بيان
رجوع بعد رجوع إلى حديث القرآن و كونه آية للنبوة و ما يصحبه من الرحمة و البركة، و قد افتتح الكلام فيه بقوله فيما تقدم: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم» ثم رجع إليه بقوله: «و لقد صرفنا في هذا القرآن ليذكروا» إلخ و قوله «و إذا قرأت القرآن» إلخ و قوله: «و ما منعنا أن نرسل بالآيات» إلخ.
فبين في هذه الآيات أن القرآن شفاء و رحمة و بعبارة أخرى مصلح لمن صلحت نفسه و مخسر للظالمين و أنه آية معجزة للنبوة ثم ذكر ما كانوا يقترحونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الآيات و الجواب عنه و ما يلحق بذلك من الكلام.
و في الآيات ذكر سؤالهم عن الروح و الجواب عنه.
قوله تعالى: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا» من بيانية تبين الموصول أعني قوله: «ما هو شفاء» إلخ أي و ننزل ما هو شفاء و رحمة و هو القرآن.
و عد القرآن شفاء و الشفاء إنما يكون عن مرض دليل على أن للقلوب أحوالا نسبة القرآن إليها نسبة الدواء الشافي إلى المرض، و هو المستفاد من كلامه سبحانه حيث ذكر أن الدين الحق فطري للإنسان فكما أن للبنية الإنسانية التي سويت على الخلقة الأصلية قبل أن يلحق بها أحوال منافية و آثار مغايرة للتسوية الأولية استقامة طبيعية تجري عليها في أطوار الحياة كذلك لها بحسب الخلقة الأصلية عقائد حقة في المبدإ و المعاد و ما يتفرع عليهما من أصول المعارف، و أخلاق فاضلة زاكية تلائمها و يترتب عليها من الأحوال و الأعمال ما يناسبها.
فللإنسان صحة و استقامة روحية معنوية كما أن له صحة و استقامة جسمية صورية، و له أمراض و أدواء روحية باختلال أمر الصحة الروحية كما أن له أمراضا و أدواء جسمية باختلال أمر الصحة الجسمية و لكل داء دواء و لكل مرض شفاء.
و قد ذكر الله سبحانه في أناس من المؤمنين أن في قلوبهم مرضا و هو غير الكفر و النفاق الصريحين كما يدل عليه قوله: «لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم»: الأحزاب: 60 و قوله: «و ليقول الذين في قلوبهم مرض و الكافرون ما ذا أراد الله بهذا مثلا»: المدثر: 31.
و ليس هذا المسمى مرضا إلا ما يختل به ثبات القلب و استقامة النفس من أنواع الشك و الريب الموجبة لاضطراب الباطن و تزلزل السر و الميل إلى الباطل و اتباع الهوى مما يجامع إيمان عامة المؤمنين من أهل أدنى مراتب الإيمان و مما هو معدود نقصا و شركا بالإضافة إلى مراتب الإيمان العالية، و قد قال تعالى: «و ما يؤمن أكثرهم بالله إلا و هم مشركون»: يوسف: 106 و قال: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء: 65.
و القرآن الكريم يزيل بحججه القاطعة و براهينه الساطعة أنواع الشكوك و الشبهات المعترضة في طريق العقائد الحقة و المعارف الحقيقية و يدفع بمواعظه الشافية و ما فيه من القصص و العبر و الأمثال و الوعد و الوعيد و الإنذار و التبشير و الأحكام و الشرائع عاهات الأفئدة و آفاتها فالقرآن شفاء للمؤمنين.
و أما كونه رحمة للمؤمنين - و الرحمة إفاضة ما يتم به النقص و يرتفع به الحاجة - فلأن القرآن ينور القلوب بنور العلم و اليقين بعد ما يزيل عنها ظلمات الجهل و العمى و الشك و الريب و يحليها بالملكات الفاضلة و الحالات الشريفة الزاكية بعد ما يغسل عنها أوساخ الهيآت الردية و الصفات الخسيسة.
فهو بما أنه شفاء يزيل عنها أنواع الأمراض و الأدواء، و بما أنه رحمة يعيد إليها ما افتقدته من الصحة و الاستقامة الأصلية الفطرية فهو بكونه شفاء يطهر المحل من الموانع المضادة للسعادة و يهيئها لقبولها، و بكونه رحمة يلبسه لباس السعادة و ينعم عليه بنعمة الاستقامة.
فالقرآن شفاء و رحمة للقلوب المريضة كما أنه هدى و رحمة للنفوس غير الأمنة من الضلال، و بذلك يظهر النكتة في ترتب الرحمة على الشفاء في قوله: «ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين» فهو كقوله: «هدى و رحمة لقوم يؤمنون»: يوسف: 111 و قوله: «و مغفرة و رحمة»: النساء: 96.
فمعنى قوله: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين» و ننزل إليك أمرا يشفي أمراض القلوب و يزيلها و يعيد إليها حالة الصحة و الاستقامة فتتمتع من نعمة السعادة و الكرامة.
و قوله: «و لا يزيد الظالمين إلا خسارا» السياق دال على أن المراد به بيان ما للقرآن من الأثر في غير المؤمنين قبال ما له من الأثر الجميل في المؤمنين فالمراد بالظالمين غير المؤمنين و هم الكفار دون المشركين خاصة كما يظهر من بعض المفسرين و إنما علق الحكم بالوصف أعني الظلم ليشعر بالتعليل أي أن القرآن إنما يزيدهم خسارا لمكان ظلمهم بالكفر.
و الخسار هو النقص في رأس المال فللكفار رأس مال بحسب الأصل و هو الدين الفطري تلهم به نفوسهم الساذجة ثم إنهم بكفرهم بالله و آياته خسروا فيه و نقصوا.
ثم إن كفرهم بالقرآن و إعراضهم عنه بظلمهم يزيدهم خسارا على خسار و نقصا على نقص إن كانت عندهم بقية من موهبة الفطرة، و إلى هذه النكتة يشير سياق النفي و الاستثناء حيث قيل: «و لا يزيد الظالمين إلا خسارا» و لم يقل: و يزيد الظالمين خسارا.
و به يظهر أن محصل معنى الآية أن القرآن يزيد المؤمنين صحة و استقامة على صحتهم و استقامتهم بالإيمان و سعادة على سعادتهم و إن زاد الكافرين شيئا فإنما يزيدهم نقصا و خسارا.
و للمفسرين في معنى صدر الآية و ذيلها وجوه أخر أغمضنا عنها من أراد الوقوف عليها فليراجع مسفوراتهم.
و مما ذكروه فيها أن المراد بالشفاء في الآية أعم من شفاء الأمراض الروحية من الجهل و الشبهة و الريب و الملكات النفسانية الرذيلة و شفاء الأمراض الجسمية بالتبرك بآياته الكريمة قراءة و كتابة هذا.
و لا بأس به لكن لو صح التعميم فليصح في الصدر و الذيل جميعا فإنه كما يستعان به على دفع الأمراض و العاهات بقراءة أو كتابة كذلك يستعان به على دفع الأعداء و رفع ظلم الظالمين و إبطال كيد الكافرين فيزيد بذلك الظالمين خسارا كما يفيد المؤمنين شفاء هذا، و نسبة زيادة خسارهم إلى القرآن مع أنها مستندة بالحقيقة إلى سوء اختيارهم و شقاء أنفسهم إنما هي بنوع من المجاز.
قوله تعالى: «و إذا أنعمنا على الإنسان أعرض و نأى بجانبه و إذا مسه الشر كان يؤسا» قال في المفردات،: العرض خلاف الطول و أصله أن يقال في الأجسام ثم يستعمل في غيرها - إلى أن قال - و أعرض أظهر عرضه أي ناحيته فإذا قيل: أعرض لي كذا أي بدا عرضه فأمكن تناوله، و إذا قيل: أعرض عني فمعناه ولى مبديا عرضه.
انتهى موضع الحاجة.
و النأي البعد و نأى بجانبه أي اتخذ لنفسه جهة بعيدة منا، و مجموع قوله: «أعرض و نأى بجانبه» يمثل حال الإنسان في تباعده و انقطاعه من ربه عند ما ينعم عليه.
كمن يحول وجهه عن صاحبه و يتخذ لنفسه موقفا بعيدا منه، و ربما ذكر بعض المفسرين أن قوله.
«نأى بجانبه» كناية عن الاستكبار و الاستعلاء.
و قوله: «و إذا مسه الشر كان يؤسا» أي و إذا أصابه الشر أصابة خفيفة كالمس كان آيسا منقطع الرجاء عن الخير و هو النعمة، و لم ينسب الشر إليه تعالى كما نسب النعمة تنزيها له تعالى من أن يسند إليه الشر، و لأن وجود الشر أمر نسبي لا نفسي فما يتحقق من الشر في العالم كالموت و المرض و الفقر و النقص و غير ذلك إنما هو شر بالنسبة إلى مورده، و أما بالنسبة إلى غيره و خاصة النظام العام الجاري في الكون فهو من الخير الذي لا مناص عنه في التدبير الكلي فما كان من الخير فهو مما تعلقت به بعينه العناية الإلهية و هو مراد بالذات، و ما كان من الشر فهو مما تعلقت به العناية لغيره و هو مقضي بالعرض.
فالمعنى أنا إذا أنعمنا على الإنسان هذا الموجود الواقع في مجرى الأسباب اشتغل بظواهر الأسباب و أخلد إليها فنسينا فلم يذكرنا و لم يشكرنا، و إذا ناله شيء يسير من الشر فسلب منه الخير و زالت عنه أسبابه و رأى ذلك كان شديد اليأس من الخير لكونه متعلقا بأسبابه و هو يرى بطلان أسبابه و لا يرى لربه في ذلك صنعا.
و الآية تصف حال الإنسان العادي الواقع في المجتمع الحيوي الذي يحكم فيه العرف و العادة فهو إذا توالت عليه النعم الإلهية من المال و الجاه و البنين و غيرها و وافقته على ذلك الأسباب الظاهرية اشتغل بها و تعلق قلبه بها فلم تدع له فراغا يشتغل فيه بذكر ربه و شكره بما أنعم عليه، و إذا مسه الشر و سلب عنه بعض النعم الموهوبة أيس من الخير و لم يتسل بالرجاء لأنه لا يرى للخير إلا الأسباب الظاهرية التي لا يجد وقتئذ شيئا منها في الوجود.
