بيان
تشتمل السورة على الكلام حول استهزاء الكفار بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رميه بالجنون و رمي القرآن الكريم بأنه من إهذار المجانين ففيها تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمره بالصبر و الثبات و الصفح عنهم و تطييب لنفسه الشريفة و إنذار و تبشير.
و هي مكية على ما تشهد به آياتها، و نقل في المجمع عن الحسن استثناء قوله: «و لقد آتيناك سبعا من المثاني» الآية، و قوله «كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين» و سيأتي ما فيه.
و تشتمل السورة على قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين» إلخ، و الآية تقبل الانطباق على ما ضبطه التاريخ أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) اكتتم في أول البعثة ثلاث سنين أو أربعا أو خمسا لا يعلن دعوته لاشتداد الأمر عليه فكان لا يدعو إلا آحادا ممن يرجو منهم الإيمان يدعوهم خفية و يسر إليهم الدعوة حتى أذن له ربه في ذلك و أمره أن يعلن دعوته.
و تؤيده الروايات المأثورة من طرق الشيعة و أهل السنة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يكتتم في أول بعثته سنين لا يظهر فيها دعوته لعامة الناس حتى أنزل الله تعالى عليه: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين إنا كفيناك المستهزءين» فخرج إلى الناس و أظهر الدعوة، و عليه فالسورة مكية نازلة في أول الدعوة العلنية.
و من غرر الآيات القرآنية المشتملة على حقائق جمة في السورة قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه» الآية، و قوله: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون».
قوله تعالى: «الر تلك آيات الكتاب و قرآن مبين» الإشارة إلى الآيات الكريمة القرآنية فالمراد بالكتاب القرآن، و تنكير القرآن للدلالة على عظم شأنه و فخامة أمره كما أن التعبير بتلك و هي للإشارة إلى البعيد لذلك.
و المعنى هذه الآيات العالية منزلة الرفيعة درجة التي ننزلها إليك آيات الكتاب الإلهي و آيات قرآن عظيم الشأن فاصل بين الحق.
و الباطل على خلاف ما يرميها به الكفار بما يرمونك بالجنة مستهزءين بكلام الله.
و من الممكن أن يراد بالكتاب اللوح المحفوظ فإن القرآن منه و فيه قال تعالى:» إنه لقرآن كريم في كتاب مكنون»: الواقعة: 78، و قال: «بل هو قرآن مجيد في لوح محفوظ»: البروج: 22 فيكون قوله: «تلك آيات الكتاب و قرآن مبين» كالملخص من قوله: «و الكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون و إنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم»: الزخرف: 4.
قوله تعالى: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين توطئة لما سيتعرض له من قولهم للنبي: «يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون» يشير به إلى أنهم سيندمون على ما هم عليه من الكفر و يتمنون الإسلام لله و الإيمان بكتابه يوم لا سبيل لهم إلى تحصيل ذلك.
فقوله: «ربما يود» المراد به ودادة التمني لا مطلق الودادة و الحب، و الدليل على ذلك قوله في بيان هذه المودة: «لو كانوا مسلمين» فإن لفظي «لو» و «كانوا» تدلان على أن ودادتهم ودادة تمن و أنهم يتمنون الإسلام بالنسبة إلى ماضي حالهم مما فاتهم و لن يعود إليهم فليس إلا الإسلام ما داموا في الدنيا.
فالآية تدل على أن الذين كفروا سيندمون على كفرهم و يتمنون أن لو كانوا مسلمين بعد انطواء بساط الحياة الدنيا.
قوله تعالى: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل فسوف يعلمون» الإلهاء الصرف و الإشغال يقال: ألهاه كذا عن كذا أي شغله عنه و أنساه ذكره.
و قوله: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل» أمر برفع اليد عنهم و تركهم و ما هم فيه من الباطل، و هو كناية عن النهي عن الجدال معهم و الاحتجاج عليهم لإثبات هذه الحقيقة و هي أنهم سوف يودون الإسلام و يتمنونه و لا سبيل لهم إلى تحصيله و تدارك ما فات منه، و قوله: «فسوف يعلمون» في موضع التعليل للأمر أي ذرهم و لا تجادلهم و لا تحاجهم فلا حاجة إلى ذلك لأنهم سوف يعلمون ذلك فإن الحق ظاهر لا محالة.
و في الآية تعريض لهم أنهم لا غاية لهم في حياتهم إلا الأكل و التمتع بلذات المادة و التلهي بالآمال و الأماني فلا منطق لهم إلا منطق الأنعام و الحيوان العجم فمن الحري أن يتركوا و ما هم فيه، و لا يلقى إليهم الحجج الحقة المبنية على أساس العقل السليم و المنطق الإنساني.
قوله تعالى: «و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم» إلى آخر الآيتين تثبيت و توكيد لقوله في الآية السابقة: «فسوف يعلمون» على ما يعطيه السياق و المعنى دعهم فإنهم لا يسلمون في هذه الحياة الدنيا و إنما يودون الإسلام بعد حلول أجلهم و نزول الهلاك بهم، و الناس ليسوا بذوي خيرة في ذلك بل لكل أمة كتاب معلوم عند الله مكتوب فيه أجلهم لا يقدرون أن يستقدموه و لا يستأخروه ساعة.
و في الآيتين دلالة على أن الأمة من الإنسان لها كتاب كما أن للفرد منه كتابا، قال تعالى: «و كل إنسان ألزمناه طائره في عنقه و نخرج له يوم القيامة كتابا يلقاه منشورا»: إسراء: 13.
قوله تعالى: «و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون» كلام خارج مخرج الاستهزاء و لذلك خاطبوه (صلى الله عليه وآله وسلم) لا باسمه بل بوصف نزول الذكر عليه كما كان يدعيه، و جاءوا بالفعل المجهول للدلالة على أن منزله غير معلوم عندهم و لا اعتماد و لا وثوق لهم بما يدعيه هو أن الله تعالى هو الذي أنزله، و توصيفه بالذي نزل عليه الذكر و كذا تسمية النازل عليه ذكرا كل ذلك من الاستهزاء كما أن قولهم: «إنك لمجنون» رمي و تكذيب.
قوله تعالى: «لو ما تأتينا بالملائكة إن كنت من الصادقين» لو ما مثل هلا للتحضيض أي هلا تأتينا بالملائكة إن كنت صادقا في دعوى النبوة ليشهدوا على صدق دعواك و ينذر معك، فهو قريب المعنى من قولهم على ما حكاه الله: «لو لا أنزل إليه ملك فيكون معه نذيرا»: الفرقان: 7.
و وجه اقتراحهم على الأنبياء أن يأتوا بالملائكة و يظهروهم لهم اعتقادهم أن البشرية كينونة مادية مغمورة في قذارة الشهوة و الغضب لا نسبة بينها و بين العالم السماوي الذي هو محض النورانية و الطهارة فمن ادعى نوعا من الاتصال بذاك العالم الروحاني فعليه أن يأتي ببعض أهله من الملائكة الكرام ليصدقوه في دعواه و يعينوه في دعوته.
على أن الملائكة عند الوثنيين آلهة دون الله سبحانه فدعوتهم إلى التوحيد معناها أن هؤلاء الآلهة في معزل من الشفاعة و العبادة بأمر من الله سبحانه و هو إله الآلهة و لا دليل على ذلك كاعترافهم به فلينزلوا و ليعترفوا و يصدقوا النبوة.
قوله تعالى: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين» جواب عما اقترحوا على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأتيهم بالملائكة حتى يصدقوه، و محصل الجواب أن السنة الإلهية جارية على ستر ملائكته عنهم تحت أستار الغيب فلو أنزلهم و أظهرهم لهم عن اقتراحهم ذلك كان ذلك آية سماوية خارقة للعادة نازلة عن اقتراحهم، و من شأن الآية المعجزة النازلة عن اقتراح الناس أن يعقبها عذاب الاستئصال و الهلاك القطعي إن لم يؤمنوا بها، و هؤلاء الكفار المعاندون ليسوا بمؤمنين فهو الهلاك.
و بالجملة لو أنزل الله الملائكة و الحال هذا الحال - هم يقترحون آية فاصلة تظهر الحق و تميط الباطل لأنزلهم بالحق الفاصل المميز و ما كانوا إذا منظرين بل يهلكون و يقطع دابرهم، هذا محصل ما ذكره بعضهم.
و قيل: المراد بالحق في الآية الموت و المعنى ما نزل الملائكة على الناس إلا مصاحبا للحق الذي هو الموت و ما كانوا إذا منظرين، و كأنه مأخوذ من قوله تعالى: «يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين» الآية.
و قيل: المراد بالحق الرسالة أي ما نزل الملائكة إلا بالوحي و الرسالة و كأنه مأخوذ من نحو قوله: «قد جاءكم الرسول بالحق»: النساء: 170، «و قوله فقد كذبوا بالحق لما جاءهم: الأنعام: 5.
فهذه وجوه مذكورة في تفسير الآية و دونها وجوه مذكورة في مختلف التفاسير و هي جميعا لا تخلو من شيء و هو أن شيئا منها لا ينطبق على الحصر الموجود في قوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق» فنزول الملائكة لا يختص بعذاب الاستئصال فقط و لا بالموت فقط، و لا بالوحي و الرسالة فقط، و توجيه الآية بما يختص بأحد المعاني الثلاث المذكورة للحق يحتاج إلى تقييدها بقيود كثيرة يدفعها إطلاق الآية كما هو ظاهر لمن راجع الوجوه المقررة آنفا.
و يمكن أن يقرر معنى الآية باستمداد من التدبر في آيات أخر أن ظرف الحياة المادية أعني هذه النشأة الدنيوية ظرف يختلط فيه الحق و الباطل من غير أن يتمحض الحق في الظهور بجميع خواصه و آثاره كما يشير إليه قوله تعالى: «كذلك يضرب الله الحق و الباطل: الرعد: 17، و قد تقدم تفصيل القول في ذلك فما يظهر فيه شيء من الحق إلا و هو يحتمل شيئا من اللبس و الشك كما يصدقه استقراء الموارد التي صادفناها مدى أعمارنا، و من الشاهد عليه قوله تعالى: «و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون»: الأنعام: 9، و الظرف ظرف الامتحان و الاختيار و لا اختيار إلا مع إمكان التباس الحق بالباطل و اختلاط الخير و الشر بنحو حتى يقف الإنسان على ملتقى الطريقين و منشعب النجدين فيستدل على الخير و الشر بآثارهما و أماراتهما ثم يختار ما يستحقه من السعادة و الشقاوة.
و أما عالم الملائكة و ظرف وجودهم فإنما هو عالم الحق غير مشوب بشيء من الباطل كما يدل عليه قوله تعالى: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون»: التحريم: 6، و قوله: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 27.
فمقتضى الآيات و ما في معناها أنهم في أنفسهم مخلوقات شريفة و وجودات طاهرة نورانية منزهة عن النقص و الشين لا تحتمل الشر و الشقاء و ليس عندها إمكان الفساد و المعصية و التقصير فلا يحكم فيها هذا النظام المادي المبني على أساس الإمكان و الاختيار و جواز الصلاح و الفساد و الطاعة و المعصية و السعادة و الشقاء جميعا، و سيوافيك البحث المستوفى فيه فيما يناسبه من المورد إن شاء الله.
