بيان
الآيات تتضمن مثلين يبينان حقيقة ما يملكه الإنسان في حياته الدنيا من الأموال و الأولاد و هي زخارف الحياة و زيناتها الغارة السريعة الزوال و الفناء التي تتزين بها للإنسان فتلهيه عن ذكر ربه و تجذب وهمه إلى أن يخلد إليها و يعتمد عليها فيخيل إليه أنه يملكها و يقدر عليها حتى إذا طاف عليها طائف من الله سبحانه فنت و بادت و لم يبق للإنسان منها إلا كحلمة نائم و أمنية كاذبة.
فالآيات ترجع الكلام إلى توضيح ما أشار سبحانه إليه في قوله: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها - إلى قوله - صعيدا جرزا» من الحقيقة.
قوله تعالى: «و اضرب لهم مثلا رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب» إلخ أي و اضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الحياة الدنيا المعرضين عن ذكر الله مثلا ليتبين لهم أنهم لم يتعلقوا في ذلك إلا بسراب وهمي لا واقع له.
و قد ذكر بعض المفسرين أن الذي يتضمنه المثل قصة مقدرة مفروضة فليس من الواجب أن يتحقق مضمون المثل خارجا، و ذكر آخرون أنه قصة واقعة، و قد رووا في ذلك قصصا كثيرة مختلفة لا معول عليها غير أن التدبر في سياق القصة بما فيها من كونهما جنتين اثنتين و انحصار أشجارهما في الكرم و النخل و وقوع الزرع بينهما و غير ذلك يؤيد كونها قصة واقعة.
و قوله: «جنتين من أعناب» أي من كروم فالثمرة كثيرا ما يطلق على شجرتها و قوله: «و حففناهما بنخل» أي جعلنا النخل محيطة بهما حافة من حولهما و قوله: «و جعلنا بينهما زرعا» أي بين الجنتين و وسطهما، و بذلك تواصلت العمارة و تمت و اجتمعت له الأقوات و الفواكه.
قوله تعالى: «كلتا الجنتين آتت أكلها» الآية الأكل بضمتين المأكول و المراد بإيتائهما الأكل إثمار أشجارهما من الأعناب و النخيل.
و قوله: «و لم تظلم منه شيئا» الظلم النقص، و الضمير للأكل أي و لم تنقص من أكله شيئا بل أثمرت ما في وسعها من ذلك، و قوله: «و فجرنا خلالهما نهرا» أي شققنا وسطهما نهرا من الماء يسقيهما و يرفع حاجتهما إلى الشرب بأقرب وسيلة من غير كلفة.
قوله تعالى: «و كان له ثمر» الضمير للرجل و الثمر أنواع المال كما في الصحاح، و عن القاموس، و قيل: الضمير للنخل و الثمر ثمره، و قيل: المراد كان للرجل ثمر ملكه من غير جنته.
و أول الوجوه أوجهها ثم الثاني و يمكن أن يكون المراد من إيتاء الجنتين أكلها من غير ظلم بلوغ أشجارهما في الرشد مبلغ الإثمار و أوانه، و من قوله: «و كان له ثمر» وجود الثمر على أشجارهما بالفعل كما في الصيف و هو وجه خال عن التكلف.
قوله تعالى: «فقال لصاحبه و هو يحاوره أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا» المحاورة المخاطبة و المراجعة في الكلام، و النفر الأشخاص يلازمون الإنسان نوع ملازمة سموا نفرا لأنهم ينفرون معه و لذلك فسره بعضهم بالخدم و الولد، و آخرون بالرهط و العشيرة و الأول أوفق بما سيحكيه الله تعالى من قول صاحبه له: «إن ترن أنا أقل منك مالا و ولدا» حيث بدل النفر من الولد، و المعنى فقال الذي جعلنا له الجنتين لصاحبه و الحال أنه يحاوره: «أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا» أي ولدا و خدما.
و هذا الذي قاله لصاحبه يحكي عن مزعمة خاصة عنده منحرفة عن الحق فإنه نظر إلى نفسه و هو مطلق التصرف فيما خوله الله من مال و ولد لا يزاحم فيما يريده في ذلك فاعتقد أنه مالكه و هذا حق لكنه نسي أن الله سبحانه هو الذي ملكه و هو المالك لما ملكه و الذي سخره الله له و سلطه عليه من زينة الحياة الدنيا التي هي فتنة و بلاء يمتحن بها الإنسان ليميز الله الخبيث من الطيب بل اجتذبت الزينة نفسه إليها فحسب أنه منقطع عن ربه مستقل بنفسه فيما يملكه، و أن التأثير كله عند الأسباب الظاهرية التي سخرت له.