و هذه الحال غير حال الإنسان الفطري غير المشوب ذهنه بالرسوم و الآداب و لا الحاكم فيه العرف و العادة إما بتأييد إلهي يلازمه و يسدده و إما بعروض اضطرار ينسيه الأسباب الظاهرية فيرجع إلى سذاجة فطرته و يدعو ربه و يسأله كشف ضره فللإنسان حالان حال فطرية تهديه إلى الرجوع إلى ربه عند مس الضر و نزول الشر و حال عادية تحول فيها الأسباب بينه و بين ربه فتشغله و تصرفه عن الرجوع إليه بالذكر و الشكر، و الآية تصف حاله الثانية دون الأولى.
و من هنا يظهر أن لا منافاة بين هذه الآية و الآيات الدالة على أن الإنسان إذا مسه الضر رجع إلى ربه كقوله تعالى فيما تقدم: «و إذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه» الآية و قوله: «و إذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما» الآية: يونس: 12 إلى غير ذلك.
و يظهر أيضا وجه اتصال الآية بما قبلها و أنها متصلة بالآية السابقة من جهة ذيلها أعني قوله: «و لا يزيد الظالمين إلا خسارا» و المحصل أن هذا الخسار غير بعيد منهم فإن من حال الإنسان أن يشغله الأسباب الظاهرية عند نزول النعم الإلهية فينصرف عن ربه و يعرض و ينأى بجانبه، و ييأس عند مس الشر.
بحث فلسفي
ذكروا أن الشرور داخلة في القضاء الإلهي بالعرض، و قد أوردوا في بيانه ما يأتي: نقل عن أفلاطون أن الشر عدم و قد بين ذلك بالأمثلة فإن في القتل بالسيف مثلا شرا و ليس هو في قدرة الضارب على مباشرة الضرب و لا في شجاعته و لا في قوة عضلات يده فإن ذلك كله كمال له، ليس من الشر في شيء، و ليس هو في حدة السيف و دقة ذبابه و كونه قطاعا فإن ذلك من كماله و حسنه، و ليس هو في انفعال رقبة المقتول عن الآلة القطاعة فإن من كماله أن يكون كذلك فلا يبقى للشر إلا زهاق روح المقتول و بطلان حياته و هو عدمي، و على هذا سائر الأمثلة فالشر عدم.
ثم إن الشرور التي في العالم لما كانت مرتبطة بالحوادث الواقعة مكتنفة بها كانت أعداما مضافة لا عدما مطلقا فلها حظ من الوجود و الوقوع كأنواع الفقد و النقص و الموت و الفساد الواقعة في الخارج الداخلة في النظام العام الكوني، و لذلك كان لها مساس بالقضاء الإلهي الحاكم في الكون لكنها داخلة في القضاء بالعرض لا بالذات.
و ذلك أن الذي تتصوره من العدم إما عدم مطلق و هو عدم النقيض للوجود و إما مضاف إلى ملكة و هو عدم كمال الوجود عما من شأنه ذلك كالعمى الذي هو عدم البصر مما من شأنه أن يكون بصيرا.
و القسم الأول إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى ماهيته كعدم زيد مثلا مأخوذا بالنسبة إلى ماهية نفسه، و هذا اعتبار عقلي ليس من وقوع الشر في شيء إذ لا موضوع مشترك بين النقيضين نعم ربما يقيد العدم فيقاس إلى الشيء فيكون من الشر كعدم زيد بعد وجوده، و هو راجع في الحقيقة إلى العدم المضاف إلى الملكة الآتي حكمه.
و إما عدم شيء مأخوذ بالنسبة إلى شيء آخر كفقدان الماهيات الإمكانية كمال الوجود الواجبي و كفقدان كل ماهية وجود الماهية الأخرى الخاص بها مثل فقدان النبات وجود الحيوان و فقدان البقر وجود الفرس، و هذا النوع من العدم من لوازم الماهيات و هي اعتبارية غير مجعولة.
و القسم الثاني و هو العدم المضاف إلى الملكة فقدان أمر ما شيئا من كمال وجوده الذي من شأنه أن يوجد له و يتصف به كأنواع الفساد العارضة للأشياء و النواقص و العيوب و العاهات و الأمراض و الأسقام و الآلام الطارئة عليها، و هذا القسم من الشرور إنما يتحقق في الأمور المادية و يستند إلى قصور الاستعدادات على اختلاف مراتبها لا إلى إفاضة مبدإ الوجود فإن علة العدم عدم كما أن علة الوجود وجود.
فالذي تعلقت به كلمة الإيجاد و الإرادة الإلهية و شمله القضاء بالذات في الأمور التي يقارنها شيء من الشر إنما هو القدر الذي تلبس به من الوجود حسب استعداده و مقدار قابليته و أما العدم الذي يقارنه فليس إلا مستندا إلى عدم قابليته و قصور استعداده نعم ينسب إليه الجعل و الإفاضة بالعرض لمكان نوع من الاتحاد بينه و بين الوجود الذي يقارنه هذا.
و ببيان آخر الأمور على خمسة أقسام: ما هو خير محض، و ما خيره أكثر من شره، و ما يتساوى خيره و شره، و ما شره أكثر من خيره، و ما هو شر محض، و لا يوجد شيء من الثلاثة الأخيرة لاستلزامه الترجيح من غير مرجح أو ترجيح المرجوح على الراجح، و من الواجب بالنظر إلى الحكمة الإلهية المنبعثة عن القدرة و العلم الواجبيين و الجود الذي لا يخالطه بخل أن يفيض ما هو الأصلح في النظام الأتم و أن يوجد ما هو خير محض و ما خيره أكثر من شره لأن في ترك الأول شرا محضا و في ترك الثاني شرا كثيرا.
فما يوجد من الشر نادر قليل بالنسبة إلى ما يوجد من الخير و إنما وجد الشر القليل بتبع الخير الكثير.
و عن الإمام الرازي أنه لا محل لهذا البحث منهم بناء على ما ذهبوا إليه من كونه تعالى علة تامة للعالم و استحالة انفكاك العلة التامة عن معلولها فهو موجب في فعله لا مختار، فعليه أن يوجد ما هو علة له من خير أو شر من غير خيرة في الترجيح.
و قد خفي عليه أن هذا الوجوب إنما هو قائم بالمعلول تلقاه من قبل العلة مثل ما يتلقى وجوده من قبله، و من المحال أن يعود ما يفيضه العلة فيقهر العلة فيضطرها على الفعل و يغلبها بتحديده.
و لقد أنصف صاحب روح المعاني حيث أشار أولا إلى نظير ما تقدم من البحث فقال: و لا يخفى أن هذا إنما يتم على القول بأنه تعالى لا يمكن أن تكون إرادته متساوية النسبة إلى الشيء و مقابله بلا داع و مصلحة كما هو مذهب الأشاعرة و إلا فقد يقال: إن الفاعل للكل إذا كان مختارا فله أن يختار أيما شاء من الخيرات و الشرور لكن الحكماء و أساطين الإسلام قالوا: إن اختياره تعالى أرفع من هذا النمط، و أمور العالم منوطة بقوانين كلية، و أفعاله تعالى مربوطة بحكم و مصالح جلية و خفية.
ثم قال: و قول الإمام: «إن الفلاسفة لما قالوا بالإيجاب و الجبر في الأفعال فخوضهم في هذا المبحث من جملة الفضول و الضلال لأن السؤال بلم عن صدورها غير وارد كصدور الإحراق من النار لأنه يصدر عنها لذاتها».
ناش من التعصب لأن محققيهم يثبتون الاختيار، و ليس صدور الأفعال من الله تعالى عندهم صدور الإحراق من النار، و بعد فرض التسليم بحثهم عن كيفية وقوع الشر في هذا العالم لأجل أن الباري تبارك اسمه خير محض بسيط عندهم و لا يجوزون الشر عما لا جهة شرية فيه أصلا فيلزم عليهم في بادىء النظر ما افترته الثنوية من مبدأين خيري و شري فتخلصوا عن ذلك البحث فهو فضل لا فضول.
انتهى.
قوله تعالى: «قل كل يعمل على شاكلته فربكم أعلم بمن هو أهدى سبيلا» المشاكلة - على ما في المفردات، - من الشكل و هو تقييد الدابة، و يسمى ما يقيد به شكالا بكسر الشين، و الشاكلة هي السجية سمي بها لتقييدها الإنسان أن يجري على ما يناسبها و تقتضيه.
و في المجمع،: الشاكلة الطريقة و المذهب يقال: هذا طريق ذو شواكل أي ينشعب منه طرق جماعة انتهى.
و كأن تسميتهما بها لما فيها من تقييد العابرين و المنتحلين بالتزامهما و عدم التخلف عنهما و قيل: الشاكلة من الشكل بفتح الشين بمعنى المثل و قيل: إنها من الشكل بكسر الشين بمعنى الهيأة.
و كيف كان فالآية الكريمة ترتب عمل الإنسان على شاكلته بمعنى أن العمل يناسبها و يوافقها فهي بالنسبة إلى العمل كالروح السارية في البدن الذي يمثل بأعضائه و أعماله هيأت الروح المعنوية و قد تحقق بالتجارب و البحث العلمي أن بين الملكات و الأحوال النفسانية و بين الأعمال رابطة خاصة فليس يتساوى عمل الشجاع الباسل و الجبان إذا حضرا موقفا هائلا، و لا عمل الجواد الكريم و البخيل اللئيم في موارد الإنفاق و هكذا، و أن بين الصفات النفسانية و نوع تركيب البنية الإنسانية رابطة خاصة فمن الأمزجة ما يسرع إليه الغضب و حب الانتقام بالطبع و منها ما تغلي و تفور فيه شهوة الطعام أو النكاح أو غير ذلك بحيث تتوق نفسه بأدنى سبب يدعوه و يحركه، و منها غير ذلك فيختلف انعقاد الملكات بحسب ما يناسب المورد سرعة و بطءا.
و مع ذلك كله فليس يخرج دعوة المزاج المناسب لملكة من الملكات أو عمل من الأعمال من حد الاقتضاء إلى حد العلية التامة بحيث يخرج الفعل المخالف لمقتضى الطبع عن الإمكان إلى الاستحالة و يبطل الاختيار فالفعل باق على اختياريته و إن كان في بعض الموارد صعبا غاية الصعوبة.
