بيان
الآية خاتمة السورة و تعطف الكلام على ما في مفتتحها من قوله: «و الذي أنزل إليك من ربك الحق و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» و هي كرة ثالثة على منكري حقية كتاب الله يستشهد فيها بأن الله يشهد على الرسالة و من حصل له العلم بهذا الكتاب يشهد بها.
قوله تعالى: «و يقول الذين كفروا لست مرسلا» إلخ بناء الكلام في السورة على إنكارهم حقية الكتاب و عدم عدهم إياه آية إلهية للرسالة و لذا كانوا يقترحون آية غيره كما حكاه الله تعالى في خلال الآيات مرة بعد مرة و أجاب عنه بما يرد عليهم قولهم فكأنهم لما يئسوا مما اقترحوا أنكروا أصل الرسالة لعدم إذعانهم بما أنزل الله من آية و عدم إجابتهم فيما اقترحوه من آية فكانوا يقولون: «لست مرسلا».
فلقن الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة عليهم لرسالته بقوله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب» و هو حجة قاطعة و ليس بكلام خطابي و لا إحالة إلى ما لا طريق إلى حصول العلم به.
فقوله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم» استشهاد بالله سبحانه و هو ولي أمر الإرسال و إنما هي شهادة تأدية لا شهادة تحمل فقط فإن أمثال قوله تعالى: «إنك لمن المرسلين على صراط مستقيم» من آيات القرآن و كونه آية معجزة من الله ضروري، و كونه قولا و كلاما له سبحانه ضروري و اشتماله على تصديق الرسالة بدلالة المطابقة المعتمدة على علم ضروري أيضا ضروري، و لا نعني بشهادة التأدية إلا ذلك.
و من فسر شهادته تعالى من المفسرين بأنه تعالى قد أظهر على رسالتي من الأدلة و الحجج ما فيه غنى عن شهادة شاهد آخر ثم قال: و تسمية ذلك شهادة مع أنه فعل و هي قول من المجاز حيث إنه يغني غناها بل هو أقوى منها.
انتهى.
فقد قصد المطلوب من غير طريقه.
و ذلك أن الأدلة و الحجج الدالة على حقية رسالته (صلى الله عليه وآله وسلم) إما القرآن و هو الآية المعجزة الخالدة، و إما غيره من الخوارق و المعجزات و آيات السورة - كما ترى - لا تجيب الكفار على ما اقترحوه من هذا القسم الثاني و لا معنى حينئذ للاستشهاد بما لم يجابوا عليه، و أما القرآن فمن البين أن الاستناد إليه من جهة أنه معجزة تصدق الرسالة بدلالتها عليها أي كلام له تعالى يشهد بالرسالة، و إذا كان كذلك فما معنى العدول عن كونه كلاما له تعالى يدل على حقية الرسالة أي شهادة لفظية منه تعالى على ذلك بحقيقة معنى الشهادة إلى كونه دليلا فعليا منه عليها سمي مجازا بالشهادة؟.
على أن كون فعله تعالى أقوى دلالة على ذلك من قوله ممنوع.
فقد تحصل أن معنى قوله: «الله شهيد بيني و بينكم» أن ما وقع في القرآن من تصديق الرسالة شهادة إلهية بذلك.
و أما جعل الشهادة شهادة تحمل ففيه إفساد المعنى من أصله و أي معنى لإرجاع أمر متنازع فيه إلى علم الله و اتخاذ ذلك حجة على الخصم و لا سبيل له إلى ما في علم الله في أمره؟ أ هو كما يقول أو فرية يفتريها على الله؟.
و قوله: «و من عنده علم الكتاب» أي و كفى بمن عنده علم الكتاب شهيدا بيني و بينكم، و قد ذكر بعضهم أن المراد بالكتاب اللوح المحفوظ و يتعين على هذا أن يكون المراد بالموصول هو الله سبحانه فكأنه قيل: كفى بالله الذي عنده علم الكتاب شهيدا «إلخ».
و فيه أولا أنه خلاف ظاهر العطف، و ثانيا أنه من عطف الذات مع صفته إلى نفس الذات و هو قبيح غير جائز في الفصيح و لذلك ترى الزمخشري لما نقل في الكشاف، هذا القول عن الحسن بقوله: و عن الحسن: «لا و الله ما يعني إلا الله» قال بعده: و المعنى كفى بالذي يستحق العبادة و بالذي لا يعلم علم ما في اللوح إلا هو شهيدا بيني و بينكم.
انتهى فاحتال إلى تصحيحه بتبديل لفظة الجلالة «الله» من «الذي يستحق العبادة» و تبديل «من» من «الذي» ليعود المعطوف و المعطوف عليه وصفين فيكون في معنى عطف أحد وصفي الذات على الآخر و إناطة الحكم بالذات بما له من الوصفين كدخالتهما فيه فافهم ذلك.
