بيان
ختام قصة يوسف (عليه السلام) و تتضمن الآيات أمر يوسف إخوته بحمل قميصه إلى أبيه و إتيانهم إليه بأهلهم أجمعين ثم دخولهم مصر و لقاؤه أبويه.
قوله تعالى: «اذهبوا بقميصي هذا و ألقوه على وجه أبي يأت بصيرا و أتوني بأهلكم أجمعين» تتمة كلام يوسف (عليه السلام) يأمر فيه إخوته أن يذهبوا بقميصه إلى أبيه فيلقوه على وجهه ليشفي الله به عينيه و يأتي بصيرا بعد ما صار من كثرة الحزن و البكاء ضريرا لا يبصر.
و هذا آخر العنايات البديعة التي أظهرها الله سبحانه في حق يوسف (عليه السلام) على ما يقصه في هذه السورة مما غلب الله الأسباب فحولها إلى خلاف الجهة التي كانت تجري إليها حسده إخوته فاستذلوه و غربوه عن مستقره بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة بثمن بخس فجعل الله سبحانه هذا السبب بعينه سببا لقراره في بيت عزيز مصر في أكرم مثوى ثم أقره في أريكة عزة تضرع إليه أمامها إخوته بقولهم «يا أيها العزيز مسنا و أهلنا الضر و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا إن الله يجزي المتصدقين».
ثم أحبته امرأة العزيز و نسوة مصر فراودنه عن نفسه ليوردنه في مهلكة الفجور فحفظه الله و جعل ذلك سببا لظهور براءة ساحته و كمال عفته، ثم استذلوه فسجنوه فجعله الله سببا لعزته و ملكه.
و جاء إخوته إلى أبيه يوم ألقوه في غيابة الجب بقميصه الملطخ بالدم فأخبروه بموته كذبا فكان القميص سببا لحزن أبيه و بكائه في فراق ابنه حتى ابيضت عيناه و ذهب بصره فرد الله سبحانه به بصره إليه و بالجملة اجتمعت الأسباب على خفضه و أراد الله سبحانه رفعه فكان ما أراده الله دون الذي توجهت إليه الأسباب و الله غالب على أمره.
و قوله: «و أتوني بأهلكم أجمعين» أمر منه بانتقال بيت يعقوب من يعقوب و أهله و بنيه و ذراريه جميعا من البدو إلى مصر و نزولهم بها.
قوله تعالى: «و لما فصلت العير قال أبوهم إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون» الفصل القطع و الانقطاع و التفنيد تفعيل من الفند بفتحتين و هو ضعف الرأي، و المعنى لما خرجت العير الحاملة لقميص يوسف من مصر و انقطعت عنها قال أبوهم يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لو لا أن ترموني بضعف الرأي أي إني لأحس بريحه و أرى أن اللقاء قريب و من حقه أن تذعنوا بما أجده لو لا أن تخطئوني لكن من المحتمل أن تفندوني فلا تذعنوا بقولي.
قوله تعالى: «قالوا تالله إنك لفي ضلالك القديم» القديم مقابل الجديد و المراد به المتقدم وجودا، و هذا ما واجهه به بعض بنيه الحاضرين عنده، و هو من سيء حظهم في هذه القصة تفوهوا بمثله في بدء القصة إذ قالوا: «إن أبانا لفي ضلال مبين» و في ختمها و هو قولهم هذا: «تالله إنك لفي ضلالك القديم».
و الظاهر أن مرادهم بالضلال هاهنا هو مرادهم بالضلال هناك و هو المبالغة في حب يوسف و ذلك أنهم كانوا يرون أنهم أحق بالحب من يوسف و هم عصبة إليهم تدبير بيته و الدفاع عنه لكن أباهم قد ضل عن مستوى طريق الحكمة و قدم عليهم في الحب طفلين صغيرين لا يغنيان عنه شيئا فأقبل بكله إليهما و نسيهم، ثم لما فقد يوسف جزع له و لم يزل يجزع و يبكي حتى ذهبت عيناه و تقوس ظهره.
فهذا هو مرادهم من كونه في ضلاله القديم ليسوا يعنون به الضلال في الدين حتى يصيروا بذلك كافرين:.
أما أولا: فلأن ما ذكر من فصول كلامهم في خلال القصة يشهد على أنهم كانوا موحدين على دين آبائهم إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام).
و أما ثانيا: فلأن المقام هاهنا و كذا في بدء القصة حين قالوا: إن أبانا لفي ضلال مبين» لا مساس له بالضلال في الدين حتى يحتمل رميهم أباهم فيه، و إنما يمس أمرا عمليا حيويا و هو حب أب لبعض أولاده و تقديمه في الكرامة على آخرين فهو المعنى بالضلال.
قوله تعالى: «فلما أن جاء البشير ألقاه على وجهه فارتد بصيرا قال أ لم أقل لكم إني أعلم من الله ما لا تعلمون» البشير حامل البشارة و كان حامل القميص و قوله «أ لم أقل لكم إني أعلم» يشير (عليه السلام) إلى قوله لهم حين لاموه على ذكر يوسف: «إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون»، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «قالوا يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين» القائلون بنو يعقوب بدليل قولهم: «يا أبانا» و يريدون بالذنوب ما فعلوه به في أمر يوسف و أخيه، و أما يوسف فقد كان استغفر لهم قبل.
قوله تعالى: «قال سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور الرحيم» أخر (عليه السلام) الاستغفار لهم كما هو مدلول قوله: «سوف أستغفر لكم ربي» و لعله إنما أخره ليتم له النعمة بلقاء يوسف و تطيب نفسه به كل الطيب بنسيان جميع آثار الفراق ثم يستغفر لهم و في بعض الأخبار: أنه أخره إلى وقت يستجاب فيه الدعاء و سيجيء إن شاء الله.
قوله تعالى: «فلما دخلوا على يوسف آوى إليه أبويه و قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين» في الكلام حذف و التقدير فخرج يعقوب و آله من أرضهم و ساروا إلى مصر و لما دخلوا «إلخ».
و قوله: «آوى إليه أبويه» فسروه بضمهما إليه، و قوله: «و قال ادخلوا مصر إلخ.
ظاهر في أن يوسف خرج من مصر لاستقبالهما و ضمهما إليه هناك ثم عرض لهما دخول مصر إكراما و تأدبا و قد أبدع (عليه السلام) في قوله: «إن شاء الله آمنين» حيث أعطاهم الأمن و أصدر لهم حكمه على سنة الملوك و قيد ذلك بمشية الله سبحانه للدلالة على أن المشية الإنسانية لا تؤثر أثرها كسائر الأسباب إلا إذا وافقت المشية الإلهية على ما هو مقتضى التوحيد الخالص، و ظاهر هذا السياق أنه لم يكن لهم الدخول و الاستقرار في مصر إلا بجواز من ناحية الملك، و لذا أعطاهم الأمن في مبتدإ الأمر.
و قد ذكر سبحانه «أبويه» و المفسرون مختلفون في أنهما كانا والديه أباه و أمه حقيقة أو أنهما يعقوب و زوجه خالة يوسف بالبناء على أن أمه ماتت و هو صغير، و لا يوجد في كلامه تعالى ما يؤيد أحد المحتملين غير أن الظاهر من الأبوين هما الحقيقيان.
و معنى الآية «فلما دخلوا» أي أبواه و إخوته و أهلهم «على يوسف» و ذلك في خارج مصر «آوى» و ضم «إليه أبويه و قال» لهم مؤمنا لهم «ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين».
قوله تعالى: «و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا و قال يا أبت هذا تأويل رؤياي» إلى آخر الآية، العرش هو السرير العالي و يكثر استعماله فيما يجلس عليه الملك و يختص به، و الخرور السقوط على الأرض و البدو البادية فإن يعقوب كان يسكن البادية.
و قوله: «و رفع أبويه على العرش» أي رفع يوسف أبويه على عرش الملك الذي كان يجلس عليه و مقتضى الاعتبار و ظاهر السياق أنهما رفعا على العرش بأمر من يوسف تصداه خدمه لا هو بنفسه كما يشعر به قوله: «و خروا له سجدا» فإن الظاهر أن السجدة إنما وقعت لأول ما طلع عليهم يوسف فكأنهم دخلوا البيت و اطمأن بهم المجلس ثم دخل عليهم يوسف فغشيهم النور الإلهي المتلألىء من جماله البديع فلم يملكوا أنفسهم دون أن خروا له سجدا.
و قوله: «و خروا له سجدا» الضمير ليوسف كما يعطيه السياق فهو المسجود له، و قول بعضهم: إن الضمير لله سبحانه نظرا إلى عدم جواز السجود لغير الله لا دليل عليه من جهة اللفظ، و قد وقع نظيره في القرآن الكريم في قصة آدم و الملائكة قال تعالى: «و إذ قلنا للملائكة اسجدوا لآدم فسجدوا إلا إبليس:» طه: 116.
و الدليل على أنها لم تكن منهم سجدة عبادة ليوسف أن بين هؤلاء الساجدين يعقوب (عليه السلام) و هو ممن نص القرآن الكريم على كونه مخلصا - بالفتح - لله لا يشرك به شيئا، و يوسف (عليه السلام) - و هو المسجود له - منهم بنص القرآن و هو القائل لصاحبيه في السجن: ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء و لم يردعهم.
فليس إلا أنهم إنما أخذوا يوسف آية لله فاتخذوه قبلة في سجدتهم و عبدوا الله بها لا غير كالكعبة التي تؤخذ قبلة فيصلي إليها فيعبد بها الله دون الكعبة، و من المعلوم أن الآية من حيث إنها آية لا نفسية لها أصلا فليس المعبود عندها إلا الله سبحانه و تعالى، و قد تكرر الكلام في هذا المعنى فيما تقدم من أجزاء الكتاب.