و سيأتي أيضا أن الإنسان لا طريق له إلى هذا الظرف الحق ما دام متوغلا في هذا العالم المادي متورطا في ورطات الشهوات و الأهواء كأهل الكفر و الفسوق إلا ببطلان عالمهم و خروجهم إلى العالم الحق و ظهوره عليهم و انكشاف الغطاء عنهم كما يشير إليه قوله: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق - 22، و هذا هو العالم الذي يسمى بالنسبة إلى الإنسان آخرة.
فتبين أن ظهور عالم الملائكة للناس المتوغلين في عالم المادة متوقف على تبدل الظرف و الانتقال من الدنيا إلى الآخرة و هو الموت اللهم إلا في المصطفين من عباد الله و أوليائه المطهرين من أقذار الذنوب الملازمين لساحة قربه لهم أهلية مشاهدة الغيب و هم في عالم الشهادة كالأنبياء (عليهم السلام).
و لعل ما قدمناه هو المراد بقوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»، فإنهم إنما اقترحوا نزول الملائكة ليشاهدوهم في صورهم الأصلية حتى يصدقوا و هذا الحال لا تتمهد لهم إلا بالموت كما قال تعالى: «و قال الذين لا يرجون لقاءنا لو لا أنزل علينا الملائكة - إلى أن قال - يوم يرون الملائكة لا بشرى يومئذ للمجرمين و يقولون حجرا محجورا و قدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا»: الفرقان: 23.
و قد اجتمع المعنيان في قوله تعالى: «و قالوا لو لا أنزل عليه ملك و لو أنزلنا ملكا لقضي الأمر ثم لا ينظرون و لو جعلناه ملكا لجعلناه رجلا و للبسنا عليهم ما يلبسون»: الأنعام: 9، يقول تعالى: لو أنزلنا عليه الملائكة آية خارقة للعادة مصدقة للنبوة كان لازمه القضاء عليهم و هلاكهم و لو قلدنا الملك النبوة و الرسالة كان لازمه أن نصوره في صورة رجل من الإنسان، و أن نوقفه موقفا يحتمل اللبس فإن الرسالة إحدى وسائل الامتحان و الابتلاء الإلهي و لا امتحان إلا بما يحتمل السعادة و الشقاء و الفوز و الخيبة و يجوز معه النجاة و الهلاك و لو توصل إلى الرسالة بما يضطر العقول إلى الإيمان و يلجىء النفوس إلى القبول و اليقين لبطل ذلك كله.
قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون» صدر الآية مسوق سوق الحصر، و ظاهر السياق أن الحصر ناظر إلى ما ذكر من ردهم القرآن بأنه من أهذار الجنون و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مجنون لا عبرة بما صنع و لا حجر و من اقتراحهم أن يأتيهم بالملائكة ليصدقوه في دعوته و أن القرآن كتاب سماوي حق.
و المعنى - على هذا و الله أعلم - أن هذا الذكر لم تأت به أنت من عندك حتى يعجزوك و يبطلوه بعنادهم و شدة بطشهم و تتكلف لحفظه ثم لا تقدر، و ليس نازلا من عند الملائكة حتى يفتقر إلى نزولهم و تصديقهم إياه بل نحن أنزلنا هذا الذكر إنزالا تدريجيا و إنا له لحافظون بما له من صفة الذكر بما لنا من العناية الكاملة به.
فهو ذكر حي خالد مصون من أن يموت و ينسى من أصله، مصون من الزيادة عليه بما يبطل به كونه ذكرا مصون من النقص كذلك، مصون من التغيير في صورته و سياقه بحيث يتغير به صفة كونه ذكرا لله مبينا لحقائق معارفه.
فالآية تدل على كون كتاب الله محفوظا من التحريف بجميع أقسامه من جهة كونه ذكرا لله سبحانه فهو ذكر حي خالد.
و نظير الآية في الدلالة على كون الكتاب العزيز محفوظا بحفظ الله مصونا من التحريف و التصرف بأي وجه كان من جهة كونه ذكرا له سبحانه قوله تعالى: «إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: حم السجدة: 42.
و قد ظهر بما تقدم أن اللام في الذكر للعهد الذكري و أن المراد بالوصف لحافظون هو الاستقبال كما هو الظاهر من اسم الفاعل فيندفع به ما ربما يورد على الآية أنها لو دلت على نفي التحريف من القرآن لأنه ذكر لدلت على نفيه من التوراة و الإنجيل أيضا لأن كلا منهما ذكر مع أن كلامه تعالى صريح في وقوع التحريف فيهما.
و ذلك أن الآية بقرينة السياق إنما تدل على حفظ الذكر الذي هو القرآن بعد إنزاله إلى الأبد، و لا دلالة فيها على علية الذكر للحفظ الإلهي و دوران الحكم مداره.
و سنستوفي البحث عما يرجع إلى هذا الشأن إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن رفاعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد من عند الله: لا يدخل الجنة إلا مسلم فيومئذ يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين. ثم قال: «ذرهم يأكلوا و يتمتعوا و يلههم الأمل» أي شغلهم فسوف يعلمون».
أقول: و روى العياشي، عن عبد الله بن عطاء المكي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): في تفسير الآية مثله.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط و ابن مردويه بسند صحيح عن جابر بن عبد الله قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ناسا من أمتي يعذبون بذنوبهم فيكونون في النار ما شاء الله أن يكونوا ثم يعيرهم أهل الشرك فيقولون: ما نرى ما كنتم فيه من تصديقكم نفعكم فلا يبقى موحد إلا أخرجه الله تعالى من النار. ثم قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ربما يود الذين كفرا لو كانوا مسلمين».
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن أبي موسى الأشعري و أبي سعيد الخدري و أنس بن مالك عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم و ابن شاهين في السنة عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن أصحاب الكبائر من موحدي الأمم كلها الذين ماتوا على كبائرهم غير نادمين و لا تائبين من دخل منهم جهنم لا تزرق أعينهم، و لا تسود وجوههم، و لا يقرنون بالشياطين و لا يغلون بالسلاسل، و لا يجرعون الحميم، و لا يلبسون القطران حرم الله أجسادهم على الخلود من أجل التوحيد، و صورهم على النار من أجل السجود. فمنهم من تأخذه النار إلى قدميه، و منهم من تأخذه النار إلى عقبيه، و منهم من تأخذه النار إلى فخذيه، و منهم من تأخذه النار إلى حجزته، و منهم من تأخذه النار إلى عنقه على قدر ذنوبهم و أعمالهم، و منهم من يمكث فيها شهرا ثم يخرج منها، و منهم من يمكث فيها سنة ثم يخرج منها، و أطولهم فيها مكثا بقدر الدنيا منذ يوم خلقت إلى أن تفنى. فإذا أراد الله أن يخرجهم منها قالت اليهود و النصارى و من في النار من أهل الأديان و الأوثان لمن في النار من أهل التوحيد: آمنتم بالله و كتبه و رسله فنحن و أنتم اليوم في النار سواء فيغضب الله لهم غضبا لم يغضبه لشيء فيما مضى فيخرجهم إلى عين بين الجنة و الصراط فينبتون فيها نبات الطراثيث في حميل السيل ثم يدخلون الجنة مكتوب في جباههم: هؤلاء الجهنميون عتقاء الرحمن فيمكثون في الجنة ما شاء الله أن يمكثوا. ثم يسألون الله تعالى أن يمحو ذلك الاسم عنهم فيبعث الله ملكا فيمحوه ثم يبعث الله ملائكة معهم مسامير من نار فيطبقونها على من بقي فيها يسمرونها بتلك المسامير فينساهم الله على عرشه، و يشتغل عنهم أهل الجنة بنعيمهم و لذاتهم، و ذلك قوله: «ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين».
أقول: الطرثوث نبت و حميل السيل غثاؤه، و قد روي من طرق الشيعة ما يقرب من الحديث مضمونا.
و فيه، أخرج أحمد و ابن مردويه عن أبي سعيد: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غرس عودا بين يديه و آخر إلى جنبه و آخر بعده. قال: أ تدرون ما هذا؟ قالوا: الله و رسوله أعلم، قال: فإن هذا الإنسان و هذا أجله و هذا أمله فيتعاطى الأمل فيختلجه الأجل دون ذلك: أقول: و روي ما يقرب من معناه بطرق عن أنس عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المجمع، عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه قال: إن أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتباع الهوى، و طول الأمل، فإن اتباع الهوى يصد عن الحق، و طول الأمل ينسي الآخرة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق - و ما كانوا إذا منظرين» قال: قال (عليه السلام): لو أنزلنا بالملائكة لم ينظروا و هلكوا.
كلام في أن القرآن مصون عن التحريف في فصول:
الفصل 1
من ضروريات التاريخ أن النبي العربي محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) جاء قبل أربعة عشر قرنا - تقريبا - و ادعى النبوة و انتهض للدعوة و آمن به أمة من العرب و غيرهم، و أنه جاء بكتاب يسميه القرآن و ينسبه إلى ربه متضمن لجمل المعارف و كليات الشريعة التي كان يدعو إليها، و كان يتحدى به و يعده آية لنبوته، و أن القرآن الموجود اليوم بأيدينا هو القرآن الذي جاء به و قرأه على الناس المعاصرين له في الجملة بمعنى أنه لم يضع من أصله بأن يفقد كله ثم يوضع كتاب آخر يشابهه في نظمه أو لا يشابهه و ينسب إليه و يشتهر بين الناس بأنه القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهذه أمور لا يرتاب في شيء منها إلا مصاب في فهمه و لا احتمل بعض ذلك أحد من الباحثين في مسألة التحريف من المخالفين و المؤالفين.
و إنما احتمل بعض من قال به من المخالف أو المؤالف زيادة شيء يسير كالجملة أو الآية أو النقص أو التغيير في جملة أو آية في كلماتها أو إعرابها، و أما جل الكتاب الإلهي فهو على ما هو في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يضع و لم يفقد.
ثم إنا نجد القرآن يتحدى بأوصاف ترجع إلى عامة آياته و نجد ما بأيدينا من القرآن أعني ما بين الدفتين واجدا لما وصف به من أوصاف تحدى بها من غير أن يتغير في شيء منها أو يفوته و يفقد.
فنجده يتحدى بالبلاغة و الفصاحة و نجد ما بأيدينا مشتملا على ذلك النظم العجيب البديع لا يعدله و لا يشابهه شيء من كلام البلغاء و الفصحاء المحفوظ منهم و المروي عنهم من شعر أو نثر أو خطبة أو رسالة أو محاورة أو غير ذلك و هذا النظم موجود في جميع الآيات سواء كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود و القلوب.
و نجده يتحدى بقوله: «أ فلا يتدبرون القرآن و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا»: النساء: 82 بعدم وجود اختلاف فيه و نجد ما بأيدينا من القرآن يفي بذلك أحسن الوفاء و أوفاه فما من إبهام أو خلل يتراءى في آية إلا و يرفعه آية أخرى، و ما من خلاف أو مناقضة يتوهم بادىء الرأي من شطر إلا و هناك ما يدفعه و يفسره.