لكن من المعلوم أن تبديل لفظ من لفظ يستقيم إفادته لمعنى لا يوجب استقامة ذلك في اللفظ الأول و إلا لبطلت أحكام الألفاظ.
على أن التأمل فيما تقدم في معنى هذه الشهادة و أن المراد به تصديق القرآن لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعطي أن وضع لفظة الجلالة في هذا الموضع لا للتلميح إلى معناه الوصفي بل لإسناده الشهادة إلى الذات المقدسة المستجمعة لجميع صفات الكمال لأن شهادته أكبر الشهادات قال سبحانه: «قل أي شيء أكبر شهادة قل الله شهيد بيني و بينكم».
و ذكر آخرون: أن المراد بالكتاب التوراة و الإنجيل أو خصوص التوراة و المعنى و كفى بعلماء الكتاب شهداء بيني و بينكم لأنهم يعلمون بما بشر الله به الأنبياء في و يقرءون نعتي في الكتاب.
و فيه أن الذي أخذ في الآية هو الشهادة دون مجرد العلم، و السورة مكية و لم يؤمن أحد من علماء أهل الكتاب يومئذ كما قيل و لا شهد للرسالة بشيء فلا معنى للاحتجاج بالاستناد إلى شهادة لم يقم بها أحد بعد.
و قيل: المراد القوم الذين أسلموا من علماء أهل الكتاب كعبد الله بن سلام و تميم الداري و الجارود و سلمان الفارسي، و قيل هو عبد الله بن سلام، و رد بأن السورة مكية و هؤلاء إنما أسلموا بالمدينة.
و للقائلين بأنه عبد الله بن سلام جهد بليغ في الدفاع عنه فقال بعضهم: إن مكية السورة لا تنافي كون بعض آياتها مدنية فلم لا يجوز أن تكون هذه الآية مدنية مع كون السورة مكية.
و فيه أولا: أن مجرد الجواز لا يثبت ذلك ما لم يكن هناك نقل صحيح قابل للتعويل عليه.
على أن الجمهور نصوا على أنها مكية كما نقل عن البحر.
و ثانيا: أن ذلك إنما هو في بعض الآيات الموضوعة في خلال آيات السور النازلة و أما في مثل هذه الآية التي هي ختام ناظرة إلى ما افتتحت به السورة فلا إذ لا معنى لإرجاء بعض الكلام المرتبط الأجزاء إلى أمد غير محدود.
و قال بعضهم: إن كون الآية مكية لا ينافي أن يكون الكلام إخبارا عما سيشهد به.
و فيه أن ذلك يوجب رداءة الحجة و سقوطها فأي معنى لأن يحتج على قوم يقولون: «لست مرسلا» فيقال: صدقوا به اليوم لأن بعض علماء أهل الكتاب سوف يشهدون به.
و قال بعضهم: إن هذه الشهادة شهادة تحمل لا يستلزم إيمان الشهيد حين الشهادة فيجوز أن تكون الآية مكية و المراد بها عبد الله بن سلام أو غيره من علماء اليهود و النصارى و إن لم يؤمنوا حين نزول الآية.
و فيه أن المعنى حينئذ يعود إلى الاحتجاج بعلم علماء أهل الكتاب و إن لم يعترفوا به و لم يؤمنوا، و لو كان كذلك لكان المتعين أن يستشهد بعلم الذين كفروا أنفسهم فإن الحجة كانت قد تمت عليهم بكون القرآن كلام الله و لا يكون ذلك إلا عن علمهم به فما الموجب للعدول عنهم إلى غيرهم و هم مشتركون في الكفر بالرسالة و نفيها على أنه تقدم أن الشهادة في الآية ليست إلا شهادة أداء دون التحمل.
و قال بعضهم: - و هو ابن تيمية و قد أغرب - أن الآية مدنية بالاتفاق.
و هو كما ترى.
و ذكر بعضهم: أن المراد بالكتاب القرآن الكريم، و المعنى أن من تحمل هذا الكتاب و تحقق بعلمه و اختص به فإنه يشهد على أنه من عند الله و أني مرسل به فيعود مختتم السورة إلى مفتتحها من قوله: «تلك آيات الكتاب و الذي أنزل إليك من ربك الحق و لكن أكثر الناس لا يؤمنون» و ينعطف آخرها على أولها و على ما في أواسطها من قوله: «أ فمن يعلم أن ما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الألباب».
