بيان
الظاهر من سياق آيات صدر السورة أنها مسوقة لبيان أن السنة الإلهية في الأمم الإنسانية جرت على هدايتهم إلى طريق العبودية و سبيل التوحيد و أمكنهم من الوصول إلى ذلك باختيارهم فآتاهم من نعم الدنيا و الآخرة، و أمدهم بأسباب الطاعة و المعصية فإن أطاعوا و أحسنوا أثابهم بسعادة الدنيا و الآخرة، و إن أساءوا و عصوا جازاهم بنكال الدنيا و عذاب الآخرة.
و على هذا فهذه الآيات السبع كالمثال يمثل به ما جرى من هذه السنة العامة في بني إسرائيل أنزل الله على نبيهم الكتاب و جعله لهم هدى يهتدون به و قضى إليهم فيه أنهم سيعلون و يطغون و يفسقون فينتقم الله منهم باستيلاء عدوهم عليهم بالإذلال و القتل و الأسر ثم يعودون إلى الطاعة فيعود تعالى إلى النعمة و الرحمة ثم يستعلون و يطغون ثانيا فينتقم الله منهم ثانيا بأشد مما في المرة الأولى ثم من المرجو أن يرحمهم ربهم و إن يعودوا يعد.
و من ذلك يستنتج أن الآيات السبع كالتوطئة لما سيذكر بعدها من جريان هذه السنة العامة في هذه الأمة، و الآيات السبع كالمعترضة بين الآية الأولى و التاسعة.
قوله تعالى: «و آتينا موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل ألا تتخذوا من دوني وكيلا» الكتاب كثيرا ما يطلق في كلامه تعالى على مجموع الشرائع المكتوبة على الناس القاضية بينهم فيما اختلفوا فيه من الاعتقاد و العمل ففيه دلالة على اشتماله على الوظائف الاعتقادية و العملية التي عليهم أن يأخذوها و يتلبسوا بها، و لعله لذلك قيل: «و آتينا موسى الكتاب» و لم يقل التوراة ليدل به على اشتماله على شرائع مفترضة عليهم.
و بذلك يظهر أن قوله: «و جعلناه هدى لبني إسرائيل» بمنزلة التفسير لإيتائه الكتاب.
و كونه هدى أي هاديا لهم هو بيانه لهم شرائع ربهم التي لو أخذوها و عملوا بها لاهتدوا إلى الحق و نالوا سعادة الدارين.
و قوله: «ألا تتخذوا من دوني وكيلا» أن: فيه للتفسير و مدخولها محصل ما يشتمل عليه الكتاب الذي جعل هدى لهم فيئول المعنى إلى أن محصل ما كان الكتاب يبينه لهم و يهديهم إليه هو نهيه إياهم أن يشركوا بالله شيئا و يتخذوا من دونه وكيلا فقوله: «لا تتخذوا من دوني وكيلا» تفسيرا لقوله: «و جعلناه هدى لبني إسرائيل» إن كان ضمير «لا تتخذوا» عائدا إليهم كما هو الظاهر، و تفسير لجميع ما تقدمه إن احتمل رجوعه إلى موسى و بني إسرائيل جميعا.
و في الجملة التفات من التكلم مع الغير إلى التكلم وحده و وجهه بيان كون التكلم مع الغير لغرض التعظيم و جريان السياق على ما كان عليه من التكلم مع الغير كأن يقال: «أن لا تتخذوا من دوننا وكلاء» لا يناسب معنى التوحيد الذي سيقت له الجملة، و لذلك عدل فيها إلى سياق التكلم وحده ثم لما ارتفعت الحاجة رجع الكلام إلى سياقه السابق فقيل: «ذرية من حملنا مع نوح».
و رجوع اتخاذ الوكيل من دون الله إلى الشرك إنما هو من جهة أن الوكيل هو الذي يكفل إصلاح الشئون الضرورية لموكله و يقدم على رفع حوائجه و هو الله سبحانه فاتخاذ غيره ربا هو اتخاذ وكيل من دونه.
قوله تعالى: «ذرية من حملنا مع نوح إنه كان عبدا شكورا» تطلق الذرية على الأولاد بعناية كونهم صغارا ملحقين بآبائهم، و هي - على ما يهدي إليه السياق - منصوبة على الاختصاص و يفيد الاختصاص عناية خاصة من المتكلم به في حكمه فهو بمنزلة التعليل كقوله تعالى: «إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت:» الأحزاب - 33 أي ليفعل بكم ذلك لأنكم أهل بيت النبوة.
