بيان
السورة تتضمن الدعوة إلى الاعتقاد الحق و العمل الصالح بالإنذار و التبشير كما يلوح إليه ما افتتحت به من الآيتين و ما اختتمت به من قوله تعالى: «فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا».
و فيها مع ذلك عناية بالغة بنفي الولد كما يدل على ذلك تخصيص إنذار القائلين بالولد بالذكر ثانيا بعد ذكر مطلق الإنذار أولا أعني وقوع قوله: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» بعد قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه».
فوجه الكلام فيها إلى الوثنيين القائلين ببنوة الملائكة و الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين ببنوة المسيح (عليه السلام) و لعل اليهود يشاركونهم فيه حيث يذكر القرآن عنهم أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و غير بعيد أن يقال إن الغرض من نزول السورة ذكر القصص الثلاث العجيبة التي لم تذكر في القرآن الكريم إلا في هذه السورة و هي قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه في مسيرهما إلى مجمع البحرين و قصة ذي القرنين ثم استفيد منها ما استفرغ في السورة من الكلام في نفي الشريك و الحث على تقوى الله سبحانه.
و السورة مكية على ما يستفاد من سياق آياتها و قد استثني منها قوله: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم» الآية و سيجيء ما فيه من الكلام.
قوله تعالى: «الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب و لم يجعل له عوجا قيما» العوج بفتح العين و كسرها الانحراف، قال في المجمع،: العوج بالفتح فيما يرى كالقناة و الخشبة و بالكسر فيما لا يرى شخصا قائما كالدين و الكلام.
انتهى.
و لعل المراد بما يرى و ما لا يرى ما يسهل رؤيته و ما يشكل كما ذكره الراغب في المفردات، بقوله: العوج - بالفتح - يقال فيما يدرك بالبصر سهلا كالخشب المنتصب و نحوه و العوج - بالكسر - يقال فيما يدرك بالفكر و البصيرة كما يكون في أرض بسيط يعرف تفاوته بالبصيرة و كالدين و المعاش انتهى.
فلا يرد عليه ما في قوله تعالى: «لا ترى فيها عوجا - بكسر العين - و لا أمتا»: طه: 107 فافهم.
و قد افتتح تعالى الكلام في السورة بالثناء على نفسه بما نزل على عبده قرآنا لا انحراف فيه عن الحق بوجه و هو قيم على مصالح عباده في حياتهم الدنيا و الآخرة فله كل الحمد فيما يترتب على نزوله من الخيرات و البركات من يوم نزل إلى يوم القيامة فلا ينبغي أن يرتاب الباحث الناقد أن ما في المجتمع البشري من الصلاح و السداد من بركات ما بثه الأنبياء الكرام من الدعوة إلى القول الحق و الخلق الحسن و العمل الصالح و أن ما يمتاز به عصر القرآن في قرونه الأربعة عشر عما تقدمه من الأعصار من رقي المجتمع البشري و تقدمه في علم نافع أو عمل صالح للقرآن فيه أثره الخاص و للدعوة النبوية فيه أياديها الجميلة فلله في ذلك الحمد كله.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم في تفسير الآية: يعني قولوا الحمد لله الذي نزل «إلخ» ليس على ما ينبغي.
و قوله: «و لم يجعل له عوجا» الضمير للكتاب و الجملة حال عن الكتاب و قوله: «قيما» حال بعد حال على ما يفيده السياق فإنه تعالى في مقام حمد نفسه من جهة تنزيله كتابا موصوفا بأنه لا عوج له و أنه قيم على مصالح المجتمع البشري فالعناية متعلقة بالوصفين موزعة بينهما على السواء و هو مفاد كونهما حالين من الكتاب.
