده نهر آخر و مددت عيني إلى كذا قال تعالى: «و لا تمدن عينيك» الآية و مددته في غيه... و أمددت الجيش بمدد و الإنسان بطعام قال: و أكثر ما جاء الإمداد في المحبوب و المد في المكروه نحو «و أمددناهم بفاكهة و لحم مما يشتهون» «و نمد له من العذاب مدا» «و يمدهم في طغيانهم» «و إخوانهم يمدونهم في الغي» انتهى بتلخيص منا.
فإمداد الشيء و مده أن يضاف إليه من نوعه مثلا ما يمتد به بقاؤه و يدوم به وجوده و لو لا ذلك لانقطع كالعين من الماء التي تستمد من المنبع و يضاف إليها منه الماء حينا بعد حين و يمتد بذلك جريانها.
و الله سبحانه يمد الإنسان في أعماله سواء كان ممن يريد العاجلة أو الآخرة فإن جميع ما يتوقف عليه العمل في تحققه من العلم و الإرادة و الأدوات البدنية و القوى العمالة و المواد الخارجية التي يقع عليها العمل و يتصرف فيها العامل و الأسباب و الشرائط المربوطة بها كل ذلك أمور تكوينية لا صنع للإنسان فيها و لو فقد كلها أو بعضها لم يكن العمل، و الله سبحانه هو الذي يفيضها بفضله و يمد الإنسان بها بعطائه، و لو انقطع منه العطاء انقطع من العامل عمله.
فأهل الدنيا في دنياهم و أهل الآخرة في آخرتهم يستمدون من عطائه تعالى و لا يعود إليه سبحانه في عطائه إلا الحمد لأن الذي يعطيه نعمة على الإنسان أن يستعمله استعمالا حسنا في موضع يرتضيه ربه، و أما إذا فسق بعدم استعماله فيه و حرف الكلمة عن موضعها فلا يلومن إلا نفسه و على الله الثناء على جميل صنعه و له الحجة البالغة.
فقوله: «كلا نمد» أي كلا من الفريقين المعجل لهم و المشكور سعيهم نمد، و إنما قدم المفعول على فعله لتعلق العناية به في الكلام فإن المقصود بيان عموم الإمداد للفريقين جميعا.
و قوله: «هؤلاء و هؤلاء» أي هؤلاء المعجل لهم و هؤلاء المشكور سعيهم بما أن لكل منهما نعته الخاص به، و يئول المعنى إلى أن كلا من الفريقين تحت التربية الإلهية يفيض عليهم من عطائه من غير فرق غير أن أحدهما يستعمل النعمة الإلهية لابتغاء الآخرة فيشكر الله سعيه، و الآخر يستعملها لابتغاء العاجلة و ينسى الآخرة فلا يبقى له فيها إلا الشقاء و الخيبة.
و قوله: «من عطاء ربك» فإن جميع ما يستفيدون منه في أعمالهم كما تقدم لا صنع لهم و لا لغيرهم من المخلوقين فيه بل الله سبحانه هو الموجد لها و مالكها فهي من عطائه.
و يستفاد من هذا القيد وجه ما ذكر لكل من الفريقين من الجزاء فإن أعمالهم لما كانت بإمداده تعالى من خالص عطائه فحقيق على من يستعمل نعمته في الكفر و الفسوق أن يصلى النار مذموما مدحورا، و على من يستعملها في الإيمان به و طاعته أن يشكر سعيه.
و في قوله: «ربك» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و قد كرر ذلك مرتين و الظاهر أن النكتة فيه الإشارة إلى أن إمدادهم من شئون صفة الربوبية و الله سبحانه هو الرب لا رب غيره غير أن الوثنيين يتخذون من دونه أربابا و لذلك نسب ربوبيته إلى نبيه فقال: «ربك».
و قوله: «و ما كان عطاء ربك محظورا» أي ممنوعا و الحظر المنع فأهل الدنيا و أهل الآخرة مستمدون من عطائه منعمون بنعمته ممنونون بمنته.