و كلامه سبحانه يؤيد ما تقدم على ما يعطيه التدبر فهو سبحانه القائل: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا»: الأعراف: 58 و انضمام الآية إلى الآيات الدالة على عموم الدعوة كقوله: «لأنذركم به و من بلغ»: الأنعام: 19 يفيد أن تأثير البنى الإنسانية في الصفات و الأعمال على نحو الاقتضاء دون العلية التامة كما هو ظاهر.
كيف و هو تعالى يعد الدين فطريا تهتف به الخلقة التي لا تبديل لها و لا تغيير قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30 و قال: «ثم السبيل يسره»: عبس: 20 و لا تجامع دعوة الفطرة إلى الدين الحق و السنة المعتدلة دعوة الخلقة إلى الشر و الفساد و الانحراف عن الاعتدال بنحو العلية التامة.
و قول القائل: إن السعادة و الشقاوة ذاتيتان لا تتخلفان عن ملزومهما كزوجية الأربعة و فردية الثلاثة أو مقضيتان بقضاء أزلي لازم و إن الدعوة لإتمام الحجة لا لإمكان التغيير و رجاء التحول من حال إلى حال فالأمر مفروغ عنه قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة و يحيى من حي عن بينة».
مدفوع بأن صحة إقامة الحجة بعينها حجة على عدم كون سعادة السعيد و شقاوة الشقي لازمة ضرورية فإن السعادة و الشقاوة لو كانتا من لوازم الذوات لم تحتاجا في لحوقهما إلى حجة إذ لا حجة في الذاتيات فتلغو الحجة، و كذا لو كانتا لازمتين للذوات بقضاء لازم أزلي لا لاقتضاء ذاتي من الذوات كانت الحجة للناس على الله سبحانه فتلغو الحجة منه تعالى فصحة إقامة الحجة من قبله سبحانه تكشف عن عدم ضرورية شيء من السعادة و الشقاوة بالنظر إلى ذات الإنسان مع قطع النظر عن أعماله الحسنة و السيئة و اعتقاداته الحقة و الباطلة.
على أن توسل الإنسان بالفطرة إلى مقاصد الحياة بمثل التعليم و التربية و الإنذار و التبشير و الوعد و الوعيد و الأمر و النهي و غير ذلك أوضح دليل على أن الإنسان في نفسه على ملتقى خطين و منشعب طريقين: السعادة و الشقاوة و في إمكانه أن يختار أيا منهما شاء و أن يسلك أيا منهما أراد و لكل سعي جزاء يناسبه قال تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى و أن سعيه سوف يرى ثم يجزاه الجزاء الأوفى»: النجم: 41.
فهذا نوع من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الذوات، و هناك نوع آخر من الارتباط مستقر بين الأعمال و الملكات و بين الأوضاع و الأحوال و العوامل الخارجة عن الذات الإنسانية المستقرة في ظرف الحياة و جو العيش كالآداب و السنن و الرسوم و العادات التقليدية فإنها تدعو الإنسان إلى ما يوافقها و تزجره عن مخالفتها و لا تلبث دون أن تصوره صورة جديدة ثانية تنطبق أعماله على الأوضاع و الأحوال المحيطة به المجتمعة المؤتلفة في ظرف حياته.
و هذه الرابطة على نحو الاقتضاء غالبا غير أنها ربما يستقر استقرارا لا مطمع في زوالها من جهة رسوخ الملكات الرذيلة أو الفاضلة في نفس الإنسان، و في كلامه تعالى ما يشير إلى ذلك كقوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون ختم الله على قلوبهم و على سمعهم و على أبصارهم غشاوة»: البقرة: 7 إلى غير ذلك.
و لا يضر ذلك صحة إقامة الحجة عليهم بالدعوة و الإنذار و التبشير لأن امتناع تأثير الدعوة فيهم مستند إلى سوء اختيارهم و الامتناع بالاختيار لا ينافي الاختيار.
فقد تبين بما قدمناه على طوله أن للإنسان شاكلة بعد شاكلة فشاكلة يهيؤها نوع خلقته و خصوصية تركيب بنيته، و هي شخصية خلقية متحصلة من تفاعل جهازاته البدنية بعضها مع بعض كالمزاج الذي هو كيفية متوسطة حاصلة من تفاعل الكيفيات المتضادة بعضها في بعض.
و شاكلة أخرى ثانية و هي شخصية خلقية متحصلة من وجوه تأثير العوامل الخارجية في النفس الإنسانية على ما فيها من الشاكلة الأولى إن كانت.
و الإنسان على أي شاكلة متحصلة و على أي نعت نفساني و فعلية داخلية روحية كان فإن عمله يجري عليها و أفعاله تمثلها و تحكيها كما أن المتكبر المختال يلوح حاله في تكلمه و سكوته و قيامه و قعوده و حركته و سكونه، و الذليل المسكين ظاهر الذلة و المسكنة في جميع أعماله و كذا الشجاع و الجبان و السخي و البخيل و الصبور و الوقور و العجول و هكذا: و كيف لا و الفعل يمثل فاعله و الظاهر عنوان الباطن و الصورة دليل المعنى.
و كلامه سبحانه يصدق ذلك و يبني عليه حججه في موارد كثيرة كقوله تعالى: «و ما يستوي الأعمى و البصير و لا الظلمات و لا النور و لا الظل و لا الحرور و ما يستوي الأحياء و لا الأموات»: فاطر: 22 و قوله: «الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات»: النور: 36 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و قوله تعالى: «كل يعمل على شاكلته» محكم في معناه على أي معنى حملنا الشاكلة غير أن اتصال الآية بقوله: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا» و وقوعها في سياق أن الله سبحانه يربح المؤمنين و يشفيهم بالقرآن الكريم و الدعوة الحقة و يخسر به الظالمين لظلمهم يقرب كون المراد بالشاكلة الشاكلة بالمعنى الثاني و هي الشخصية الخلقية الحاصلة للإنسان من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه.
كأنه تعالى لما ذكر استفادة المؤمنين من كلامه الشفاء و الرحمة و حرمان الظالمين من ذلك و زيادتهم في خسارهم اعترضه معترض في هذه التفرقة و أنه لو سوى بين الفريقين في الشفاء و الرحمة كان ذلك أوفى لغرض الرسالة و أنفع لحال الدعوة فأمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم في ذلك.
فقال: قل: كل يعمل على شاكلته أي إن أعمالكم تصدر على طبق ما عندكم من الشاكلة و الفعلية الموجودة فمن كانت عنده شاكلة عادلة سهل اهتداؤه إلى كلمة الحق و العمل الصالح و انتفع بالدعوة الحقة، و من كانت عنده شاكلة ظالمة صعب عليه التلبس بالقول الحق و العمل الصالح و لم يزد من استماع الدعوة الحقة إلا خسارا، و الله الذي هو ربكم العليم بسرائركم المدبر لأمركم أعلم بمن عنده شاكلة عادلة و هو أهدى سبيلا و أقرب إلى الانتفاع بكلمة الحق، و الذي علمه و أخبر به أن المؤمنين أهدى سبيلا فيختص بهم الشفاء و الرحمة بالقرآن الذي ينزله، و لا يبقى للكافرين أهل الظلم إلا مزيد الخسار إلا أن ينتزعوا عن ظلمهم فينتفعوا به.
و من هنا يظهر النكتة في التعبير بصيغة التفضيل في قوله: «أهدى سبيلا» و ذلك لما تقدم أن الشاكلة غير ملزمة في الدعوة إلى ما يلائمها فالشاكلة الظالمة و إن كانت مضلة داعية إلى العمل الطالح غير أنها لا تحتم الضلال ففيها أثر من الهدى و إن كان ضعيفا، و الشاكلة العادلة أهدى منها فافهم.
و ذكر الإمام الرازي في تفسيره، ما ملخصه: أن الآية تدل على كون النفوس الناطقة الإنسانية مختلفة بالماهية و ذلك أنه تعالى بين في الآية المتقدمة أن القرآن بالنسبة إلى بعض النفوس يفيد الشفاء و الرحمة و بالنسبة إلى بعض آخر يفيد الخسار و الخزي ثم أتبعه بقوله: «قل كل يعمل على شاكلته» و معناه أن اللائق بتلك النفوس الطاهرة أن يظهر فيها من القرآن آثار الذكاء و الكمال، و بتلك النفوس الكدرة أن يظهر فيها منه آثار الخزي و الضلال كما أن الشمس تعقد الملح و تلين الدهن و تبيض ثوب القصار و يسود وجهه.
و هذا إنما يتم إذا كانت الأرواح و النفوس مختلفة بماهياتها فبعضها مشرقة صافية يظهر فيها من القرآن نور على نور، و بعضها كدرة ظلمانية يظهر فيها منه ضلال على ضلال و نكال على نكال.
انتهى.
و فيه أنه لو أقام الحجة على اختلاف ماهيات النفوس بعد رسوخ ملكاتها و تصورها بصورها لكان له وجه، و أما النفوس الساذجة قبل رسوخ الملكات فلا تختلف بالآثار اختلافا ضروريا حتى تجري فيها الحجة، و قد عرفت أن الآية إنما تتعرض لحال الإنسان بعد حصول شاكلته و شخصيته الخلقية الحاصلة من مجموع غرائزه و العوامل الخارجية الفاعلة فيه الداعية إلى نوع من العمل دعوة على نحو الاقتضاء فتبصر.
بحث فلسفي
ذكر الحكماء أن بين الفعل و فاعله و يعنون به المعلول و علته الفاعلة سنخية وجودية و رابطة ذاتية يصير بها وجود الفعل كأنه مرتبة نازلة من وجود فاعله و وجود الفاعل كأنه مرتبة عالية من وجود فعله بل الأمر على ذلك بناء على أصالة الوجود و تشكيكه.