و من هنا يظهر أن ما ذكروه في توجيه الآية كقول بعضهم: إن تحية الناس يومئذ كانت هي السجدة كما أنها في الإسلام السلام، و قول بعضهم: إن سنة العظيم كانت إذ ذاك السجدة و لم ينه عنها لغير الله بعد كما في الإسلام، و قول بعضهم: كان سجودهم كهيئة الركوع كما يفعله الأعاجم كل ذلك غير وجيه.
قوله تعالى: «قال يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» إلى آخر الآية لما شاهد (عليه السلام) سجدة أبويه و إخوته الأحد عشر ذكر الرؤيا التي رأى فيها أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر له ساجدين و أخبر بها أباه و هو صغير فأولها له، فأشار إلى سجودهم له و قال: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها - أي الرؤيا - ربي حقا».
ثم أثنى على ربه شاكرا له فقال: «و قد أحسن بي إذ أخرجني من السجن» فذكر إحسان ربه به في إخراجه من السجن و هو ضراء و بلاء دفعه الله عنه بتبديله سراء و نعمة من حيث لا يحتسب حيث جعله وسيلة لنيله العزة و الملك.
و لم يذكر إخراجه من الجب قبل ذلك لحضور إخوته عنده و كان لا يريد أن يذكر ما يسوؤهم ذكره كرما و فتوة بل أشار إلى ذلك بأحسن لفظ يمكن أن يشار به إليه من غير أن يتضمن طعنا فيهم و شنآنا فقال: «و جاء بكم من البدو من بعد أن نزغ الشيطان بيني و بين إخوتي» و النزغ هو الدخول في أمر لإفساده.
و المراد: و قد أحسن بي من بعد أن أفسد الشيطان بيني و بين إخوتي فكان من الأمر ما كان فأدى ذلك إلى فراق بيني و بينكم فساقني ربي إلى مصر فأقرني في أرغد عيش و أرفع عزة و ملك ثم قرب بيننا بنقلكم من البادية إلي في دار المدنية و الحضارة.
يعني أنه كانت نوائب نزلت بي إثر إفساد الشيطان بيني و بين إخوتي و مما أخصه بالذكر من بينها فراق بيني و بينكم ثم رزية السجن فأحسن بي ربي و دفعها عني واحدة بعد أخرى و لم يكن من المحن و الحوادث العادية بل رزايا صماء و عقودا لا تنحل لكن ربي نفذ فيها بلطفه و نفوذ قدرته فبدلها أسباب حياة و نعمة بعد ما كانت أسباب هلاك و شقاء و لهذه الثلاثة الأخيرة عقب قوله: «و قد أحسن بي» إلخ بقوله: «إن ربي لطيف لما يشاء».
فقوله: «إن ربي لطيف لما يشاء» تعليل لإخراجه من السجن و مجيئهم من البدو، و يشير به إلى ما خصه الله به من العناية و المنة و إن البلايا التي أحاطت به لم تكن لتنحل عقدتها أو لتنحرف عن مجراها لكن الله لطيف لما يشاء نفذ فيها فجعل عوامل الشدة عوامل رخاء و راحة و أسباب الذلة و الرقية وسائل عزة و ملك.
و اللطيف من أسمائه تعالى يدل على حضوره و إحاطته تعالى بما لا سبيل إلى الحضور فيه و الإحاطة به من باطن الأشياء و هو من فروع إحاطته تعالى بنفوذ القدرة و العلم قال تعالى: «أ لا يعلم من خلق و هو اللطيف الخبير»: الملك: 14 و الأصل في معناه الصغر و الدقة و النفوذ يقال: لطف الشيء بالضم يلطف لطافة إذا صغر و دق حتى نفذ في المجاري و الثقب الصغار، و يكنى به عن الإرفاق و الملاءمة و الاسم اللطف.
و قوله: «هو العليم الحكيم» تعليل لجميع ما تقدم من قوله: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا» إلخ، و قد علل (عليه السلام) الكلام و ختمه بهذين الاسمين محاذاة لأبيه حيث تكلم في رؤياه و قال: «و كذلك يجتبيك ربك - إلى أن قال - إن ربك عليم حكيم» و ليس يبعد أن يفيد اللام في قوله: «العليم الحكيم» معنى العهد فيفيد تصديقه لقول أبيه (عليه السلام) و المعنى: و هو ذاك العليم الحكيم الذي وصفته لي يوم أولت رؤياي.
قوله تعالى: «رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث» إلى آخر الآية لما أثنى (عليه السلام) على ربه و عد ما دفع عنه من الشدائد و النوائب أراد أن يذكر ما خصه به من النعم المثبتة و قد هاجت به المحبة الإلهية و انقطع بها عن غيره تعالى فترك خطاب أبيه و انصرف عنه و عن غيره ملتفتا إلى ربه و خاطب ربه عز اسمه فقال: «رب قد آتيتني من الملك و علمتني من تأويل الأحاديث».
و قوله: «فاطر السموات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة» إضراب و ترق في الثناء، و رجوع منه (عليه السلام) إلى ذكر أصل الولاية الإلهية بعد ما ذكر بعض مظاهرها الجلية كإخراجه من السجن و المجيء بأهله من البدو و إيتائه من الملك و تعليمه من تأويل الأحاديث فإن الله سبحانه رب فيما دق و جل معا، ولي في الدنيا و الآخرة جميعا.
و ولايته تعالى أعني كونه قائما كل شيء في ذاته و صفاته و أفعاله منشأها إيجاده تعالى إياها جميعا و إظهاره لها من كتم العدم فهو فاطر السماوات و الأرض و لذا يتوجه إليه تعالى قلوب أوليائه و المخلصين من عباده من طريق هذا الاسم الذي يفيد وجوده تعالى لذاته و إيجاده لغيره قال تعالى: «قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السموات و الأرض»: إبراهيم: 10.
و لذا بدأ به يوسف (عليه السلام) - و هو من المخلصين - في ذكر ولايته فقال: «فاطر السموات و الأرض أنت وليي في الدنيا و الآخرة» أي إني تحت ولايتك التامة من غير أن يكون لي صنع في نفسي و استقلال في ذاتي و صفاتي و أفعالي أو أملك لنفسي شيئا من نفع أو ضر أو موت أو حياة أو نشور.
و قوله: «توفني مسلما و ألحقني بالصالحين» لما استغرق (عليه السلام) في مقام الذلة قبال رب العزة و شهد بولايته له في الدنيا و الآخرة سأله سؤال المملوك المولى عليه أن يجعله كما يستدعيه ولايته عليه في الدنيا و الآخرة و هو الإسلام ما دام حيا في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة فإن كمال العبد المملوك أن يسلم لربه ما يريده منه ما دام حيا و لا يظهر منه ما يكرهه و لا يرتضيه فيما يرجع إليه من الأعمال الاختيارية و أن يكون صالحا لقرب مولاه لائقا لمواهبه السامية فيما لا يرجع إلى العبد و اختياره، و هو سؤاله (عليه السلام) الإسلام في الدنيا و الدخول في زمرة الصالحين في الآخرة و هو الذي منحه الله سبحانه لجده إبراهيم (عليه السلام): «و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين إذ قال له ربه أسلم قال أسلمت لرب العالمين»: البقرة: 131.
و هذا الإسلام الذي سأله (عليه السلام) أقصى درجات الإسلام و أعلى مراتبه، و هو التسليم المحض لله سبحانه، و هو أن لا يرى العبد لنفسه و لا لآثار نفسه شيئا من الاستقلال حتى لا يشغله شيء من نفسه و لا صفاتها و لا أعمالها من ربه، و إذا نسب إليه تعالى كان إخلاصه عبده لنفسه.
و مما تقدم يظهر أن قوله: «توفني مسلما» سؤال منه لبقاء الإخلاص و استمرار الإسلام ما دام حيا و بعبارة أخرى أن يعيش مسلما حتى يتوفاه الله فهو كناية عن أن يثبته الله على الإسلام حتى يموت، و ليس يراد به أن يموت في حال الإسلام و لو لم يكن قبل ذلك مسلما، و لا سؤالا للموت و هو مسلم حتى يكون المعنى أني مسلم فتوفني.
و يتبين بذلك فساد ما روي عن عدة من قدماء المفسرين أن قوله: «توفني مسلما» دعاء منه يسأل به الموت من الله سبحانه حتى قال بعضهم: لم يسأل أحد من الأنبياء الموت من الله و لا تمناه إلا يوسف (عليه السلام).
قوله تعالى: «ذلك من أنباء الغيب نوحيه إليك و ما كنت لديهم إذ أجمعوا أمرهم و هم يمكرون» الإشارة إلى نبإ يوسف (عليه السلام)، و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير الجمع لإخوة يوسف و الإجماع العزم و الإرادة.
و قوله: «و ما كنت لديهم» إلخ، حال من ضمير الخطاب من «إليك» و قوله: «نوحيه إليك و ما كنت» إلى آخر الآية بيان لقوله: «ذلك من أنباء الغيب» و المعنى أن نبأ يوسف من أنباء الغيب فإنا نوحيه إليك و الحال أنك ما كنت عند إخوة يوسف إذ عزموا على أمرهم و هم يمكرون في أمر يوسف.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل قال: قال يوسف لإخوته: «لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم اذهبوا بقميصي هذا» الذي بلته دموع عيني «فألقوه على وجه أبي يأت بصيرا» لو قد نشر ريحي «و أتوني بأهلكم أجمعين» و ردهم إلى يعقوب في ذلك اليوم، و جهزهم بجميع ما يحتاجون إليه فلما فصلت عيرهم من مصر وجد يعقوب ريح يوسف فقال لمن بحضرته من ولده إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون. قال: و أقبل ولده يحثون السير بالقميص فرحا و سرورا بما رأوا من حال يوسف و الملك الذي آتاه الله و العز الذي صاروا إليه في سلطان يوسف، و كان مسيرهم من مصر إلى بلد يعقوب تسعة أيام فلما أن جاء البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا، و قال لهم: ما فعل ابن يامين؟ قالوا: خلفناه عند أخيه صالحا. قال: فحمد الله يعقوب عند ذلك، و سجد لربه سجدة الشكر و رجع إليه بصره و تقوم له ظهره، و قال لولده: تحملوا إلى يوسف في يومكم هذا بأجمعكم فساروا إلى يوسف و معهم يعقوب و خالة يوسف «ياميل» فأحثوا السير فرحا و سرورا فساروا تسعة أيام إلى مصر.