و في الآية دلالة على أن العطاء الإلهي مطلق غير محدود بحد لمكان إطلاق العطاء و نفي الحظر في الآية فما يوجد من التحديد و التقدير و المنع باختلاف الموارد فإنما هو من ناحية المستفيض و خصوص استعداده للاستفاضة أو فقدانه من رأس لا من ناحية المفيض.
و من عجيب ما قيل في الآية ما نسب إلى الحسن و قتادة أن المراد بالعطاء العطاء الدنيوي فهو المشترك بين المؤمن و الكافر و أما العطاء الأخروي فللمؤمنين خاصة، و المعنى كما قيل: كل الفريقين نمد بالعطايا العاجلة لا الفريق الأول المريد للعاجلة فقط و ما كان عطاؤه الدنيوي محظورا من أحد.
و فيه أنه تقييد من غير مقيد مع صلاحية المورد للإطلاق و أما ما ذكر من اختصاص العطاء الأخروي بالمؤمنين من غير مشاركة الكفار لهم فيه فخارج من مصب الكلام في الآية فإن الكلام في الإمداد الذي يمد به الأعمال المنتهية إلى الجزاء لا في الجزاء، و عطايا المؤمنين في الآخرة من الجزاء لا من قبيل الأعمال، و نفس ما يمد به أعمال الفريقين عطايا دنيوية و أخروية على أن العطايا الأخروية أيضا مشتركة غير محظورة و الحظر فيها من قبل الكافرين كما أن الأمر في العطايا الدنيوية أيضا كذلك فربما يمنع لكن لا من قبل محدودية العطاء بل من قبل عدم صلاحية القابل.
و قال في روح المعاني،: إن التقسيم الذي تضمنته الآية غير حاصر و ذلك غير مضر، و التقسيم الحاصر أن كل فاعل إما أن يريد بفعله العاجلة فقط أو يريد الآخرة فقط أو يريدهما معا أو لم يرد شيئا و القسمان الأولان قد علم حكمهما من الآية، و القسم الثالث ينقسم إلى ثلاثة أقسام لأنه إما أن تكون إرادة الآخرة أرجح أو تكون مرجوحة أو تكون الإرادتان متعادلتين.
ثم أطال البحث فيما تكون فيه إرادة الآخرة أرجح و نقل اختلاف العلماء في قبول هذا النوع من العمل، و نقل اتفاقهم على عدم قبول ما يترجح فيه باعث الدنيا أو كان الباعثان فيه متساويين.
قال: و أما القسم الرابع عند القائلين بأن صدور الفعل من القادر يتوقف على حصول الداعي فهو ممتنع الحصول و الذين قالوا: إنه لا يتوقف، قالوا ذلك الفعل لا أثر له في الباطن و هو محرم في الظاهر.
انتهى و قد سبقه إلى هذا التقسيم و البحث غيره.
و أنت خبير بأن الآيات الكريمة ليست في مقام بيان حكم الرد و القبول بالنسبة إلى كل عمل صدر عن عامل بل هي تأخذ غاية الإنسان و تعينها بحسب نشاة حياته مرة متعلقة بالحياة العاجلة و لازمه أن لا يريد بأعماله إلا مزايا الحياة الدنيوية المادية و يعرض عن الأخرى، و مرة متعلقة بالحياة الآخرة و لازمه أن يرى لنفسه حياة خالدة دائمة، بعضها و هي الحياة الدنيا مقدمة للبعض الآخر و هي الحياة بعد الموت و أعماله في الدنيا مقصودة بها سعادة الأخرى.
و معلوم أن هذا التقسيم لا ينتج إلا قسمين نعم أحد القسمين ينقسم إلى أقسام لم يستوف أحكامها في الآيات لعدم تعلق الغرض بها و ذلك أن من أراد الآخرة ربما سعى لها سعيها و ربما لم يسع لها سعيها كالفساق و أهل البدع، و على كلا الوجهين ربما كان مؤمنا و ربما لم يكن مؤمنا، و لم يذكر في كلامه تعالى إلا حكم طائفة خاصة و هي من أراد الآخرة و سعى لها سعيها و هو مؤمن لأن الغرض تمييز ملاك السعادة من ملاك الشقاء لا بيان تفصيل الأحوال.