فنسي الله سبحانه و ركن إلى الأسباب و هذا هو الشرك ثم التفت إلى نفسه فرأى أنه يتصرف في الأسباب مهيمنا عليها فظن ذلك كرامة لنفسه و أخذه الكبر فاستكبر على صاحبه، و إلى ذلك يرجع اختلاف الوصفين أعني وصفه تعالى لملكه إذ قال: «جعلنا لأحدهما جنتين» إلخ و لم يقل: كان لأحدهما جنتان، و وصف الرجل نفسه إذ قال لصاحبه: «أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا» فلم ير إلا نفسه و نسي أن ربه هو الذي سلطه على ما عنده من المال و أعزه بمن عنده من النفر فجرى قوله لصاحبه «أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا مجرى قول قارون لمن نصحه أن لا يفرح و يحسن بما آتاه الله من المال: «إنما أوتيته على علم»: القصص: 78.
و هذا الذي يكشف عنه قوله: «أنا أكثر منك مالا» إلخ أعني دعوى الكرامة النفسية و الاستحقاق الذاتي ثم الشرك بالله بالغفلة عنه و الركون إلى الأسباب الظاهرية هو الذي أظهره حين دخل جنته فقال كما حكاه الله: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا و ما أظن الساعة قائمة» إلخ.
قوله تعالى: «و دخل جنته و هو ظالم لنفسه قال» إلى آخر الآيتين.
الضمائر الأربع راجعة إلى الرجل، و المراد بالجنة جنسها و لذا لم تثن، و قيل: لأن الدخول لا يتحقق في الجنتين معا في وقت واحد، و إنما يكون في الواحدة بعد الواحدة.
و قال في الكشاف،: فإن قلت: فلم أفرد الجنة بعد التثنية؟ قلت: معناه و دخل ما هو جنته ما له جنة غيرها يعني أنه لا نصيب له في الجنة التي وعد المؤمنون فما ملكه في الدنيا هو جنته لا غير، و لم يقصد الجنتين و لا واحدة منهما.
انتهى و هو وجه لطيف.
و قوله: «و هو ظالم لنفسه» و إنما كان ظالما لأنه تكبر على صاحبه إذ قال: «أنا أكثر منك مالا» إلخ و هو يكشف عن إعجابه بنفسه و شركه بالله بنسيانه و الركون إلى الأسباب الظاهرية، و كل ذلك من الرذائل المهلكة.
و قوله: «قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا» البيد و البيدودة الهلاك و الفناء و الإشارة بهذه إلى الجنة، و فصل الجملة لكونها في معنى جواب سؤال مقدر كأنه لما قيل: و دخل جنته قيل: فما فعل؟ فقيل: قال: ما أظن أن تبيد إلخ.
و قد عبر عن بقاء جنته بقوله: «ما أظن أن تبيد» إلخ و نفي الظن بأمر كناية عن كونه فرضا و تقديرا لا يلتفت إليه حتى يظن به و يمال إليه فمعنى ما أظن أن تبيد هذه أن بقاءه و دوامه مما تطمئن إليه النفس و لا تتردد فيه حتى تتفكر في بيده و تظن أنه سيفنى.
و هذا حال الإنسان فإن نفسه لا تتعلق بالشيء الفاني من جهة أنه متغير يسرع إليه الزوال، و إنما يتعلق القلب عليه بما يشاهد فيه من سمة البقاء كيفما كان فينجذب إليه و لا يلوي عنه إلى شيء من تقادير فنائه، فتراه إذا أقبلت عليه الدنيا اطمأن إليها و أخذ في التمتع بزينتها و الانقطاع إليها، و اعتورته أهواؤه و طالت آماله كأنه لا يرى لنفسه فناء، و لا لما بيده من النعمة زوالا و لا لما ساعدته عليه من الأسباب انقطاعا، و تراه إذا أدبرت عنه الدنيا أخذه اليأس و القنوط فأنساه كل رجاء للفرج و سجل عليه أنه سيدوم و يدوم عليه الشقاء و سوء الحال.