و قيل إن جملة «و لم يجعل له عوجا» معطوفة على الصلة و «قيما» حال من ضمير «له» و المعنى و الذي لم يجعل للكتاب حال كونه قيما عوجا أو أن «قيما» منصوب بمقدر، و المعنى: و الذي لم يجعل له عوجا و جعله قيما، و لازم الوجهين انقسام العناية بين أصل النزول و بين كون الكتاب قيما لا عوج له.
و قد عرفت أنه خلاف ما يستفاد من السياق.
و قيل: إن في الآية تقديما و تأخيرا، و التقدير نزل الكتاب قيما و لم يجعل له عوجا و هو أردأ الوجوه.
و قد قدم نفي العوج على إثبات القيمومة لأن الأول كمال الكتاب في نفسه و الثاني تكميله لغيره و الكمال مقدم طبعا على التكميل.
و وقوع «عوجا» و هو نكرة في سياق النفي يفيد العموم فالقرآن مستقيم في جميع جهاته فصيح في لفظه، بليغ في معناه، مصيب في هدايته، حي في حججه و براهينه، ناصح في أمره و نهيه، صادق فيما يقصه من قصصه و أخباره، فاصل فيما يقضي به محفوظ من مخالطة الشياطين، لا اختلاف فيه، و لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه.
و القيم هو الذي يقوم بمصلحة الشيء و تدبير أمره كقيم الدار و هو القائم بمصالحها و يرجع إليه في أمورها، و الكتاب إنما يكون قيما بما يشتمل عليه من المعاني، و الذي يتضمنه القرآن هو الاعتقاد الحق و العمل الصالح كما قال تعالى: «يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم»: الأحقاف: 30، و هذا هو الدين و قد وصف تعالى دينه في مواضع من كتابه بأنه قيم قال: «فأقم وجهك للدين القيم»: الروم: 43 و على هذا فتوصيف الكتاب بالقيم لما يتضمنه من الدين القيم على مصالح العالم الإنساني في دنياهم و أخراهم.
و ربما عكس الأمر فأخذ القيمومة وصفا للكتاب ثم للدين من جهته كما في قوله تعالى: «و ذلك دين القيمة»: البينة: 5 فالظاهر أن معناه دين الكتب القيمة و هو نوع تجوز.
و قيل: المراد بالقيم المستقيم المعتدل الذي لا إفراط فيه و لا تفريط، و قيل: القيم المدبر لسائر الكتب السماوية يصدقها و يحفظها و ينسخ شرائعها و تعقيب الكلمة بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين» إلخ يؤيد ما قدمناه.
قوله تعالى: «لينذر بأسا شديدا من لدنه و يبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات» الآية أي لينذر الكافرين عذابا شديدا صادرا من عند الله كذا قيل و الظاهر بقرينة تقييد المؤمنين المبشرين بقوله: «الذين يعملون الصالحات» إن التقدير لينذر الذين لا يعملون الصالحات أعم ممن لا يؤمن أصلا أو يؤمن و يفسق في عمله.
و الجملة على أي حال بيان لتنزيله الكتاب على عبده مستقيما قيما إذ لو لا استقامته في نفسه و قيمومته على غيره لم يستقم إنذار و لا تبشير و هو ظاهر.
و المراد بالأجر الحسن الجنة بقرينة قوله في الآية التالية: «ماكثين فيه أبدا» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا» و هم عامة الوثنيين القائلين بأن الملائكة أبناء أو بنات له و ربما قالوا بذلك في الجن و المصلحين من البشر و النصارى القائلين بأن المسيح ابن الله و قد نسب القرآن إلى اليهود أنهم قالوا: عزير ابن الله.
و ذكر إنذارهم خاصة ثانيا بعد ذكره على وجه العموم أولا بقوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه» لمزيد الاهتمام بشأنهم.
قوله تعالى: «ما لهم به من علم و لا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم» كانت عامتهم يريدون بقولهم: اتخذ الله ولدا حقيقة التوليد كما يدل عليه قوله أنى يكون له ولد و لم تكن له صاحبة و خلق كل شيء»: الأنعام: 101.