أقول: كون امرأة يعقوب التي سارت معه إلى مصر و هي أم بنيامين خالة يوسف لا أمه الحقيقية وقعت في عدة الروايات و ظاهر الكتاب و بعض الروايات أنها كانت أم يوسف و أنه و بنيامين كانا أخوين لأم و إن لم يكن ظهورا يدفع به تلك الروايات.
و في المجمع، عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و لما فصلت العير قال أبوهم - إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون» قال: وجد يعقوب ريح يوسف حين فصلت من مصر و هو بفلسطين من مسيرة عشرة ليال.
أقول: و قد ورد في عدة روايات من طرق العامة و الخاصة أن القميص الذي أرسله يوسف إلى يعقوب (عليهما السلام) كان نازلا من الجنة، و أنه كان قميص إبراهيم أنزله إليه جبريل حين ألقي في النار فألبسه إياه فكانت عليه بردا و سلاما ثم أورثه إسحاق ثم ورثه يعقوب ثم جعله يعقوب تميمة و علقه على يوسف حين ولد فكان على عنقه حتى أخرجه يوسف من التميمة ففاحت ريح الجنة فوجدها يعقوب، و هذه أخبار لا سبيل لنا إلى تصحيحها مضافا إلى ما فيها من ضعف الأسناد.
و مثلها روايات أخرى من الفريقين تتضمن كتابا كتبه يعقوب إلى يوسف و هو يحسبه عزيز آل فرعون لاستخلاص بنيامين يذكر فيها أنه ابن إسحاق ذبيح الله الذي أمر الله جده إبراهيم بذبحه ثم فداه بذبح عظيم.
و قد تقدم في الجزء السابق من الكتاب أن الذبيح هو إسماعيل دون إسحاق.
و في تفسير العياشي، عن نشيط بن ناصح البجلي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أ كان إخوة يوسف أنبياء؟ قال: لا و لا بررة أتقياء و كيف؟ و هم يقولون لأبيهم: تالله إنك لفي ضلالك القديم.
أقول: و في الروايات من طرق أهل السنة و في بعض الضعاف من روايات الشيعة أنهم كانوا أنبياء، و هذه الروايات مدفوعة بما ثبت من طريق الكتاب و السنة و العقل من عصمة الأنبياء (عليهم السلام)، و ما ورد في الكتاب مما ظاهره كون الأسباط أنبياء كقوله تعالى: «و أوحينا إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و الأسباط»: النساء: 163 غير صريح في كون المراد بالأسباط هم إخوة يوسف، و الأسباط تطلق على جميع الشعوب من بني إسرائيل الذين ينتهي نسبهم إلى يعقوب (عليه السلام) قال تعالى: «و قطعناهم اثنتي عشرة أسباطا أمما»: الأعراف: 160.
و في الفقيه، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول يعقوب لبنيه: «سوف أستغفر لكم ربي» قال: أخرهم إلى السحر من ليلة الجمعة.
أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر، و في الدر المنثور، عن ابن جرير و أبي الشيخ عن ابن عباس عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: قول أخي يعقوب لبنيه: «سوف أستغفر لكم ربي» يقول: حتى يأتي ليلة الجمعة.
و في الكافي، بإسناده عن الفضل بن أبي قرة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خير وقت دعوتم الله فيه الأسحار، و تلا هذه الآية في قول يعقوب «سوف أستغفر لكم ربي» أخرهم إلى السحر.
أقول: و روي نظيره في الدر المنثور، عن أبي الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل لم أخر يعقوب بنيه في الاستغفار؟ قال: أخرهم إلى السحر لأن دعاء السحر مستجاب.
و قد تقدم في بيان الآيات كلام في وجه التأخير و لقد أقبل يوسف (عليه السلام) على إخوته حين عرفوه بالفتوة و الكرامة من غير أن يجبههم بأدنى ما يسوؤهم و لازم ذلك أن يعفو عنهم و يستغفر لهم بلا مهل و لم يكن موقف يعقوب معهم حين ارتد إليه بصره بإلقاء القميص عليه ذاك الموقف.
و في تفسير القمي، حدثني محمد بن عيسى: أن يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمد بن علي بن موسى مسائل فعرضها على أبي الحسن، و كان أحدها: أخبرني عن قول الله: «و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا» أ سجد يعقوب و ولده ليوسف و هم أنبياء؟. فأجاب أبو الحسن (عليه السلام): أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فإنه لم يكن ليوسف و إنما كان ذلك من يعقوب و ولده طاعة لله و تحية ليوسف كما كان السجود من الملائكة لآدم و لم يكن لآدم و إنما كان ذلك منهم طاعة لله و تحية لآدم فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لم تر أنه يقول في شكره ذلك الوقت: رب قد آتيتني من الملك - و علمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات و الأرض - أنت وليي في الدنيا و الآخرة توفني مسلما - و ألحقني بالصالحين. الحديث.
أقول: و قد تقدم بعض الكلام في سجدتهم ليوسف في بيان الآيات، و ظاهر الحديث أن يوسف أيضا سجد معهم كما سجدوا و قد استدل عليه بقول يوسف في شكره: رب قد آتيتني من الملك «إلخ» و في دلالته على ذلك إبهام.
و قد روى الحديث العياشي في تفسيره، عن محمد بن سعيد الأزدي صاحب موسى بن محمد بن الرضا (عليه السلام): قال لأخيه: إن يحيى بن أكثم كتب إليه يسأله عن مسائل فأخبرني عن قول الله: «و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا» أ سجد يعقوب و ولده ليوسف؟. قال: فسألت أخي عن ذلك فقال: أما سجود يعقوب و ولده ليوسف فشكرا لله تعالى لاجتماع شملهم أ لا ترى أنه يقول في شكر ذلك الوقت: «رب قد آتيتني من الملك - و علمتني من تأويل الأحاديث» الآية.
و ما رواه العياشي أوفق بلفظ الآية و أسلم من الإشكال مما رواه القمي.
و في تفسير العياشي، عن ابن أبي عمير عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «و رفع أبويه على العرش» قال: العرش السرير، و في قوله: «و خروا له سجدا» قال: كان سجودهم ذلك عبادة لله.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث قال: فسار تسعة أيام إلى مصر فلما دخلوا على يوسف في دار الملك اعتنق أباه فقبله و بكى، و رفع خالته على سرير الملك ثم دخل منزله فادهن و اكتحل و لبس ثياب العز و الملك ثم رجع إليهم و في نسخة ثم خرج إليهم فلما رأوه سجدوا جميعا إعظاما و شكرا لله فعند ذلك قال: «يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل إلى قوله - بيني و بين إخوتي».
قال: و لم يكن يوسف في تلك العشرين السنة يدهن و لا يكتحل و لا يتطيب و لا يضحك و لا يمس النساء حتى جمع الله ليعقوب شمله، و جمع بينه و بين يعقوب و إخوته».
و في الكافي، بإسناده عن العباس بن هلال الشامي مولى أبي الحسن (عليه السلام) عنه قال: قلت له: جعلت فداك ما أعجب إلى الناس من يأكل الجشب و يلبس الخشن و يخشع. فقال: أ ما علمت أن يوسف نبي ابن نبي كان يلبس أقبية الديباج مزرورة بالذهب فكان يجلس في مجالس آل فرعون يحكم فلم يحتج الناس إلى لباسه و إنما احتاجوا إلى قسطه. و إنما يحتاج من الإمام في أن إذا قال صدق، و إذا وعد أنجز، و إذا حكم عدل لأن الله لا يحرم طعاما و لا شرابا من حلال و حرم الحرام قل أو كثر و قد قال الله: «قل من حرم زينة الله - التي أخرج لعباده و الطيبات من الرزق».
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر بعد ما جمع الله ليعقوب شمله، و أراه تأويل رؤيا يوسف الصادقة؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان يومئذ الحجة لله في الأرض؟ يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجة و كان الملك ليوسف فلما مات يعقوب حمل يوسف عظام يعقوب في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس ثم كان يوسف ابن يعقوب الحجة.
أقول: و الروايات في قصته (عليه السلام) كثيرة اقتصرنا منها بما فيها مساس بالآيات الكريمة على أن أكثرها لا يخلو من تشوش في المتن و ضعف في السند.
و مما ورد في بعضها أن الله سبحانه جعل النبوة من آل يعقوب في صلب لاوي و هو الذي منع إخوته عن قتل يوسف حيث قال: «لا تقتلوا يوسف و ألقوه في غيابة الجب» الآية و هو القائل لإخوته حين أخذ يوسف أخاه باتهام السرقة: «فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين» فشكر الله له ذلك.
و مما ورد في عدة منها أن يوسف (عليه السلام) تزوج بامرأة العزيز و هي التي راودته عن نفسه، و ذلك بعد ما مات العزيز في خلال تلك السنين المجدبة، و لا يبعد أن يكون ذلك شكرا منه تعالى لها حين صدقت يوسف بقولها: «الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين» لو صح الحديث.