و بينوا ذلك بأنه لو لم يكن بين الفعل المعلول و علته الفاعلة له مناسبة ذاتية و خصوصية واقعية بها يختص أحدهما بالآخر كانت نسبة الفاعل إلى فعله كنسبته إلى غيره كما كانت نسبة الفعل إلى فاعله كنسبته إلى غيره فلم يكن لاستناد صدور الفعل إلى فاعله معنى، و نظير البرهان يجري في المعلول بالنسبة إلى سائر العلل و يثبت الرابطة بينه و بينها غير أن العلة الفاعلة لما كانت هي المقتضية لوجود المعلول و معطي الشيء غير فاقده كانت العلة الفاعلة واجدة لكمال وجود المعلول و المعلول ممثلا لوجودها في مرتبة نازلة.
و قد بين ذلك صدر المتألهين بوجه أدق و ألطف و هو أن المعلول مفتقر في وجوده إلى العلة الفاعلة متعلق الذات بها، و ليس من الجائز أن يتأخر هذا الفقر و التعلق عن مرتبة ذاته و يكون هناك ذات ثم فقر و تعلق و إلا استغنى بحسب ذاته عن العلة و استقل بنفسه عنها فلم يكن معلولا هف فذاته عين الفقر و التعلق فليس له من الوجود إلا الرابط غير المستقل و ما يتراءى فيه من استقلال الوجود المفروض معه أولا إنما هو استقلال علته فوجود المعلول يحاكي وجود علته و يمثله في مرتبته التي له من الوجود.
تعقيب البحث السابق من جهة القرآن
التدبر في الآيات القرآنية لا يدع ريبا في أن القرآن الكريم يعد الأشياء على اختلاف وجوهها و تشتت أنواعها آيات له تعالى دالة على أسمائه و صفاته فما من شيء إلا و هو آية في وجوده و في أي جهة مفروضة في وجوده له تعالى مشيرة إلى ساحة عظمته و كبريائه، و الآية و هي العلامة الدالة من حيث إنها آية وجودها مرآتي فإن في ذي الآية الذي هو مدلولها غير مستقلة دونه إذ لو استقلت في وجوده أو في جهة من جهات وجوده لم تكن من تلك الجهة مشيرة إليه دالة عليه آية له هف.
فالأشياء بما هي مخلوقة له تعالى أفعاله، و هي تحاكي بوجودها و صفات وجودها وجوده سبحانه و كرائم صفاته و هو المراد بمسانخة الفعل لفاعله لا أن الفعل واجد لهوية الفاعل مماثل لحقيقة ذاته فإن الضرورة تدفعه.
قوله تعالى: «و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا» الروح على ما يعرف في اللغة هو مبدأ الحياة الذي به يقوى الحيوان على الإحساس و الحركة الإرادية و لفظه يذكر و يؤنث، و ربما يتجوز فيطلق على الأمور التي يظهر بها آثار حسنة مطلوبة كما يعد العلم حياة للنفوس قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه»: الأنعام: 122 أي بالهداية إلى الإيمان و على هذا المعنى حمل جماعة مثل قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2 أي بالوحي و قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52 أي القرآن الذي هو وحي فذكروا أنه تعالى سمى الوحي أو القرآن روحا لأن به حياة النفوس الميتة كما أن الروح المعروف به حياة الأجساد الميتة.
و كيف كان فقد تكرر في كلامه تعالى ذكر الروح في آيات كثيرة مكية و مدنية، و لم يرد في جميعها المعنى الذي نجده في الحيوان و هو مبدأ الحياة الذي يتفرع عليه الإحساس و الحركة الإرادية كما في قوله: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا»: النبأ: 38، و قوله: «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر»: القدر: 4 و لا ريب أن المراد به في الآية غير الروح الحيواني و غير الملائكة و قد تقدم الحديث عن علي (عليه السلام) أنه احتج بقوله تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده»: النحل: 2 على أن الروح غير الملائكة، و قد وصفه تارة بالقدس و تارة بالأمانة كما سيأتي لطهارته عن الخيانة و سائر القذارات المعنوية و العيوب و العاهات التي لا تخلو عنها الأرواح الإنسية.
و هو و إن كان غير الملائكة غير أنه يصاحبهم في الوحي و التبليغ كما يظهر من قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده» الآية فقد قال تعالى: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك بإذن الله»: البقرة: 97 فنسب تنزيل القرآن على قلبه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى جبريل ثم قال: «نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»: الشعراء: 195 و قال: «قل نزله روح القدس من ربك»: النحل: 102 فوضع الروح و هو غير الملائكة بوجه مكان جبريل و هو من الملائكة فجبريل ينزل بالروح و الروح يحمل هذا القرآن المقرو المتلو.
و بذلك تنحل العقدة في قوله تعالى: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52 و يظهر أن المراد من وحي الروح في الآية هو إنزال روح القدس إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنزاله إليه هو الوحي القرآن إليه لكونه يحمله على ما تبين فلا موجب لما ذكره بعضهم على ما نقلناه آنفا أن المراد بالروح في الآية هو القرآن.
و أما نسبة الوحي و هو الكلام الخفي إلى الروح بهذا المعنى و هو من الموجودات العينية و الأعيان الخارجية فلا ضير فيه فإن هذه الموجودات الطاهرة كما أنها موجودات مقدسة من خلقه تعالى كذلك هي كلمات منه تعالى كما قال في عيسى بن مريم (عليهما السلام): «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء: 171 فعد الروح كلمة دالة على المراد فمن الجائز أن يعد الروح وحيا كما عد كلمة و إنما سماه كلمة منه لأنه إنما كان عن كلمة الإيجاد من غير أن يتوسط فيه السبب العادي في كينونة الناس بدليل قوله: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59 و قد زاد سبحانه في إيضاح حقيقة الروح حيث قال: «قل الروح من أمر ربي» و ظاهر «من» أنها لتبيين الجنس كما في نظائرها من الآيات «يلقي الروح من أمره»: غافر: 15 «ينزل الملائكة بالروح من أمره» «أوحينا إليك روحا من أمرنا» «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر» فالروح من سنخ الأمر.
ثم عرف أمره في قوله: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون فسبحان الذي بيده ملكوت كل شيء»: يس: 84 فبين أولا أن أمره هو قوله للشيء: «كن» و هو كلمة الإيجاد التي هي الإيجاد و الإيجاد هو وجود الشيء لكن لا من كل جهة بل من جهة استناده إليه تعالى و قيامه به فقوله فعله.
و من الدليل على أن وجود الأشياء قول له تعالى من جهة نسبته إليه مع إلغاء الأسباب الوجودية الأخر قوله تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر»: القمر: 50 حيث شبه أمره بعد عده واحدة بلمح بالبصر و هذا النوع من التشبيه لنفي التدريج و به يعلم أن في الأشياء المكونة تدريجا الحاصلة بتوسط الأسباب الكونية المنطبقة على الزمان و المكان جهة معراة عن التدريج خارجة عن حيطة الزمان و المكان هي من تلك الجهة أمره و قوله و كلمته، و أما الجهة التي هي بها تدريجية مرتبطة بالأسباب الكونية منطبقة على الزمان و المكان فهي بها من الخلق قال تعالى: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54 فالأمر هو وجود الشيء من جهة استناده إليه تعالى وحده و الخلق هو ذلك من جهة استناده إليه مع توسط الأسباب الكونية فيه.
و يستفاد ذلك أيضا من قوله: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون» الآية حيث ذكر أولا خلق آدم و ذكر تعلقه بالتراب و هو من الأسباب ثم ذكر وجوده و لم يعلقه بشيء إلا بقوله: «كن» فافهم ذلك و نظيره قوله: «ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة إلى أن قال ثم أنشأناه خلقا آخر»: المؤمنون: 14 فعد إيجاده المنسوب إلى نفسه من غير تخلل الأسباب الكونية إنشاء خلق آخر.
فظهر بذلك كله أن الأمر هو كلمة الإيجاد السماوية و فعله تعالى المختص به الذي لا تتوسط فيه الأسباب، و لا يتقدر بزمان أو مكان و غير ذلك.
ثم بين ثانيا أن أمره في كل شيء هو ملكوت ذلك الشيء - و الملكوت أبلغ من الملك - فلكل شيء ملكوت كما أن له أمرا قال تعالى: «أ و لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض»: الأعراف: 185 و قال: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض»: الأنعام: 75 و قال: «تنزل الملائكة و الروح فيها بإذن ربهم من كل أمر» الآية: القدر: 4.
فقد بان بما مر أن الأمر هو كلمة الإيجاد و هو فعله تعالى الخاص به الذي لا يتوسط فيه الأسباب الكونية بتأثيراتها التدريجية و هو الوجود الأرفع من نشأة المادة و ظرف الزمان، و أن الروح بحسب وجوده من سنخ الأمر من الملكوت.
و قد وصف تعالى أمر الروح في كلامه وصفا مختلفا فأفرده بالذكر في مثل قوله: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا»: النبأ: 38، و قوله: «تعرج الملائكة و الروح إليه» الآية: المعارج: 4.
و يظهر من كلامه أن منه ما هو مع الملائكة كقوله في الآيات المنقولة آنفا: «من كان عدوا لجبريل فإنه نزله على قلبك» «نزل به الروح الأمين على قلبك» قل نزله روح القدس» و قوله: «فأرسلنا إليها روحنا فتمثل لها بشرا سويا»: مريم: 17.
و منه ما هو منفوخ في الإنسان عامة قال تعالى: «ثم سواه و نفخ فيه من روحه»: الم السجدة: 9 و قال: «فإذا سويته و نفخت فيه من روحي»: الحجر: 29 ص: 72.
و منه ما هو مع المؤمنين كما يدل عليه قوله تعالى: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22 و يشعر به بل يدل عليه أيضا قوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122 فإن المذكور في الآية حياة جديدة و الحياة فرع الروح.
و منه ما نزل إلى الأنبياء (عليهم السلام) كما يدل عليه قوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا» الآية: النحل: 2 و قوله: «و آتينا عيسى بن مريم البينات و أيدناه بروح القدس»: البقرة: 87 و قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 52 إلى غير ذلك.
و من الروح ما تشعر به الآيات التي تذكر أن في غير الإنسان من الحيوان حياة و أن في النبات حياة، و الحياة متفرعة على الروح ظاهرا.