و قد رد سبحانه قولهم عليهم أولا بأنه قول منهم جهلا بغير علم و ثانيا بقوله في آخر الآية: «إن يقولون إلا كذبا».
و كان قوله: «ما لهم به من علم» شاملا لهم جميعا من آباء و أبناء لكنهم لما كانوا يحيلون العلم به إلى آبائهم قائلين إن هذه ملة آبائنا و هم أعلم منا و ليس لنا إلا أن نتبعهم و نقتدي بهم فرق تعالى بينهم و بين آبائهم فنفى العلم عنهم أولا و عن آبائهم الذين كانوا يركنون إليهم ثانيا ليكون إبطالا لقولهم و لحجتهم جميعا.
و قوله: «كبرت كلمة تخرج من أفواههم» ذم لهم و إعظام لقولهم: اتخذ الله ولدا لما فيه من عظيم الاجتراء على الله سبحانه بنسبة الشريك و التجسم و التركب و الحاجة إلى المعين و الخليفة إليه، تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
و ربما وقع في كلام أوائلهم إطلاق الابن على بعض خلقه بعناية التشريف للدلالة على قربه منه و اختصاصه به نظير قول اليهود فيما حكاه القرآن: عزير ابن الله، و قولهم: نحن أبناء الله و أحباؤه، و كذا وقع في كلام عدة من قدمائهم إطلاق الابن على بعض الخلق الأول بعناية صدوره منه كما يصدر الابن عن الأب و إطلاق الزوج و الصاحبة على وسائط الصدور و الإيجاد كما أن زوج الرجل واسطة لصدور الولد منه فأطلق على بعض الملائكة من الخلق الأول الزوج و على بعض آخر منهم الابن أو البنت.
و هذان الإطلاقان و إن لم يشتملا على مثل ما اشتمل عليه الإطلاق الأول لكونهما من التجوز بعناية التشريف و نحوه لكنهما ممنوعان شرعا و كفى ملاكا لحرمتهما سوقهما و سوق أمثالهما عامة الناس إلى الشقاء الدائم و الهلاك الخالد.
قوله تعالى: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» البخوع و البخع القتل و الإهلاك و الآثار علائم أقدام المارة على الأرض، و الأسف شدة الحزن و المراد بهذا الحديث القرآن.
و الآية و اللتان بعدها في مقام تعزية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسليته و تطييب نفسه و الفاء لتفريع الكلام على كفرهم و جحدهم بآيات الله المفهوم من الآيات السابقة و المعنى يرجى منك أن تهلك نفسك بعد إعراضهم عن القرآن و انصرافهم عنك من شدة الحزن، و قد دل على إعراضهم و توليهم بقوله: على آثارهم و هو من الاستعارة.
قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا» إلى آخر الآيتين الزينة الأمر الجميل الذي ينضم إلى الشيء فيفيده جمالا يرغب إليه لأجله و الصعيد ظهر الأرض و الجرز على ما في المجمع، الأرض التي لا تنبت كأنها تأكل النبت أكلا.
و لقد أتى في الآيتين ببيان عجيب في حقيقة حياة الإنسان الأرضية و هو أن النفوس الإنسانية - و هي في أصل جوهرها علوية شريفة - ما كانت لتميل إلى الأرض و الحياة عليها و قد قدر الله أن يكون كمالها و سعادتها الخالدة بالاعتقاد الحق و العمل الصالح فاحتالت العناية الإلهية إلى توقيفها موقف الاعتقاد و العمل و إيصالها إلى محك التصفية و التطهير و إسكانها الأرض إلى أجل معلوم بإلقاء التعلق و الارتباط بينها و بين ما على الأرض من أمتعة الحياة من مال و ولد و جاه و تحبيبه إلى قلوبهم فكان ما على الأرض و هو جميل عندهم محبوب في أنفسهم زينة للأرض و حلية تتحلى بها لكونه عليها فتعلقت نفوسهم على الأرض بسببه و اطمأنت إليها.