كلام في قصة يوسف في فصول
1 - قصته في القرآن:
هو يوسف النبي بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل كان أحد أبناء يعقوب الاثني عشر و أصغر إخوته غير أخيه بنيامين أراد الله سبحانه أن يتم عليه نعمته بالعلم و الحكم و العزة و الملك و يرفع به قدر آل يعقوب فبشره و هو صغير برؤيا رآها كان أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر ساجدة له فذكر ذلك لأبيه فوصاه أبوه أن لا يقص رؤياه على إخوته فيحسدوه ثم أول رؤياه أن الله سيجتبيه و يعلمه من تأويل الأحاديث و يتم نعمته عليه و على آل يعقوب كما أتمها على أبويه من قبل إبراهيم و إسحاق.
كانت هذه الرؤيا نصب عين يوسف آخذة بمجامع قلبه، و لا يزال تنزع نفسه إلى حب ربه و التوله إليه على ما به من علو النفس و صفاء الروح و الخصائص الحميدة، و كان ذا جمال بديع يبهر القول و يدهش الألباب.
و كان يعقوب يحبه حبا شديدا لما يشاهد فيه من الجمال البديع و يتفرس فيه من صفاء السريرة و لا يفارقه و لا ساعة فثقل ذلك على إخوته الكبار و اشتد حسدهم له حتى اجتمعوا و تآمروا في أمره فمن مشير على قتله، و من قائل: اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم و تكونوا من بعده قوما صالحين، ثم اجتمع رأيهم على ما أشار به عليهم بعضهم و هو أن يلقوه في غيابة الجب يلتقطه بعض السيارة و عقدوا على ذلك.
فلقوا أباهم و كلموه أن يرسل يوسف معهم غدا يرتع و يلعب و هم له حافظون فلم يرض به يعقوب و اعتذر أنه يخاف أن يأكله الذئب فلم يزالوا به يراودونه حتى أرضوه و أخذوه منه و ذهبوا به معهم إلى مراتع أغنامهم بالبر فألقوه في جب هناك و قد نزعوا قميصه.
ثم جاءوا بقميصه ملطخا بدم كذب إلى أبيهم و هو يبكون فأخبروه أنهم ذهبوا اليوم للاستباق و تركوا يوسف عند متاعهم فأكله الذئب و هذا قميصه الملطخ بدمه.
فبكى يعقوب و قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل و الله المستعان على ما تصفون، و لم يقل ذلك إلا بتفرس إلهي ألقي في روعه، و لم يزل يعقوب يذكر يوسف و يبكي عليه و لا يتسلى عنه بشيء حتى ابيضت عيناه من الحزن و هو كظيم.
و مضى بنوه يراقبون الجب حتى جاءت سيارة فأرسلوا واردهم للاستقاء فأدلى دلوه فتعلق يوسف بالدلو فخرج فاستبشروا به فدنى منهم بنو يعقوب و ادعوا أنه عبد لهم ثم ساوموهم حتى شروه بثمن بخس دراهم معدودة.
و سارت به السيارة إلى مصر و عرضوه للبيع فاشتراه عزيز مصر و أدخله بيته و قال لامرأته أكرمي مثواه عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا و ذلك لما كان يشاهد في وجهه من آثار الجلال و صفاء الروح على ما له من الجمال البديع فاستقر يوسف في بيت العزيز في كرامة و أهنإ عيش، و هذا أول ما ظهر من لطيف عناية الله بيوسف و عزيز ولايته له حيث توسل إخوته بإلقائه في الجب و بيعه من السيارة إلى إماتة ذكره و تحريمه كرامة الحياة في بيت أبيه أما إماتة الذكر فلم ينسه أبوه قط، و أما مزية الحياة فإن الله سبحان بدل له بيت الشعر و عيشة البدوية قصرا ملكيا و حياة حضرية راقية فرفع الله قدره بعين ما أرادوا أن يحطوه و يضعوه، و على ذلك جرى صنع الله به ما سار في مسير الحوادث.
و عاش يوسف في بيت العزيز في أهنإ عيش حتى كبر و بلغ أشده و لم يزل تزكو نفسه و يصفو قلبه و يشتغل بربه حتى توله في حبه و أخلص له فصار لا هم له إلا فيه فاجتباه الله و أخلصه لنفسه و آتاه حكما و علما و كذلك يفعل بالمحسنين.
و عشقته امرأة العزيز و شغفها حبه حتى راودته عن نفسه و غلقت الأبواب و دعته إلى نفسها و: «قالت هيت.
لك فامتنع يوسف و اعتصم بعصمة إلهية و قال معاذ الله إنه ربي أحسن مثواي إنه لا يفلح الظالمون، و استبقا الباب و اجتذبته و قدت قميصه من خلف و ألفيا سيدها لدى الباب فاتهمت يوسف بأنه كان يريد بها سوءا و أنكر يوسف ذلك غير أن العناية الإلهية أدركته فشهد صبي هناك في المهد ببراءته فبرأه الله.
ثم ابتلي بحب نساء مصر و مراودتهن و شاع أمر امرأة العزيز حتى آل الأمر إلى دخوله السجن، و قد توسلت امرأة العزيز بذلك إلى تأديبه ليجيبها إلى ما تريد، و العزيز إلى أن يسكت هذه الأراجيف الشائعة التي كانت تذهب بكرامة بيته و تشوه جميل ذكره.
فدخل يوسف السجن و دخل معه السجن فتيان للملك فذكر أحدهما أنه رأى في منامه أنه يعصر خمرا و الآخر رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزا تأكل الطير منه، و سألاه أن يؤول منامهما فأول رؤيا الأول أنه سيخرج فيصير ساقيا للملك، و رؤيا الثاني أنه سيصلب فتأكل الطير من رأسه فكان كما قال: و قال يوسف للذي رأى أنه ناج منهما: اذكرني عند ربك فأنساه الشيطان ذكر ربه فلبث في السجن بضع سنين.
و بعد بضع من السنين رأى الملك رؤيا هالته فذكرها لملإه و قال: إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي إن كنتم للرؤيا تعبرون. قالوا أضغاث أحلام، و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين، و عند ذلك ادكر الساقي يوسف و تعبيره لمنامه فذكر ذلك للملك و استأذنه أن يراجع السجن و يستفتي يوسف في أمر الرؤيا فأذن له في ذلك و أرسله إليه.
و لما جاءه و استفتاه في أمر الرؤيا و ذكر أن الناس ينتظرون أن يكشف لهم أمرها قال: تزرعون سبع سنين دأبا فما حصدتم فذروه في سنبله إلا قليلا مما تأكلون ثم يأتي من بعد ذلك سبع شداد يأكلن ما قدمتم لهن إلا قليلا مما تحسنون ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون.
فلما سمع الملك ما أفتى به يوسف أعجبه ذلك و أمر بإطلاقه و إحضاره و لما جاءه الرسول لتنفيذ أمر الملك أبى الخروج و الحضور إلا أن يحقق الملك ما جرى بينه و بين النسوة و يحكم بينه و بينهن و لما أحضرهن و كلمهن في أمره اتفقن على تبرئته من جميع ما اتهم به و قلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء، و قالت امرأة العزيز: الآن حصحص الحق أنا راودته عن نفسه و إنه لمن الصادقين فاستعظم الملك أمره في علمه و حكمه و استقامته و أمانته فأمر بإطلاقه و إحضاره معززا و قال: ائتوني به أستخلصه لنفسي فلما حضر و كلمه قال: إنك اليوم لدينا مكين أمين و قد محصت أحسن التمحيص و اختبرت أدق الاختبار.
قال يوسف: اجعلني على خزائن الأرض أرض مصر إني حفيظ عليم حتى أهيىء الدولة في هذه السنين السبع المخصبة التي تجري على الناس لإنجائهم مما يهددهم من السنين السبع المجدبة فأجابه الملك على ذلك فقام يوسف بالأمر و أمر بإجادة الزرع و إكثاره و جمع الطعام و الميرة و حفظه في المخازن بالحزم و التدبير حتى إذا دهمهم السنون المجدبة وضع فيهم الأرزاق و قسم بينهم الطعام حتى أنجاهم الله بذلك من المخمصة، و في هذه السنين انتصب يوسف لمقام عزة مصر، و استولى على سرير الملك فكان السجن طريقا له يسلك به إلى أريكة العزة و الملك بإذن الله، و قد كانوا تسببوا به إلى إخماد ذكره، و إنسائه من قلوب الناس، و إخفائه من أعينهم.
و في بعض تلك السنين المجدبة دخل على يوسف إخوته لأخذ الطعام فعرفهم و هم له منكرون فاستفسرهم عن شأنهم و عن أنفسهم فذكروا له أنهم أبناء يعقوب و أنهم أحد عشر أخا أصغرهم عند أبيهم يأنس به و لا يدعه يفارقه قط فأظهر يوسف أنه يشتاق أن يراه فيعرف ما باله يخصه أبوه بنفسه فأمرهم أن يأتوه به إن رجعوا إليه ثانيا للامتيار، و زاد في إكرامهم و إيفاء كيلهم فأعطوه العهد بذلك، و أمر فتيانه أن يدسوا بضاعتهم في رحالهم لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون.
و لما رجعوا إلى أبيهم حدثوه بما جرى بينهم و بين عزيز مصر و أنه منع منهم الكيل إلا أن يرجعوا إليه بأخيهم بنيامين فامتنع أبوهم من ذلك و لما فتحوا متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم فراجعوا أباهم و ذكروا له ذلك و أصروا على إرسال بنيامين معهم إلى مصر و هو يأبى حتى وافقهم على ذلك بعد أن أخذ منهم موثقا من الله ليأتنه به إلا أن يحاط بهم.
ثم تجهزوا ثانيا و سافروا إلى مصر و معهم بنيامين و لما دخلوا على يوسف آوى إليه أخاه و عرفه نفسه و قال: إني أنا أخوك و أخبره أنه يريد أن يحبسه عنده فعليه أن لا يبتئس بما سيشاهد من الكيد.