قوله تعالى: «انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا» إشارة إلى تفاوت الدرجات بتفاوت المساعي حتى لا يتوهم أن قليل العمل و كثيره على حد سواء و يسير السعي و السعي البالغ لا فرق بينهما فإن تسوية القليل و الكثير و الجيد و الردي في الشكر و القبول رد في الحقيقة لما يزيد به الأفضل على غيره.
و قوله: «انظر كيف فضلنا بعضهم على بعض» أي بعض الناس على بعض في الدنيا، و القرينة على هذا التقييد قوله بعد: «و للآخرة أكبر» و التفضيل في الدنيا هو ما يزيد به بعض أهلها على بعض من أعراضها و أمتعتها كالمال و الجاه و الولد و القوة و الصيت و الرئاسة و السؤدد و القبول عند الناس.
و قوله: «و للآخرة أكبر درجات و أكبر تفضيلا» أي هي أكبر من الدنيا في الدرجات و التفضيل فلا يتوهمن متوهم أن أهل الآخرة في عيشة سواء و لا أن التفاوت بين معايشهم كتفاوت أهل الدنيا في دنياهم بل الدار أوسع من الدنيا بما لا يقاس و ذلك أن سبب التفضيل في الدنيا هي اختلاف الأسباب الكونية و هي محدودة و الدار دار التزاحم و سبب التفضيل و اختلاف الدرجات في الآخرة هو اختلاف النفوس في الإيمان و الإخلاص و هي من أحوال القلوب، و اختلاف أحوالها أوسع من اختلاف أحوال الأجسام بما لا يقاس قال تعالى: «إن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله»: البقرة: 284 و قال: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء: 89.
ففي الآية أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينظر إلى ما بين أهل الدنيا من التفاضل و الاعتبار ليجعل ذلك ذريعة إلى فهم ما بين أهل الآخرة من تفاوت الدرجات و التفاضل في المقامات فإن اختلاف الأحوال في الدنيا يؤدي إلى اختلاف الإدراكات الباطنة و النيات و الأعمال التي يتيسر للإنسان أن يأتي بها و اختلاف ذلك يؤدي إلى اختلاف الدرجات في الآخرة.
قوله تعالى: «لا تجعل مع الله إلها آخر فتقعد مذموما مخذولا» قال في المفردات،: الخذلان ترك من يظن به أن ينصر نصرته انتهى.
و الآية بمنزلة النتيجة للآيات السابقة التي ذكرت سنة الله في عباده و ختمت في أن من أراد منهم العاجلة انتهى به ذلك إلى أن يصلى جهنم مذموما مدحورا، و من أراد منهم الآخرة شكر الله سعيه الجميل، و المعنى لا تشرك بالله سبحانه حتى يؤديك ذلك إلى أن تقعد و تحتبس عن السير إلى درجات القرب و أنت مذموم لا ينصرك الله و لا ناصر دونه و قيل: القعود كناية عن المذلة و العجز.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» قال: أي يدعو.
و في تفسير العياشي، عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» قال: يهدي إلى الولاية.
أقول: و هي من الجري و يمكن أن يراد به ما عند الإمام من كمال معارف الدين و لعله المراد مما في بعض الروايات من قوله: يهدي إلى الإمام.
و عنه: و في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه» يقول: خيره و شره معه حيث كان لا يستطيع فراقه حتى يعطى كتابه بما عمل.
و فيه، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن الآية قال: قدره الذي قدر عليه.
و فيه، عن خالد بن يحيى عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قوله: «اقرأ كتابك كفى بنفسك اليوم عليك حسيبا» قال يذكر العبد جميع ما عمل و ما كتب عليه حتى كأنه فعله تلك الساعة فلذلك قالوا: يا ويلتنا ما لهذا الكتاب - لا يغادر صغيرة و لا كبيرة - إلا أحصاها.
و فيه، عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «أمرنا مترفيها» مشددة منصوبة تفسيرها: كثرنا، و قال: لا قرأتها مخففة.
أقول: و في حديث آخر عن حمران عنه: تفسيرها أمرنا أكابرها.