و نجده يتحدى بغير ذلك مما لا يختص فهمه بأهل اللغة العربية كما في قوله: «قل لئن اجتمعت الإنس و الجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله و لو كان بعضهم لبعض ظهيرا»: إسراء: 88، و قوله: «إنه لقول فصل و ما هو بالهزل»: الطارق: 14، ثم نجد ما بأيدينا من القرآن يستوفي البيان في صريح الحق الذي لا مرية فيه، و يهدي إلى آخر ما يهتدي إليه العقل من أصول المعارف الحقيقية و كليات الشرائع الفطرية و تفاصيل الفضائل الخلقية من غير أن نعثر فيها على شيء من النقيصة و الخلل أو نحصل على شيء من التناقض و الزلل بل نجد جميع المعارف على سعتها و كثرتها حية بحياة واحدة مدبرة بروح واحد هو مبدأ جميع المعارف القرآنية و الأصل الذي إليه ينتهي الجميع و يرجع و هو التوحيد فإليه ينتهي الجميع بالتحليل و هو يعود إلى كل منها بالتركيب.
و نجده يغوص في أخبار الماضين من الأنبياء و أممهم و نجد ما عندنا من كلام الله يورد قصصهم و يفصل القول فيها على ما يليق بطهارة الدين و يناسب نزاهة ساحة النبوة و خلوصها للعبودية و الطاعة و كلما طبقنا قصة من القصص القرآنية على ما يماثلها مما ورد في العهدين انجلى ذلك أحسن الانجلاء.
و نجده يورد آيات في الملاحم و يخبر عن الحوادث الآتية في آيات كثيرة بالتصريح أو بالتلويح ثم نجدها فيما هو بأيدينا من القرآن على تلك الشريطة صادقة مصدقة.
و نجده يصف نفسه بأوصاف زاكية جميلة كما يصف نفسه بأنه نور و أنه هاد يهدي إلى صراط مستقيم و إلى الملة التي هي أقوم و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من ذلك و لا يهمل من أمر الهداية و الدلالة و لا دقيقة.
و من أجمع الأوصاف التي يذكرها القرآن لنفسه أنه ذكر لله فإنه يذكر به تعالى بما أنه آية دالة عليه حية خالدة و بما أنه يصفه بأسمائه الحسنى و صفاته العليا، و يصف سنته في الصنع و الإيجاد، و يصف ملائكته و كتبه و رسله، و يصف شرائعه و أحكامه، و يصف ما ينتهي إليه أمر الخلقة و هو المعاد و رجوع الكل إليه سبحانه، و تفاصيل ما يئول إليه أمر الناس من السعادة و الشقاء، و الجنة و النار.
ففي جميع ذلك ذكر الله، و هو الذي يرومه القرآن بإطلاق القول بأنه ذكر و نجد ما بأيدينا من القرآن لا يفقد شيئا من معنى الذكر.
و لكون الذكر من أجمع الصفات في الدلالة على شئون القرآن عبر عنه بالذكر في الآيات التي أخبر فيها عن حفظه القرآن عن البطلان و التغيير و التحريف كقوله تعالى: «إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا أ فمن يلقى في النار خير أم من يأتي آمنا يوم القيامة اعملوا ما شئتم إنه بما تعملون بصير، إن الذين كفروا بالذكر لما جاءهم و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد»: حم السجدة: 42، فذكر تعالى أن القرآن من حيث هو ذكر لا يغلبه باطل و لا يدخل فيه حالا و لا في مستقبل الزمان لا بإبطال و لا بنسخ و لا بتغيير أو تحريف يوجب زوال ذكريته عنه.
و كقوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون»: الحجر: 9، فقد أطلق الذكر و أطلق الحفظ فالقرآن محفوظ بحفظ الله عن كل زيادة و نقيصة و تغيير في اللفظ أو في الترتيب يزيله عن الذكرية و يبطل كونه ذكرا لله سبحانه بوجه.
و من سخيف القول إرجاع ضمير «له» إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه مدفوع بالسياق و إنما كان المشركون يستهزءون بالنبي لأجل القرآن الذي كان يدعي نزوله عليه كما يشير إليه بقوله سابقا: «و قالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون» و قد مر تفسير الآية.
فقد تبين مما فصلناه أن القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و وصفه بأنه ذكر محفوظ على ما أنزل مصون بصيانة إلهية عن الزيادة و النقيصة و التغيير كما وعد الله نبيه فيه.
و خلاصة الحجة أن القرآن أنزله الله على نبيه و وصفه في آيات كثيرة بأوصاف خاصة لو كان تغير في شيء من هذه الأوصاف بزيادة أو نقيصة أو تغيير في لفظ أو ترتيب مؤثر فقد آثار تلك الصفة قطعا لكنا نجد القرآن الذي بأيدينا واجدا لآثار تلك الصفات المعدودة على أتم ما يمكن و أحسن ما يكون فلم يقع فيه تحريف يسلبه شيئا من صفاته فالذي بأيدينا منه هو القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعينه فلو فرض سقوط شيء منه أو تغير في إعراب أو حرف أو ترتيب وجب أن يكون في أمر لا يؤثر في شيء من أوصافه كالإعجاز و ارتفاع الاختلاف و الهداية و النورية و الذكرية و الهيمنة على سائر الكتب السماوية إلى غير ذلك، و ذلك كآية مكررة ساقطة أو اختلاف في نقطة أو إعراب و نحوها.
الفصل 2
و يدل على عدم وقوع التحريف الأخبار الكثيرة المروية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من طرق الفريقين الآمرة بالرجوع إلى القرآن عند الفتن و في حل عقد المشكلات.
و كذا حديث الثقلين المتواتر من طرق الفريقين: «إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي أهل بيتي ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا» الحديث فلا معنى للأمر بالتمسك بكتاب محرف و نفي الضلال أبدا ممن تمسك به.
و كذا الأخبار الكثيرة الواردة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب، و ما ذكره بعضهم أن ذلك في الأخبار الفقهية و من الجائز أن نلتزم بعدم وقوع التحريف في خصوص آيات الأحكام و لا ينفع ذلك سائر الآيات مدفوع بأن أخبار العرض مطلقة فتخصيصها بذلك تخصيص من غير مخصص.
على أن لسان أخبار العرض كالصريح أو هو صريح في أن الأمر بالعرض إنما هو لتمييز الصدق من الكذب و الحق من الباطل و من المعلوم أن الدس و الوضع غير مقصورين في أخبار الفقه بل الدواعي إلى الدس و الوضع في المعارف الاعتقادية و قصص الأنبياء و الأمم الماضين و أوصاف المبدإ و المعاد أكثر و أوفر و يؤيد ذلك ما بأيدينا من الإسرائيليات و ما يحذو حذوها مما أمر الجعل فيها أوضح و أبين.
و كذا الأخبار التي تتضمن تمسك أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بمختلف الآيات القرآنية في كل باب على ما يوافق القرآن الموجود عندنا حتى في الموارد التي فيها آحاد من الروايات بالتحريف، و هذا أحسن شاهد على أن المراد في كثير من روايات التحريف من قولهم (عليهم السلام) كذا نزل هو التفسير بحسب التنزيل في مقابل البطن و التأويل.
و كذا الروايات الواردة عن أمير المؤمنين و سائر الأئمة من ذريته (عليهم السلام) في أن ما بأيدي الناس قرآن نازل من عند الله سبحانه و إن كان غير ما ألفه علي (عليه السلام) من المصحف و لم يشركوه (عليه السلام) في التأليف في زمن أبي بكر و لا في زمن عثمان و من هذا الباب قولهم (عليهم السلام) لشيعتهم: اقرءوا كما قرأ الناس».
و مقتضى هذه الروايات أن لو كان القرآن الدائر بين الناس مخالفا لما ألفه علي (عليه السلام) في شيء فإنما يخالفه في ترتيب السور أو في ترتيب بعض الآيات التي لا يؤثر اختلال ترتيبها في مدلولها شيئا و لا في الأوصاف التي وصف الله سبحانه بها القرآن النازل من عنده ما يختل به آثارها.
فمجموع هذه الروايات على اختلاف أصنافها يدل دلالة قاطعة على أن الذي بأيدينا من القرآن هو القرآن النازل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن يفقد شيئا من أوصافه الكريمة و آثارها و بركاتها.
الفصل 3
ذهب جماعة من محدثي الشيعة و الحشوية و جماعة من محدثي أهل السنة إلى وقوع التحريف بمعنى النقص و التغيير في اللفظ أو الترتيب دون الزيادة فلم يذهب إليها أحد من المسلمين كما قيل.
و احتجوا على نفي الزيادة بالإجماع و على وقوع النقص و التغيير بوجوه كثيرة.
أحدها: الأخبار الكثيرة المروية من طرق الشيعة و أهل السنة الدالة على سقوط بعض السور و الآيات و كذا الجمل و أجزاء الجمل و الكلمات و الحروف في الجمع الأول الذي ألف فيه القرآن في زمن أبي بكر و كذا في الجمع الثاني الذي كان في زمن عثمان و كذا التغيير و هذه روايات كثيرة روتها الشيعة في جوامعها المعتبرة و غيرها، و قد ادعى بعضهم أنها تبلغ ألفي حديث، و روتها أهل السنة في صحاحهم كصحيحي البخاري و مسلم و سنن أبي داود و السنائي و أحمد و سائر الجوامع و كتب التفاسير و غيرها و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء.
و هذا غير ما يخالف فيه مصحف عبد الله بن مسعود المصحف المعروف مما ينيف على ستين موضعا، و ما يخالف فيه مصحف أبي بن كعب المصحف العثماني و هو في بضع و ثلاثين موضعا، و ما يختلف فيه المصاحف العثمانية التي اكتتبها و أرسلها إلى الآفاق و هي خمسة أو سبعة أرسلها إلى مكة و إلى الشام و إلى البصرة و إلى الكوفة و إلى اليمن و إلى البحرين و حبس واحدا بالمدينة و الاختلاف الذي فيما بينها يبلغ خمسة و أربعين حرفا، و قيل: بضع و خمسين حرفا.
و غير الاختلاف في الترتيب بين المصاحف العثمانية و الجمع الأول في زمن أبي بكر فقد كانت سورة الأنفال في التأليف الأول في المثاني و سورة براءة في المئين و هما في الجمع الثاني موضوعتان في الطوال على ما ستجيء روايته.
و غير الاختلاف في ترتيب السور الموجود بين مصحفي عبد الله بن مسعود و أبي ابن كعب على ما وردت به الرواية و بين المصاحف العثمانية و غير الاختلافات القرائية الشاذة التي رويت عن الصحابة و التابعين فربما بلغ عدد المجموع الألف أو زاد عليه.
الوجه الثاني: أن العقل يحكم بأنه إذا كان القرآن متفرقا متشتتا منتشرا عند الناس و تصدى لجمعه غير المعصوم يمتنع عادة أن يكون جمعه كاملا موافقا للواقع.
الوجه الثالث: ما روته العامة و الخاصة: أن عليا (عليه السلام) اعتزل الناس بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يرتد إلا للصلاة حتى جمع القرآن ثم حمله إلى الناس و أعلمهم أنه القرآن الذي أنزله الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد جمعه فردوه و استغنوا عنه بما جمعه لهم زيد بن ثابت و لو لم يكن بعض ما فيه مخالفا لبعض ما في مصحف زيد لم يكن لحمله إليهم و إعلامهم و دعوتهم إليه وجه، و قد كان (عليه السلام) أعلم الناس بكتاب الله بعد نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد أرجع الناس إليه في حديث الثقلين المتواتر و قال في الحديث المتفق عليه: علي مع الحق و الحق مع علي.