و السبب في ذلك كله ما أودعه الله في فطرته من التعلق بهذه الزينة الفانية فتنة و امتحانا فإذا أعرض عن ذكر ربه انقطع إلى نفسه و الزينة الدنيوية التي بين يديه و الأسباب الظاهرية التي أحاطت به و تعلق على حاضر الوضع الذي يشاهده، و دعته جاذبة الزينات و الزخارف أن يجمد عليها و لا يلتفت إلى فنائها و هو القول بالبقاء، و كلما قرعته قارعة العقل الفطري أن الدهر سيغدر به، و الأسباب ستخذله، و أمتعة الحياة ستودعه، و حياته المؤجلة ستبلغ أجلها، منعه اتباع الأهواء و طول الآمال الإصغاء لها و الالتفات إليها.
و هذا شأن أهل الدنيا لا يزالون على تناقض من الرأي يعملون ما يصدقونه بأهوائهم و يكذبونه بعقولهم لكنهم يطمئنون إلى رأي الهوى فيمنعهم عن الالتفات إلى قضاء العقل.
و هذا معنى قولهم بدوام الأسباب الظاهرية و بقاء زينة الحياة الدنيا و لهذا قال فيما حكاه الله: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» و لم يقل: هذه لا تبيد أبدا.
و قوله: «و ما أظن الساعة قائمة» هو مبني على ما مر من التأبيد في قوله: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» فإنه يورث استبعاد تغير الوضع الحاضر بقيام الساعة، و كل ما حكاه الله سبحانه من حجج المشركين على نفي المعاد مبني على الاستبعاد كقولهم: «من يحيي العظام و هي رميم»: يس: 78 و قولهم: «أ إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد»: الم السجدة: 10.
و قوله: «و لئن رددت إلى ربي لأجدن خيرا منها منقلبا» مبني على ما تقدم من دعوى كرامة النفس و استحقاق الخير، و يورث ذلك في الإنسان رجاء كاذبا بكل خير و سعادة من غير عمل يستدعيه يقول: من المستبعد أن تقوم الساعة و لئن قامت و رددت إلى ربي لأجدن بكرامة نفسي - و لا يقول: يؤتيني ربي - خيرا من هذه الجنة منقلبا أنقلب إليه.
و قد خدعت هذا القائل نفسه فيما ادعت من الكرامة حتى أقسم على ما قال كما يدل عليه لام القسم في قوله: «و لئن رددت» و لام التأكيد و نونها في قوله: «لأجدن» و قال: «رددت» و لم يقل: ردني ربي إليه، و قال: «لأجدن» و لم يقل: آتاني الله.
و الآيتان كقوله تعالى: «و لئن أذقناه رحمة منا من بعد ضراء مسته ليقولن هذا لي و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50.
قوله تعالى: «قال له صاحبه و هو يحاوره أ كفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا» الآية و ما بعدها إلى تمام أربع آيات رد من صاحب الرجل يرد به قوله: «أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا» ثم قوله إذ دخل جنته «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» و قد حلل الكلام من حيث غرض المتكلم إلى جهتين: إحداهما استعلاؤه على الله سبحانه بدعوى استقلاله في نفسه و فيما يملكه من مال و نفر و استثناؤه بما عنده من القدرة و القوة و الثانية استعلاؤه على صاحبه و استهانته به بالقلة و الذلة ثم رد كلا من الدعويين بما يحسم مادتها و يقطعها من أصلها فقوله: «أ كفرت بالذي خلقك - إلى قوله - إلا بالله» رد لأولى الدعويين، و قوله «إن ترن أنا أقل - إلى قوله - طلبا» رد للثانية.
فقوله: «قال له صاحبه و هو يحاوره» في إعادة جملة «و هو يحاوره» إشارة إلى أنه لم ينقلب عما كان عليه من سكينة الإيمان و وقاره باستماع ما استمعه من الرجل بل جرى على محاورته حافظا آدابه و من أدبه إرفاقه به في الكلام و عدم خشونته بذكر ما يعد دعاء عليه يسوؤه عادة فلم يذكر ولده بسوء كما ذكر جنته بل اكتفى فيه بما يرمز إليه ما ذكره في جنته من إمكان صيرورتها صعيدا زلقا و غور مائها.
و قوله: «أ كفرت بالذي خلقك» إلخ الاستفهام للإنكار ينكر عليه ما اشتمل عليه كلامه من الشرك بالله سبحانه بدعوى الاستقلال لنفسه و للأسباب و المسببات كما تقدمت الإشارة إليه و من فروع شركه استبعاده قيام الساعة و تردده فيه.