و قد روي في قوله تعالى: «و يدع الإنسان بالشر» الآية و قوله: «و جعلنا الليل و النهار آيتين» الآية و قوله: «و كل إنسان ألزمناه طائره» الآية من طرق الفريقين عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علي (عليه السلام) و سلمان و غيره روايات تركنا إيرادها لعدم تأيدها بكتاب أو سنة أو حجة عقلية قاطعة مع ما فيها من ضعف الإسناد.
كلام في القضاء في فصول
1 -
في تحصيل معناه و تحديده.
إنا نجد الحوادث الخارجية و الأمور الكونية بالقياس إلى عللها و الأسباب المقتضية لها على إحدى حالتين فإنها قبل أن تتم عللها الموجبة لها و الشرائط و ارتفاع الموانع التي يتوقف عليها حدوثها و تحققها لا يتعين لها التحقق و الثبوت و لا عدمه بل يتردد أمرها بين أن تتحقق و أن لا تتحقق من رأس.
فإذا تمت عللها الموجبة لها و كملت ما تتوقف عليه من الشرائط و ارتفاع الموانع و لم يبق لها إلا أن تتحقق خرجت من التردد و الإبهام و تعين لها أحد الطرفين و هو التحقق، أو عدم التحقق، إن فرض انعدام شيء مما يتوقف عليه وجودها.
و لا يفارق تعين التحقق نفس التحقق.
و الاعتباران جاريان في أفعالنا الخارجية فما لم نشرف على إيقاع فعل من الأفعال كان مترددا بين أن يقع أو لا يقع فإذا اجتمعت الأسباب و الأوضاع المقتضية و أتممناها بالإرادة و الإجماع بحيث لم يبق له إلا الوقوع و الصدور عينا له أحد الجانبين فتعين له الوقوع.
و كذا يجري نظير الاعتبارين في أعمالنا الوضعية الاعتبارية كما إذا تنازع اثنان في عين يدعيه كل منهما لنفسه كان أمر مملوكيته مرددا بين أن يكون لهذا أو لذاك فإذا رجعا إلى حكم يحكم بينهما فحكم لأحدهما دون الآخر كان فيه فصل الأمر عن الإبهام و التردد و تعيين أحد الجانبين بقطع رابطته مع الآخر.
ثم توسع فيه ثانيا فجعل الفصل و التعيين بحسب القول كالفصل و التعيين بحسب الفعل فقول الحكم: إن المال لأحد المتنازعين فصل للخصومة و تعيين لأحد الجانبين بعد التردد بينهما، و قول المخبر إن كذا كذا، فصل و تعيين، و هذا المعنى هو الذي نسميه القضاء.
و لما كانت الحوادث في وجودها و تحققها مستندة إليه سبحانه و هي فعله جرى فيها الاعتباران بعينهما فهي ما لم يرد الله تحققها و لم يتم لها العلل و الشرائط الموجبة لوجودها باقية على حال التردد بين الوقوع و اللاوقوع فإذا شاء الله وقوعها و أراد تحققها فتم لها عللها و عامة شرائطها و لم يبق لها إلا أن توجد كان ذلك تعيينا منه تعالى و فصلا لها من الجانب الآخر و قطعا للإبهام، و يسمى قضاء من الله.
و نظير الاعتبارين جار في مرحلة التشريع و حكمه القاطع بأمر و فصله القول فيه قضاء منه.
و على ذلك جرى كلامه تعالى فيما أشار فيه إلى هذه الحقيقة، قال تعالى: «و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون»: البقرة: 117، و قال: «فقضاهن سبع سماوات في يومين»: حم السجدة: 12، و قال: «قضي الأمر الذي فيه تستفتيان»: يوسف: 41، و قال: «و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين»: إسراء: 4 إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة للقضاء التكويني.
و من الآيات المتعرضة للقضاء التشريعي قوله: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا»: إسراء: 23، و قوله: «إن ربك يقضي بينهم يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون»: يونس: 93، و قوله: «و قضي بينهم بالحق و قيل الحمد لله رب العالمين»: الزمر: 75، و ما في الآية و ما قبلها من القضاء بمعنى فصل الخصومة تشريعي بوجه و تكويني بآخر.