و هذا في الحقيقة انتصار و تأييد منه تعالى لكتابه قبال ما أزرى به و استهانه الذين كفروا حيث قالوا: «لو لا أنزل عليه آية من ربه» مرة بعد مرة و «لست مرسلا» فلم يعبئوا بأمره و لم يبالوا به و أجاب الله عن قولهم مرة بعد مرة و لم يتعرض لأمر القرآن و لم يذكر أنه أعظم آية للرسالة و كان من الواجب ذلك فقوله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب» استيفاء لهذا الغرض الواجب الذي لا يتم البيان دونه و هذا من أحسن الشواهد على ما تقدم أن الآية كسائر السورة مكية.
و بهذا يتأيد ما ذكره جمع و وردت به الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن الآية نزلت في علي (عليه السلام) فلو انطبق قوله: «و من عنده علم الكتاب» على أحد ممن آمن بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ لكان هو فقد كان أعلم الأمة بكتاب الله و تكاثرت الروايات الصحيحة على ذلك و لو لم يرد فيه إلا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريق: «لن يفترقا حتى يردا علي الحوض» لكان فيه كفاية.
بحث روائي
في البصائر، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) يقول: في الآية: علي (عليه السلام):. أقول: و رواه أيضا بأسانيد عن جابر و بريد بن معاوية و فضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام) و بإسناده عن عبد الله بن بكير و عبد الله بن كثير الهاشمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و بإسناده عن سلمان الفارسي عن علي (عليه السلام).
و في الكافي، بإسناده عن بريد بن معاوية: في الآية قال: إيانا عنى و علي أولنا و أفضلنا و خيرنا بعد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المعاني، بإسناده عن خلف بن عطية العوفي عن أبي سعيد الخدري قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله جل ثناؤه: «قال الذي عنده علم من الكتاب» قال: ذاك وصي أخي سليمان بن داود فقلت له: يا رسول الله فقول الله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب» قال ذاك أخي علي بن أبي طالب.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عطاء قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): هذا ابن عبد الله بن سلام بن عمران يزعم أن أباه الذي يقول الله: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم - و من عنده علم الكتاب» قال: كذب، هو علي بن أبي طالب.
و في تفسير البرهان، عن ابن شهرآشوب قال: عن محمد بن مسلم و أبي حمزة الثمالي و جابر بن يزيد عن أبي جعفر (عليه السلام) و علي بن فضال و فضيل بن داود عن أبي بصير عن الصادق (عليه السلام) و أحمد بن محمد الكلبي و محمد بن الفضيل عن الرضا (عليه السلام) و قد روي عن موسى بن جعفر (عليه السلام) و عن زيد بن علي و عن محمد بن الحنفية و عن سلمان الفارسي و عن أبي سعيد الخدري و إسماعيل السدي أنهم قالوا: في قوله تعالى: «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب» هو علي بن أبي طالب (عليه السلام).
و في تفسير البرهان، عن الثعلبي في تفسيره بإسناده عن معاوية عن الأعمش عن أبي صالح عن ابن عباس و روي عن عبد الله بن عطاء عن أبي جعفر: أنه قيل له: زعموا أن الذي عنده علم الكتاب عبد الله بن سلام قال: لا ذلك علي بن أبي طالب.
و روي: أنه سئل سعيد بن جبير «و من عنده علم الكتاب» عبد الله بن سلام؟ قال: لا و كيف؟ و هذه السورة مكية:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن جبير.
و في تفسير البرهان، أيضا عن الفقيه ابن المغازلي الشافعي بإسناده عن علي بن عابس قال: دخلت أنا و أبو مريم على عبد الله بن عطاء قال يا أبا مريم حدث عليا بالحديث الذي حدثتني عن أبي جعفر. قال: كنت عند أبي جعفر جالسا إذ مر عليه ابن عبد الله بن سلام. قلت: جعلني الله فداك هذا ابن الذي عنده علم الكتاب. قال: لا و لكنه صاحبكم علي بن أبي طالب الذي نزلت فيه آيات من كتاب الله عز و جل: «و من عنده علم الكتاب» «أ فمن كان على بينة من ربه - و يتلوه شاهد منه» «إنما وليكم الله و رسوله» الآية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن مردويه من طريق عبد الملك بن عمير أن محمد بن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: قال عبد الله بن سلام: قد أنزل الله في القرآن «قل كفى بالله شهيدا بيني و بينكم و من عنده علم الكتاب».
أقول: و روي ما في معناه عن ابن مردويه عن زيد بن أسلم عن أبيه و عن جندب، و قد عرفت حال الرواية فيما تقدم، و قد روي عن ابن المنذر عن الشعبي: ما نزل في عبد الله بن سلام شيء من القرآن.
تم و الحمد لله.
|