الوجه الرابع: ما ورد من الروايات أنه يقع في هذه الأمة ما وقع في بني إسرائيل حذو النعل بالنعل و القذة، بالقذة و قد حرفت بنو إسرائيل كتاب نبيهم على ما يصرح به القرآن الكريم و الروايات المأثورة، فلا بد أن يقع نظيره في هذه الأمة فيحرفوا كتاب ربهم و هو القرآن الكريم.
ففي صحيح البخاري، عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لتتبعن سنن من كان قبلكم شبرا بشبر و ذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لتبعتموه قلنا: يا رسول الله بآبائنا و أمهاتنا اليهود و النصارى؟ قال: فمن؟: و الرواية مستفيضة مروية في جوامع الحديث عن عدة من الصحابة كأبي سعيد الخدري كما مر و أبي هريرة و عبد الله بن عمر، و ابن عباس و حذيفة و عبد الله بن مسعود و سهل بن سعد و عمر بن عوف و عمرو بن العاص و شداد بن أوس و المستورد بن شداد في ألفاظ متقاربة.
و هي مروية مستفيضة من طرق الشيعة عن عدة من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في تفسير القمي، عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): لتركبن سبيل من كان قبلكم حذو النعل بالنعل و القذة بالقذة لا تخطئون طريقهم و لا تخطىء شبر بشبر و ذراع بذراع و باع بباع حتى أن لو كان من قبلكم دخل جحر ضب لدخلتموه قالوا: اليهود و النصارى تعني يا رسول الله؟ قال: فمن أعني؟ لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة فيكون أول ما تنقضون من دينكم الأمانة و آخره الصلاة.
و الجواب عن استدلالهم بإجماع الأمة على نفي تحريف القرآن بالزيادة بأنها حجة مدخولة لكونها دورية.
بيان ذلك: أن الإجماع ليس في نفسه حجة عقلية يقينية بل هو عند القائلين باعتباره حجة شرعية لو أفاد شيئا من الاعتقاد فإنما يفيد الظن سواء في ذلك محصله و منقوله على خلاف ما يزعمه كثير منهم أن الإجماع المحصل مفيد للقطع و ذلك أن الذي يفيده الإجماع من الاعتقاد لا يزيد على مجموع الاعتقادات التي تفيدها آحاد الأقوال و الواحد من الأقوال المتوافقة لا يفيد إلا الظن بإصابة الواقع، و انضمام القول الثاني الذي يوافقه إليه إنما يفيد قوة الظن دون القطع لأن القطع اعتقاد خاص بسيط مغاير للظن و ليس بالمركب من عدة ظنون.
و هكذا كلما انضم قول إلى قول و تراكمت الأقوال المتوافقة زاد الظن قوة و تراكمت الظنون و اقتربت من القطع من غير أن تنقلب إليه كما تقدم، هذا في المحصل من الإجماع و هو الذي نحصله بتتبع جميع الأقوال و الحصول على كل قول قول، و أما المنقول منه الذي ينقله الواحد و الاثنان من أهل العلم و البحث فالأمر فيه أوضح فهو كآحاد الروايات لا يفيد إلا الظن إن أفاد شيئا من الاعتقاد.
فالإجماع حجة ظنية شرعية دليل اعتبارها عند أهل السنة مثلا قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «لا تجتمع أمتي على خطإ أو ضلال» و عند الشيعة دخول قول المعصوم في أقوال المجمعين أو كشف أقوالهم عن قوله بوجه.
فحجية الإجماع بالجملة متوقفة على صحة النبوة و ذلك ظاهر، و صحة النبوة اليوم متوقفة على سلامة القرآن من التحريف المستوجب لزوال صفات القرآن الكريمة عنه كالهداية و فصل القول و خاصة الإعجاز فإنه لا دليل حيا خالدا على خصوص نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) غير القرآن الكريم بكونه آية معجزة، و مع احتمال التحريف بزيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر لا وثوق بشيء من آياته و محتوياته أنه كلام الله محضا و بذلك تسقط الحجة و تفسد الآية، و مع سقوط كتاب الله عن الحجية يسقط الإجماع عن الحجية.
و لا ينفع في المقام ما قدمناه في أول الكلام أن وجود القرآن المنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بأيدينا من القرآن في الجملة من ضروريات التاريخ.
و ذلك لأن مجرد اشتمال ما بأيدينا منه على القرآن الواقعي لا يدفع احتمال زيادة أو نقيصة أو أي تغيير آخر في كل آية أو جملة أريد التمسك بها لإثبات مطلوب.
و الجواب عن الوجه الأول الذي أقيم لوقوع التحريف بالنقص و التغيير و هو الذي تمسك فيه بالأخبار: أما أولا فبأن التمسك بالأخبار بما أنها حجة شرعية يشتمل من الدور على ما يشتمل عليه التمسك بالإجماع بنظير البيان الذي تقدم آنفا.
فلا يبقى للمستدل بها إلا أن يتمسك بها بما أنها أسناد و مصادر تاريخية و ليس فيها حديث متواتر و لا محفوف بقرائن قطعية تضطر العقل إلى قبوله بل هي آحاد متفرقة متشتتة مختلفة منها صحاح و منها ضعاف في أسنادها و منها قاصرة في دلالتها فما أشذ منها ما هو صحيح في سنده تام في دلالته.
و هذا النوع على شذوذه و ندرته غير مأمون فيه الوضع و الدس فإن انسراب الإسرائيليات و ما يلحق بها من الموضوعات و المدسوسات بين رواياتنا لا سبيل إلى إنكاره و لا حجية في خبر لا يؤمن فيه الدس و الوضع.
و مع الغض عن ذلك فهي تذكر من الآيات و السور ما لا يشبه النظم القرآني بوجه، و مع الغض عن جميع ذلك فإنها مخالفة للكتاب مردودة: أما ما ذكرنا أن أكثرها ضعيفة الأسناد فيعلم ذلك بالرجوع إلى أسانيدها فهي مراسيل أو مقطوعة الأسناد أو ضعيفتها، و السالم منها من هذه العلل أقل قليل.
و أما ما ذكرنا أن منها ما هو قاصر في دلالتها فإن كثيرا مما وقع فيها من الآيات المحكية من قبيل التفسير و ذكر معنى الآيات لا من حكاية متن الآية المحرفة و ذلك كما في روضة الكافي، عن أبي الحسن الأول: في قول الله: «أولئك الذين يعلم الله ما في قلوبهم - فأعرض عنهم فقد سبقت عليهم كلمة الشقاء و سبق لهم العذاب و قل لهم في أنفسهم قولا بليغا.
و ما في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و إن تلووا أو تعرضوا» قال: «إن تلووا الأمر و تعرضوا عما أمرتم به فإن الله كان بما تعملون خبيرا» إلى غير ذلك من روايات التفسير المعدودة من أخبار التحريف.
و يلحق بهذا الباب ما لا يحصى من الروايات المشيرة إلى سبب النزول المعدودة من أخبار التحريف كالروايات التي تذكر هذه الآية هكذا: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في علي» و الآية نازلة في حقه (عليه السلام)، و ما روي: أن وفد بني تميم كانوا إذا قدموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وقفوا على باب الحجرة و نادوه أن اخرج إلينا فذكرت الآية فيها هكذا: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات بنو تميم أكثرهم لا يعقلون» فظن أن في الآية سقطا.
و يلحق بهذا الباب أيضا ما لا يحصى من الأخبار الواردة في جري القرآن و انطباقه كما ورد في قوله: «و سيعلم الذين ظلموا آل محمد حقهم» و ما ورد من قوله: «و من يطع الله و رسوله في ولاية علي و الأئمة من بعده فقد فاز فوزا عظيما» و هي كثيرة جدا.
و يلحق بها أيضا ما أتبع فيه القراءة بشيء من الذكر و الدعاء فتوهم أنه من سقط القرآن كما في الكافي، عن عبد العزيز بن المهتدي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن التوحيد فقال: كل من قرأ قل هو الله أحد و آمن بها فقد عرف التوحيد، قال: " قلت " كيف نقرؤها؟ قال: كما يقرؤها الناس و زاد فيه كذلك الله ربي كذلك الله ربي.
و من قبيل قصور الدلالة ما نجد في كثير من الآيات المعدودة من المحرفة اختلاف الروايات في لفظ الآية كالتي وردت في قوله تعالى: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم أذلة» ففي بعضها أن الآية هكذا: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم ضعفاء» و في بعضها: «و لقد نصركم الله ببدر و أنتم قليل.
و هذا الاختلاف ربما كان قرينة على أن المراد هو التفسير بالمعنى كما في الآية المذكورة و يؤيده ما ورد في بعضها من قوله (عليه السلام): لا يجوز وصفهم بأنهم أذلة و فيهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
و ربما لم يكن إلا من التعارض و التنافي بين الروايات القاضي بسقوطها كآية الرجم على ما ورد في روايات الخاصة و العامة و هي في بعضها: «إذا زنى الشيخ و الشيخة فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة. و في بعضها. «الشيخ و الشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة فإنهما قضيا الشهوة، و في بعضها «بما قضيا من اللذة» و في بعضها آخرها: «نكالا من الله و الله عليم حكيم» و في بعضها: «نكالا من الله و الله عزيز حكيم».
و كآية الكرسي على التنزيل التي وردت فيها روايات فهي في بعضها هكذا: الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة و لا نوم له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة فلا يظهر على غيبه أحدا من ذا الذي يشفع عنده - إلى قوله - و هو العلي العظيم و الحمد لله رب العالمين.
و في بعضها - إلى قوله - هم فيها خالدون و الحمد لله رب العالمين، و في بعضها هكذا: «له ما في السماوات و ما في الأرض و ما بينهما و ما تحت الثرى عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم» إلخ.
و في بعضها: «عالم الغيب و الشهادة الرحمن الرحيم بديع السماوات و الأرض ذو الجلال و الإكرام رب العرش العظيم» و في بعضها: عالم الغيب و الشهادة العزيز الحكيم».
و ما ذكره بعض المحدثين أن اختلاف هذه الروايات في الآيات المنقولة غير ضائر لاتفاقها في أصل التحريف.
مردود بأن ذلك لا يصلح ضعف الدلالة و دفع بعضها لبعض.
و أما ما ذكرنا من شيوع الدس و الوضع في الروايات فلا يرتاب فيه من راجع الروايات المنقولة في الصنع و الإيجاد و قصص الأنبياء و الأمم و الأخبار الواردة في تفاسير الآيات و الحوادث الواقعة في صدر الإسلام و أعظم ما يهم أمره لأعداء الدين و لا يألون جهدا في إطفاء نوره و إخماد ناره و إعفاء أثره هو القرآن الكريم الذي هو الكهف المنيع و الركن الشديد الذي يأوي إليه و يتحصن به المعارف الدينية و السند الحي الخالد لمنشور النبوة و مواد الدعوة لعلمهم بأنه لو بطلت حجة القرآن لفسد بذلك أمر النبوة و اختل نظام الدين و لم يستقر من بنيته حجر على حجر.