فقوله: «ذرية من حملنا مع نوح» يفيد فائدة التعليل بالنسبة إلى ما تقدمه كما أن قوله: «إنه كان عبدا شكورا» يفيد فائدة التعليل بالنسبة إليه.
أما الأول فلأن الظاهر أن تعلق العناية بهم إنما هو من جهة ما سبق من الله سبحانه لأهل سفينة نوح من الوعد الجميل حين نجاهم من الطوفان و أمر نوحا بالهبوط بقوله: «يا نوح اهبط بسلام منا و بركات عليك و على أمم ممن معك و أمم سنمتعهم ثم يمسهم منا عذاب أليم:» هود: 48 ففي إنزاله الكتاب لموسى و جعله هدى لبني إسرائيل إنجاز للوعد الحسن الذي سبق لآبائهم من أهل السفينة و جرى على السنة الإلهية الجارية في الأمم فكأنه قيل: أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل لأنهم ذرية من حملنا مع نوح و قد وعدناهم السلام و البركات و التمتيع.
و أما الثاني فلأن هذه السنة أعني سنة الهداية و الإرشاد و طريقة الدعوة إلى التوحيد هي بعينها السنة التي كان نوح (عليه السلام) أول من قام بها في العالم البشري فشكر بذلك نعمة الله و أخلص له في العبودية - و قد تقدم مرارا أن الشكر بحقيقته يلازم الإخلاص في العبودية - فشكر الله له، و جعل سنته باقية ببقاء الدنيا، و سلم عليه في العالمين، و أثابه بكل كلمة طيبة و عمل صالح إلى يوم القيامة كما قال تعالى: «و جعلنا ذريته هم الباقين و تركنا عليه في الآخرين سلام على نوح في العالمين إنا كذلك نجزي المحسنين»: الصافات: 80.
فيتلخص معنى الآيتين في مثل قولنا: إنا جزينا نوحا بما كان عبدا شكورا لنا أنا أبقينا دعوته و أجرينا سنته و طريقته في ذرية من حملناهم معه في السفينة و من ذلك أنا أنزلنا على موسى الكتاب و جعلناه هدى لبني إسرائيل.
و يظهر من قوله في الآية: «ذرية من حملنا مع نوح» و من قوله:» و جعلنا ذريته هم الباقين» أن الناس ذرية نوح (عليه السلام) من جهة الابن و البنت معا، و لو كانت الذرية منتهية إلى أبنائه فقط و كان المراد بقوله: «من حملنا مع نوح» أبناءه فقط كان الأحسن بل المتعين أن يقال: ذرية نوح و هو ظاهر.
و للقوم في إعراب الآية وجوه أخرى كثيرة كقول من قال: إن «ذرية» منصوب على النداء بحذف حرفه، و التقدير يا ذرية من حملنا، و قيل: مفعول أول لقوله: تتخذوا و مفعوله الثاني قوله: «وكيلا» و التقدير أن لا تتخذوا ذرية من حملنا مع نوح وكيلا من دوني، و قيل: بدل من موسى في الآية السابقة و هي وجوه ظاهرة السخافة.
و يتلوها في ذلك قول من قال: إن ضمير «إنه» عائد إلى موسى دون نوح و الجملة تعليل لإيتائه الكتاب أو لجعله (عليه السلام) هدى لبني إسرائيل بناء على رجوع ضمير «و جعلناه» إلى موسى دون الكتاب.
قوله تعالى: «و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين و لتعلن علوا كبيرا» قال الراغب في المفردات،: القضاء فصل الأمر قولا كان ذلك أو فعلا، و كل واحد منهما على وجهين: إلهي و بشري فمن القول الإلهي قوله: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه» أي أمر بذلك، و قال: «و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب» فهذا قضاء بالإعلام و الفصل في الحكم أي أعلمناهم و أوحينا إليهم وحيا جزما و على هذا «و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع».
و من الفعل الإلهي قوله: «و الله يقضي بالحق و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء» و قوله: «فقضاهن سبع سماوات في يومين» إشارة إلى إيجاده الإبداعي و الفراغ منه نحو: «بديع السماوات و الأرض».
قال: و من القول البشري نحو قضى الحاكم بكذا فإن حكم الحاكم يكون بالقول، و من الفعل البشري «فإذا قضيتم مناسككم» «ثم ليقضوا تفثهم و ليوفوا نذورهم» انتهى موضع الحاجة.