فقد تبين بما قدمناه على طوله معنى قوله تعالى: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» و أن السؤال إنما هو عن حقيقة مطلق الروح الوارد في كلامه سبحانه، و أن الجواب مشتمل على بيان حقيقة الروح و أنه من سنخ الأمر بالمعنى الذي تقدم و أما قوله: «و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا» أي ما عندكم من العلم بالروح الذي آتاكم الله ذلك قليل من كثير فإن له موقعا من الوجود و خواص و آثارا في الكون عجيبة بديعة أنتم عنها في حجاب.
و للمفسرين في المراد من الروح المسئول عنه و المجاب عنه أقوال: فقال بعضهم: إن المراد بالروح المسئول عنه هو الروح الذي يذكره الله في قوله: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا» و قوله: «تعرج الملائكة و الروح إليه» الآية، و لا دليل لهم على ذلك.
و قال بعضهم: إن المراد به جبريل فإن الله سماه روحا في قوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك» و فيه أن مجرد تسميته روحا في بعض كلامه لا يستلزم كونه هو المراد بعينه أينما ذكر على أن لهذه التسمية معنى خاصا أومأنا إليه في سابق الكلام، و لو لا ذلك لكان عيسى و جبريل واحدا لأن الله سمى كلا منهما روحا.
و قال بعضهم: إن المراد به القرآن لأن الله سماه روحا في قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا» الآية فيكون محصل السؤال و الجواب أنهم يسألونك عن القرآن أ هو من الله أو من عندك؟ فأجبهم أنه من أمر ربي لا يقدر على الإتيان بمثله غيره فهو آية معجزة دالة على صحة رسالتي و ما أوتيتم من العلم به إلا قليلا من غير أن تحيطوا به فتقدروا على الإتيان بمثله قالوا: و الآية التالية: «و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك» يؤيد هذا المعنى.
و فيه أن تسميته في بعض كلامه روحا لا تستلزم كونه هو المراد كلما أطلق كما تقدم آنفا.
على أنك قد عرفت ما في دعوى هذه التسمية.
على أن الآية التالية لا تتعين تأييدا لهذا الوجه بل تلائم بعض الوجوه الآخر أيضا.
و قال بعضهم: إن المراد به الروح الإنساني فهو المتبادر من إطلاقه و قوله: «قل الروح من أمر ربي» ترك للبيان و نهي عن التوغل في فهم حقيقة الروح فإنه من أمر الله الذي استأثر بعلمه و لم يطلع على حقيقته أحدا ثم اختلفوا في حقيقته بين قائل بأنه جسم هوائي متردد في مخارق البدن، و قائل بأنه جسم هوائي في هيئة البدن حال فيه و خروجه موته، و قائل بأنه أجزاء أصلية في القلب و قائل بأنه عرض في البدن، و قائل بأنه نفس البدن إلى غير ذلك.
و فيه أن التبادر في كلامه تعالى ممنوع، و التدبر في الآيات المتعرضة لأمر الروح كما قدمناه يدفع جميع ما ذكروه.
و قال بعضهم: إن المراد به مطلق الروح الواقع في كلامه و السؤال إنما هو عن كونه قديما أو محدثا فأجيب بأنه يحدث عن أمره و فعله تعالى، و فعله محدث لا قديم.
و فيه أن تعميم الروح لجميع ما وقع منه في كلامه تعالى و إن كان في محله لكن إرجاع السؤال إلى حدوث الروح و قدمه و توجيه الجواب بما يناسبه دعوى لا دليل عليها من جهة اللفظ.
ثم إن لهم اختلافا في معنى قوله: «الروح من أمر ربي» أ هو جواب مثبت أو ترك للجواب و صرف عن السؤال على قولين، و الوجوه المتقدمة في معنى الروح مختلفة في المناسبة مع هذين القولين فالمتعين في بعضها القول الأول و في بعضها الثاني، و قد أشرنا إلى ذلك في ضمن الأقوال.
ثم إن لهم اختلافا آخر في المخاطبين بقوله: «و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا» أ هم اليهود أو قريش لو كانوا هم السائلين بتعليم من اليهود أو هم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و غير النبي من الناس؟ و الأنسب بالسياق أن يكون الخطاب متوجها إلى السائلين و الكلام من تمام قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أن السائلين هم اليهود لأنهم كانوا معروفين يومئذ بالعلم و في الكلام إثبات علم ما لهم دون قريش و كفار العرب و قد عبر تعالى عنهم في بعض كلامه 1 بالذين لا يعلمون.
قوله تعالى: «و لئن شئنا لنذهبن بالذي أوحينا إليك ثم لا تجد لك به علينا وكيلا» الكلام متصل بما قبله فإن الآية السابقة و إن كانت متعرضة لأمر مطلق الروح و هو ذو مراتب مختلفة إلا أن الذي ينطبق عليه منه بحسب سياق الآيات السابقة المسوقة في أمر القرآن هو الروح السماوي النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الملقي إليه القرآن.
فالمعنى - و الله أعلم - الروح النازل عليك الملقي بالقرآن إليك من أمرنا غير خارج من قدرتنا، و أقسم لئن شئنا لنذهبن بهذا الروح الذي هو كلمتنا الملقاة إليك ثم لا تجد أحدا يكون وكيلا به لك علينا يدافع عنك و يطالبنا به و يجبرنا على رد ما أذهبنا به.
و بذلك يظهر أولا: أن المراد بالذي أوحينا إليك الروح الإلهي الذي هي كلمة ملقاة من الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على حد قوله: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا»: الشورى: 54.
و ثانيا: أن المراد بالوكيل للمطالبة و الرد لما أذهبه الله دون الوكيل في حفظ القرآن و تلاوته على ما فسره بعض المفسرين و هو مبني على تفسير قوله: «الذي أوحينا إليك» بالقرآن دون الروح النازل به كما قدمنا.
قوله تعالى: «إلا رحمة من ربك إن فضله كان عليك كبيرا» استثناء من محذوف يدل عليه السياق، و التقدير فما اختصصت بما اختصصت به و لا أعطيت ما أعطيت من نزول الروح و ملازمته إياك إلا رحمة من ربك، ثم علله بقوله: «إن فضله كان عليك كبيرا» و هو وارد مورد الامتنان.
قوله تعالى: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا» الظهير هو المعين مأخوذ من الظهر كالرئيس من الرأس، و قوله: «بمثله» من وضع الظاهر موضع المضمر و ضميره عائد إلى القرآن.
و في الآية تحد ظاهر، و هي ظاهرة في أن التحدي بجميع ما للقرآن من صفات الكمال الراجعة إلى لفظه و معناه لا بفصاحته و بلاغته وحدها فإن انضمام غير أهل اللسان إليهم لا ينفع في معارضة البلاغة شيئا و قد اعتنت الآية باجتماع الثقلين و إعانة بعضهم لبعض.
على أن الآية ظاهرة في دوام التحدي و قد انقرضت العرب العرباء أعلام الفصاحة و البلاغة اليوم فلا أثر منهم، و القرآن باق على إعجازه متحد بنفسه كما كان.
قوله تعالى: «و لقد صرفنا للناس في هذا القرآن من كل مثل فأبى أكثر الناس إلا كفورا» تصريف الأمثال ردها و تكرارها و تحويلها من بيان إلى بيان و من أسلوب إلى أسلوب، و المثل هو وصف المقصود بما يمثله و يقربه من ذهن السامع، و «من» في قوله: «من كل مثل» لابتداء الغاية، و المراد من كل مثل يوضح لهم سبيل الحق و يمهد لهم طريق الإيمان و الشكر بقرينة قوله: «فأبى أكثر الناس إلا كفورا» و الكلام مسوق للتوبيخ و الملامة.
و في قوله: «أكثر الناس» وضع الظاهر موضع المضمر و الأصل أكثرهم و لعل الوجه فيه الإشارة إلى أن ذلك مقتضى كونهم ناسا كما مر في قوله: «و كان الإنسان كفورا»: أسرى: 67.
و المعنى: و أقسم لقد كررنا للناس في هذا القرآن من كل مثل يوضح لهم الحق و يدعوهم إلى الإيمان بنا و الشكر لنعمنا فأبى أكثر الناس إلا أن يكفروا و لا يشكروا.
قوله تعالى: «و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - إلى قوله - كتابا نقرؤه» الفجر الفتح و الشق و كذلك التفجير إلا أنه يفيد المبالغة و التكثير، و الينبوع العين التي لا ينضب ماؤها، و خلال الشيء وسطه و أثناؤه، و الكسف جمع كسفة كقطع جمع قطعة وزنا و معنى، و القبيل هو المقابل كالعشير و المعاشر، و الزخرف - الذهب، و الرقي الصعود و الارتقاء.
و الآيات تحكي الآيات المعجزة التي اقترحتها قريش على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و علقوا إيمانهم به عليها مستهينة بالقرآن الذي هو معجزة خالدة.
و المعنى «و قالوا» أي قالت قريش «لن نؤمن لك» يا محمد «حتى تفجر» و تشق «لنا من الأرض» أرض مكة لقلة مائها «ينبوعا» عينا لا ينضب ماؤها «أو تكون» بالإعجاز «لك جنة من نخيل و عنب فتفجر الأنهار» أي تشقها أو تجريها «خلالها» أي وسط تلك الجنة و أثناءها «تفجيرا» «أو تسقط السماء كما زعمت» أي مماثلا لما زعمت يشيرون 1 به إلى قوله تعالى: «أو نسقط عليهم كسفا من السماء»: السبا: 9 «علينا كسفا» و قطعا «أو تأتي بالله و الملائكة قبيلا» مقابلا نعاينهم و نشاهدهم «أو يكون لك بيت من زخرف» و ذهب «أو ترقى» و تصعد «في السماء و لن نؤمن لرقيك» و صعودك «حتى تنزل علينا» منها «كتابا نقرؤه» و نتلوه.
قوله تعالى: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا» فيه أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عما اقترحوه عليه و ينبههم على جهلهم و مكابرتهم فيما لا يخفى على ذي نظر فإنهم سألوه أمورا عظاما لا يقوى على أكثرها إلا القدرة الغيبية الإلهية و فيها ما هو مستحيل بالذات كالإتيان بالله و الملائكة قبيلا، و لم يرضوا بهذا المقدار و لم يقنعوا به دون أن جعلوه هو المسئول المتصدي لذلك المجيب لما سألوه فلم يقولوا لن نؤمن لك حتى تسأل ربك أن يفعل كذا و كذا بل قالوا: «لن نؤمن لك حتى تفجر» إلخ «أو تكون لك إلخ «أو تسقط السماء» إلخ «أو تأتي بالله» إلخ «أو يكون لك» إلخ «أو ترقى في السماء و لن نؤمن لرقيك حتى تنزل علينا كتابا نقرؤه.