و لما جهزهم بجهازهم جعل السقاية في رحل أخيه فأذن مؤذن أيتها العير إنكم لسارقون قالوا - و أقبلوا عليهم - ما ذا تفقدون قالوا: نفقد صواع الملك و لمن جاء به حمل بعير و أنا به زعيم قالوا: تالله لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض و ما كنا سارقين. قالوا: فما جزاؤه إن كنتم كاذبين قالوا: جزاؤه من وجد في رحله فهو جزاؤه كذلك نجزي السارق فيما بيننا فبدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ثم استخرجها من وعاء أخيه ثم أمر بالقبض عليه و استرقه بذلك.
فراجعه إخوته في إطلاقه حتى سألوه أن يأخذ أحدهم مكانه رحمة بأبيه الشيخ الكبير فلم ينفع فرجعوا إلى أبيهم آيسين غير أن كبيرهم قال لهم: أ لم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقا من الله و من قبل ما فرطتم في يوسف فلن أبرح الأرض حتى يأذن لي أبي أو يحكم الله لي و هو خير الحاكمين فبقي بمصر و ساروا.
فلما رجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص قال: بل سولت لكم أنفسكم أمرا فصبر جميل عسى الله أن يأتيني بهم جميعا ثم تولى عنهم و قال، يا أسفى على يوسف و ابيضت عيناه من الحزن فهو كظيم فلما لاموه على حزنه الطويل و وجده ليوسف قال: إنما أشكوا بثي و حزني إلى الله و أعلم من الله ما لا تعلمون ثم قال لهم: يا بني اذهبوا فتحسسوا من يوسف و أخيه و لا تيأسوا من روح الله فإني أرجو أن تظفروا بهما.
فسار نفر منهم إلى مصر و استأذنوا على يوسف فلما شخصوا عنده تضرعوا إليه و استرحموه في أنفسهم و أهلهم و أخيهم الذي استرقه قائلين: يا أيها العزيز قد مسنا و أهلنا الضر بالجدب و السنة و جئنا ببضاعة مزجاة فأوف لنا الكيل و تصدق علينا بأخينا الذي تملكته بالاسترقاق إن الله يجزي المتصدقين.
و عند ذلك حقت كلمته تعالى ليعزن يوسف بالرغم من استذلالهم له و ليرفعن قدره و قدر أخيه و ليضعن الباغين الحاسدين لهما فأراد يوسف أن يعرفهم نفسه و قال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون؟ قالوا: أ إنك لأنت يوسف؟ قال: أنا يوسف و هذا أخي قد من الله علينا أنه من يتق و يصبر فإن الله لا يضيع أجر المحسنين قالوا: تالله لقد آثرك الله علينا و إن كنا لخاطئين فاعترفوا بذنبهم و شهدوا أن الأمر إلى الله يعز من يشاء و يذل من يشاء و أن العاقبة للمتقين و أن الله مع الصابرين.
فقابلهم يوسف بالعفو و الاستغفار و قال: لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم و قربهم إليه و زاد في إكرامهم.
ثم أمرهم أن يرجعوا إلى أهليهم و يذهبوا بقميصه فيلقوه على وجه أبيه يأت بصيرا فتجهزوا للسير و لما فصلت العير قال يعقوب لمن عنده من بنيه: إني لأجد ريح يوسف لو لا أن تفندون قال من عنده من بنيه: تالله إنك لفي ضلالك القديم، و لما جاءه البشير ألقى القميص على وجهه فارتد بصيرا فرد الله سبحانه إليه بصره بعين ما ذهب به و هو القميص قال يعقوب لبنيه: أ لم أقل لكم: إني أعلم من الله ما لا تعلمون قالوا: يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا إنا كنا خاطئين قال: سوف أستغفر لكم ربي إنه هو الغفور رحيم.
ثم تجهزوا للمسير إلى يوسف و استقبلهم يوسف و ضم إليه أبويه و أعطاهم الأمن و أدخلهم دار الملك و رفع أبويه على العرش و خروا له سجدا يعقوب و امرأته و أحد عشر من ولده، قال يوسف يا أبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ثم شكر الله على لطيف صنعه في دفع النوائب العظام عنه و إيتائه الملك و العلم.
و بقي آل يعقوب بمصر، و كان أهل مصر يحبون يوسف حبا شديدا لفضل نعمته عليهم و حسن بلائه فيهم، و كان يدعوهم إلى دين التوحيد و ملة آبائه إبراهيم و إسحاق و يعقوب (عليهما السلام) كما ورد في قصة السجن و في سورة المؤمن.
2 - ما أثنى الله عليه و منزلته المعنوية:
- كان (عليه السلام) من المخلصين و كان صديقا و كان من المحسنين، و قد آتاه الله حكما و علما و علمه من تأويل الأحاديث و قد اجتباه الله و أتم نعمته عليه و ألحقه بالصالحين سورة يوسف و أثنى عليه بما أثنى على آل نوح و إبراهيم (عليه السلام) من الأنبياء و قد ذكره فيهم سورة الأنعام.
3 - قصته في التوراة الحاضرة:
قالت التوراة: و كان بنو يعقوب اثني عشرة: بنو ليئة رأوبين بكر يعقوب و شمعون و لاوي و يهودا و يساكر و زنولون، و ابنا راحيل يوسف، و بنيامين، و ابنا بلهة جارية راحيل دان، و نفتالي، و ابنا زلفة جارية ليئة جاد، و أشير.
هؤلاء بنو يعقوب الذين ولدوا في فدان أرام.
قالت يوسف إذ كان ابن سبع عشرة سنة كان يرعى مع إخوته الغنم و هو غلام عند بني بلهة و بني زلفة امرأتي أبيه، و أتى يوسف بنميمتهم الردية إلى أبيهم، و أما إسرائيل فأحب يوسف أكثر من سائر بنيه لأنه ابن شيخوخته فصنع له قميصا ملونا فلما رأى إخوته أن أباهم أحبه أكثر من جميع إخوته أبغضوه و لم يستطيعوا أن يكلموه بسلام.
و حلم يوسف حلما فأخبر إخوته فازدادوا أيضا بغضا له فقال لهم: اسمعوا هذا الحلم الذي حلمت: فها نحن حازمون حزما في الحفل و إذا حزمتي قامت و انتصبت فاحتاطت حزمكم و سجدت لحزمتي.
فقال له إخوته أ لعلك تملك علينا ملكا أم تتسلط علينا تسلطا، و ازدادوا أيضا بغضا له من أجل أحلامه و من أجل كلامه.
ثم حلم أيضا حلما آخر و قصه على إخوته فقال: إني قد حلمت حلما أيضا و إذا الشمس و القمر و أحد عشر كوكبا ساجدة لي، و قصه على أبيه و على إخوته فانتهره أبوه و قال له: ما هذا الحلم الذي حلمت؟ هل يأتي أنا و أمك و إخوتك لنسجد لك إلى الأرض فحسده إخوته و أما أبوه فحفظ الأمر.
و مضى إخوته ليرعوا غنم أبيهم عند شكيم فقال إسرائيل ليوسف: أ ليس إخوتك يرعون عند شكيم؟ تعال فأرسلك إليهم، فقال له: ها أنا ذا فقال له: اذهب انظر سلامة إخوتك و سلامة الغنم و رد لي خبرا فأرسله من وطاء حبرون فأتى إلى شكيم فوجده رجل و إذا هو ضال في الحفل فسأله الرجل قائلا: ما ذا تطلب؟ فقال: أنا طالب إخوتي أخبرني أين يرعون؟ فقال الرجل: قد ارتحلوا من هنا لأني سمعتهم يقولون: لنذهب إلى دوثان فذهب يوسف وراء إخوته فوجدهم في دوثان.
فلما أبصروه من بعيد قبل ما اقترب إليهم احتالوا له ليميتوه فقال بعضهم لبعض: هو ذا هذا صاحب الأحلام قادم فلآن هلم نقتله و نطرحه في إحدى هذه الآبار و نقول: وحش ردي أكله فنرى ما ذا يكون أحلامه؟ فسمع رأوبين و أنقذه من أيديهم و قال: لا نقتله و قال لهم رأوبين: لا تسفكوا دما اطرحوه في هذه البئر التي في البرية و لا تمدوا إليه يدا لكي ينقذه من أيديهم ليرده إلى أبيه فكان لما جاء يوسف إلى إخوته أنهم خلعوا عن يوسف قميصه القميص الملون الذي عليه و أخذوه و طرحوه في البئر و أما البئر فكانت فارغة ليس فيها ماء.
ثم جلسوا ليأكلوا طعاما فرفعوا عيونهم و نظروا و إذا قافلة إسماعيليين مقبلة من جلعاد، و جمالهم حاملة كتيراء و بلسانا و لادنا ذاهبين لينزلوا بها إلى مصر فقال يهوذا لإخوته: ما الفائدة أن نقتل أخانا و نخفي دمه؟ تعالوا فنبيعه للإسماعيليين و لا تكن أيدينا عليه لأنه أخونا و لحمنا فسمع له إخوته.
و اجتاز رجال مديانيون تجار فسحبوا يوسف و أصعدوه من البئر و باعوا يوسف للإسماعيليين بعشرين من الفضة فأتوا بيوسف إلى مصر، و رجع رأوبين إلى البئر و إذا يوسف ليس في البئر فمزق ثيابه ثم رجع إلى إخوته و قال: الولد ليس موجودا، و أنا إلى أين أذهب؟.
فأخذوا قميص يوسف و ذبحوا تيسا من المعزى و غمسوا القميص في الدم، و أرسلوا القميص الملون و أحضروه إلى أبيهم و قالوا: وجدنا هذا، حقق أ قميص ابنك هو أم لا؟ فتحققه و قال: قميص ابني وحش ردي أكله افترس يوسف افتراسا فمزق يعقوب ثيابه و وضع مسحا على حقويه و ناح على ابنه أياما كثيرة فقام جميع بنيه و جميع بناته ليعزوه فأبى أن يتعزى و قال: إني أنزل إلى ابني نائحا إلى الهاوية و بكى عليه أبوه.