و العلو هو الارتفاع و هو في الآية كناية عن الطغيان بالظلم و التعدي و يشهد بذلك عطفه على الإفساد عطف التفسير، و في هذا المعنى قوله: «إن فرعون علا في الأرض و جعل أهلها شيعا.
و معنى الآية و أخبرنا و أعلمنا بني إسرائيل إخبارا قاطعا في الكتاب و هو التوراة: أقسم و أحق هذا القول أنكم شعب إسرائيل ستفسدون في الأرض و هي أرض فلسطين و ما يتبعها مرتين مرة بعد مرة و تعلون علوا كبيرا و تطغون طغيانا عظيما.
قوله تعالى: «فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عبادا لنا» إلخ، قال الراغب: البؤس و البأس و البأساء الشدة و المكروه إلا أن البؤس في الفقر و الحرب أكثر و البأس و البأساء في النكاية نحو و الله أشد بأسا و أشد تنكيلا. انتهى موضع الحاجة.
و في المجمع: الجوس التخلل في الديار يقال: تركت فلان يجوس بني فلان و يجوسهم و يدوسهم أي يطؤهم، قال أبو عبيد: كل موضع خالطته و وطأته فقد حسته و جسته قال: و قيل: الجوس طلب الشيء باستقصاء.
انتهى.
و قوله: «فإذا جاء وعد أولاهما» تفريع على قوله: «لتفسدن» إلخ، و ضمير التثنية راجع إلى المرتين و هما الإفسادتان فالمراد بها الإفسادة الأولى، و المراد بوعد أولاهما ما وعدهم الله من النكال و النقمة على إفسادهم فالوعد بمعنى الموعود، و مجيء الوعد كناية عن وقت إنجازه، و يدل ذلك على أنه وعدهم على إفسادهم مرتين وعدين و لم يذكرا إنجازا فكأنه قيل: لتفسدن في الأرض مرتين و نحن نعدكم الانتقام على كل منهما فإذا جاء وعد المرة الأولى «إلخ» كل ذلك معونة السياق.
و قوله: «بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد» أي أنهضناهم و أرسلناهم إليكم ليذلوكم و ينتقموا منكم، و الدليل على كون البعث للانتقام و الإذلال قوله: «أولي بأس شديد» إلخ.
و لا ضير في عد مجيئهم إلى بني إسرائيل مع ما كان فيه من القتل الذريع و الأسر و السبي و النهب و التخريب بعثا إلهيا لأنه كان على سبيل المجازاة على إفسادهم في الأرض و علوهم و بغيهم بغير الحق، فما ظلمهم الله ببعث أعدائهم و تأييدهم عليهم و لكن كانوا هم الظالمين لأنفسهم.
و بذلك يظهر أن لا دليل من الكلام يدل على قول من قال: إن المراد بقوله: «بعثنا عليكم «إلخ» أمرنا قوما مؤمنين بقتالكم و جهادكم لاقتضاء ظاهر قوله: «بعثنا» و قوله «عبادا» ذلك و ذلك لما عرفت أن عد ذلك بعثا إلهيا لا مانع فيه بعد ما كان على سبيل المجازاة، و كذا لا مانع من عد الكفار عبادا لله مع ما تعقبه من قوله: «أولي بأس شديد».
و نظيره قول من قال: يجوز أن يكون هؤلاء المبعوثون مؤمنين أمرهم الله بجهاد هؤلاء، و يجوز أن يكونوا كفارا فتألفهم نبي من الأنبياء لحرب هؤلاء، و سلطهم على أمثالهم من الكفار و الفساق، و يرد عليه نظير ما يرد على سابقه.
و قوله: «و كان وعدا مفعولا» تأكيد لكون القضاء حتما لازما و المعنى فإذا جاء وقت الوعد الذي وعدناه على المرة الأولى من إفسادكم مرتين بعثنا و انهضنا عليكم من الناس عبادا لنا أولي بأس و شدة شديدة فدخلوا بالقهر و الغلبة أرضكم و توسطوا في دياركم فأذلوكم و أذهبوا استقلالكم و علوكم و سؤددكم و كان وعدا مفعولا لا محيص عنه.
