بيان
الآيات الست في منزلة الاستنتاج مما تقدم من آيات السورة الشارحة لافتنان المشركين بزينة الحياة الدنيا و اطمئنانهم بأولياء من دون الله و ابتلائهم بما ابتلوا به من غشاوة الأبصار و وقر الأذان و ما يتعقب ذلك من سوء العاقبة، و تمهيد لما سيأتي من قوله في آخر السورة: «قل إنما أنا بشر مثلكم» الآية.
قوله تعالى: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا» ظاهر السياق أن الخطاب للمشركين و هو مسوق سوق الكناية و هم المعنيون بالتوصيف و سيقترب من التصريح في قوله: «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه» فالمنكرون للنبوة و المعاد هم المشركون.
قيل: و لم يقل: بالأخسرين عملا، مع أن الأصل في التمييز أن يأتي مفردا و المصدر شامل للقليل و الكثير للإيذان بتنوع أعمالهم و قصد شمول الخسران لجميعها.
قوله تعالى: «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» إنباء بالأخسرين أعمالا و هم الذين عرض في الآية السابقة على المشركين أن ينبئهم بهم و يعرفهم إياهم فعرفهم بأنهم الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا، و ضلال السعي خسران ثم عقبه بقوله: «و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا» و بذلك تم كونهم أخسرين.
بيان ذلك: أن الخسران و الخسار في المكاسب و المساعي المأخوذة لغاية الاسترباح إنما يتحقق إذا لم يصب الكسب و السعي غرضه و انتهى إلى نقص في رأس المال أو ضيعة السعي و هو المعبر عنه في الآية بضلال السعي كأنه ضل الطريق فانتهى به السير إلى خلاف غرضه.
و الإنسان ربما يخسر في كسبه و سعيه لعدم تدرب في العمل أو جهل بالطريق أو لعوامل أخر اتفاقية و هي خسران يرجى زواله فإن من المرجو أن يتنبه به صاحبه ثم يستأنف العمل فيتدارك ما ضاع منه و يقضي ما فات، و ربما يخسر و هو يذعن بأنه يربح، و يتضرر و هو يعتقد أن ينتفع لا يرى غير ذلك و هو أشد الخسران لا رجاء لزواله.
ثم الإنسان في حياته الدنيا لا شأن له إلا السعي لسعادته و لا هم له فيما وراء ذلك فإن ركب طريق الحق و أصاب الغرض و هو حق السعادة فهو، و إن أخطأ الطريق و هو لا يعلم بخطإه فهو خاسر سعيا لكنه مرجو النجاة، و إن أخطأ الطريق و أصاب غير الحق و سكن إليه فصار كلما لاح له لائح من الحق ضربت عليه نفسه بحجاب الإعراض و زينت له ما هو فيه من الاستكبار و عصبية الجاهلية فهو أخسر عملا و أخيب سعيا لأنه خسران لا يرجى زواله و لا مطمع في أن يتبدل يوما سعادة، و هو قوله تعالى في تفسير الأخسرين أعمالا: «الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا».
و حسبانهم عملهم حسنا مع ظهور الحق و تبين بطلان أعمالهم لهم إنما هو من جهة انجذاب نفوسهم إلى زينات الدنيا و زخارفها و انغمارهم في الشهوات فيحبسهم ذلك عن الميل إلى اتباع الحق و الإصغاء إلى داعي الحق و منادي الفطرة قال تعالى: «و جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم»: النمل: 14 و قال: «و إذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم»: البقرة: 206 فاتباعهم هوى أنفسهم و مضيهم على ما هم عليه من الإعراض عن الحق عنادا و استكبارا و الانغمار في شهوات النفس ليس إلا رضى منهم بما هم عليه و استحسانا منهم لصنعهم.
قوله تعالى: «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه» تعريف ثان و تفسير بعد تفسير للأخسرين أعمالا، و المراد بالآيات - على ما يقتضيه إطلاق الكلمة - آياته تعالى في الآفاق و الأنفس و ما يأتي به الأنبياء و الرسل من المعجزات لتأييد رسالتهم فالكفر بالآيات كفر بالنبوة، على أن النبي نفسه من الآيات، و المراد بلقاء الله الرجوع إليه و هو المعاد.
فآل تعريف الأخسرين أعمالا إلى أنهم المنكرون للنبوة و المعاد و هذا من خواص الوثنيين.