قالت التوراة: و أما يوسف فأنزل إلى مصر و اشتراه - فوطيفار خصي فرعون رئيس الشرط رجل مصري - من يد الإسماعيليين الذين أنزلوه إلى هناك، و كان الرب مع يوسف - فكان رجلا ناجحا و كان في بيت سيده المصري.
و رأى سيده أن الرب معه، و أن كل ما يصنع كان الرب ينجحه بيده - فوجد يوسف نعمة في عينيه و خدمه فوكله إلى بيته - و دفع إلى يده كل ما كان له، و كان من حين وكله على بيته - و على كل ما كان له أن الرب بارك بيت المصري بسبب يوسف، و كانت بركة الرب على كل ما كان له في البيت - و في الحفل فترك كل ما كان له في يد يوسف - و لم يكن معه يعرف شيئا إلا الخبز الذي يأكل، و كان يوسف حسن الصورة و حسن المنظر.
و حدث بعد هذه الأمور - أن امرأة سيده رفعت عينيها إلى يوسف - و قالت: اضطجع معي فأبى - و قال لامرأة سيده: هو ذا سيدي لا يعرف معي ما في البيت - و كل ماله قد دفعه إلي ليس هو في هذا البيت، و لم يمسك عني شيئا غيرك لأنك امرأته - فكيف أصنع هذا الشر العظيم؟ و أخطىء إلى الله؟ و كان إذ كلمت يوسف يوما فيوما - أنه لم يسمع لها أن يضطجع بجانبها ليكون معها.
ثم حدث نحو هذا الوقت أنه دخل البيت ليعمل عمله - و لم يكن إنسان من أهل البيت هناك في البيت - فأمسكته بثوبه قائلة: اضطجع معي - فترك ثوبه في يدها و هرب و خرج إلى خارج، و كان لما رأت أنه ترك ثوبه في يدها و هرب إلى خارج - أنها نادت أهل بيتها و كلمتهم قائلة: انظروا! قد جاء إلينا برجل عبراني ليداعبنا.
دخل إلي ليضطجع معي فصرخت بصوت عظيم، و كان لما سمع أني رفعت صوتي - و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب و خرج إلى خارج.
فوضعت ثوبه بجانبها حتى جاء سيده إلى بيته - فكلمته بمثل هذا الكلام قائلة: دخل إلي العبد العبراني الذي جئت به إلينا ليداعبني - و كان لما رفعت صوتي - و صرخت أنه ترك ثوبه بجانبي و هرب إلى خارج.
فكان لما سمع سيده كلام امرأته الذي كلمته به قائلة - بحسب هذا الكلام صنع بي عبدك أن غضبه حمي - فأخذ يوسف سيده و وضعه في بيت السجن - المكان الذي كان أسرى الملك محبوسين فيه، و كان هناك في بيت السجن.
و لكن الرب كان مع يوسف و بسط إليه لطفا - و جعل نعمة له في عيني رئيس بيت السجن - فدفع رئيس بيت السجن إلى يد يوسف جميع الأسرى - الذين في بيت السجن، و كل ما كانوا يعملون هناك كان هو العامل، و لم يكن رئيس بيت السجن ينظر شيئا البتة مما في يده - لأن الرب كان معه، و مهما صنع كان الرب ينجحه.
ثم ساقت التوراة قصة صاحبي السجن و رؤياهما و رؤيا فرعون مصر - و ملخصه أنهما كانا رئيس سقاة فرعون و رئيس الخبازين - أذنباه فحبسهما فرعون في سجن رئيس الشرط عند يوسف - فرأى رئيس السقاة في منامه أنه يعصر خمرا، و الآخر أن الطير تأكل من طعام حمله على رأسه - فاستفتيا يوسف فعبر رؤيا الأول - برجوعه إلى سقي فرعون شغله السابق، و الثاني بصلبه و أكل الطير من لحمه، و سأل الساقي أن يذكره عند فرعون - لعله يخرج من السجن لكن الشيطان أنساه ذلك.
ثم بعد سنتين رأى فرعون في منامه - سبع بقرات سمان حسنة المنظر خرجت من نهر - و سبع بقرات مهزولة قبيحة المنظر وقفت على الشاطىء - فأكلت المهازيل السمان فاستيقظ فرعون - ثم نام فرأى سبع سنابل خضر حسنة سمينة - و سبع سنابل رقيقة ملفوحة بالريح الشرقية نابتة وراءها - فأكلت الرقيقة السمينة فهال فرعون ذلك - و جمع سحرة مصر و حكمائها - و قص عليهم رؤياه فعجزوا عن تعبيره.
و عند ذلك ادكر رئيس السقاة يوسف - فذكره لفرعون و ذكر ما شاهده من عجيب تعبيره للمنام - فأمر فرعون بإحضاره - فلما أدخل عليه كلمه - و استفتاه فيما رآه في منامه مرة بعد أخرى - فقال يوسف لفرعون حلم فرعون واحد - قد أخبر الله فرعون بما هو صانع: البقرات السبع الحسنة في سبع سنين - و سنابل سبع الحسنة في سبع سنين هو حلم واحد، و البقرات السبع الرقيقة القبيحة - التي طلعت وراءها هي سبع سنين - و السنابل السبع الفارغة الملفوحة بالريح الشرقية - يكون سبع سنين جوعا.
هو الأمر الذي كلمت به فرعون - قد أظهر الله لفرعون و ما هو صانع، هو ذا سبع سنين قادمة شعبا عظيما في كل أرض مصر - ثم تقوم بعدها سبع سنين جوعا - فينسى كل السبع في أرض مصر و يتلف الجوع الأرض، و لا يعرف السبع في الأرض من أجل ذلك الجوع بعده - لأنه يكون شديدا جدا، و أما عن تكرار الحلم على فرعون مرتين - فلأن الأمر مقرر من عند الله و الله مسرع لصنعه.
فلآن لينظر فرعون رجلا بصيرا و حكيما - و يجعله على أرض مصر يفعل فرعون فيوكل نظارا على الأرض - و يأخذ خمس غلة أرض مصر في سبع سني الشبع - فيجمعون جميع طعام هذه السنين الجيدة القادمة - و يخزنون قمحا تحت يد فرعون طعاما في المدن - و يحفظونه فيكون الطعام ذخيرة للأرض - لسبع سني الجوع التي تكون في أرض مصر - فلا تنقرض الأرض بالجوع.
قالت التوراة ما ملخصه - أن فرعون استحسن كلام يوسف و تعبيره و أكرمه - و أعطاه إمارة المملكة في جميع شئونها - و خلع عليه بخاتمه و ألبسه ثياب بوص - و وضع طوق ذهب في عنقه - و أركبه في مركبته الخاصة و نودي أمامه: أن اركعوا، و أخذ يوسف يدبر الأمور في سني الخصب - ثم في سني الجدب أحسن إدارة.
ثم قالت التوراة ما ملخصه - أنه لما عمت السنة أرض كنعان - أمر يعقوب بنيه أن يهبطوا إلى مصر - فيأخذوا طعاما فساروا و دخلوا على يوسف - فعرفهم و تنكر لهم و كلمهم بجفاء و سألهم من أين جئتم؟ قالوا: من أرض كنعان لنشتري طعاما - قال يوسف: بل جواسيس أنتم جئتم إلى أرضنا لتفسدوها - قالوا: نحن جميعا أبناء رجل واحد في كنعان - كنا اثني عشر أخا فقد منا واحد - و بقي أصغرنا ها هو اليوم عند أبينا، و الباقون بحضرتك - و نحن جميعا أمناء لا نعرف الفساد و الشر.
قال يوسف: لا و حياة فرعون نحن نراكم جواسيس - و لا نخلي سبيلكم حتى تحضرونا أخاكم الصغير - حتى نصدقكم فيما تدعون فأمر بهم فحبسوا ثلاثة أيام - ثم أحضرهم و أخذ من بينهم شمعون و قيده أمام عيونهم - و أذن لهم أن يرجعوا إلى كنعان و يجيئوا بأخيهم الصغير.
ثم أمر أن يملأ أوعيتهم قمحا و ترد فضة كل واحد منهم إلى عدله - ففعل فرجعوا إلى أبيهم و قصوا عليه القصص - فأبى يعقوب أن يرسل بنيامين معهم - و قال.
أعدمتموني الأولاد يوسف مفقود و شمعون مفقود - و بنيامين تريدون أن تأخذوه لا يكون ذلك أبدا - و قال: قد أسأتم في قولكم للرجل: إن لكم أخا تركتموه عندي قالوا: إنه سأل عنا و عن عشيرتنا قائلا: هل أبوكم حي بعد؟ و هل لكم أخ آخر - فأخبرناه كما سألنا و ما كنا نعلم أنه سيقول.
جيئوا إلي بأخيكم.
فلم يزل يعقوب يمتنع - حتى أعطاه يهودا الموثق أن يرد إليه بنيامين - فأذن في ذهابهم به معهم، و أمرهم أن يأخذوا من أحسن متاع الأرض هدية إلى الرجل - و أن يأخذوا معهم أصرة الفضة - التي ردت إليهم في أوعيتهم ففعلوا.
و لما وردوا مصر لقوا وكيل يوسف على أموره - و أخبروه بحاجتهم و أن بضاعتهم ردت إليهم في رحالهم - و عرضوا له هديتهم فرحب بهم و أكرمهم - و أخبرهم أن فضتهم لهم و أخرج إليهم شمعون الرهين - ثم أدخلهم على يوسف فسجدوا له و قدموا إليه هديتهم - فرحب بهم و استفسرهم عن حالهم و عن سلامة أبيهم - و عرضوا عليه أخاهم الصغير فأكرمه و دعا له - ثم أمر بتقديم الطعام فقدم له وحده، و لهم وحدهم و لمن عنده من المصريين وحدهم.
