بيان
لما ذكر سبحانه إعراضهم عن آية القرآن المعجزة و اقتراحهم آية أخرى و هي الإتيان بالملائكة و أجاب عنه أنه ممتنع و ملازم لفنائهم عدل إلى عد عدة من آيات السماء و الأرض الدالة على التوحيد ليعتبروا بها إن كانوا يعقلون و تتم الحجة بها على المجرمين، و قد ضمن سبحانه فيها طرفا عاليا من المعارف الحقيقية و الأسرار الإلهية.
قوله تعالى: «و لقد جعلنا في السماء بروجا و زيناها للناظرين» إلى آخر الآيات الثلاث البروج جمع برج و هو القصر سميت بها منازل الشمس و القمر من السماء بحسب الحس تشبيها لها بالقصور التي ينزلها الملوك.
و الضمير في قوله: «و زيناها» للسماء كما في قوله: «و حفظناها» و تزيينها للناظرين هو ما نشاهده في جوها من البهجة و الجمال الذي يوله الألباب بنجومها الزاهرة و كواكبها اللامعة على اختلاف أقدارها و تنوع لمعاتها و قد كرر سبحانه ذكر هذا التزيين الكاشف عن مزيد عنايته به كقوله: «و زينا السماء الدنيا بمصابيح و حفظا»: حم السجدة: 12، و قوله: «إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب و حفظا من كل شيطان مارد، لا يسمعون إلى الملإ الأعلى و يقذفون من كل جانب دحورا و لهم عذاب واصب إلا من خطف الخطفة فأتبعه شهاب ثاقب»: الصافات: 10.
و استراق السمع أخذ الخبر المسموع في خفية كمن يصغي خفية إلى حديث قوم يسرونه فيما بينهم، و استراق السمع من الشياطين هو محاولتهم أن يطلعوا على بعض ما يحدث به الملائكة فيما بينهم كما يدل عليه ما تقدم آنفا من آيات سورة الصافات.
و الشهاب هو الشعلة الخارجة من النار و يطلق على ما يشاهد في الجو من أجرام مضيئة كان الواحد منها كوكب ينقض دفعه من جانب إلى آخر فيسير سيرا سريعا ثم لا يلبث دون أن ينطفىء.
فظاهر معنى الآيات و لقد جعلنا في السماء - و هي جهة العلو - بروجا و قصورا هي منازل الشمس و القمر و زيناها أي السماء للناظرين بزينة النجوم و الكواكب و حفظناها أي السماء من كل شيطان رجيم أن ينفذ فيها فيطلع على ما تحتويه من الملكوت إلا من استرق السمع من الشياطين بالاقتراب منه ليسمع ما يحدث به الملائكة من أحاديث الغيب المتعلقة بمستقبل الحوادث و غيرها فإنه يتبعه شهاب مبين.
و سنتكلم إن شاء الله في الشهب و معنى رمي الشياطين فيما سيأتي من تفسير سورة الصافات.
قوله تعالى: «و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسي و أنبتنا فيها من كل شيء موزون» مد الأرض بسطها طولا و عرضا و بذلك صلحت للزرع و السكنى و لو أغشيت حبالا شاهقة مضرسة لفقدت كمال حياة الحيوان عليها.
و الرواسي صفة محذوفة الموصوف و التقدير و ألقينا فيها جبالا رواسي و هو جمع راسية بمعنى الثابتة إشارة إلى ما وقع في غير هذا الموضع أنها تمنع الأرض من الميدان كما قال: «و ألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم»: النحل: 15.
و الموزون من الوزن و هو تقدير الأجسام من جهة ثقلها ثم عمم لكل تقدير لكل ما يمكن أن يتقدر بوجه كتقدير الطول بالشبر و الذراع و نحو ذلك و تقدير الحجم و تقدير الحرارة و النور و القدرة و غيرها، و في كلامه تعالى: «و نضع الموازين القسط ليوم القيامة»: الأنبياء: 47، و هو توزين الأعمال و لا يتصف بثقل و خفة من نوع ما للأجسام الأرضية منهما.
و ربما يكنى به عن كون الشيء بحيث لا يزيد و لا ينقص عما يقتضيه الطبع أو الحكمة كما يقال: كلامه موزون و قامته موزونة و أفعاله موزونة أي مستحسنة متناسبة الأجزاء لا تزيد و لا تنقص مما يقتضيه الطبع أو الحكمة.