قوله تعالى: «ثم رددنا لكم الكرة عليهم و أمددناكم بأموال و بنين و جعلناكم أكثر نفيرا» قال في المجمع،: الكرة معناه الرجعة و الدولة، و النفير العدد من الرجال قال الزجاج: و يجوز أن يكون جمع نفر كما قيل: العبيد و الضئين و المعيز و الكليب، و نفر الإنسان و نفره و نفيره و نافرته رهطه الذين ينصرونه و ينفرون معه انتهى.
و معنى الآية ظاهر، و ظاهرها أن بني إسرائيل ستعود الدولة لهم على أعدائهم بعد وعد المرة الأولى فيغلبونهم و يقهرونهم و يتخلصون من استعبادهم و استرقاقهم و أن هذه الدولة سترجع إليهم تدريجا في برهة معتد بها من الزمان كما هو لازم إمدادهم بأموال و بنين و جعلهم أكثر نفيرا.
و في قوله في الآية التالية: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها» إشعار بل دلالة بمعونة السياق أن هذه الواقعة و هي رد الكرة لبني إسرائيل على أعدائهم إنما كانت لرجوعهم إلى الإحسان بعد ما ذاقوا وبال إساءتهم قبل ذلك كما أن إنجاز وعد الآخرة إنما كان لرجوعهم ثانيا إلى الإساءة بعد رجوعهم هذا إلى الإحسان.
قوله تعالى: «إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم و إن أسأتم فلها» اللام في «لأنفسكم» و «فلها» للاختصاص أي إن كلا من إحسانكم و إساءتكم يختص بأنفسكم دون أن يلحق غيركم، و هي سنة الله الجارية أن العمل يعود أثره و تبعته إلى صاحبه إن خيرا و إن شرا فهو كقوله: «تلك أمة قد خلت لها ما كسبت و لكم ما كسبتم»: البقرة - 141.
فالمقام مقام بيان أن أثر العمل لصاحبه خيرا كان أو شرا، و ليس مقام بيان أن الإحسان ينفع صاحبه و الإساءة تضره حتى يقال: و إن أسأتم فعليها كما قيل: «لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت»: البقرة: 286.
فلا حاجة إلى ما تكلفه بعضهم أن اللام في قوله: «و إن أسأتم فلها» بمعنى على، و قول آخرين: إنها بمعنى إلى لأن الإساءة تتعدى بها يقال: أساء إلى فلان و يسيء إليه إساءة، و قول آخرين: إنها للاستحقاق كقوله: «و لهم عذاب أليم».
و ربما أورد على كون اللام للاختصاص بأن الواقع على خلافه فكثيرا ما يتعدى أثر الإحسان إلى غير محسنه و أثر الإساءة إلى غير فاعلها و هو ظاهر.
و الجواب عنه أن فيه غفلة عما يراه القرآن الكريم في آثار الأعمال أما آثار الأعمال الأخروية فإنها لا تتعدى صاحبها البتة قال تعالى: «من كفر فعليه كفره و من عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون»: الروم: 44، و أما الآثار الدنيوية فإن الأعمال لا تؤثر أثرا في غير فاعلها إلا أن يشاء الله من ذلك شيئا على سبيل النعمة على الغير أو النقمة أو الابتلاء و الامتحان فليس في مقدرة الفاعل أن يوصل أثر فعله إلى الغير دائما إلا أحيانا يريده الله لكن الفاعل يلحقه أثر فعله الحسن أو السيىء دائما من غير تخلف.
فللمحسن نصيب من إحسانه و للمسيء نصيب من إساءته، قال تعالى: «فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره»: الزلزال: 8 فأثر الفعل لا يفارق فاعله إلى غيره، و هذا معنى ما روي عن علي (عليه السلام) أنه قال: ما أحسنتم إلى أحد و لا أسأت إليه و تلا الآية.
قوله تعالى: «فإذا جاء وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة و ليتبروا ما علوا تتبيرا» التتبير الإهلاك من التبار بمعنى الهلاك و الدمار.
و قوله: «ليسوؤا وجوهكم» من المساءة يقال: ساء زيد فلانا إذا أحزنه و هو على ما قيل متعلق بفعل مقدر محذوف للإيجاز، و اللام للغاية و التقدير بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة فيها و بدو آثار الذلة و المسكنة و صغار الاستعباد عليها بما يرتكبونه فيكم من القتل الذريع و السبي و النهب.