ثم أمر وكيله أن يملأ أوعيتهم طعاما - و أن يدس فيها هديتهم - و أن يضع طاسة في عدل أخيهم الصغير ففعل - فلما أضاء الصبح من غد شدوا الرحال على الحمير و انصرفوا.
فلما خرجوا من المدينة - و لما يبتعدوا قال لوكيله أدرك القوم و قل لهم: بئس ما صنعتم جازيتم الإحسان بالإساءة - سرقتم طاس سيدي الذي يشرب فيه - و يتفأل به فتبهتوا من استماع هذا القول، و قالوا: حاشانا من ذلك، هو ذا الفضة التي وجدناها في أفواه عدالنا جئنا بها إليكم من كنعان - فكيف نسرق من بيت سيدك فضة أو ذهبا، من وجد الطاس في رحله يقتل - و نحن جميعا عبيد سيدك - فرضي بما ذكروا له من الجزاء فبادروا إلى عدولهم، و أنزل كل واحد منهم عدله و فتحه - فأخذ يفتشها و ابتدأ من الكبير - حتى انتهى إلى الصغير و أخرج الطاس من عدله.
فلما رأى ذلك إخوته مزقوا ثيابهم - و رجعوا إلى المدينة و دخلوا على يوسف - و أعادوا عليه قولهم معتذرين معترفين بالذنب - و عليهم سيماء الصغار و الهوان و الخجل - فقال: حاشا أن نأخذ إلا من وجد متاعنا عنده، و أما أنتم فارجعوا بسلام إلى أبيكم.
فتقدم إليه يهوذا و تضرع إليه و استرحمه - و ذكر له قصتهم مع أبيهم - حين أمرهم يوسف بإحضار بنيامين - فسألوا أباهم ذلك فأبى أشد الإباء - حتى آتاه يهوذا الميثاق على أن يرد بنيامين إليه - و ذكر أنهم لا يستطيعون أن يلاقوا أباهم - و ليس معهم بنيامين، و أن أباهم الشيخ لو سمع منهم ذلك لمات من وقته - ثم سأله أن يأخذه مكان بنيامين عبدا لنفسه و يطلق بنيامين - لتقر بذلك عين أبيهم المستأنس به بعد فقد أخيه من أمه يوسف.
قالت التوراة: فلم يستطع يوسف أن يضبط نفسه لدى جميع الواقفين عنده - فصرخ أخرجوا كل إنسان عني فلم يقف أحد عنده - حين عرف يوسف إخوته بنفسه فأطلق صوته بالبكاء - فسمع المصريون و سمع بيت فرعون، و قال يوسف لإخوته: أنا يوسف أ حي أبي بعد؟ فلما يستطيع إخوته أن يجيبوه لأنهم ارتاعوا منه.
و قال يوسف لإخوته: تقدموا إلي، فتقدموا فقال: أنا يوسف أخوكم الذي بعتموه إلى مصر - و الآن لا تتأسفوا و لا تغتاظوا لأنكم بعتموني إلى هنا - لأنه لاستبقاء حياة أرسلني الله قدامكم - لأن للجوع في الأرض الآن سنتين و خمس سنين أيضا - لا يكون فيها فلاحة و لا حصاد - فقد أرسلني الله قدامكم ليجعل لكم بقية في الأرض - و ليستبقي لكم نجاة عظيمة فالآن ليس أنتم أرسلتموني إلى هنا - بل الله و هو قد جعلني أبا لفرعون و سيدا لكل بيته - و متسلط على كل أرض مصر.
أسرعوا و أصعدوا إلى أبي و قولوا له - هكذا يقول ابنك يوسف: أنزل إلي لا تقف فتسكن في أرض جاسان - و تكون قريبا مني أنت و بنوك و بنو بيتك - و غنمك و بقرك و كل ما لك، و أعولك هناك لأنه يكون أيضا خمس سنين جوعا - لئلا تفتقر أنت و بيتك و كل ما لك، و هو ذا عيونكم ترى و عينا أخي بنيامين - أن فمي هو الذي يكلمكم، و تخبرون أني بكل مجدي في مصر و بكل ما رأيتم و تستعجلون - و تنزلون بأبي إلى هنا ثم وقع على عين بنيامين أخيه و بكى، و بكى بنيامين على عنقه و قبل جميع إخوته و بكى عليهم.
ثم قالت التوراة: ما ملخصه - أنه جهزهم أحسن التجهيز و سيرهم إلى كنعان - فجاءوا أباهم و بشروه بحياة يوسف - و قصوا عليه القصص فسر بذلك و سار بأهله جميعا إلى مصر - و هم جميعا سبعون نسمة و وردوا أرض جاسان من مصر - و ركب يوسف إلى هناك يستقبل أباه - و لقيه قادما فتعانقا و بكى طويلا - ثم أنزله و بنيه و أقرهم هناك - و أكرمهم فرعون إكراما بالغا و آمنهم - و أعطاهم ضيعة في أفضل بقاع مصر - و عالهم يوسف ما دامت السنون المجدبة - و عاش يعقوب في أرض مصر بعد لقاء يوسف سبع عشرة سنة.
هذا ما قصته التوراة من قصة يوسف فيما يحاذي القرآن أوردناها ملخصه إلا في بعض فقرأتها لمسيس الحاجة.
كلام في الرؤيا في فصول
1 - الاعتناء بشأنها.
كان الناس كثير العناية بأمر الرؤى و المنامات منذ عهود قديمة لا يضبط لها بدء تاريخي، و عند كل قوم قوانين و موازين متفرقة متنوعة يزنون بها المنامات و يعبرونها بها و يكشفون رموزها، و يحلون بها مشكلات إشاراتها فيتوقعون بذلك خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا بزعمهم.
و قد اعتني بشأنها في القرآن الكريم كما حكى الله سبحانه فيه رؤيا إبراهيم في ابنه (عليه السلام) قال: فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ما ذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر - إلى أن قال - و ناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا»: الصافات: 105.
و منها ما حكاه تعالى من رؤيا يوسف (عليه السلام): «إذ قال يوسف لأبيه يا أبت إني رأيت أحد عشر كوكبا و الشمس و القمر رأيتهم لي ساجدين»: يوسف: 4.
و منها رؤيا صاحبي يوسف في السجن: «قال أحدهما إني أراني أعصر خمرا و قال الآخر إني أراني أحمل فوق رأسي خبزا تأكل الطير منه نبئنا بتأويله إنا نراك من المحسنين»: يوسف: 36.
و منها رؤيا الملك: «و قال الملك إني أرى سبع بقرات سمان يأكلهن سبع عجاف و سبع سنبلات خضر و أخر يابسات يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي»: يوسف: 43.
و منها رؤيا أم موسى قال تعالى: «إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن اقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم»: طه: 39 على ما ورد في الروايات أنه كان رؤيا.
و منها ما ذكر من رؤى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال تعالى: «إذ يريكهم الله في منامك قليلا و لو أراكهم كثيرا لفشلتم و لتنازعتم في الأمر»: الأنفال: 43، و قال: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون»: الفتح: 27 و قال: «و ما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس»: الإسراء: 60.
و قد وردت من طريق السمع روايات كثيرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تصدق ذلك و تؤيده.
لكن الباحثين من علماء الطبيعة من أوربا لا يرون لها حقيقة و لا للبحث عن شأنها و ارتباطها بالحوادث الخارجية وزنا علميا إلا بعضهم من علماء النفس ممن اعتنى بأمرها، و احتج عليهم ببعض المنامات الصحيحة التي تنبىء عن حوادث مستقبلة أو أمور خفية إنباء عجيبا لا سبيل إلى حمله على مجرد الاتفاق و الصدفة، و هي منامات كثيرة جدا مروية بطرق صحيحة لا يخالطها شك، كاشفة عن حوادث خفية أو مستقبلة أوردها في كتبهم.
2 - و للرؤيا حقيقة.
ما منا واحد إلا و قد شاهد من نفسه شيئا من الرؤى و المنامات دله على بعض الأمور الخفية أو المشكلات العلمية أو الحوادث التي ستستقبله من الخير أو الشر أو قرع سمعه بعض المنامات التي من هذا القبيل، و لا سبيل إلى حمل ذلك على الاتفاق و انتفاء أي رابطة بينها و بين ما ينطبق عليها من التأويل.
و خاصة في المنامات الصريحة التي لا تحتاج إلى تعبير.
نعم مما لا سبيل أيضا إلى إنكاره أن الرؤيا أمر إدراكي و للخيال فيها عمل، و المتخيلة من القوى الفعالة دائما ربما تدوم في عملها من جهة الأنباء الواردة عليها من ناحية الحس كاللمس و السمع، و ربما تأخذ صورا بسيطة أو مركبة من الصور و المعاني المخزونة عندها فتحلل المركبات كتفصيل صورة الإنسان التامة إلى رأس و يد و رجل و غير ذلك و تركب البسائط كتركيبها إنسانا مما اختزن عندها من أجزائه و أعضائه فربما ركبته بما يطابق الخارج و ربما ركبته بما لا يطابقه كتخيل إنسان لا رأس له أو له عشرة رءوس.
و بالجملة للأسباب و العوامل الخارجية المحيطة بالبدن كالحر و البرد و نحوها و الداخلية الطارئة عليه كأنواع الأمراض و العاهات و انحرافات المزاج و امتلاء المعدة و التعب و غيرها تأثير في المتخيلة فلها تأثير في الرؤيا.