و أما ما ذكره في الكشاف، أنه جعله كافرا بالله جاحدا لأنعمه لشكه في البعث كما يكون المكذب بالرسول كافرا فغير سديد كيف؟ و هو يذكر في استدراكه نفي الشرك عن نفسه، و لو كان كما قال لذكر فيه الإيمان بالمعاد.
فإن قلت: الآيات صريحة في شرك الرجل، و المشركون ينكرون المعاد.
قلت لم يكن الرجل من المشركين بمعنى عبدة الأصنام و قد اعترف في خلال كلامه بما لا تجيزه أصول الوثنية فقد عبر عنه سبحانه بقوله: «ربي» و لا يراه الوثنيون ربا للإنسان و لا إلها معبودا و إنما هو عندهم رب الأرباب و إله الآلهة، و لم ينف المعاد من أصله كما تقدمت الإشارة إليه بل تردد فيه و استبعده بالإعراض عن التفكر فيه و لو نفاه لقال: و لو رددت و لم يقل: و لئن رددت إلى ربي.
فما يذكر لأمره من الأثر السيىء في الآية إنما هو لشركه بمعنى نسيانه ربه و دعواه الاستقلال لنفسه و للأسباب الظاهرية ففيه عزله تعالى عن الربوبية و إلقاء زمام الملك و التدبير إلى غيره فهذا هو أصل الفساد الذي عليه ينشأ كل فرع فاسد سواء اعترف معه بلسانه بالتوحيد أو أنكره و أثبت الآلهة، قال الزمخشري في قوله تعالى: «قال ما أظن أن تبيد هذه أبدا» و نعم ما قال: و ترى أكثر الأغنياء من المسلمين و إن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم فإن ألسنة أحوالهم ناطقة به منادية عليه.
انتهى.
و قد أبطل هذا المؤمن دعوى صاحبه الكافر بقوله: «أ كفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا» بإلفات نظره إلى أصله و هو التراب ثم النطفة فإن ذلك هو أصل الإنسان فما زاد على ذلك حتى يصير الإنسان إنسانا سويا ذا صفات و آثار من موهبة الله محضا لا يملك أصله شيئا من ذلك، و لا غيره من الأسباب الظاهرية الكونية فإنها أمثال الإنسان لا تملك شيئا من نفسها و آثار نفسها إلا بموهبة من الله سبحانه.
فما عند الإنسان و هو رجل سوي من الإنسانية و آثارها من علم و حياة و قدرة و تدبير يسخر بها الأسباب الكونية في سبيل الوصول إلى مقاصده و مآربه كل ذلك مملوكة لله محضا، آتاها الإنسان و ملكه إياها و لم يخرج بذلك عن ملك الله و لا انقطع عنه بل تلبس الإنسان منها بما تلبس فانتسب إليه بمشيته و لو لم يشأ لم يملك الإنسان شيئا من ذلك فليس للإنسان أن يستقل عنه تعالى في شيء من نفسه و آثار نفسه و لا لشيء من الأسباب الكونية ذلك.
يقول: إنك ذاك التراب ثم المني الذي ما كان يملك من الإنسانية و الرجولية و آثار ذلك شيئا و الله سبحانه هو الذي آتاكها بمشيته و ملكها إياك و هو المالك لما ملكك فما لك تكفر به و تستر ربوبيته؟ و أين أنت و الاستقلال؟.
قوله تعالى: «لكنا هو الله ربي و لا أشرك بربي أحدا» القراءة المشهورة «لكن» بفتح النون المشددة من غير ألف في الوصل و إثباتها وقفا.
و أصله على ما ذكروه «لكن أنا» حذفت الهمزة بعد نقل فتحتها إلى النون و أدغمت النون في النون فالوصل بنون مشددة مفتوحة من غير ألف و الوقف بالألف كما في «أنا» ضمير التكلم.
و قد كرر في الآية لفظ «ربي» و الثاني من وضع الظاهر موضع المضمر و حق السياق «و لا أشرك به أحدا» و ذلك للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه بالوصف كأنه قال: و لا أشرك به أحدا لأنه ربي و لا يجوز الإشراك به لربوبيته.