فالآيات الكريمة - كما ترى - تمضي صحة هذين الاعتبارين العقليين في الأشياء الكونية من جهة أنها أفعاله تعالى، و كذا في التشريع الإلهي من جهة أنه فعله التشريعي، و كذا فيما ينسب إليه تعالى من الحكم الفصل.
و ربما عبر عنه بالحكم و القول بعناية أخرى قال تعالى: «ألا له الحكم»: الأنعام: 62، و قال: «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41، و قال: «ما يبدل القول لدي»: ق: 29، قال: «و الحق أقول»: ص: 84.
2 - نظرة فلسفية في معنى القضاء:
لا ريب أن قانون العلية و المعلولية ثابت و أن الموجود الممكن معلول له سبحانه إما بلا واسطة معها، و أن المعلول إذا نسب إلى علته التامة كان له منها الضرورة و الوجوب إذ ما لم يجب لم يوجد، و إذا لم ينسب إليها كان له الإمكان سواء أخذ في نفسه و لم ينسب إلى شيء كالماهية الممكنة في ذاتها أو نسب إلى بعض أجزاء علته التامة فإنه لو أوجب ضرورته و وجوبه كان علة له تامة و المفروض خلافه.
و لما كانت الضرورة هي تعين أحد الطرفين و خروج الشيء عن الإبهام كانت الضرورة المنبسطة على سلسلة الممكنات من حيث انتسابها إلى الواجب تعالى الموجب لكل منها في ظرفه الذي يخصه قضاء عاما منه تعالى كما أن الضرورة الخاصة بكل واحد منها قضاء خاص به منه، إذ لا نعني بالقضاء إلا فصل الأمر و تعيينه عن الإبهام و التردد.
و من هنا يظهر أن القضاء من صفاته الفعلية و هو منتزع من الفعل من جهة نسبته إلى علته التامة الموجبة له.
3 -
و الروايات في تأييد ما تقدم كثيرة جدا: ففي المحاسن، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن هشام بن سالم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد شيئا قدره فإذا قدره قضاه فإذا قضاه أمضاه.
و فيه، عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق قال: قال: أبو الحسن (عليه السلام) ليونس مولى علي بن يقطين: يا يونس لا تتكلم بالقدر قال: إني لا أتكلم بالقدر و لكن أقول: لا يكون إلا ما أراد الله و شاء و قضى و قدر فقال ليس هكذا أقول و لكن أقول: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. ثم قال: أ تدري ما المشية؟ فقال: لا فقال: همه بالشيء أ و تدري ما أراد؟ قال: لا قال: إتمامه على المشية فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء ثم قال إن الله إذا شاء شيئا أراده و إذا أراد قدره و إذا قدره قضاه و إذا قضاه أمضاه الحديث.
و في رواية أخرى عن يونس عنه (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتداء الفعل قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضى فذلك الذي لا مرد له و في التوحيد، عن الدقاق عن الكليني عن ابن عامر عن المعلى قال: سئل العالم (عليه السلام) كيف علم الله؟ قال: علم و شاء و أراد و قدر و قضى و أمضى فأمضى ما قضى و قضى ما قدر و قدر ما أراد فبعلمه كانت المشية و بمشيته كانت الإرادة و بإرادته كان التقدير و بتقديره كان القضاء و بقضائه كان الإمضاء فالعلم متقدم على المشية و المشية ثانية و الإرادة ثالثة و التقدير واقع على القضاء بالإمضاء فلله تبارك و تعالى البداء فيما علم متى شاء و فيما أراد لتقدير الأشياء فإذا وقع القضاء بالإمضاء فلا بداء.
الحديث.
و الذي ذكره (عليه السلام) من ترتب المشية على العلم و الإرادة على المشية و هكذا ترتب عقلي بحسب صحة الانتزاع.
و فيه، بإسناده عن ابن نباتة قال: إن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.