فترى أن من عملت فيه حرارة أو برودة بالغة يرى في منامه نيرانا مؤججة أو الشتاء و الجمد و نزول الثلوج، و أن من عملت فيه السخونة فألجمه العرق يرى الحمام و بركان الماء و نزول الأمطار و نحو ذلك، و أن من انحرف مزاجه أو امتلأت معدته يرى رؤيا مشوشة لا ترجع إلى طائل.
و كذلك الأخلاق و السجايا الإنسانية شديدة التأثير في نوع تخيله فالذي يحب إنسانا أو عملا لا ينفك بتخيله في يقظته و يراه في نومته و الضعيف النفس الخائف الذعران إذا فوجىء بصوت يتخيل إثره أمور هائلة لا إلى غاية، و كذلك البغض و العداوة و العجب و الكبر و الطمع و نظائرها كل منها يجر الإنسان إلى تخيله صور متسلسلة تناسبه و تلائمه، و قل ما يسلم الإنسان من غلبة بعض هذه السجايا على طبعه.
و لذلك كان أغلب الرؤى و المنامات من التخيلات النفسانية التي ساقها إليها شيء من الأسباب الخارجية و الداخلية الطبيعية و الخلقية و نحوها فلا تحكي النفس بحسب الحقيقة إلا كيفية عمل تلك الأسباب و أثرها فيها فحسب لا حقيقة لها وراء ذلك.
و هذا هو الذي ذكره منكرو حقيقة الرؤيا من علماء الطبيعة لا يزيد على تعداد هذه الأسباب المؤثرة في الخيال العمالة في إدراك الإنسان.
و من المسلم ما أورده غير أنه لا ينتج إلا أن كل الرؤيا ليس ذا حقيقة و هو غير المدعى و هو أن كل منام ليس ذا حقيقة فإن هناك منامات صالحة و رؤيا صادقة تكشف عن حقائق و لا سبيل إلى إنكارها و نفي الرابطة بينها و بين الحوادث الخارجية و الأمور المستكشفة كما تقدم.
فقد ظهر مما بينا أن جميع الرؤى لا تخلو عن حقيقة بمعنى أن هذه الإدراكات المتنوعة المختلفة التي تعرض النفس الإنسانية في المنام و هي المسماة بالرؤى لها أصول و أسباب تستدعي وجودها للنفس و ظهورها للخيال و هي على اختلافها تحكي و تمثل بأصولها و أسبابها التي استدعتها فلكل منام تأويل و تعبير غير أن تأويل بعضها السبب الطبيعي العامل في البدن في حال النوم، و تأويل بعضها السبب الخلقي و بعضها أسباب متفرقة اتفاقية كمن يأخذه النوم و هو متفكر في أمر مشغول النفس به فيرى في حلمه ما يناسب ما كان ذاهنا له.
و إنما البحث في نوع واحد من هذه المنامات، و هي لرؤى التي لا تستند إلى أسباب خارجية طبيعية، أو مزاجية أو اتفاقية و لا إلى أسباب داخلية خلقية أو غير ذلك، و لها ارتباط بالحوادث الخارجية.
و الحقائق الكونية.
3 - المنامات الحقة.
المنامات التي لها ارتباط بالحوادث الخارجية و خاصة المستقبلة منها لما كان أحد طرفي الارتباط أمرا معدوما بعد كمن يرى أن حادثة كذا وقعت ثم وقعت بعد حين كما رأى.
و لا معنى للارتباط الوجودي بين موجود و معدوم، أو أمرا غائبا عن النفس لم يتصل بها من طريق شيء من الحواس كمن رأى أن في مكان كذا دفينا فيه من الذهب المسكوك كذا و من الفضة كذا في وعاء صفته كذا و كذا ثم مضى إليه و حفر كما دل عليه فوجده كما رأى، و لا معنى للارتباط الإدراكي بين النفس و بين ما هو غائب عنها لم ينله شيء من الحواس.
و لذا قيل: إن الارتباط إنما استقر بينها و بين النفس النائمة من جهة اتصال النفس بسبب الحادثة الواقعة الذي فوق عالم الطبيعة فترتبط النفس بسبب الحادثة و من طريق سببها بنفسها.
توضيح ذلك أن العوالم ثلاثة: عالم الطبيعة و هو العالم الدنيوي الذي نعيش فيه و الأشياء الموجودة فيها صور مادية تجري على نظام الحركة و السكون و التغير و التبدل.
و ثانيها: عالم المثال و هو فوق عالم الطبيعة وجودا، و فيه صور الأشياء بلا مادة منها تنزل هذه الحوادث الطبيعة و إليها تعود، و له مقام العلية و نسبة السببية لحوادث عالم الطبيعة.
و ثالثها: عالم العقل و هو فوق عالم المثال وجودا و فيه حقائق الأشياء و كلياتها من غير مادة طبيعية و لا صورة، و له نسبة السببية لما في عالم المثال.
و النفس الإنسانية لتجردها لها مسانخة مع العالمين عالم المثال و عالم العقل فإذا نام الإنسان و تعطل الحواس انقطعت النفس طبعا عن الأمور الطبيعية الخارجية و رجعت إلى عالمها المسانخ لها و شاهدت بعض ما فيها من الحقائق بحسب ما لها من الاستعداد و الإمكان.
فإن كانت النفس كاملة متمكنة من إدراك المجردات العقلية أدركتها و استحضرت أسباب الكائنات على ما هي عليها من الكلية و النورية، و إلا حكتها حكاية خيالية بما تأنس بها من الصور و الأشكال الجزئية الكونية كما نحكي نحن مفهوم السرعة الكلية بتصور جسم سريع الحركة، و نحكي مفهوم العظمة بالجبل، و مفهوم الرفعة و العلو بالسماء و ما فيها من الأجرام السماوية و نحكي الكائد المكار بالثعلب و الحسود بالذئب و الشجاع بالأسد إلى غير ذلك.
و إن لم تكن متمكنة من إدراك المجردات على ما هي عليها و الارتقاء إلى عالمها توقفت في عالم المثال مرتقية من عالم الطبيعة فربما شاهدت الحوادث بمشاهدة عللها و أسبابها من غير أن تتصرف فيها بشيء من التغيير، و يتفق ذلك غالبا في النفوس السليمة المتخلقة بالصدق و الصفاء، و هذه هي المنامات الصريحة.
و ربما حكت ما شاهدته منها بما عندها من الأمثلة المأنوس بها كتمثيل الإزدواج بالاكتساء و التلبس، و الفخار بالتاج و العلم بالنور و الجهل بالظلمة و خمود الذكر بالموت، و ربما انتقلنا من الضد إلى الضد كانتقال أذهاننا إلى معنى الفقر عند استماع الغنى و انتقالنا من تصور النار إلى تصور الجمد و من تصور الحياة إلى تصور الموت و هكذا، و من أمثلة هذا النوع من المنامات ما نقل أن رجلا رأى في المنام أن بيده خاتما يختم به أفواه الناس و فروجهم فسأل ابن سيرين عن تأويله فقال: إنك ستصير مؤذنا في شهر رمضان فيصوم الناس بأذانك.
و قد تبين مما قدمناه أن المنامات الحقة تنقسم انقساما أوليا إلى منامات صريحة لم تتصرف فيها نفس النائم فتنطبق على ما لها من التأويل من غير مئونة، و منامات غير صريحة تصرفت فيها النفس من جهة الحكاية بالأمثال و الانتقال من معنى إلى ما يناسبه أو يضاده، و هذه هي التي تحتاج إلى التعبير بردها إلى الأصل الذي هو المشهود الأولي للنفس كرد التاج إلى الفخار، و رد الموت إلى الحياة و الحياة إلى الفرج بعد الشدة و رد الظلمة إلى الجهل و الحيرة أو الشقاء.
ثم هذا القسم الثاني ينقسم إلى قسمين أحدهما ما تتصرف فيه النفس بالحكاية فتنتقل من الشيء إلى ما يناسبه أو يضاده و وقفت في المرة و المرتين مثلا بحيث لا يعسر رده إلى أصله كما مر من الأمثلة.
و ثانيهما ما تتصرف فيه النفس من غير أن تقف على حد كان تنتقل مثلا من الشيء إلى ضده و من الضد إلى مثله و من مثل الضد إلى ضد المثل و هكذا بحيث يتعذر أو يتعسر للمعبر أن يرده إلى الأصل المشهود، و هذا النوع من المنامات هي المسماة بأضغاث الأحلام و لا تعبير لها لتعسره أو تعذره.
و قد بان بذلك أن هذه المنامات ثلاثة أقسام كلية: و هي المنامات الصريحة و لا تعبير لها لعدم الحاجة إليه، و أضغاث الأحلام و لا تعبير فيها لتعذره أو تعسره و المنامات التي تصرفت فيها النفس بالحكاية و التمثيل و هي التي تقبل التعبير.
هذا إجمال ما أورده علماء النفس من قدمائنا في أمر الرؤيا و استقصاء البحث فيها أزيد من هذا المقدار موكول إلى كتبهم في هذا الشأن.
4 - و في القرآن ما يؤيد ذلك -:
قال تعالى: «و هو الذي يتوفاكم بالليل»: الأنعام: 60، و قال: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها فيمسك التي قضى عليها الموت و يرسل الأخرى»: الزمر: 42 و ظاهره أن النفوس متوفاة و مأخوذة من الأبدان مقطوعة التعلق بالحواس الظاهرة راجعة إلى ربها نوعا من الرجوع يضاهي الموت.
و قد أشير في كلامه إلى كل واحد من الأقسام الثلاثة المذكورة فمن القسم الأول ما ذكر من رؤيا إبراهيم (عليه السلام) و رؤيا أم موسى و بعض رؤى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و من القسم الثاني ما في قوله تعالى: «قالوا أضغاث أحلام» الآية: يوسف: 44 و من القسم الثالث رؤيا يوسف و مناما صاحبيه في السجن و رؤيا ملك مصر المذكورة في سورة يوسف.
|