و قوله: «و ليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة» المراد بالمسجد هو المسجد الأقصى - بيت المقدس - و لا يعبأ بما ذكره بعضهم أن المراد به جميع الأرض المقدسة مجازا، و في الكلام دلالة أولا أنهم في وعد المرة الأولى أيضا دخلوا المسجد عنوة و إنما لم يذكر قبلا للإيجاز، و ثانيا أن دخولهم المسجد إنما كان للهتك و التخريب، و ثالثا يشعر الكلام بأن هؤلاء المهاجمين المبعوثين لمجازاة بني إسرائيل و الانتقام منهم هم الذين بعثوا عليهم أولا.
و قوله: «و ليتبروا ما علوا تتبيرا» أي ليهلكوا الذي غلبوا عليه إهلاكا فيقتلوا النفوس و يحرقوا الأموال و يهدموا الأبنية و يخربوا البلاد، و احتمل أن يكون ما مصدرية بحذف مضاف و تقدير الكلام: و ليتبروا مدة علوهم تتبيرا، و المعنى الأول أقرب إلى الفهم و أوفق بالسياق.
و المقايسة بين الوعدين أعني قوله: «بعثنا عليكم عبادا لنا» إلخ و قوله: «ليسوؤا وجوهكم» إلخ يعطي أن الثاني كان أشد على بني إسرائيل و أمر و قد كادوا أن يفنوا و يبيدوا فيه عن آخرهم و كفى في ذلك قوله تعالى: «و ليتبروا ما علوا تتبيرا».
و المعنى فإذا جاء وعد المرة الآخرة و هي الثانية من الإفسادتين بعثناهم ليسوئوا وجوهكم بظهور الحزن و الكآبة و بدو الذلة و المسكنة و ليدخلوا المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة و ليهلكوا الذي غلبوا عليه و يفنوا الذي مروا عليه إهلاكا و إفناء.
قوله تعالى: «عسى ربكم أن يرحمكم» و إن عدتم عدنا و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا» الحصير من الحصر و هو - على ما ذكروه - التضييق و الحبس قال تعالى: «و احصروهم»: التوبة: 5 أي ضيقوا عليهم.
و قوله: «عسى ربكم أن يرحمكم» أي بعد البعث الثاني على ما يفيده السياق و هو ترج للرحمة على تقدير أن يتوبوا و يرجعوا إلى الطاعة و الإحسان بدليل قوله: «و إن عدتم عدنا» أي و إن تعودوا إلى الإفساد و العلو، بعد ما رجعتم عنه و رحمكم ربكم نعد إلى العقوبة و النكال، و جعلنا جهنم للكافرين حصيرا و مكانا حابسا لا يستطيعون منه خروجا.
و في قوله: «عسى ربكم أن يرحمكم» التفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة و كأن الوجه فيه الإشارة إلى أن الأصل الذي يقتضيه ربوبيته تعالى أن يرحم عباده إن جروا على ما يقتضيه خلقتهم و يرشد إليه فطرتهم إلا أن ينحرفوا عن خط الخلقة و يخرجوا عن صراط الفطرة، و الإيماء إلى هذه النكتة يوجب ذكر وصف الرب فاحتاج السياق أن يتغير عن التكلم مع الغير إلى الغيبة ثم لما استوفيت النكتة بقوله: «عسى ربكم أن يرحمكم» عاد الكلام إلى ما كان عليه.
بحث روائي
في تفسير البرهان، عن ابن بابويه بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن نوحا إنما سمي عبدا شكورا لأنه كان يقول إذا أمسى و أصبح: اللهم إني أشهدك أنه ما أمسى و أصبح بي من نعمة أو عافية في دين أو دنيا فمنك وحدك لا شريك لك، لك الحمد و لك الشكر بها علي حتى ترضى و بعد الرضا.
أقول: و روي هذا المعنى بتفاوت يسير بعدة طرق في الكافي و تفسيري القمي، و العياشي،.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي فاطمة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان نوح (عليه السلام) لا يحمل شيئا صغيرا و لا كبيرا إلا قال: بسم الله و الحمد لله فسماه الله عبدا شكورا.
أقول: و الروايات لا تنافي ما تقدم من تفسير الشكر بالإخلاص فمن المعلوم أن دعاءه لم يكن إلا عن تحققه بحقيقة ما دعا به و لا ينفك ذلك عن الإخلاص في العبودية.