و العجب من هؤلاء المحتجين بروايات منسوبة إلى الصحابة أو إلى أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على تحريف كتاب الله سبحانه و إبطال حجيته، و ببطلان حجة القرآن تذهب النبوة سدى و المعارف الدينية لغا لا أثر لها، و ما ذا يغني قولنا: إن رجلا في تاريخ كذا ادعى النبوة و أتى بالقرآن معجزة أما هو فقد مات و أما قرآنه فقد حرف، و لم يبق بأيدينا مما يؤيد أمره إلا أن المؤمنين به أجمعوا على صدقه في دعواه و أن القرآن الذي جاء به كان معجزا دالا على نبوته، و الإجماع حجة لأن النبي المذكور اعتبر حجيته أو لأنه يكشف مثلا عن قول أئمة أهل بيته.
و بالجملة احتمال الدس - و هو قريب جدا مؤيد بالشواهد و القرائن - يدفع حجية هذه الروايات و يفسد اعتبارها فلا يبقى معه لها لا حجية شرعية و لا حجية عقلائية حتى ما كان منها صحيح الأسناد فإن صحة السند و عدالة رجال الطريق إنما يدفع تعمدهم الكذب دون دس غيرهم في أصولهم و جوامعهم ما لم يرووه.
و أما ما ذكرناه أن روايات التحريف تذكر آيات و سورا لا يشبه نظمها النظم القرآني بوجه فهو ظاهر لمن راجعها فإنه يعثر فيها بشيء كثير من ذلك كسورتي الخلع و الحفد اللتين رويتا بعدة من طرق أهل السنة فسورة الخلع هي: بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إنا نستعينك و نستغفرك، و نثني عليك و لا نكفرك، و نخلع و نترك من يفجرك» و سورة الحفد هي: «بسم الله الرحمن الرحيم اللهم إياك نعبد و لك نصلي و نسجد و إليك نسعى و نحفد، نرجو رحمتك و نخشى نقمتك إن عذابك بالكافرين ملحق».
و كذا ما أورده بعض الروايات من سورة الولاية و غيرها أقاويل مختلقة رام واضعها أن يقلد النظم القرآني فخرج الكلام عن الأسلوب العربي المألوف و لم يبلغ النظم الإلهي المعجز فعاد يستبشعه الطبع و ينكره الذوق و لك أن تراجعها حتى تشاهد صدق ما ادعيناه و تقضي أن أكثر المعتنين بهذه السور و الآيات المختلقة المجعولة إنما دعاهم إلى ذلك التعبد الشديد بالروايات و الإهمال في عرضها على الكتاب، و لو لا ذلك لكفتهم للحكم بأنها ليست بكلام إلهي نظرة.
و أما ما ذكرنا أن روايات التحريف على تقدير صحة أسنادها مخالفة للكتاب فليس المراد به مجرد مخالفتها لظاهر قوله تعالى: «إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون» و قوله: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه» الآيتان حتى تكون مخالفة ظنية لكون ظهور الألفاظ من الأدلة الظنية بل المراد مخالفتها للدلالة القطعية من مجموع القرآن الذي بأيدينا حسب ما قررناه في الحجة الأولى التي أقمناها لنفي التحريف.
كيف لا؟ و القرآن الذي بأيدينا متشابه الأجزاء في نظمه البديع المعجز كاف في رفع الاختلافات المتراءاة بين آياته و أبعاضه غير ناقص و لا قاصر في إعطاء معارفه الحقيقية و علومه الإلهية الكلية و الجزئية المرتبطة بعضها ببعض المترتبة فروعها على أصولها المنعطفة أطرافها على أوساطها إلى غير ذلك من خواص النظم القرآني الذي وصفه الله بها.
و الجواب عن الوجه الثاني أن دعوى الامتناع العادي مجازفة بينة نعم يجوز العقل عدم موافقة التأليف في نفسه للواقع إلا أن تقوم قرائن تدل على ذلك و هي قائمة كما قدمنا، و أما أن يحكم العقل بوجوب مخالفتها للواقع كما هو مقتضى الامتناع العادي فلا.
و الجواب عن الوجه الثالث أن جمعه (عليه السلام) القرآن و حمله إليهم و عرضه عليهم لا يدل على مخالفة ما جمعه لما جمعوه في شيء من الحقائق الدينية الأصلية أو الفرعية إلا أن يكون في شيء من ترتيب السور أو الآيات من السور التي نزلت نجوما بحيث لا يرجع إلى مخالفة في بعض الحقائق الدينية.
و لو كان كذلك لعارضهم بالاحتجاج و دافع فيه و لم يقنع بمجرد إعراضهم عما جمعه و استغنائهم عنه كما روي عنه (عليه السلام) في موارد شتى و لم ينقل عنه (عليه السلام) فيما روي من احتجاجاته أنه قرأ في أمر ولايته و لا غيرها آية أو سورة تدل على ذلك، و جبههم على إسقاطها أو تحريفها.
و هل كان ذلك حفظا لوحدة المسلمين و تحرزا عن شق العصا فإنما كان يتصور ذلك بعد استقرار الأمر و اجتماع الناس على ما جمع لهم لا حين الجمع و قبل أن يقع في الأيدي و يسير في البلاد.
و ليت شعري هل يسعنا أن ندعي أن ذاك الجم الغفير من الآيات التي يرون سقوطها و ربما ادعوا أنها تبلغ الألوف كانت جميعا في الولاية أو كانت خفية مستورة عن عامة المسلمين لا يعرفها إلا النزر القليل منهم مع توفر دواعيهم و كثرة رغباتهم على أخذ القرآن كلما نزل و تعلمه و بلوغ اجتهاد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغه و إرساله إلى الآفاق و تعليمه و بيانه، و قد نص على ذلك القرآن قال تعالى: «و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: الجمعة: 2، و قال: «لتبين للناس ما نزل إليهم»: النحل: 44 فكيف ضاع؟ و أين ذهب؟ ما يشير إليه بعض المراسيل أنه سقط في آية من أول سورة النساء بين قوله: «و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى» و قوله: «فانكحوا ما طاب لكم من النساء» أكثر من ثلث القرآن أي أكثر من ألفي آية، و ما ورد من طرق أهل السنة أن سورة براءة كانت مبسملة تعدل سورة البقرة، و أن الأحزاب كانت أعظم من البقرة و قد سقطت منه مائتا آية إلى غير ذلك!.
أو أن هذه الآيات - و قد دلت هذه الروايات على بلوغها في الكثرة - كانت منسوخة التلاوة كما ذكره جمع من المفسرين من أهل السنة حفظا لما ورد في بعض رواياتهم أن من القرآن ما أنساه الله و نسخ تلاوته.
فما معنى إنساء الآية و نسخ تلاوتها؟ أ كان ذلك لنسخ العمل بها فما هي هذه الآيات المنسوخة الواقعة في القرآن كآية الصدقة و آية نكاح الزانية و الزاني و آية العدة و غيرها؟ و هم مع ذلك يقسمون منسوخ التلاوة إلى منسوخ التلاوة و العمل معا و منسوخ التلاوة دون العمل كآية الرجم.
أم كان ذلك لكونها غير واجدة لبعض صفات كلام الله حتى أبطلها الله بإمحاء ذكرها و إذهاب أثرها فلم يكن من الكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و لا منزها من الاختلاف، و لا قولا فصلا و لا هاديا إلى الحق و إلى طريق مستقيم، و لا معجزا يتحدى به و لا، و لا، فما معنى الآيات الكثيرة التي تصف القرآن بأنه في لوح محفوظ، و أنه كتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه، و أنه قول فصل، و أنه هدى، و أنه نور، و أنه فرقان بين الحق و الباطل، و أنه آية معجزة، و أنه، و أنه؟.
فهل يسعنا أن نقول: إن هذه الآيات على كثرتها و إباء سياقها عن التقييد مقيدة بالبعض فبعض الكتاب فقط و هو غير المنسي و منسوخ التلاوة لا يأتيه الباطل و قول فصل و هدى و نور و فرقان و معجزة خالدة؟.
و هل جعل الكلام منسوخ التلاوة و نسيا منسيا غير إبطاله و إماتته؟ و هل صيرورة القول النافع بحيث لا ينفع للأبد و لا يصلح شأنا مما فسد غير إلغائه و طرحه و إهماله؟ و كيف يجامع ذلك كون القرآن ذكرا؟.
فالحق أن روايات التحريف المروية من طرق الفريقين و كذا الروايات المروية في نسخ تلاوة بعض الآيات القرآنية مخالفة للكتاب مخالفة قطعية.
و الجواب عن الوجه الرابع: أن أصل الأخبار القاضية بمماثلة الحوادث الواقعة في هذه الأمة لما وقع في بني إسرائيل مما لا ريب فيه، و هي متظافرة أو متواترة، لكن هذه الروايات لا تدل على المماثلة من جميع الجهات، و هو ظاهر بل الضرورة تدفعه.
فالمراد بالمماثلة هي المماثلة في الجملة من حيث النتائج و الآثار، و حينئذ فمن الجائز أن تكون مماثلة هذه الأمة لبني إسرائيل في مسألة تحريف الكتاب إنما هي في حدوث الاختلاف و التفرق بين الأمة بانشعابها إلى مذاهب شتى يكفر بعضهم بعضا و افتراقها إلى ثلاث و سبعين فرقة كما افترقت النصارى إلى اثنتين و سبعين و اليهود إلى واحدة و سبعين و قد ورد هذا المعنى في كثير من هذه الروايات حتى ادعى بعضهم كونها متواترة.
و من المعلوم أن الجميع مستندون فيما اختاروه إلى كتاب الله، و ليس ذلك إلا من جهة تحريف الكلم عن مواضعه، و تفسير القرآن الكريم بالرأي، و الاعتماد على الأخبار الواردة في تفسير الآيات من غير العرض على الكتاب و تمييز الصحيح منها من السقيم.
و بالجملة أصل الروايات الدالة على المماثلة بين الأمتين لا يدل على شيء من التحريف الذي يدعونه نعم وقع في بعضها ذكر التحريف بالتغيير و الإسقاط، و هذه الطائفة على ما بها من السقم مخالفة للكتاب كما تقدم.
الفصل 4
في تاريخ اليعقوبي: قال عمر بن الخطاب لأبي بكر: يا خليفة رسول الله إن حملة القرآن قد قتل أكثرهم يوم اليمامة فلو جمعت القرآن فإني أخاف عليه أن يذهب حملته، فقال له أبو بكر: أفعل ما لم يفعله رسول الله؟ فلم يزل به عمر حتى جمعه و كتبه في صحف، و كان مفرقا في الجريد و غيرها.
و أجلس خمسة و عشرين رجلا من قريش و خمسين رجلا من الأنصار فقال: اكتبوا القرآن و اعرضوا على سعيد بن العاص فإنه رجل فصيح.
و روى بعضهم: أن علي بن أبي طالب (عليه السلام) كان جمعه لما قبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أتى به يحمله على جمل فقال: هذا القرآن قد جمعته. قال: و كان قد جزأه سبعة أجزاء ثم ذكر الأجزاء.
و في تاريخ أبي الفداء: و قتل في قتال مسيلمة جماعة من القراء من المهاجرين و الأنصار، و لما رأى أبو بكر كثرة من قتل أمر بجمع القرآن من أفواه الرجال و جريد النخل و الجلود، و ترك ذلك المكتوب عند حفصة بنت عمر زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، انتهى.