و هذا بيان حال من المؤمن قبال ما ادعاه الكافر لنفسه و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و لو لا إذ دخلت جنتك قلت ما شاء الله لا قوة إلا بالله» من تتمة قول المؤمن لصاحبه الكافر، و هو تحضيض و توبيخ لصاحبه إذ قال لما دخل جنته: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» و كان عليه أن يبدله من قوله: «ما شاء الله لا قوة إلا بالله» فينسب الأمر كله إلى مشية الله و يقصر القوة فيه تعالى مبنيا على ما بينه له أن كل نعمة بمشية الله و لا قوة إلا به.
و قوله: «ما شاء الله» إما على تقدير: الأمر ما شاءه الله، أو على تقدير: ما شاءه الله كائن، و ما على التقديرين موصولة و يمكن أن تكون شرطية و التقدير ما شاءه الله كان، و الأوفق بسياق الكلام هو أول التقادير لأن الغرض بيان رجوع الأمور إلى مشية الله تعالى قبال من يدعي الاستقلال و الاستغناء.
و قوله: «لا قوة إلا بالله» يفيد قيام القوة بالله و حصر كل قوة فيه بمعنى أن ما ظهر في مخلوقاته تعالى من القوة القائمة بها فهو بعينه قائم به من غير أن ينقطع ما أعطاه منه فيستقل به الخلق قال تعالى: «إن القوة لله جميعا»: البقرة: 165.
و قد تم بذلك الجواب عما قاله الكافر لصاحبه و ما قاله عند ما دخل جنته.
قوله تعالى: «إن ترن أنا أقل منك مالا و ولدا فعسى» إلى آخر الآيتين قال في المجمع،: أصل الحسبان السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد و كان ذلك من رمي الأساورة، و أصل الباب الحساب، و إنما يقال لما يرمى به: حسبان لأنه يكثر كثرة الحساب.
قال: و الزلق الأرض الملساء المستوية لا نبات فيها و لا شيء و أصل الزلق ما تزلق عنه الأقدام فلا تثبت عليه.
انتهى.
و قد تقدم أن الصعيد هو سطح الأرض مستويا لا نبات عليه، و المراد بصيرورة الماء غورا صيرورته غائرا ذاهبا في باطن الأرض.
و الآيتان كما تقدمت الإشارة إليه رد من المؤمن لصاحبه الكافر من جهة ما استعلى عليه بأنه أكثر منه مالا و أعز نفرا، و ما أورده من الرد مستخرج من بيانه السابق و محصله أنه لما كانت الأمور بمشية الله و قوته و قد جعلك أكثر مني مالا و أعز نفرا فالأمر في ذلك إليه لا إليك حتى تتبجح و تستعلي علي فمن الممكن المرجو أن يعطيني خيرا من جنتك و يخرب جنتك فيديرني إلى حال أحسن من حالك اليوم و يديرك إلى حال أسوأ من حالي اليوم فيجعلني أغنى منك بالنسبة إلي و يجعلك أفقر مني بالنسبة إليك.
و الظاهر أن تكون «ترن» في قوله: «إن ترن أنا أقل» إلخ من الرأي بمعنى الاعتقاد فيكون من أفعال القلوب، و «أنا» ضمير فصل متخلل بين مفعوليه اللذين هما في الأصل مبتدأ و خبر، و يمكن أن يكون من الرؤية بمعنى الإبصار فأنا ضمير رفع أكد به مفعول ترن المحذوف من اللفظ.
و معنى الآية إن ترني أنا أقل منك مالا و ولدا فلا بأس و الأمر في ذلك إلى ربي فعسى ربي أن يؤتيني خيرا من جنتك و يرسل عليها أي على جنتك مرامي من عذابه السماوي كبرد أو ريح سموم أو صاعقة أو نحو ذلك فتصبح أرضا خالية ملساء لا شجر عليها و لا زرع، أو يصبح ماؤها غائرا فلن تستطيع أن تطلبه لإمعانه في الغور.
قوله تعالى: «و أحيط بثمره فأصبح يقلب كفيه» إلى آخر الآية الإحاطة بالشيء كناية عن هلاكه، و هي مأخوذة من إحاطة العدو و استدارته به من جميع جوانبه بحيث ينقطع عن كل معين و ناصر و هو الهلاك، قال تعالى: «و ظنوا أنهم أحيط بهم»: يونس: 22.