و في تفسير البرهان، عن ابن قولويه بإسناده عن صالح بن سهل عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و قضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين» قال: قتل أمير المؤمنين و طعن الحسن بن علي (عليهما السلام) «و لتعلن علوا كبيرا» قال: قتل الحسين (عليه السلام) «فإذا جاء وعد أولاهما» قال: إذا جاء نصر الحسين «بعثنا عليكم عبادا لنا أولي بأس شديد - فجاسوا خلال الديار» قوم يبعثهم الله قبل قيام القائم لا يدعون لآل محمد وترا إلا أخذوه «و كان وعدا مفعولا».
أقول: و في معناها روايات أخرى و هي مسوقة لتطبيق ما يجري في هذه الأمة من الحوادث على ما جرى منها في بني إسرائيل تصديقا لما تواتر عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الأمة ستركب ما ركبته بنو إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخله هؤلاء، و ليست الروايات واردة في تفسير الآيات، و من شواهد ذلك اختلاف ما فيها من التطبيق.
و أما أصل القصة التي تتضمنها الآيات الكريمة فقد اختلفت الروايات فيها اختلافا عجيبا يسلب عنها التعويل، و لذلك تركنا إيرادها هاهنا من أرادها فليراجع جوامع الحديث من العامة و الخاصة.
و قد نزل على بني إسرائيل منذ استقلوا بالملك و السؤدد نوازل هامة كثيرة فوق اثنتين - على ما يضبطه تاريخهم - يمكن أن ينطبق ما تضمنته هذه الآيات على اثنتين منها لكن الذي هو كالمسلم عندهم أن إحدى هاتين النكايتين اللتين تشير إليهما الآيات هي ما جرى عليهم بيد بخت نصر نبوكدنصر من ملوك بابل قبل الميلاد بستة قرون تقريبا.
و كان ملكا ذا قوة و شوكة من جبابرة عهده، و كان يحمي بني إسرائيل فعصوه و تمردوا عليه فسار إليهم بجيوش لا قبل لهم بها و حاصر بلادهم ثم فتحها عنوة فخرب البلاد و هدم المسجد الأقصى و أحرق التوراة و كتب الأنبياء و أباد النفوس بالقتل العام و لم يبق منهم إلا شرذمة قليلة من النساء و الذراري و ضعفاء الرجال فأسرهم و سيرهم معه إلى بابل فلم يزالوا هناك لا يحميهم حام و لا يدفع عنهم دافع طول زمن حياة بخت نصر و بعده زمانا طويلا حتى قصد الكسرى كورش أحد ملوك الفرس العظام بابل و فتحه تلطف على الأسرى من بني إسرائيل و أذن لهم في الرجوع إلى الأرض المقدسة، و أعانهم على تعمير الهيكل - المسجد الأقصى - و تجديد الأبنية و أجاز لعزراء أحد كهنتهم أن يكتب لهم التوراة و ذلك في نيف و خمسين و أربعمائة سنة قبل الميلاد.
و الذي يظهر من تاريخ اليهود أن المبعوث أولا لتخريب بيت المقدس هو بخت نصر و بقي خرابا سبعين سنة، و المبعوث ثانيا هو قيصر الروم إسبيانوس سير إليهم وزيره طوطوز فخرب البيت و أذل القوم قبل الميلاد بقرن تقريبا.
و ليس من البعيد أن يكون الحادثتان هما المرادتان في الآيات فإن الحوادث الأخرى لم تفن جمعهم و لم تذهب بملكهم و استقلالهم بالمرة لكن نازلة بخت نصر ذهب بجميعهم و سؤددهم إلى زمن كورش ثم اجتمع شملهم بعده برهة ثم غلب عليهم الروم و أذهبت بقوتهم و شوكتهم فلم يزالوا على ذلك إلى زمن ظهور الإسلام.
و لا يبعده إلا ما تقدمت الإشارة إليه في تفسير الآيات أن فيها إشعارا بأن المبعوث إلى بني إسرائيل في المرة الأولى و الثانية قوم بأعيانهم و أن قوله: «ثم رددنا لكم الكرة عليهم» مشعر بأن الكرة من بني إسرائيل على القوم المبعوثين عليهم أولا، و أن قوله: «فإذا كان وعد الآخرة ليسوؤا وجوهكم» مشعر برجوع ضمير الجمع إلى ما تقدم من قوله: «عبادا لنا».
لكنه إشعار من غير دلالة ظاهرة لجواز أن يكون المراد كرة من غير بني إسرائيل على أعدائهم و هم ينتفعون بها و أن يكون ضمير الجمع عائدا إلى ما يدل عليه الكلام بسياقه من غير إيجاب السياق أن يكون المبعوثون ثانيا هم المبعوثين أولا.
|