و الأصل فيما ذكراه الروايات فقد أخرج البخاري في صحيحه عن زيد بن ثابت قال: أرسل إلي أبو بكر مقتل أهل اليمامة فإذا عمر بن الخطاب عنده فقال أبو بكر إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحر بقراء القرآن و إني أخشى أن يستحر القتل بالقراء في المواطن فيذهب كثير من القرآن، و إني أرى أن تأمر بجمع القرآن، فقلت لعمر: كيف نفعل شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال عمر: هذا و الله خير فلم يزل يراجعني حتى شرح الله صدري لذلك و رأيت الذي رأى عمر.
قال زيد: قال أبو بكر: إنك شاب عاقل لا نتهمك و قد كنت تكتب الوحي لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فتتبع القرآن فاجمعه فوالله لو كلفوني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل علي مما أمرني به من جمع القرآن، قلت: كيف تفعلان شيئا لم يفعله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ قال: هو و الله خير.
فلم يزل أبو بكر يراجعني حتى شرح الله صدري للذي شرح له صدر أبي بكر و عمر فتتبعت القرآن أجمعه من العسف و اللخاف و صدور الرجال، و وجدت آخر سورة التوبة مع خزيمة الأنصاري لم أجدها مع غيره: «لقد جاءكم رسول» حتى خاتمة براءة، فكانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله تعالى ثم عند عمر حياته ثم عند حفصة بنت عمر.
و عن ابن أبي داود من طريق يحيى بن عبد الرحمن بن حاطب قال: قدم عمر فقال: من كان تلقى من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا من القرآن فليأت به و كانوا يكتبون ذلك في الصحف و الألواح و العسب، و كان لا يقبل من أحد شيئا حتى يشهد شهيدان.
و عنه أيضا من طريق هشام بن عروة عن أبيه و في الطريق انقطاع: أن أبا بكر قال لعمر و لزيد: اقعدوا على باب المسجد فمن جاءكما بشاهدين على شيء من كتاب الله فاكتباه.
و في الإتقان عن ابن أشتة في المصاحف، عن الليث بن سعد قال: أول من جمع القرآن أبو بكر و كتبه زيد، و كان الناس يأتون زيد بن ثابت فكان لا يكتب آية إلا بشاهدي عدل، و إن آخر سورة براءة لم يوجد إلا مع أبي خزيمة بن ثابت فقال: اكتبوها فإن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعل شهادته بشهادة رجلين فكتب و إن عمر أتى بآية الرجم فلم يكتبها لأنه كان وحده.
و عن ابن أبي داود في المصاحف، من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: أتاني الحارث بن خزيمة بهاتين الآيتين من آخر سورة براءة فقال: أشهد أني سمعتهما من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعيتهما، فقال عمر: و أنا أشهد لقد سمعتهما ثم قال: لو كانت ثلاث آيات لجعلتها سورة على حدة فانظروا آخر سورة من القرآن فألحقوها في آخرها.
و عنه أيضا من طريق أبي العالية عن أبي بن كعب: أنهم جمعوا القرآن فلما انتهوا إلى الآية التي في سورة براءة «ثم انصرفوا صرف الله قلوبهم - بأنهم قوم لا يفقهون» ظنوا أن هذا آخر ما أنزل فقال أبي: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أقرأني بعد هذا آيتين «لقد جاءكم رسول» إلى آخر السورة.
و في الإتقان، عن الدير عاقولي في فوائده حدثنا إبراهيم بن يسار حدثنا سفيان بن عيينة عن الزهري عن عبيد عن زيد بن ثابت قال: قال: قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يكن القرآن جمع في شيء.
و في مستدرك الحاكم، بإسناده عن زيد بن ثابت قال: كنا عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نؤلف القرآن من الرقاع، الحديث.
أقول: و لعل المراد ضم بعض الآيات النازلة نجوما إلى بعض السور أو إلحاق بعض السور إلى بعضها مما يتماثل صنفا كالطوال و المئين و المفصلات، فقد ورد لها ذكر في الأحاديث النبوية، و إلا فتأليف القرآن و جمعه مصحفا واحدا إنما كان بعد ما قبض النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بلا إشكال، و على مثل هذا ينبغي أن يحمل ما يأتي.
في صحيح النسائي، عن ابن عمر قال: جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة فبلغ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اقرأه في شهر.
و في الإتقان، عن ابن أبي داود بسند حسن عن محمد بن كعب القرظي قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل و عبادة بن الصامت و أبي بن كعب و أبو الدرداء و أبو أيوب الأنصاري.
و فيه، عن البيهقي في المدخل عن ابن سيرين قال: جمع القرآن على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أربعة لا يختلف فيهم معاذ بن جبل و أبي بن كعب و أبو زيد و اختلفوا في رجلين من ثلاثة: أبي الدرداء و عثمان» و قيل: عثمان و تميم الداري.
و فيه، عنه و عن ابن أبي داود عن الشعبي قال: جمع القرآن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سبعة: أبي و زيد و معاذ و أبو الدرداء و سعيد بن عبيد و أبو زيد و مجمع بن حارثة، و قد أخذه إلا سورتين أو ثلاث.
و فيه، أيضا عن ابن أشتة في كتاب المصاحف من طريق كهمس عن ابن بريدة قال: أول من جمع القرآن في مصحف سالم مولى أبي حذيفة أقسم لا يرتدي برداء حتى يجمعه فجمعه.
الحديث.
أقول: أقصى ما تدل عليه هذه الروايات مجرد جمعهم ما نزلت من السور و الآيات، و أما العناية بترتيب السور و الآيات كما هو اليوم أو بترتيب آخر فلا.
هذا هو الجمع الأول في عهد أبي بكر.
الفصل 5
و قد جمع القرآن ثانيا في عهد عثمان لما اختلفت المصاحف و كثرت القراءات.
قال اليعقوبي في تاريخه: و جمع عثمان القرآن و ألفه و صير الطوال مع الطوال و القصار مع القصار من السور، و كتب في جمع المصاحف من الآفاق حتى جمعت ثم سلقها بالماء الحار و الخل، و قيل: أحرقها فلم يبق مصحف حتى فعل به ذلك خلا مصحف ابن مسعود.
و كان ابن مسعود بالكوفة فامتنع أن يدفع مصحفه إلى عبد الله بن عامر و كتب " إليه " عثمان أن أشخصه إن لم يكن هذا الدين خبالا و هذه الأمة فسادا فدخل المسجد و عثمان يخطب فقال عثمان: إنه قد قدمت عليكم دابة سوء فكلم ابن مسعود بكلام غليظ فأمر به عثمان فجر برجله حتى كسر له ضلعان فتكلمت عائشة و قالت قولا كثيرا.
و بعث بها إلى الأمصار و بعث بمصحف إلى الكوفة و مصحف إلى البصرة و مصحف إلى المدينة و مصحف إلى مكة و مصحف إلى مصر و مصحف إلى الشام و مصحف إلى البحرين و مصحف إلى اليمن و مصحف إلى الجزيرة.
و أمر الناس أن يقرءوا على نسخة واحدة، و كان سبب ذلك أنه بلغه أن الناس يقولون: قرآن آل فلان فأراد أن يكون نسخته واحدة، و قيل: إن ابن مسعود كان كتب بذلك إليه فلما بلغه أنه كان يحرق المصاحف قال: لم أرد هذا، و قيل: كتب إليه بذلك حذيفة بن اليمان.
انتهى موضع الحاجة.
و في الإتقان، روى البخاري عن أنس: أن حذيفة بن اليمان قدم على عثمان و كان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية و آذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة اختلافهم في القراءة فقال لعثمان: أدرك الأمة قبل أن يختلفوا اختلاف اليهود و النصارى فأرسل إلى حفصة أن أرسلي إلينا الصحف ننسخها في المصاحف ثم نردها إليك فأرسلت بها حفصة إلى عثمان فأمر زيد بن ثابت و عبد الله بن الزبير و سعيد بن العاص و عبد الرحمن بن الحارث بن هشام فنسخوها في المصاحف. و قال عثمان للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم و زيد بن ثابت في شيء من القرآن فاكتبوه بلسان قريش فإنه إنما نزل بلسانهم ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف رد عثمان الصحف إلى حفصة و أرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا و أمر بما سواه من القرآن في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. قال زيد: آية من الأحزاب حين نسخنا المصحف قد كنت أسمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقرأ بها فالتمسناها فوجدناها مع خزيمة بن ثابت الأنصاري: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» فألحقناها في سورتها في المصحف.
و فيه، أخرج ابن أشتة من طريق أيوب عن أبي قلابة قال: حدثني رجل من بني عامر يقال له: أنس بن مالك قال: اختلفوا في القرآن على عهد عثمان حتى اقتتل الغلمان و المعلمون فبلغ ذلك عثمان بن عفان فقال: عندي تكذبون به و تلحنون فيه فمن نأى عني كان أشد تكذيبا و أكثر لحنا يا أصحاب محمد اجتمعوا و اكتبوا للناس إماما. فاجتمعوا فكانوا إذا اختلفوا و تدارءوا في آية قالوا: هذه أقرأها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فلانا فيرسل إليه و هو على رأس ثلاث من المدينة فيقال له: كيف أقرأك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) آية كذا و كذا؟ فيقول كذا و كذا فيكتبونها و قد تركوا لذلك مكانا.
و فيه، عن ابن أبي داود من طريق ابن سيرين عن كثير بن أفلح قال: لما أراد عثمان أن يكتب المصاحف جمع له اثني عشر رجلا من قريش و الأنصار فبعثوا إلى الربعة التي في بيت عمر فجيء بها و كان عثمان يتعاهدهم فكانوا إذا تدارءوا في شيء أخروه. قال محمد: فظننت أنما كانوا يؤخرونه لينظروا أحدثهم عهدا بالعرضة الأخيرة فيكتبونه على قوله.
و فيه، أخرج ابن أبي داود بسند صحيح عن سويد بن غفلة قال: قال علي: لا تقولوا في عثمان إلا خيرا فوالله ما فعل الذي فعل في المصاحف إلا عن ملإ منا قال ما تقولون في هذه القراء؟ فقد بلغني أن بعضهم يقول: إن قراءتي خير من قراءتك و هذا يكاد يكون كفرا قلنا: فما ترى؟ " قال: أرى " أن يجمع الناس على مصحف واحد فلا يكون فرقة و لا اختلاف. قلنا: فنعم ما رأيت.
و في الدر المنثور، أخرج ابن الضريس عن علباء بن أحمر أن عثمان بن عفان: لما أراد أن يكتب المصاحب أرادوا أن يلقوا الواو التي في براءة: «و الذين يكنزون الذهب و الفضة» قال أبي: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها.
و في الإتقان، عن أحمد و أبي داود و الترمذي و النسائي و ابن حبان و الحاكم عن ابن عباس قال: قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال و هي من المثاني و إلى براءة و هي من المئين فقربتم بينهما و لم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتموهما في السبع الطوال. فقال عثمان: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تنزل عليه السورة ذات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب، فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا و كذا، و كانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة، و كانت براءة من آخر القرآن نزولا و كانت قصتها شبيهة بقصتها فظننت أنها منها فقبض رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يبين لنا أنها منها. فمن أجل ذلك قرنت بينهما، و لم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم و وضعتها في السبع الطوال.