و قوله: «فأصبح يقلب كفيه» كناية عن الندامة فإن النادم كثيرا ما يقلب كفيه ظهرا لبطن، و قوله: «و هي خاوية على عروشها» كناية عن كمال الخراب كما قيل فإن البيوت الخربة المنهدمة تسقط أولا عروشها و هي سقوفها على الأرض ثم تسقط جدرانها على عروشها الساقطة و الخوي السقوط و قيل: الأصل في معنى الخلو.
و قوله: «و يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا» أي يا ليتني لم أتعلق بما تعلقت به و لم أركن و لم أطمأن إلى هذه الأسباب التي كنت أحسب أن لها استقلالا في التأثير و كنت أرجع الأمر كله إلى ربي فقد ضل سعيي و هلكت نفسي.
و المعنى: و أهلكت أنواع ماله أو فسد ثمر جنته فأصبح نادما على المال الذي أنفق و الجنة خربة و يقول يا ليتني لم أشرك بربي أحدا و لم أسكن إلى ما سكنت إليه و اغتررت به من نفسي و سائر الأسباب التي لم تنفعني شيئا.
قوله تعالى: «و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله و ما كان منتصرا» الفئة الجماعة، و المنتصر الممتنع.
و كما كانت الآيات الخمس الأولى أعني قوله: «قال له صاحبه - إلى قوله - طلبا» بيانا قوليا لخطإ الرجل في كفره و شركه كذلك هاتان الآيتان أعني قوله: «و أحيط بثمره - إلى قوله - و ما كان منتصرا» بيان فعلي له أما تعلقه بدوام الدنيا و استمرار زينتها في قوله: «ما أظن أن تبيد هذه أبدا» فقد جلى له الخطأ فيه حين أحيط بثمره فأصبحت جنته خاوية على عروشها، و أما سكونه إلى الأسباب و ركونه إليها و قد قال لصاحبه أنا أكثر منك مالا و أعز نفرا» فبين خطاؤه فيه بقوله تعالى: «و لم تكن له فئة ينصرونه من دون الله» و أما دعوى استقلاله بنفسه و تبجحه بها فقد أشير إلى جهة بطلانها بقوله تعالى: «و ما كان منتصرا».
قوله تعالى: «هنالك الولاية لله الحق هو خير ثوابا و خير عقبا» القراءة المشهورة «الولاية» بفتح الواو و قرىء بكسرها و المعنى واحد، و ذكر بعضهم أنها بفتح الواو بمعنى النصرة و بكسرها بمعنى السلطان، و لم يثبت و كذا «الحق» بالجر، و الثواب مطلق التبعة و الأجر و غلب في الأجر الحسن الجميل، و العقب بالضم فالسكون و بضمتين: العاقبة.
ذكر المفسرون أن الإشارة بقوله: «هنالك» إلى معنى قوله: «أحيط بثمره» أي في ذلك الموضع أو في ذلك الوقت و هو موضع الإهلاك و وقته الولاية لله، و أن الولاية بمعنى النصرة أي إن الله سبحانه هو الناصر للإنسان حين يحيط به البلاء و ينقطع عن كافة الأسباب لا ناصر غيره.
و هذا معنى حق في نفسه لكنه لا يناسب الغرض المسوق له الآيات و هو بيان أن الأمر كله لله سبحانه و هو الخالق لكل شيء المدبر لكل أمر، و ليس لغيره إلا سراب الوهم و تزيين الحياة لغرض الابتلاء و الامتحان، و لو كان كما ذكروه لكان الأنسب توصيفه تعالى في قوله: «لله الحق» بالقوة و العزة و القدرة و الغلبة و نحوها لا بمثل الحق الذي يقابل الباطل، و أيضا لم يكن لقوله: «هو خير ثوابا و خير عقبا» وجه ظاهر و موقع جميل.
و الحق و الله أعلم أن الولاية بمعنى مالكية التدبير و هو المعنى الساري في جميع اشتقاقاتها كما مر في الكلام على قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله»: المائدة: 55 أي عند إحاطة الهلاك و سقوط الأسباب عن التأثير و تبين عجز الإنسان الذي كان يرى لنفسه الاستقلال و الاستغناء ولاية أمر الإنسان و كل شيء و ملك تدبيره لله لأنه إله حق له التدبير و التأثير بحسب واقع الأمر و غيره من الأسباب الظاهرية المدعوة شركاء له في التدبير و التأثير باطل في نفسه لا يملك شيئا من الأثر إلا ما أذن الله له و ملكه إياه و ليس له من الاستقلال إلا اسمه بحسب ما توهمه الإنسان فهو باطل في نفسه حق بالله سبحانه و الله هو الحق بذاته المستقل الغني في نفسه.