أقول: و ذلك أن القدر لا يحتم المقدر فمن المرجو أن لا يقع ما قدر أما إذا كان القضاء فلا مدفع له، و الروايات في المعاني المتقدمة كثيرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
بحث فلسفي
في أن الفيض مطلق غير محدود على ما يفيده قوله تعالى: «و ما كان عطاء ربك محظورا».
أطبقت البراهين على أن وجود الواجب تعالى بما أنه واجب لذاته مطلق غير محدود بحد و لا مقيد بقيد و لا مشروط بشرط و إلا انعدم فيما وراء حده و بطل على تقدير عدم قيده أو شرطه و قد فرض واجبا لذاته فهو واحد وحدة لا يتصور لها ثان و مطلق إطلاقا لا يتحمل تقييدا.
و قد ثبت أيضا أن وجود ما سواه أثر مجعول له و أن الفعل ضروري المسانخة لفاعله فالأثر الصادر منه واحد بوحدة حقه ظلية مطلق غير محدود و إلا تركبت ذاته من حد و محدود و تألفت من وجود و عدم و سرت هذه المناقضة الذاتية إلى ذات فاعله لمكان المسانخة بين الفاعل و فعله، و قد فرض أنه واحد مطلق فالوجود الذي هو فعله، و أثره المجعول واحد غير كثير و مطلق غير محدود و هو المطلوب.
فما يتراءى في الممكنات من جهات الاختلاف التي تقضي بالتحديد من النقص و الكمال و الوجدان و الفقدان عائدة إلى أنفسها دون جاعلها.
و هي إن كانت في أصل وجودها النوعي أو لوازمها النوعية فمنشأها ماهياتها القابلة للوجود بإمكانها الذاتي كالإنسان و الفرس المختلفين في نوعيهما و لوازم نوعيهما و إن كانت في كمالاتها الثانية المختلفة باختلاف أفراد النوع من فاقد للكمال محروم منه و واجد له و الواجد للكمال التام أو الناقص فمنشأها اختلاف الاستعدادات المادية باختلاف العلل المعدة المهيأة للاستفاضة من العلة المفيضة.
فالذي تفيضه العلة المفيضة من الأثر واحد مطلق، لكن القوابل المختلفة تكثره باختلاف قابليتها فمن راد له متلبس بخلافه و من قابل يقبله تاما و من قابل يقبله ناقصا و يحوله إلى ما يشاكل خصوصية ما فيه من الاستعداد كالشمس التي تفيض نورا واحدا متشابه الأجزاء لكن الأجسام القابلة لنورها تتصرف فيه على حسب ما عندها من القوة و الاستعداد.
فإن قلت لا ريب في أن هذه الاختلافات أمور واقعية فإن كان ما عد منشأ لها من الماهيات و الاستعدادات أمورا وهمية غير واقعية لم يكن لإسناد هذه الأمور الواقعية إليها معنى و رجع الأمر إلى الوجود الذي هو أثر الجاعل الحق و هو خلاف ما ادعيتموه من إطلاق الفيض، و إن كانت أمورا واقعية غير وهمية كانت من سنخ الوجود لاختصاص الأصالة به فكان الاستناد أيضا إلى فعله تعالى و ثبت خلاف المدعي.
قلت: هذا النظر يعيد الجميع إلى سنخ الوجود الواحد و لا يبقى معه من الاختلاف أثر بل يكون هناك وجود واحد ظلي قائم بوجود واحد أصلي و لا يبقى لهذا البحث على هذا محل أصلا.
و بعبارة أخرى تقسيم الموجود المطلق إلى ماهية و وجود و كذا تقسيمه إلى ما بالقوة و ما بالفعل هو الذي أظهر السلوب في نفس الأمر و قسم الأشياء إلى واجد و فاقد و مستكمل و محروم و قابل و مقبول و منشأه تحليل العقل الأشياء إلى ماهية قابلة للوجود و وجود مقبول للماهية، و كذا إلى قوة فاقدة للفعلية و فعلية تقابلها أما إذا رجع الجميع إلى الوجود الذي هو حقيقة واحدة مطلقة لم يبق للبحث عن سبب الاختلاف محل و عاد أثر الجاعل و هو الفيض واحدا مطلقا لا كثرة فيه و لا حد معه فافهم ذلك.
|