فإن أرادوا منه ذلك بما أنه بشر فأين البشر من هذه القدرة المطلقة غير المتناهية المحيطة حتى بالمحال الذاتي، و إن أرادوا منه ذلك بما أنه يدعي الرسالة فالرسالة لا تقتضي إلا حمل ما حمله الله من أمره و بعثه لتبليغه بالإنذار و التبشير لا تفويض القدرة الغيبية إليه و إقداره أن يخلق كل ما يريد، و يوجد كل ما شاءوا، و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يدعي لنفسه ذلك فاقتراحهم ما اقترحوه مع ظهور الأمر من عجيب الاقتراح.
و لذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبادر في جوابهم أولا إلى تنزيه ربه مما يلوح إليه اقتراحهم هذا من المجازفة و تفويض القدرة إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لا يبعد أن يستفاد منه التعجب فالمقام صالح لذلك.
و ثانيا: إلى الجواب بقوله في صورة الاستفهام: «هل كنت إلا بشرا رسولا» و هو يؤيد كون قوله: «سبحان ربي» واقعا موقع التعجب أي إن كنتم اقترحتم على هذه الأمور و طلبتموها مني بما أنا محمد فإنما أنا بشر و لا قدرة للبشر على شيء من هذه الأمور، و إن كنتم اقترحتموها لأني رسول أدعي الرسالة فلا شأن للرسول إلا حمل الرسالة و تبليغها لا تقلد القدرة الغيبية المطلقة.
و قد ظهر بهذا البيان أن كلا من قوله: «بشرا» و «رسولا» دخيل في استقامة الجواب عن اقتراحهم أما قوله: «بشرا» فليرد به اقتراحهم عليه أن يأتي بهذه الآيات عن قدرته في نفسه، و أما قوله: «رسولا» فليرد به اقتراح إيتائها عن قدرة مكتسبة من ربه.
و ذكر بعضهم ما محصله أن معتمد الكلام هو قوله: «رسولا» و قوله: «بشرا» توطئة له ردا لما أنكروه من جواز كون الرسول بشرا، و دلالة على أن من قبله من الرسل كانوا كذلك، و المعنى على هذا هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا بما أجراه على أيديهم من غير أن يفوض إليهم أو يتحكموا على ربهم بشيء.
قال: و جعل «بشرا» و «رسولا» كليهما معتمدين مخالف لما يظهر من الآثار أولا فإن الذي ورد في الآثار أنهم سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل ربه أن يفعل كذا و كذا، و لم يسألوه أن يأتيهم بشيء من قبل نفسه حتى يشار إلى رده بإثبات بشريته، و مستلزم لكون رسولا خبرا بعد خبر و كونهما خبرين لكان يأباه الذوق السليم.
انتهى محصلا.
و فيه أولا: أن أخذ قوله: «بشرا» ردا على زعمهم عدم جواز كون الرسول بشرا مع عدم اشتمال الآيات على مزعمتهم هذه لا تصريحا و لا تلويحا تحميل من غير دليل.
و ثانيا: أن الذي ذكره في معنى الآية «هل كنت إلا بشرا رسولا كسائر الرسل و كانوا لا يأتون إلا كذا و كذا» معتمد الكلام فيه هو التشبيه الذي في قوله: «كسائر الرسل» لا قوله: «رسولا» و في حذف معتمد الكلام إفساد السياق فافهم ذلك.
و ثالثا: أن اشتمال الآثار على أنهم إنما سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يسأل ربه الإتيان بتلك الآيات من غير أن يسألوه نفسه أن يأتي بها، لا يعارض نص الكتاب بخلافه، و الذي حكاه الله عنهم أنهم قالوا: لن نؤمن لك حتى تفجر لنا «إلخ» فتفجر الأنهار «إلخ» أو تسقط السماء «إلخ» و هذا من عجيب المغالاة في حق الآثار و تحكيمها على كتاب الله و تقديمها عليه حتى في صورة المخالفة.
و رابعا: أن إباء الذوق السليم عن تجويز كون «رسولا» خبرا بعد خبر لا يظهر له وجه.
قوله تعالى: «و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا» الاستفهام في قوله: «أ بعث الله بشرا رسولا» للإنكار، و جملة «قالوا أ بعث الله» «إلخ» حكاية حالهم بحسب الاعتقاد و إن لم يتكلموا بهذه الكلمة بعينها.
و إنكار النبوة و الرسالة مع إثبات الإله من عقائد الوثنية، و هذه قرينة على أن المراد بالناس الوثنيون، و المراد بالإيمان الذي منعوه هو الإيمان بالرسول.
فمعنى الآية و ما منع الوثنيين - و كانت قريش و عامة العرب يومئذ منهم - أن يؤمنوا بالرسالة - أو برسالتك - إلا إنكارهم لرسالة البشر، و لذلك كانوا يردون على رسلهم دعوتهم - كما حكاه الله - بمثل قولهم: «لو شاء ربنا لأنزل ملائكة فإنا بما أرسلتم به كافرون»: حم السجدة: 14.
قوله تعالى: «قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا» أمر سبحانه رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرد عليهم قولهم و إنكارهم لرسالة البشر و نزول الوحي بأن العناية الإلهية قد تعلقت بهداية أهل الأرض و لا يكون ذلك إلا بوحي سماوي لا من عند أنفسهم فالبشر القاطنون في الأرض لا غنى لهم عن وحي سماوي بنزول ملك رسول إليهم و يختص بذلك نبيهم.
و هذه خاصة الحياة الأرضية و العيشة المادية المفتقرة إلى هداية إلهية لا سبيل إليها إلا بنزول الوحي من السماء حتى لو أن طائفة من الملائكة سكنوا الأرض و أخذوا يعيشون عيشة أرضية مادية لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا كما ننزل على البشر ملكا رسولا.
و العناية في الآية الكريمة.
كما ترى - متعلقة بجهتين إحداهما كون الحياة أرضية مادية، و الأخرى كون الهداية الواجبة بالعناية الإلهية بوحي نازل من السماء برسالة ملك من الملائكة.
و الأمر على ذلك فهاتان الجهتان أعني كون حياة النوع أرضية مادية و وجوب هدايتهم بواسطة سماوية و ملك علوي هما المقدمتان الأصليتان في البرهان على وجود الرسالة و لزومها.
و أما ما أصر عليه المفسرون من تقييد معنى الآية بوجوب كون الرسول من جنس المرسل إليهم و من أنفسهم كالإنسان للإنسان و الملك للملك فليس بتلك الأهمية، و لذلك لم يصرح به في الآية الكريمة.
و ذلك أن كون الرسول إلى البشر و هو الذي يعلمهم و يربيهم من أنفسهم من لوازم كون حياتهم أرضية، و كون الوحي النازل عليهم بواسطة الملك السماوي فإن اختلاف أفراد النوع المادية بالسعادة و الشقاء و الكمال و النقص و طهارة الباطن و قذارته ضروري و الملك الملقي للوحي و ما تحمله منه طاهر زكي لا يمسه إلا المطهرون، فالملك النازل بالوحي و إن نزل على النوع لكن لا يمسه إلا آحاد منهم مطهرون من قذارات المادة و ألواثها مقدسون من مس الشيطان و هم الرسل (عليهم السلام).
و توضيح المقام: أن مقتضى العناية الإلهية هداية كل نوع من أنواع الخليقة إلى كماله و سعادته، و الإنسان الذي هو أحد هذه الأنواع غير مستثنى من هذه الكلية، و لا تتم سعادته في الحياة إلا بأن يعيش عيشة اجتماعية تحكم فيها قوانين و سنن تضمن سعادة حياته في الدنيا و بعدها، و ترفع الاختلافات الضرورية الناشئة بين الأفراد، و إذ كانت حياته حياة شعورية فلا بد أن يجهز بما يتلقى به هذه القوانين و السنن و لا يكفي في ذلك ما جهز به من العقل المميز بين خيره و شره فإن العقل بعينه يهديه إلى الاختلاف فلا بد أن يجهز بشعور آخر يتلقى به ما يفيضه الله من المعارف و القوانين الرافعة للاختلاف الضامنة لسعادته و كماله و هو شعور الوحي و الإنسان المتلبس به هو النبي.
و هذا برهان عقلي تام مأخوذ من كلامه و قد أوردناه و فصلنا القول فيه في مباحث النبوة من الجزء الثاني و في ضمن قصص نوح في الجزء العاشر من الكتاب.
و أما الآية التي نحن فيها أعني قوله: «قل لو كان في الأرض ملائكة» إلخ فإنها تزيد على ما مر من معنى البرهان بشيء و هو أن إلقاء الوحي إلى البشر يجب أن يكون بنزول ملك من السماء إليهم.
و ذلك أن محصل مضمون الآية و ما قبلها هو أن الذي يمنع الناس أن يؤمنوا برسالتك أنهم يحيلون رسالة البشر من جانب الله سبحانه.
و قد أخطئوا في ذلك فإن مقتضى الحياة الأرضية و عناية الله بهداية عباده أن ينزل إلى بعضهم ملكا من السماء رسولا حتى أن الملائكة لو كانوا كالإنسان عائشين في الأرض لنزل الله إلى بعضهم و هو رسولهم ملكا من السماء رسولا حاملا لوحيه.
و هذا كما ترى يعطي أولا: معنى الرسالة البشرية و هو أن الرسول إنسان ينزل عليه ملك من السماء بدين الله ثم هو يبلغه الناس بأمر الله.
و يشير ثانيا: إلى برهان الرسالة أن حياة الإنسان الأرضية و العناية الربانية متعلقة بهداية عباده و إيصالهم إلى غاياتهم لا غنى لها عن نزول دين سماوي عليهم، و الملائكة وسائط نزول البركات السماوية إلى الأرض فلا محالة ينزل الدين على الناس بوساطة الملك و هو رسالته، و الذي يشاهده و يتلقى ما ينزل به - و لا يكون إلا بعض الناس لا جميعهم لحاجته إلى طهارة باطنية و روح من أمر الله - هو الرسول البشري.