و بالنظر إلى اختلاف اعتباراته المذكورة ذكر بعضهم أن المراد به إخراج كل ما يوزن من المعدنيات كالذهب و الفضة و سائر الفلزات، و قال بعضهم: إنه إنبات النباتات على ما لكل نوع منها من النظام البديع الموزون، و قيل: إنه خلق كل أمر مقدر معلوم.
و الذي يجب التنبه له التعبير بقوله: «من كل شيء موزون» دون أن يقال: من كل نبات موزون فهو يشمل غير النبات مما يظهر و ينمو في الأرض كما أنه يشمل النبات لمكان قوله: «و أنبتنا» دون أن يقال: أخرجنا أو خلقنا و قد جيء بمن و ظاهرها التبعيض فالمراد - و الله أعلم - إنبات كل أمر موزون ذي ثقل مادي يمكن أن يزيد و ينقص من الأجسام النباتية و الأرضية، و لا مانع على هذا من أخذ الموزون بكل من معنييه الحقيقي و الكنائي.
و المعنى: و الأرض بسطناها و طرحنا فيها جبالا ثابتة لتسكنها من الميد و أنبتنا فيها من كل شيء موزون - ثقيل واقع تحت الجاذبة أو متناسب - مقدارا تقتضيه الحكمة.
قوله تعالى: «و جعلنا لكم فيها معايش و من لستم له برازقين» المعايش جمع معيشة و هي ما به يعيش الحيوان و يديم حياته من المأكول و المشروب و غيرهما و يأتي مصدرا كالعيش و المعاش.
و قوله: «و من لستم له برازقين» معطوف على الضمير المجرور في «لكم» على ما ذهب إليه من النحاة الكوفيون و يونس و الأخفش من جواز العطف على الضمير المجرور من غير إعادة الجار، و أما على قول غيرهم فربما يعطف على معايش و التقدير و جعلنا لكم من لستم له برازقين كالعبيد و الحيوان الأهلي، و ربما جعل «من» مبتدأ محذوف الخبر و التقدير: و من لستم له برازقين جعلنا له فيها معايش و هذا كله تكلف ظاهر.
و كيف كان، المراد بمن العبيد و الدواب - على ما قيل - أتي بلفظة من و هي لأولي العقل تغليبا هذا، و ليس من البعيد أن يكون المراد به كل ما عدا الإنسان من الحيوان و النبات و غيرهما فإنها تسأل الرزق كما يسأله العقلاء و من دأبه سبحانه في كلامه أن يطلق الألفاظ المختصة بالعقلاء على غيرهم إذا أضيف إليها شيء من الآثار المختصة بهم كقوله تعالى في الأصنام: «فاسألوهم إن كانوا ينطقون»: الأنبياء: 63، و قوله: «فإنهم عدو لي»: الشعراء: 77، إلى غير ذلك من الآيات المتعرضة لحال الأصنام التي كانوا يعبدونها و لا يستقيم للمعبود إلا أن يكون عاقلا، و كذا قوله: «فقال لها و للأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين»: حم السجدة: 11، و غير ذلك.
و المعنى: و جعلنا لكم معشر البشر في الأرض أشياء تعيشون بها مما تدام به الحياة و لغيركم من أرباب الحياة مثل ذلك.
قوله تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم» الخزائن جمع خزانة و هي مكان خزن المال و حفظه و ادخاره، و القدر بفتحتين أو فتح فسكون مبلغ الشيء و كميته المتعينة.
و لما كانت الآية واقعة في سياق الكلام في الرزق الذي يعيش به الإنسان و الحيوان كان المراد بالشيء الموصوف في الآية النبات و ما يتبعه من الحبوب و الثمرات فالمراد بخزانته التي عند الله و هو ينزل بقدر معلوم المطر النازل من السماء الذي ينبت به النبات فيأتي بالحبوب و الأثمار و يعيش بذلك الإنسان و الحيوان هذا ملخص ما ذكره جمع من المفسرين.
و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف فتخصيص ما في قوله: «و إن من شيء» من العموم و حصره في النبات من تخصيص الأكثر من غير شك و المورد لا يخصص و أردى منه تسمية المطر خزائن النبات و ليس إلا سببا من أسبابه و جزء من أجزاء كثيرة يتكون النبات بتركبها الخاص، على أن المطر إنما تتكون حينما ينزل فكيف يسمى خزانة و ليس بموجود و لا أن الذي هو خزانته موجود فيه.
و ذكر بعض المفسرين أن المراد بكون خزائن كل شيء عند الله سبحانه شمول قدرته المطلقة له.