قوله تعالى: «فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» وجه حبط أعمالهم أنهم لا يعملون عملا لوجه الله و لا يريدون ثواب الدار الآخرة و سعادة حياتها و لا أن الباعث لهم على العمل ذكر يوم الحساب و قد مر كلام في الحبط في مباحث الأعمال في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و قوله: «فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا» تفريع على حبط أعمالهم و الوزن يوم القيامة بثقل الحسنات على ما يدل عليه قوله تعالى: «و الوزن يومئذ الحق فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون و من خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم»: الأعراف: 9، و إذ لا حسنة للحبط فلا ثقل فلا وزن.
قوله تعالى: «ذلك جزاؤهم جهنم بما كفروا و اتخذوا آياتي و رسلي هزوا» الإشارة إلى ما أورده من وصفهم و اسم الإشارة خبر لمبتدإ محذوف و التقدير: الأمر ذلك أي حالهم ما وصفناه و هو تأكيد و قوله: «جزاؤهم جهنم» كلام مستأنف ينبىء عن عاقبة أمرهم.
و قوله: «بما كفروا و اتخذوا آياتي و رسلي هزوا» في معنى بما كفروا و ازدادوا كفرا باستهزاء آياتي و رسلي.
قوله تعالى: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات كانت لهم جنات الفردوس نزلا» الفردوس يذكر و يؤنث قيل: هي البستان بالرومية، و قيل: الكرم بالنبطية و أصله فرداسا، و قيل: جنة الأعناب بالسريانية، و قيل الجنة بالحبشية، و قيل: عربية و هي الجنة الملتفة بالأشجار و الغالب عليه الكرم.
و قد استفاد بعضهم من عده جنات الفردوس نزلا و قد عد سابقا جهنم للكافرين نزلا أن وراء الجنة و النار من الثواب و العقاب ما لم يوصف بوصف و ربما أيده أمثال قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35 و قوله: «فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين»: الم السجدة: 17، و قوله: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون».
قوله تعالى: «خالدين فيها لا يبغون عنها حولا» البغي الطلب، و الحول التحول، و الباقي ظاهر.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن أبي الطفيل قال: سمعت علي بن أبي طالب و سأله ابن الكوا فقال: من «هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا» قال: فجرة قريش.
و في تفسير العياشي، عن إمام بن ربعي قال: قال ابن الكوا إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: أخبرني عن قول الله: «قل هل ننبئكم إلى قوله صنعا» قال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربهم، و ابتدعوا في دينهم فحبطت أعمالهم و ما أهل النهر منهم ببعيد.
أقول: و روي أنهم النصارى، القمي عن أبي جعفر (عليه السلام) و الطبرسي في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام): أنهم أهل الكتاب و في الدر المنثور، عن ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن أبي خميصة عبد الله بن قيس عن علي (عليه السلام): أنهم الرهبان الذين حبسوا أنفسهم في السواري.
و الروايات جميعا من قبيل الجري، و الآيتان واقعتان في سياق متصل وجه الكلام فيه مع المشركين، و الآية الثالثة «أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه» الآية و هي تفسير الثانية أوضح انطباقا على الوثنيين منها على غيرهم كما مر فما عن القمي في تفسيره في ذيل الآية أنها نزلت في اليهود و جرت في الخوارج ليس بصواب.
في تفسير البرهان، عن محمد بن العباس بإسناده عن الحارث عن علي (عليه السلام) قال: لكل شيء ذروة و ذروة الجنة الفردوس، و هي لمحمد و آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة و أعلى الجنة، و فوقه عرش الرحمن، و منه تفجر أنهار الجنة.
و في المجمع، روى عبادة بن الصامت عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء و الأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنة الأربعة فإذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس.
أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
في تفسير القمي، عن جعفر بن أحمد عن عبيد الله بن موسى عن الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: قلت قوله: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات - كانت لهم جنات الفردوس نزلا» قال: نزلت في أبي ذر و سلمان و المقداد و عمار بن ياسر جعل الله لهم جنات الفردوس نزلا أي مأوى و منزلا.
أقول: و ينبغي أن يحمل على الجري أو المراد نزولها في المؤمنين حقا و إنما ذكر الأربعة لكونهم من أوضح المصاديق و إلا فالسورة مكية و سلمان رضي الله عنه ممن آمن بالمدينة.
|