أقول: السبع الطوال - على ما يظهر من هذه الرواية و روي أيضا عن أبي جبير - هي البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنعام و الأعراف و يونس، و قد كانت موضوعة في الجمع الأول على هذا الترتيب ثم غير عثمان هذا الترتيب فأخذ الأنفال و هي من المثاني و براءة و هي من المئين قبل المثاني فوضعهما بين الأعراف و يونس مقدما الأنفال على براءة.
الفصل 6
الروايات الموضوعة في الفصلين السابقين هي أشهر الروايات الواردة في باب جمع القرآن و تأليفه بين صحيحة و سقيمة، و هي تدل على أن الجمع الأول كان جمعا لشتات السور المكتوبة في العسب و اللخاف و الأكتاف و الجلود و الرقاع و إلحاق الآيات النازلة متفرقة إلى سور تناسبها.
و إن الجمع الثاني و هو الجمع العثماني كان رد المصاحف المنتشرة عن الجمع الأول بعد عروض تعارض النسخ و اختلاف القراءات عليها إلى مصحف واحد مجمع عليه عدا ما كان من قول زيد إنه ألحق قوله: «من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه» الآية، في سورة الأحزاب في المصحف فقد كانت المصاحف تتلى خمس عشرة سنة و ليست فيها الآية.
و قد روى البخاري عن ابن الزبير قال: قلت لعثمان «و الذين يتوفون منكم و يذرون أزواجا» قد نسختها الآية الأخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغير شيئا منه من مكانه.
و الذي يعطيه النظر الحر في أمر هذه الروايات و دلالتها - و هي عمدة ما في هذا الباب - أنها آحاد غير متواترة لكنها محفوفة بقرائن قطعية فقد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبلغ الناس ما نزل إليه من ربه من غير أن يكتم منه شيئا، و كان يعلمهم و يبين لهم ما نزل إليهم من ربهم على ما نص عليه القرآن، و لم يزل جماعة منهم يعلمون و يتعلمون القرآن تعلم تلاوة و بيان و هم القراء الذين قتل جم غفير منهم في غزوة اليمامة.
و كان الناس على رغبة شديدة في أخذ القرآن و تعاطيه و لم يترك هذا الشأن و لا ارتفع القرآن من بينهم و لا يوما أو بعض يوم حتى جمع القرآن في مصحف واحد ثم أجمع عليه فلم يبتل القرآن بما ابتليت به التوراة و الإنجيل و كتب سائر الأنبياء.
أضف إلى ذلك روايات لا تحصى كثرة وردت من طرق الشيعة و أهل السنة في قراءاته (صلى الله عليه وآله وسلم) كثيرا من السور القرآنية في الفرائض اليومية و غيرها بمسمع من ملإ الناس، و قد سمي في هذه الروايات جم غفير من السور القرآنية مكيتها و مدنيتها.
أضف إلى ذلك ما تقدم في رواية عثمان بن أبي العاص: في تفسير قوله تعالى: «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» الآية: النحل: 90 من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم) إن جبريل أتاني بهذه الآية و أمرني أن أضعها في موضعها من السورة، و نظير الرواية في الدلالة ما دل على قراءته (صلى الله عليه وآله وسلم) لبعض السور النازلة نجوما كآل عمران و النساء و غيرها فيدل على أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يأمر كتاب الوحي بإلحاق بعض الآيات في موضعها.
و أعظم الشواهد القاطعة ما تقدم في أول هذه الأبحاث أن القرآن الموجود بأيدينا واجد لما وصفه الله تعالى من الأوصاف الكريمة.
و بالجملة الذي تدل عليه هذه الروايات هي: أولا: أن الموجود فيما بين الدفتين من القرآن هو كلام الله تعالى فلم يزد فيه شيء و لم يتغير منه شيء و أما النقص فإنها لا تفي بنفيه نفيا قطعيا كما روي بعدة طرق أن عمر كان يذكر كثيرا آية الرجم و لم تكتب عنه و أما حملهم الرواية و سائر ما ورد في التحريف - و قد ذكر الآلوسي في تفسيره أنها فوق حد الإحصاء - على منسوخ التلاوة فقد عرفت فساده و تحققت أن إثبات منسوخ التلاوة أشنع من إثبات أصل التحريف.
على أن من كان له مصحف غير ما جمعه زيد أولا بأمر من أبي بكر و ثانيا بأمر من عثمان كعلي (عليه السلام) و أبي بن كعب و عبد الله بن مسعود لم ينكر شيئا مما حواه المصحف الدائر غير ما نقل عن ابن مسعود أنه لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول: إنهما عوذتان نزل بهما جبرئيل على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليعوذ بهما الحسنين (عليهما السلام)، و قد رده سائر الصحابة و تواترت النصوص من أئمة أهل البيت (عليهم السلام) على أنهما سورتان من القرآن.
و بالجملة الروايات السابقة - كما ترى - آحاد محفوفة بالقرائن القطعية نافية للتحريف بالزيادة و التغيير قطعا دون النقص إلا ظنا، و دعوى بعضهم التواتر من حيث الجهات الثلاث لا مستند لها.
و التعويل في ذلك على ما قدمناه من الحجة في أول هذه الأبحاث أن القرآن الذي بأيدينا واجد للصفات الكريمة التي وصف الله سبحانه بها القرآن الواقعي الذي أنزله على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) ككونه قولا فصلا و رافعا للاختلاف و ذكرا و هاديا و نورا و مبينا للمعارف الحقيقية و الشرائع الفطرية و آية معجزة إلى غير ذلك من صفاته الكريمة.
و من الحري أن نعول على هذا الوجه فإن حجة القرآن على كونه كلام الله المنزل على رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) هي نفسه المتصفة بهاتيك الصفات الكريمة من غير أن يتوقف في ذلك على أمر آخر وراء نفسه كائنا ما كان فحجته معه أينما تحقق و بيد من كان و من أي طريق وصل.
و بعبارة أخرى لا يتوقف القرآن النازل من عند الله إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كونه متصفا بصفاته الكريمة على ثبوت استناده إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بنقل متواتر أو متظافر - و إن كان واجدا لذلك - بل الأمر بالعكس فاتصافه بصفاته الكريمة هو الحجة على الاستناد فليس كالكتب و الرسائل المنسوبة إلى المصنفين و الكتاب، و الأقاويل المأثورة عن العلماء و أصحاب الأنظار المتوقفة صحة استنادها إلى نقل قطعي و بلوغ متواتر أو مستفيض مثلا بل نفس ذاته هي الحجة على ثبوته.
و ثانيا: أن ترتيب السور إنما هو من الصحابة في الجمع الأول و الثاني و من الدليل عليه ما تقدم في الروايات من وضع عثمان الأنفال و براءة بين الأعراف و يونس و قد كانتا في الجمع الأول متأخرتين.
و من الدليل عليه ما ورد من مغايرة ترتيب مصاحف سائر الصحابة للجمع الأول و الثاني كليهما كما روي أن مصحف علي (عليه السلام) كان مرتبا على ترتيب النزول فكان أوله اقرأ ثم المدثر ثم نون ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير و هكذا إلى آخر المكي و المدني نقله في الإتقان عن ابن فارس، و في تاريخ اليعقوبي ترتيب آخر لمصحفه (عليه السلام).
و نقل عن ابن أشتة في المصاحف بإسناده عن أبي جعفر الكوفي ترتيب مصحف أبي و هو يغاير المصحف الدائر مغايرة شديدة، و كذا عنه فيه بإسناده عن جرير بن عبد الحميد ترتيب مصحف عبد الله بن مسعود آخذا من الطوال ثم المئين ثم المثاني ثم المفصل و هو أيضا مغاير للمصحف الدائر.
و قد ذهب كثير منهم إلى أن ترتيب السور توقيفي و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي أمر بهذا الترتيب بإشارة من جبريل بأمر من الله سبحانه حتى أفرط بعضهم فادعى ثبوت ذلك بالتواتر و ليت شعري أين هذا التواتر و قد تقدمت عمدة روايات الباب و لا أثر فيها من هذا المعنى، و سيأتي استدلال بعضهم على ذلك بما ورد من نزول القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا جملة ثم منها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تدريجا.
و ثالثا: أن وقوع بعض الآيات القرآنية التي نزلت متفرقة موقعها الذي هي فيه الآن لم يخل عن مداخلة من الصحابة بالاجتهاد كما هو ظاهر روايات الجمع الأول و قد تقدمت.
و أما رواية عثمان بن أبي العاص عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من السورة «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» الآية فلا تدل على أزيد من فعله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض الآيات في الجملة لا بالجملة، و على تقدير التسليم لا دلالة لما بأيدينا من الروايات المتقدمة على مطابقة ترتيب الصحابة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و مجرد حسن الظن بهم لا يسمح للروايات بدلالة تدل بها على ذلك و إنما يفيد أنهم ما كانوا ليعمدوا إلى مخالفة ترتيبه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما علموه لا فيما جهلوه.
و في روايات الجمع الأول المتقدمة أوضح الشواهد على أنهم ما كانوا على علم بمواضع جميع الآيات و لا بنفسها.
و يدل على ذلك الروايات المستفيضة التي وردت من طرق الشيعة و أهل السنة أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين إنما كانوا يعلمون تمام السورة بنزول البسملة كما رواه أبو داود و الحاكم و البيهقي و البزار من طريق سعيد بن جبير على ما في الإتقان، عن ابن عباس قال: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا يعرف فضل السورة حتى تنزل عليه بسم الله الرحمن الرحيم زاد البزار: فإذا نزلت عرف أن السورة قد ختمت و استقبلت أو ابتدأت سورة أخرى.
و أيضا عن الحاكم من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس قال: كان المسلمون لا يعلمون انقضاء السورة حتى تنزل بسم الله الرحمن الرحيم فإذا نزلت علموا أن السورة قد انقضت، إسناده على شرط الشيخين.
و أيضا عنه من وجه آخر عن سعيد عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا جاءه جبريل فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم علم أنها سورة، إسناده صحيح.
أقول: و روي ما يقرب من ذلك في عدة روايات أخر و روي ذلك من طرق الشيعة عن الباقر (عليه السلام).
و الروايات - كما ترى - صريحة في دلالتها على أن الآيات كانت مرتبة عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحسب ترتيب النزول فكانت المكيات في السورة المكية و المدنيات في سورة مدنية اللهم إلا أن يفرض سورة نزل بعضها بمكة و بعضها بالمدينة، و لا يتحقق هذا الفرض إلا في سورة واحدة.
و لازم ذلك أن يكون ما نشاهده من اختلاف مواضع الآيات مستندا إلى اجتهاد من الصحابة.
توضيح ذلك أن هناك ما لا يحصى من روايات أسباب النزول يدل على كون آيات كثيرة في السور المدنية نازلة بمكة و بالعكس و على كون آيات من القرآن نازلة مثلا في أواخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي واقعة في سور نازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت بين الوقتين سور أخرى كثيرة، و ذلك كسورة البقرة التي نزلت في السنة الأولى من الهجرة و فيها آيات الربا و قد وردت الروايات على أنها من آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى ورد عن عمر أنه قال: مات رسول الله و لم يبين لنا آيات الربا، و فيها قوله تعالى: «و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله» الآية: البقرة: 281، و قد ورد أنها آخر ما نزل من القرآن على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهذه الآيات النازلة مفرقة الموضوعة في سور لا تجانسها في المكية و المدنية موضوعة في غير موضعها بحسب ترتيب النزول و ليس إلا عن اجتهاد من الصحابة.