فله تعالى من كل نوع من أنواع الأشياء كالإنسان و الفرس و النخلة و غير ذلك من الأعيان و صفاتها و آثارها و أفعالها مقدورات في التقدير غير متناهية عددا لا يخرج منها دائما من التقدير و الفرض إلى التحقق و الفعلية إلا قدر معلوم و عدد معين محدود.
و على هذا فالمراد من كل شيء نوعه لا شخصه كالإنسان مثلا لا كزيد و عمرو، و المراد من القدر المعلوم الكمية المعينة من الأفراد و المراد من وجود خزائنه و وجوده في خزائنه وجوده بحسب التقدير لا بحسب التحقق فيرجع إلى نوع من التشبيه و المجاز.
و أنت خبير بأن فيه تخصيصا للشيء من غير مخصص، و فيه قصر للقدر في العدد من غير دليل، و القدر في اللغة قريب المعنى من الحد و هو المفهوم من سياق قوله تعالى: «قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق: 3، و قوله: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8، و قوله: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»: القمر: 49، و قوله: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان: 2 إلى غير ذلك.
و فيه إرجاع الكلام إلى معنى مجازي استعاري من غير موجب مع ما فيه من ورود الخزائن بصيغة الجمع من غير نكتة ظاهرة.
و ذكر بعض معاصري المفسرين وجها آخر و هو أن المراد بالخزائن العناصر المختلفة التي تتألف منها الأرزاق و غيرها و قد أعد الله منها في عالمنا المشهود كمية عظيمة لا تنفد بعروض التركيب و الأسباب الكلية التي تعمل في تركب المركبات كالضوء و الحرارة و الرياح الدائمة المنظمة و غيرها التي تتكون منها الأشياء مما يحتاج إليه الإنسان في إدامة حياته و غيره.
فكل من هذه الأشياء مدخرة بأجزائها و القوى الفعالة فيها في تلك الخزائن غير القابلة للنفاد من جهة عظمة مقداره و من جهة ما يعود إليه من الأجزاء الجديدة بانحلال تركيب المركبات بموت أو فساد و رجوعها إلى عناصرها الأولية كالنبات يفسد و الحيوان يموت فيعود عناصرها بانحلال التركيب إلى مقارها و يتسع بذلك المكان لكينونة نبات و حيوان آخر يخلفان سلفهما.
فالضوء و خاصة ضوء الشمس الذي يعمل الليل و النهار و الفصول الأربعة و يربي النبات و الحيوان و سائر المركبات و يسوقها إلى غاياتها و مقاصدها من خزائن الله تعالى و الرياح التي تلقح النبات و تسوق السحب و تنقل الأهوية من مكان إلى مكان و تدفع فاسد الهواء و تجري السفن خزانة أخرى، و الماء النازل من السماء الذي تحتاج إليه المركبات ذوات الحياة في كينونتها و بقائها خزانة أخرى، و كذلك العناصر البسيطة التي تتركب منها المركبات كل منها خزانة تنزل من مجموعها أو من عدة منها الأشياء المركبة، و لا ينزل قط إلا عدد معلوم من كل نوع من غير أن تنفد به الخزائن.
و على هذا فمراد الآية بالشيء هو نوعه لا شخصه كما تقدم في الوجه الأول و المراد بخزائنه مجموع ما في الكون من أصوله و عناصره و أسبابه العامة المادية و مجموع الشيء موجود في مجموع خزائنه لا في كل واحد منها و المراد بنزوله بقدر معلوم كينونة عدد محدود منه في كل حين من غير أن يستوفى عدد جميع ما في خزائنه.
و هذا وجه حسن في نفسه تؤيده الأبحاث العلمية عن كينونة هذه الحوادث و تصدقه آيات كثيرة متفرقة في الكتاب العزيز كقوله في الآية التالية: «و أرسلنا الرياح لواقح و أنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه» و قوله: «و جعلنا من الماء كل شيء حي»: الأنبياء: 30، و قوله: «و سخر لكم الشمس و القمر دائبين»: إبراهيم: 33، و قوله: «و السحاب المسخر بين السماء و الأرض»: البقرة: 164 إلى غير ذلك من الآيات.
لكن الآية و هي من آيات القدر كما يعطيه سياقها تأبى الحمل عليه كما تأبى عنه أخواتها و كيف يحمل عليه قوله: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»؟: الفرقان: 2، و قوله: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3، و قوله: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8، و قوله: «إلا امرأته قدرناها من الغابرين»: النمل: 57، و قوله: «من أي شيء خلقه من نطفة خلقه فقدره»: عبس: 19، و قوله: «إنا أنزلناه في ليلة القدر» إلى آخر السورة إلى غير ذلك من الآيات.