و إذا أخذ بالقياس بينه - تعالى عن القياس - و بين غيره من الأسباب المدعوة شركاء في التأثير كان الله سبحانه خيرا منها ثوابا فإنه يثيب من دان له ثوابا حقا و هي تثيب من دان لها و تعلق بها ثوابا باطلا زائلا لا يدوم و هو مع ذلك من الله و بإذنه، و كان الله سبحانه خيرا منها عاقبة لأنه سبحانه هو الحق الثابت الذي لا يفنى و لا يزول و لا يتغير عما هو عليه من الجلال و الإكرام، و هي أمور فانية متغيرة جعلها الله زينة للحياة الدنيا يتوله إليها الإنسان و تتعلق بها قلبه حتى يبلغ الكتاب أجله و إن الله لجاعلها صعيدا جرزا.
و إذا كان الإنسان لا غنى له عن التعلق بشيء ينسب إليه التدبير و يتوقع منه إصلاح شأنه فربه خير له من غيره لأنه خير ثوابا و خير عقبا.
و ذكر بعضهم أن الإشارة بقوله: «هنالك» إلى يوم القيامة فيكون المراد بالثواب و العقب ما في ذلك اليوم.
و السياق كما تعلم لا يساعد على شيء من ذلك.
قوله تعالى: «و اضرب لهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء» إلخ هذا هو المثل الثاني ضرب لتمثيل الحياة الدنيا بما يقارنها من الزينة السريعة الزوال.
و الهشيم فعيل بمعنى مفعول من الهشم، و هو على ما قال الراغب كسر الشيء الرخو كالنبات، و ذرا يذرو ذروا أي فرق، و قيل: أي جاء به و ذهب، و قوله: «فاختلط به نبات الأرض» و لم يقل: اختلط بنبات الأرض إشارة إلى غلبته في تكوين النبات على سائر أجزائه، و لم يذكر مع ماء السماء غيره من مياه العيون و الأنهار لأن مبدأ الجميع ماء المطر، و قوله: «فأصبح هشيما» أصبح فيه - كما قيل - بمعنى صار فلا يفيد تقييد الخبر بالصباح.
و المعنى: و اضرب لهؤلاء المتولهين بزينة الدنيا المعرضين عن ذكر ربهم مثل الحياة الدنيا كماء أنزلناه من السماء و هو المطر فاختلط به نبات الأرض فرف نضارة و بهجة و ظهر بأجمل حلية فصار بعد ذلك هشيما مكسرا متقطعا تعبث به الرياح تفرقة و تجيء به و تذهب و كان الله على كل شيء مقتدرا.
قوله تعالى: «المال و البنون زينة الحياة الدنيا» إلى آخر الآية الآية بمنزلة النتيجة للمثل السابق و هي أن المال و البنين و إن تعلقت بها القلوب و تاقت إليها النفوس تتوقع منها الانتفاع و تحف بها الآمال لكنها زينة سريعة الزوال غارة لا يسعها أن تثيبه و تنفعه في كل ما أراده منها و لا أن تصدقه في جميع ما يأمله و يتمناه بل و لا في أكثره ففي الآية - كما ترى - انعطاف إلى بدء الكلام أعني قوله: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها» الآيتين.
و قوله: «و الباقيات الصالحات خير عند ربك ثوابا و خير أملا» المراد بالباقيات الصالحات الأعمال الصالحة فإن أعمال الإنسان محفوظة له عند الله بنص القرآن فهي باقية و إذا كانت صالحة فهي باقيات صالحات، و هي عند الله خير ثوابا لأن الله يجازي الإنسان الجائي بها خير الجزاء، و خير أملا لأن ما يؤمل بها من رحمة الله و كرامته ميسور للإنسان فهي أصدق أملا من زينات الدنيا و زخارفها التي لا تفي للإنسان في أكثر ما تعد، و الآمال المتعلقة بها كاذبة على الأغلب و ما صدق منها غار خدوع.
و قد ورد من طرق الشيعة و أهل السنة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من طرق الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عدة من الروايات: أن الباقيات الصالحات التسبيحات الأربع: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و في أخرى أنها الصلاة و في أخرى مودة أهل البيت و هي جميعا من قبيل الجري و الانطباق على المصداق.
|