و يؤيد ذلك ما في الإتقان، عن ابن حجر: و قد ورد عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخرجه ابن أبي داود و هو من مسلمات مداليل روايات الشيعة.
هذا ما يدل عليه ظاهر روايات الباب المتقدمة لكن الجمهور أصروا على أن ترتيب الآيات توقيفي فآيات المصحف الدائر اليوم و هو المصحف العثماني مرتبة على ما رتبها عليه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإشارة من جبريل، و أولوا ظاهر الروايات بأن جمع الصحابة لم يكن جمع ترتيب و إنما كان جمعا لما كانوا يعلمونه و يحفظونه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السور و آياتها المرتبة، بين دفتين و في مكان واحد.
و أنت خبير بأن كيفية الجمع الأول الذي تدل عليها الروايات تدفع هذه الدعوى دفعا صريحا.
و ربما استدل عليه بما ادعاه بعضهم من الإجماع على ذلك فقد نقل السيوطي في الإتقان عن الزركشي دعوى الإجماع عليه و عن أبي جعفر بن الزبير نفي الخلاف فيه بين المسلمين، و هو إجماع منقول لا يعتمد عليه بعد وجود الخلاف في أصل التحريف و دلالة ما تقدم من الروايات على خلافه.
و ربما استدل عليه بالتواتر و يوجد ذلك في كلام كثير منهم ادعوا تواتر الترتيب الموجود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو عجيب و قد نقل في الإتقان، بعد نقله ما رواه البخاري و غيره بعدة طرق عن أنس أنه قال: مات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يجمع القرآن غير أربعة. أبو الدرداء و معاذ بن جبل و زيد بن ثابت و أبو زيد، و في رواية: «أبي بن كعب» بدل أبي الدرداء - عن المازري أنه قال: و قد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة و لا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره سلمنا و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه لكن لا يلزم من كون كل من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير و ليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه بل إذا حفظ الكل الكل و لو على التوزيع كفى، انتهى.
أما دعواه أن ظاهر كلام أنس غير مراد فهو مما لا يصغى إليه في الأبحاث اللفظية المبنية على ظاهر اللفظ إلا بقرينة من نفس كلام المتكلم أو ما ينوب منابه أما مجرد الدعوى و الاستناد إلى قول آخرين فلا.
على أنه لو حمل كلام أنس على خلاف ظاهره كان من الواجب أن يحمل على أن هؤلاء الأربعة إنما جمعوا في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) معظم القرآن و أكثر سورة و آياته لا على أنهم و غيرهم من الصحابة جمعوا جميع القرآن على ما في المصحف العثماني و حفظوا ترتيب سوره و آياته و ضبطوا موضع كل واحدة واحدة منها عن آخرها فهذا زيد بن ثابت نفسه - و هو أحد الأربعة المذكورين في حديث أنس و المتصدي للجمع الأول و الثاني كليهما - يصرح في رواياته أنه لم يحفظ جميع الآيات.
و نظيره ما في الإتقان، عن ابن أشتة في المصاحف بسند صحيح عن محمد بن سيرين قال: مات أبو بكر و لم يجمع القرآن و قتل عمر و لم يجمع القرآن.
و أما قوله: سلمناه و لكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك فمقلوب على نفسه فمن أين لهذا القائل أن الواقع في نفس الأمر كما يدعيه و قد عرفت الشواهد على خلاف ما يدعيه؟.
و أما قوله: إنه يكفي في تحقق التواتر أن يحفظ الكل كل القرآن على سبيل التوزيع فمغالطة واضحة لأنه إنما يفيد كون مجموع القرآن من حيث المجموع منقولا بالتواتر و أما كون كل واحدة واحدة من الآيات القرآنية محفوظة من حيث محلها و موضعها بالتواتر فلا و هو ظاهر.
و نقل في الإتقان، عن البغوي أنه قال في شرح السنة: الصحابة جمعوا بين الدفتين القرآن الذي أنزله الله على رسوله من غير أن زادوا أو نقصوا منه شيئا خوف ذهاب بعضه بذهاب حفظته فكتبوه كما سمعوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن قدموا شيئا أو أخروه أو وضعوا له ترتيبا لم يأخذوه من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يلقن أصحابه و يعلمهم ما نزل عليه من القرآن على الترتيب الذي هو الآن في مصاحفنا بتوقيف جبريل إياه على ذلك و إعلامه عند نزول كل آية أن هذه الآية تكتب عقب آية كذا في سورة كذا. فثبت أن سعي الصحابة كان في جمعه في موضع واحد لا في ترتيبه فإن القرآن مكتوب في اللوح المحفوظ على هذا الترتيب أنزله الله جملة إلى السماء الدنيا ثم كان ينزله مفرقا عند الحاجة و ترتيب النزول غير ترتيب التلاوة انتهى.
و نقل عن ابن الحصار أنه قال: ترتيب السور و وضع الآيات مواضعها إنما كان بالوحي كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ضعوا آية كذا في موضع كذا، و قد حصل اليقين من النقل المتواتر بهذا الترتيب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و إنما أجمع الصحابة على وضعه هكذا في المصحف انتهى: و نقل أيضا ما يقرب من ذلك عن جماعة غيرهم كالبيهقي و الطيبي و ابن حجر.
أما قولهم: إن الصحابة إنما كتبوا المصحف على الترتيب الذي أخذوه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير أن يخالفوه في شيء فمما لا يدل عليه شيء من الروايات المتقدمة، و إنما المسلم من دلالتها أنهم إنما أثبتوا ما قامت عليه البينة من متن الآيات و لا إشارة في ذلك إلى كيفية ترتيب الآيات النازلة مفرقة و هو ظاهر نعم في رواية ابن عباس المتقدمة عن عثمان ما يشير إلى ذلك غير أن الذي فيه أنه كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يأمر بعض كتاب الوحي بذلك و هو غير إعلامه جميع الصحابة ذلك على أن الرواية معارضة بروايات الجمع الأول و أخبار نزول بسم الله و غيرها.
و أما قولهم: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لقن الصحابة هذا الترتيب الموجود في مصاحفنا بتوقيف من جبريل و وحي سماوي فكأنه إشارة إلى حديث عثمان بن أبي العاص المتقدم في آية «إن الله يأمر بالعدل و الإحسان» و قد عرفت مما تقدم أنه حديث واحد في خصوص موضع آية واحدة، و أين ذلك من مواضع جميع الآيات المفرقة.
و أما قولهم: إن القرآن مكتوب على هذا الترتيب في اللوح المحفوظ أنزله الله إلى السماء الدنيا ثم أنزله الله مفرقا عند الحاجة إلخ، فإشارة إلى ما روي مستفيضا من طرق الشيعة و أهل السنة من نزول القرآن جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ثم نزوله منها نجوما إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكن الروايات ليس فيها أدنى دلالة على كون القرآن مكتوبا في اللوح المحفوظ منظما في السماء الدنيا على الترتيب الموجود في المصحف الذي عندنا و هو ظاهر.
على أنه سيأتي إن شاء الله الكلام في معنى كتابة القرآن في اللوح المحفوظ و نزوله إلى السماء الدنيا في ذيل ما يناسب ذلك من الآيات كأول سورتي الزخرف و الدخان و سورة القدر.
و أما قولهم: إنه قد حصل اليقين بالنقل المتواتر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بهذا الترتيب الموجود في المصاحف فقد عرفت أنه دعوى خالية عن الدليل و أن هذا التواتر لا خبر عنه بالنسبة إلى كل آية آية كيف و قد تكاثرت الروايات أن ابن مسعود لم يكتب في مصحفه المعوذتين و كان يقول إنهما ليستا من القرآن و إنما نزل بهما جبريل تعويذا للحسنين، و كان يحكهما عن المصاحف، و لم ينقل عنه أنه رجع عن قوله فكيف خفي عليه هذا التواتر طول حياته بعد الجمع الأول.
الفصل 7
يتعلق بالبحث السابق البحث في روايات الإنساء - و قد مرت إشارة إجمالية إليها - و هي عدة روايات وردت من طرق أهل السنة في نسخ القرآن و إنسائه حملوا عليها ما ورد من روايات التحريف سقوطا و تغييرا.
فمنها ما في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم و الحاكم في الكنى و ابن عدي و ابن عساكر عن ابن عباس قال: كان مما ينزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الوحي بالليل و ينساه بالنهار فأنزل الله: «ما ننسخ من آية أو ننسها - نأت بخير منها أو مثلها».
و فيه، عن أبي داود في ناسخه و البيهقي في الدلائل عن أبي أمامة: أن رهطا من الأنصار من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخبروه أن رجلا قام من جوف الليل يريد أن يفتتح سورة كان قد وعاها فلم يقدر منها على شيء إلا بسم الله الرحمن الرحيم و وقع ذلك لناس من أصحابه فأصبحوا فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن السورة فسكت ساعة لم يرجع إليهم شيئا ثم قال: نسخت البارحة فنسخت من صدورهم و من كل شيء كانت فيه.
أقول: و القصة مروية بعدة طرق في ألفاظ متقاربة مضمونا.
و فيه، عن عبد الرزاق و سعيد بن منصور و أبي داود في ناسخه و ابنه في المصاحف و النسائي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن سعد بن أبي وقاص: أنه قرأ: «ما ننسخ من آية أو ننسأها» فقيل له: إن سعيد بن المسيب يقرأ «ننسها» فقال سعد: إن القرآن لم ينزل على المسيب و لا آل المسيب قال الله: «سنقرئك فلا تنسى» «و اذكر ربك إذا نسيت».
أقول: يريد بالتمسك بالآيتين أن الله رفع النسيان عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيتعين أن يقرأ «ننسأها» من النسيء بمعنى الترك و التأخير فيكون المراد بقوله: «ما ننسخ من آية» إزالة الآية عن العمل دون التلاوة كآية صدقة النجوى، و بقوله: «أو ننسأها» ترك الآية و رفعها من عندهم بالمرة و إزالتها عن العمل و التلاوة كما روي تفسيرها بذلك عن ابن عباس و مجاهد و قتادة و غيرهم.
و فيه، أخرج ابن الأنباري عن أبي ظبيان قال: قال لنا ابن عباس: أي القراءتين تعدون أول؟ قلنا: قراءة عبد الله و قراءتنا هي الأخيرة. فقال: رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يعرض عليه جبريل القرآن كل سنة مرة في شهر رمضان و أنه عرضه عليه في آخر سنة مرتين فشهد منه عبد الله ما نسخ ما بدل.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق أخرى عن ابن عباس و عبد الله بن مسعود نفسه و غيرهما من الصحابة و التابعين و هناك روايات أخر في الإنساء.
و محصل ما استفيد منها أن النسخ قد يكون في الحكم كالآيات المنسوخة المثبتة في المصحف، و قد يكون في التلاوة مع نسخ حكمها أو من غير نسخ حكمها و قد تقدم في تفسير قوله: «ما ننسخ من آية»: البقرة: 106 و سيأتي في قوله: «و إذا بدلنا آية مكان آية»: النحل: 101 أن الآيتين أجنبيتان عن الإنساء بمعنى نسخ التلاوة، و تقدم أيضا في الفصول السابقة أن هذه الروايات مخالفة لصريح الكتاب فالوجه عطفها على روايات التحريف و طرح القبيلين جميعا.
|