فإذا انقضى الأجل الذي أجله الله تعالى لمكثهم في الأرض بتحقق ما أراده من البلاء و الامتحان سلب الله ما بينهم و بين ما على الأرض من التعلق و محى ما له من الجمال و الزينة و صار كالصعيد الجرز الذي لا نبت فيه و لا نضارة عليه و نودي فيهم بالرحيل و هم فرادى كما خلقهم الله تعالى أول مرة.
و هذه سنة الله تعالى في خلق الإنسان و إسكانه الأرض و تزيينه ما عليها له ليمتحنه بذلك و يتميز به أهل السعادة من غيرهم فيأتي سبحانه بالجيل بعد الجيل و الفرد بعد الفرد فيزين له ما على وجه الأرض من أمتعة الحياة ثم يخليه و اختياره ليختبرهم بذلك ثم إذا تم الاختبار قطع ما بينه و بين زخارف الدنيا المزينة و نقله من دار العمل إلى دار الجزاء قال تعالى: «و لو ترى إذ الظالمون في غمرات الموت و الملائكة باسطوا أيديهم أخرجوا أنفسكم - إلى أن قال - و لقد جئتمونا فرادى كما خلقناكم أول مرة و تركتم ما خولناكم وراء ظهوركم و ما نرى معكم شفعاءكم الذين زعمتم أنهم فيكم شركاء لقد تقطع بينكم و ضل عنكم ما كنتم تزعمون»: الأنعام: 94.
فمحصل معنى الآية لا تتحرج و لا تأسف عليهم إذ أعرضوا عن دعوتك بالإنذار و التبشير و اشتغلوا بالتمتع من أمتعة الحياة فما هم بسابقين و لا معجزين و إنما حقيقة حياتهم هذه نوع تسخير إلهي أسكناهم الأرض ثم جعلنا ما على الأرض زينة يفتتن الناظر إليها لتتعلق به نفوسهم فنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون هذا الذي زين لهم بعينه كالصعيد الجرز الذي ليس فيه نبت و لا شيء مما يرغب فيه النفس فالله سبحانه لم يشأ منهم الإيمان جميعا حتى يكون مغلوبا بكفرهم بالكتاب و تماديهم في الضلال و تبخع أنت نفسك على آثارهم أسفا و إنما أراد بهم الابتلاء و الامتحان و هو سبحانه الغالب فيما شاء و أراد.
و قد ظهر بما تقدم أن قوله: «و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا» من الاستعارة بالكناية، و المراد به قطع رابطة التعلق بين الإنسان و بين أمتعة الحياة الدنيا مما على الأرض.
و ربما قيل: إن المراد به حقيقة معنى الصعيد الجرز، و المعنى أنا سنعيد ما على الأرض من زينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله صعيدا أملس لا نبات فيه و لا شيء عليه.
و قوله: «ما عليها» من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر و كان من طبع الكلام أن يقال: و إنا لجاعلوه، و لعل النكتة مزيد العناية بوصف كونه على الأرض.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن البرقي رفعه عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): لينذر بأسا شديدا من لدنه» قال: البأس الشديد علي (عليه السلام) و هو من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قاتل معه عدوه فذلك قوله: «لينذر بأسا شديدا من لدنه»: أقول: و رواه ابن شهرآشوب عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): و هو من التطبيق و ليس بتفسير.
و في تفسير القمي، في حديث أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «فلعلك باخع نفسك «يقول: قاتل نفسك على آثارهم، و أما أسفا يقول حزنا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و الحاكم في التاريخ، عن ابن عمر قال: تلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هذه الآية «لنبلوهم أيهم أحسن عملا» فقلت ما معنى ذلك يا رسول الله؟ قال: ليبلوكم أيكم أحسن عقلا و أورع عن محارم الله و أسرعكم في طاعة الله.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «صعيدا جرزا» قال: لا نبات فيها.
|