و كان المترقب من السياق أن يقال: «لبعث الله فيهم ملكا رسولا» بحذاء قولهم المحكي في الآية السابقة: «أ بعث الله بشرا رسولا» لكنه عدل إلى مثل قوله: «لنزلنا عليهم من السماء ملكا رسولا» ليكون أولا أحسم للشبهة و أقطع للتوهم فإن عامة الوثنيين من البرهمانية و البوذية و الصابئة كما يشهد به ما في كتبهم المقدسة لا يتحاشون ذاك التحاشي عن النبوة بمعنى انبعاث بشر كامل لتكميل الناس و يعبرون عنه بظهور المنجي أو المصلح و نزول الإله إلى الأرض و ظهوره على أهلها في صورة موجود أرضي و كان بوذه و يوذاسف - على ما يقال - منهم و المعبود عندهم على أي حال هو الملك أو الجن أو الإنسان المستغرق فيه دون الله سبحانه.
و إنما يمتنعون كل الامتناع عن رسالة الملك و هو من الآلهة المعبودين عندهم إلى البشر بدين يعبد فيه الله وحده و هو إله غير معبود عندهم ففي التصريح برسالة الملك السماوي إلى البشر الأرضي من عند الله النص على كمال المخالفة لهم.
و ليكون ثانيا إشارة إلى أن رسالة الملك بالحقيقة إلى عامة الإنسان غير أن الذي يصلح لتلقي الوحي منه هو الرسول منهم، و أما غيره فهم محرومون عن ذلك لعدم استعدادهم لذلك فالفيض عام و إن كان المستفيض خاصا قال تعالى: «و ما كان عطاء ربك محظورا»: أسرى: 20، و قال: «قالوا لن نؤمن حتى نؤتى مثل ما أوتي رسل الله الله أعلم حيث يجعل رسالته»: الأنعام: 124.
و الآية بما تعطي من معنى الرسالة يؤيد ما ورد عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) في الفرق بين الرسول و النبي أن الرسول هو الذي يرى الملك و يسمع منه و النبي يرى المنام و لا يعاين، و قد أوردنا بعض هذه الأخبار في خلال أبحاث النبوة في الجزء الثاني من الكتاب.
و من ألطف التعبير في الآية و أوجزه تعبيره عن الحياة الأرضية بقوله: «في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين» فإن الانتقال المكاني على الأرض مع الوقوع تحت الجاذبة الأرضية من أوضح خواص الحياة المادية الأرضية.
قوله تعالى: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم إنه كان بعباده خبيرا بصيرا» لما احتج عليهم بما احتج و بين لهم ما بين في أمر معجزة رسالته و هي القرآن الذي تحدى به و هم على عنادهم و جحودهم و عنتهم لا يعتنون به و يقترحون عليه بأمور جزافية أخرى و لا يحترمون لحق و لا ينقطعون عن باطل أمر أن يرجع الأمر إلى شهادة الله فهو شهيد بما وقع منه و منهم فقد بلغ ما أرسل به و دعا و احتج و أعذر و قد سمعوا و تمت عليهم الحجة و استكبروا و عتوا فالكلام في معنى إعلام قطع المحاجة و ترك المخاصمة و رد الأمر إلى مالك الأمر فليقض ما هو قاض.
و قيل المراد بالآية الاستشهاد بالله سبحانه على حقية الدعوة و صحة الرسالة كأنه يقول: كفاني حجة أن الله شهيد على رسالتي فهذا كلامه يصرح بذلك فإن قلتم: ليس بكلامه بل مما افتريته فأتوا بمثله و لن تأتوا بمثله و لو كان الثقلان أعوانا لكم و أعضادا يمدونكم.
و هذا في نفسه جيد غير أن ذيل الآية كما قيل لا يلائمه أعني قوله: «بيني و بينكم» و قوله: «إنه كان بعباده خبيرا بصيرا» بل كان الأقرب أن يقال: شهيدا لي عليكم أو على رسالتي أو نحو ذلك.
و هذه الآية و الآيتان قبلها مسجعة بقوله: «رسولا» و هو المورد الوحيد في القرآن الذي اتفقت فيه ثلاث آيات متوالية في سجع واحد على ما نذكر.
قوله تعالى: «و من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه» إلخ هو - على ما يشعر به السياق - من تتمة الخطاب الأخير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم» فهو كناية عن أنه تمت عليهم الحجة و حقت عليهم الضلالة فلا مطمع في هدايتهم.
و محصل المعنى: خاطبهم بإعلام قطع المحاجة فإن الهداية لله تعالى لا يشاركه فيها أحد فمن هداه فهو المهتدي لا غير و من أضله و لم يهده فلن تجد يا محمد له أولياء من دونه يهدونه و الله لا يهدي هؤلاء فانقطع عنهم و لا تكلف نفسك في دعوتهم رجاء أن يؤمنوا.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن الآية كلام مبتدأ غير داخل في حيز «قل» في غير محله.
و إنما أتى بأولياء بصيغة الجمع مع كون المفرد أبلغ و أشمل إشارة إلى أنه لو كان له ولي من دون الله لكان ذلك إما آلهتهم و هي كثيرة و إما سائر الأسباب الكونية و هي أيضا كثيرة.
و في قوله: «و من يهد الله فهو المهتد» إلخ التفات من التكلم بالغير إلى الغيبة فقد كان السياق سياق التكلم بالغير و لعل الوجه فيه أنه لو قيل: و من نهد و من نضل على التكلم بالغير أوهم تشريك الملائكة في أمر الهداية و الإضلال فأوهم التناقض في قوله: «فلن تجد لهم أولياء من دونه» فإن الأولياء عندهم الملائكة و هم يتخذونهم آلهة و يعبدونهم.
قوله: «و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم» إلى آخر الآيتين العمى و البكم و الصم جمع أعمى و أبكم و أصم، و خبو النار و خبوها سكون لهبها، و السعير لهب النار، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «أ و لم يروا أن الله الذي خلق السموات و الأرض قادر على أن يخلق مثلهم» إلى آخر الآية، الكفور الجحود، احتجاج منه تعالى على البعث بعد الموت فقد كان قولهم: «ء إذا كنا عظاما و رفاتا ء إنا لمبعوثون خلقا جديدا» استبعادا مبنيا على إحالة أن يعود هذا البدن الدنيوي بعد تلاشيه و صيرورته عظاما و رفاتا إلى ما كان عليه بخلق جديد فاحتج عليهم بأن خلق البدن أولا يثبت القدرة عليه و على مثله الذي هو الخلق الجديد للبعث فحكم الأمثال واحد.
فالمماثلة إنما هي من جهة مقايسة البدن الجديد من البدن الأول مع قطع النظر عن النفس التي هي الحافظة لوحدة الإنسان و شخصيته، و لا ينافي ذلك كون الإنسان الأخروي عين الإنسان الدنيوي لا مثله لأن ملاك الوحدة و الشخصية هي النفس الإنسانية و هي محفوظة عند الله سبحانه غير باطلة و لا معدومة، و إذا تعلقت بالبدن المخلوق جديدا كان هو الإنسان الدنيوي كما أن الإنسان في الدنيا واحد شخصي باق على وحدته الشخصية مع تغير البدن بجميع أجزائه حينا بعد حين.
و الدليل على أن النفس التي هي حقيقة الإنسان محفوظة عند الله مع تفرق أجزاء البدن و فساد صورته قوله تعالى: «و قالوا ء إذا ضللنا في الأرض ء إنا لفي خلق جديد بل هم بلقاء ربهم كافرون قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11 حيث استشكلوا في المعاد بأنه تجديد للخلق بعد فناء الإنسان بتفرق أجزاء بدنه فأجيب عنه بأن ملك الموت يتوفى الإنسان و يأخذه تاما كاملا فلا يضل و لا يتلاشى، و إنما الضال بدنه و لا ضير في ذلك فإن الله يجدده.
و الدليل على أن الإنسان المبعوث هو عين الإنسان الدنيوي لا مثله جميع آيات القيامة الدالة على رجوع الإنسان إليه تعالى و بعثه و سؤاله و حسابه و مجازاته بما عمل.
فهذا كله يشهد على أن المراد بالمماثلة ما ذكرناه، و إنما تعرض لأمر البدن حتى ينجر إلى ذكر المماثلة محاذاة لمتن ما استشكلوا به من قولهم: «ء إذا كنا عظاما و رفاتا ء إنا لمبعوثون خلقا جديدا» فلم يضمنوا قولهم إلا شئون البدن لا النفس المتوفاة منه، و إذا قطع النظر عن النفس كان البدن مماثلا للبدن، و إن كان مع اعتبارها عينا.
و ذكر بعضهم: أن المراد بمثلهم نفسهم فهو من قبيل قولهم: مثلك لا يفعل هذا أي أنت لا تفعله.
و للمناقشة إليه سبيل و الظاهر أن العناية في هذا التركيب أن مثلك لاشتماله على مثل ما فيك من الصفة لا يفعل هذا فأنت لا تفعله لمكان صفتك ففيه نفي الفعل بنفي سببه على سبيل الكناية، و هو آكد من قولنا: أنت لا تفعله.
و قوله: «و جعل لهم أجلا لا ريب فيه» الظاهر أن المراد بالأجل هو زمان الموت فإن الأجل إما مجموع مدة الحياة الدنيا و هي محدودة بالموت و إما آخر زمان الحياة و يقارنه الموت و كيف كان فالتذكير بالموت الذي لا ريب فيه ليعتبروا به و يكفوا عن الجرأة على الله و تكذيب آياته فهو قادر على بعثهم و الانتقام منهم بما صنعوا.
فقوله: «و جعل لهم أجلا لا ريب فيه» ناظر إلى قوله في صدر الآية السابقة: «ذلك جزاؤهم بأنهم كفروا بآياتنا» فهو نظير قوله: «و الذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يشعرون إلى أن قال أ و لم ينظروا في ملكوت السموات و الأرض إلى أن قال و أن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون»: الأعراف: 185.
و جوز بعضهم أن يكون المراد بالأجل هو يوم القيامة، و هو لا يلائم السياق فإن سابق الكلام يحكي إنكارهم للبعث ثم يحتج عليهم بالقدرة فلا يناسبه أخذ البعث مسلما لا ريب فيه.
و نظيره تقرير بعضهم قوله: «و جعل لهم أجلا لا ريب فيه» حجة أخرى مسوقة لإثبات يوم القيامة على كل من تقديري كون المراد بالأجل هو يوم الموت أو يوم القيامة، و هو تكلف لا يعود إلى جدوى البتة فلا موجب للاشتغال به.
قوله تعالى: «قل لو أنتم تملكون خزائن رحمة ربي إذا لأمسكتم خشية الإنفاق و كان الإنسان قتورا» فسر القتور بالبخيل المبالغ في الإمساك و قال في المجمع،: القتر التضييق و القتور فعول منه للمبالغة، و يقال: قتر يقتر و تقتر و أقتر و قتر إذا قدر في النفقة انتهى.
و هذا توبيخ لهم على منعهم رسالة البشر المنقول عنهم سابقا بقوله: «و ما منع الناس أن يؤمنوا إذ جاءهم الهدى إلا أن قالوا أ بعث الله بشرا رسولا» و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إنما الشفاء في علم القرآن لقوله: «ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين» الحديث.
و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن عيينة عن أبي عبد الله (عليه السلام): قال: قال: النية أفضل من العمل ألا و إن النية هي العمل ثم قرأ قوله عز و جل: «قل كل يعمل على شاكلته» يعني على نيته.
أقول: و قوله: إن النية هي العمل يشير إلى اتحادهما اتحاد العنوان و معنونه.
و فيه، بإسناده عن أبي هاشم قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إنما خلد أهل النار في النار لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو خلدوا فيها أن يعصوا الله أبدا و إنما خلد أهل الجنة في الجنة لأن نياتهم كانت في الدنيا أن لو بقوا فيها أن يطيعوا الله أبدا فبالنيات خلد هؤلاء و هؤلاء. ثم تلا قوله تعالى: «قل كل يعمل على شاكلته» قال: على نيته.
أقول: إشارة إلى رسوخ الملكات بحيث يبطل في النفس استعداد ما يقابلها و روى الرواية العياشي أيضا في تفسيره، عن أبي هاشم عنه (عليه السلام).
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «يسألونك عن الروح» الآية: أخرج أحمد و الترمذي و صححه و النسائي و ابن المنذر و ابن حبان و أبو الشيخ في العظمة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل، عن ابن عباس قال: قالت قريش لليهود: أعطونا شيئا نسأل هذا الرجل فقالوا: سلوه عن الروح فسألوه فنزلت: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي - و ما أوتيتم من العلم إلا قليلا» قالوا: أوتينا علما كثيرا أوتينا التوراة و من أوتي التوراة فقد أوتي خيرا كثيرا فأنزل الله: «قل لو كان البحر مدادا لكلمات ربي - لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي و لو جئنا بمثله مددا».
أقول: و روي بطرق أخرى عن عبد الله بن مسعود و عن عبد الرحمن بن عبد الله بن أم الحكم: أن السؤال إنما كان من اليهود بالمدينة و بها نزلت الآية و كون السورة مكية و اتحاد سياق آياتها لا يلائم ذلك.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و ابن الأنباري في كتاب الأضداد، و أبو الشيخ في العظمة، و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن علي بن أبي طالب: في قوله «و يسألونك عن الروح» قال: هو ملك من الملائكة له سبعون ألف وجه لكل وجه منها سبعون ألف لسان لكل لسان منها سبعون ألف لغة يسبح الله تعالى بتلك اللغات كلها يخلق الله تعالى من كل تسبيحة ملكا يطير مع الملائكة إلى يوم القيامة.
أقول: كون الروح من الملائكة لا يوافق ظاهر عدة من آيات الكتاب كقوله: «ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2 و غيره من الآيات، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره» من سورة النحل حديث علي (عليه السلام) و فيه إنكاره أن يكون الروح ملكا و احتجاجه على ذلك بالآية فالعبرة في أمر الروح بما يأتي.
و في الكافي، بإسناده عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» قال: خلق أعظم من جبرائيل و ميكائيل كان مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو مع الأئمة و هو من الملكوت.
أقول: و في معناه روايات أخر، و الرواية توافق ما تقدم توضيحه من مدلول الآيات.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قوله «يسألونك عن الروح» قال: إن الله تبارك و تعالى أحد صمد و الصمد الشيء الذي ليس له جوف فإنما الروح خلق من خلقه له بصر و قوة و تأييد يجعله في قلوب الرسل و المؤمنين.
أقول: و إنما تعرض في صدر الرواية بما تعرض دفعا لما يتوهم من مثل قوله تعالى: «و نفخت فيه من روحي» أن هناك جوفا و نفسا منفوخا.
و فيه، عن أبي بصير عن أحدهما (عليهما السلام) قال: سألته عن قوله و يسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي» ما الروح؟ قال: التي في الدواب و الناس قلت: و ما هي؟ قال: من الملكوت من القدرة.
أقول: و هذه الروايات تؤيد ما تقدم في بيان الآية أن الروح المسئول عنه حقيقة وسيعة ذات مراتب مختلفة و أيضا ظاهر هذه الرواية كون الروح الحيواني مجردا من الملكوت.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن إسحاق و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس: أن عتبة و شيبة ابني ربيعة و أبا سفيان بن حرب و رجلا من بني عبد الدار و أبا البختري أخا بني أسد و الأسود بن المطلب و ربيعة بن الأسود و الوليد بن المغيرة و أبا جهل بن هشام و عبد الله بن أبي أمية و أمية بن خلف و العاص بن وائل و نبيها و منبها ابني الحجاج السهميين اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة فقال بعضهم لبعض: ابعثوا إلى محمد و كلموه و خاصموه حتى تعذروا فيه. فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك فجاءهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سريعا و هو يظن أنهم قد بدا لهم في أمره بدء، و كان عليهم حريصا يحب رشدهم و يعز عليه عنتهم حتى جلس إليهم. فقالوا: يا محمد إنا قد بعثنا إليك لنعذرك، و إنا و الله ما نعلم رجلا من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك لقد شتمت الآباء، و عبت الدين، و سفهت الأحلام و شتمت الآلهة و فرقت الجماعة فما بقي من قبيح إلا و قد جئت فيما بيننا و بينك فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب مالا جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالا و إن كنت تطلب الشرف فينا سودناك علينا، و إن كنت تريد ملكا ملكناك علينا و إن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئيا تراه قد غلب عليك و كانوا يسمون التابع من الجن الرئي فربما كان ذلك بذلنا أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه و نعذر فيك. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما بي ما تقولون ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم و لا فيئكم و لا الملك عليكم و لكن الله بعثني إليكم رسولا، و أنزل علي كتابا، و أمرني أن أكون لكم بشيرا و نذيرا فبلغتكم رسالة ربي و نصحت لكم فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. فقالوا: يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق بلادا و لا أقل مالا و لا أشد عيشا منا فاسأل ربك الذي بعثك بما بعثك به فليسير عنا هذه الجبال التي قد ضيقت علينا و ليبسط لنا بلادنا و ليجر فيها أنهارا كأنهار الشام و العراق، و ليبعث لنا من قد مضى من آبائنا و ليكن فيمن يبعث لنا منهم قصي بن كلاب فإنه كان شيخا صدوقا فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك و صدقوك صدقناك و عرفنا به منزلتك عند الله و أنه بعثك رسولا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما بهذا بعثت إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا و الآخرة، و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: فإن لم تفعل لنا هذا فخر لنفسك فاسأل ربك أن يبعث ملكا يصدقك بما تقول و يراجعنا عنك، و تسأله أن يجعل لك جنانا و كنوزا و قصورا من ذهب و فضة و يغنيك بها عما نراك تبتغي فإنك تقوم بالأسواق و تلتمس المعاش كما نلتمس حتى نعرف منزلتك من ربك إن كنت رسولا كما تزعم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنا بفاعل ما أنا بالذي يسأل ربه هذا، و ما بعثت إليكم بهذا و لكن الله بعثني بشيرا و نذيرا فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا و الآخرة و إن تردوه علي أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني و بينكم. قالوا: فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل فإنا لن نؤمن لك إلا أن تفعل فقال رسول الله ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم ذلك. قالوا: يا محمد قد علم ربك أنا سنجلس معك و نسألك عما سألناك عنه و نطلب منك ما نطلب فيتقدم إليك و يعلمك ما تراجعنا به و يخبرك بما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن و إنا و الله لن نؤمن بالرحمن أبدا فقد أعذرنا إليك يا محمد أ ما و الله لا نتركك و ما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا، و قال قائلهم: لن نؤمن لك حتى تأتي بالله و الملائكة قبيلا. فلما قالوا ذلك قام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عنهم و قام معهم عبد الله بن أبي أمية فقال: يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ثم سألوك لأنفسهم أمورا ليعرفوا بها منزلتك عند الله فلم تفعل ذلك ثم سألوك أن تعجل ما تخوفهم به من العذاب فوالله ما أؤمن بك أبدا حتى تتخذ إلى السماء سلما ثم ترقى فيه و أنا أنظر حتى تأتيها و تأتي معك بنسخة منشورة معك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول و أيم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك. ثم انصرف عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و انصرف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أهله حزينا أسفا لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه و لما رأى من متابعتهم إياه و أنزل عليه فيما قال له عبد الله بن أبي أمية: «و قالوا لن نؤمن لك إلى قوله بشرا رسولا» الحديث.
أقول: و الذي ذكر في الرواية من محاورتهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و سؤالاتهم لا ينطبق على ظاهر الآيات و لا ما فيها من الجواب على ظاهر ما فيها من الجواب.
و قد تقدمت الإشارة إلى ذلك في بيان الآيات.
و قد تكررت الرواية من طرق الشيعة و أهل السنة أن الذي ألقى إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) القول من بين القوم و سأله هذه المسائل هو عبد الله بن أبي أمية المخزومي أخو أم سلمة زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و نحشرهم يوم القيامة على وجوههم»: أخرج أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و أبو نعيم في المعرفة، و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات، عن أنس قال: قيل: يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال: الذي أمشاهم على أرجلهم قادر أن يمشيهم على وجوههم.
أقول: و في معناه روايات أخر.
|