على أنه يرد عليه بعض ما أورد على الوجهين السابقين كتخصيص عموم «شيء» من غير مخصص و غير ذلك.
و الذي يعطيه التدبر في الآية و ما يناظرها من الآيات الكريمة أنها من غرر كلامه تعالى تبين ما هو أدق مسلكا و أبعد غورا مما فسروها به و هو ظهور الأشياء بالقدر و الأصل الذي لها قبل إحاطته بها و اشتماله عليها.
و ذلك أن ظاهر قوله: «و إن من شيء» على ما به من العموم بسبب وقوعه في سياق النفي مع تأكيده بمن، كل ما يصدق عليه أنه شيء من دون أن يخرج منه إلا ما يخرجه نفس السياق و هو ما تدل عليه لفظة «نا» و «عند» و «خزائن» و ما عدا ذلك مما يرى و لا يرى مشمول للعام.
فشخص زيد مثلا و هو فرد إنساني من الشيء و نوع من الإنسان أيضا الموجود في الخارج بأفراده من الشيء و الآية تثبت لذلك خزائن عند الله سبحانه فلننظر ما معنى كون زيد مثلا له خزائن عند الله؟.
و الذي يسهل الأمر فيه أنه تعالى يعد هذا الشيء المذكور نازلا من عنده و النزول يستدعي علوا و سفلا و رفعة و خفضة و سماء و أرضا مثلا و لم ينزل زيد المخلوق مثلا من مكان عال إلى آخر سافل بشهادة العيان فليس المراد بإنزاله إلا خلقه لكنه ذو صفة يصدق عليه النزول بسببها، و نظير الآية قوله تعالى: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر: 6، و قوله: «و أنزلنا الحديد»: الحديد: 25.
ثم قوله: «و ما ننزله إلا بقدر معلوم» يقرن النزول و هو الخلقة بالقدر قرنا لازما غير جائز الانفكاك لمكان الحصر، و الباء إما للسببية أو الآلة أو المصاحبة و المآل واحد فكينونة زيد و ظهوره بالوجود إنما هو بماله من القدر المعلوم فوجوده محدود لا محالة، كيف؟ و هو تعالى يقول: «إنه بكل شيء محيط»: حم السجدة: 54، و لو لم يكن محدودا لم يكن محاطا له تعالى فمن المحال أن يحاط بما لا حد له و لا نهاية.
و هذا القدر هو الذي بسببه يتعين الشيء و يتميز من غيره ففي زيد مثلا شيء به يتميز من عمرو و غيره من أفراد الإنسان و يتميز من الفرس و البقر و الأرض و السماء و يجوز لنا به أن نقول ليس هو بعمرو و لا بالفرس و البقر و الأرض و السماء و لو لا هذا الحد لكان هو هي و ارتفع التميز.
و كذلك ما عنده من القوى و الآثار و الأعمال محدودة مقدرة فليس إبصاره مثلا إبصارا مطلقا في كل حال و في كل زمان و في كل مكان و لكل شيء و بكل عضو مثلا بل إبصار في حال و زمان و مكان خاص و لشيء خاص و بعضو خاص و على شرائط خاصة، و لو كان إبصارا مطلقا لأحاط بكل إبصار خاص و كان الجميع له و نظيره الكلام في سائر ما يعود إليه من خصائص وجوده و توابعه فافهم ذلك.
و من هنا يظهر أن القدر خصوصية وجود الشيء و كيفية خلقته كما يستفاد أيضا من قوله تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3، و قوله: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50 فإن الآية الأولى رتبت الهداية و هي الدلالة على مقاصد الوجود على خلق الشيء و تسويته و تقديره، و الآية الثانية رتبتها على إعطائه ما يختص به من الخلق، و لازم ذلك - على ما يعطيه سياق الآيتين - كون قدر الشيء خصوصية خلقه غير الخارجة عنه.
ثم إنه تعالى وصف قدر كل شيء بأنه معلوم إذ قال: «و ما ننزله إلا بقدر معلوم» و يفيد بحسب سياق الكلام أن هذا القدر معلوم له حينما يتنزل الشيء و لما يتم نزوله و يظهر وجوده فهو معلوم القدر معينة قبل إيجاده، و إليه يئول معنى قوله: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8، فإن ظاهر الآية أن كل شيء بما له من المقدار حاضر عنده معلوم له فقوله هناك: «عنده بمقدار» في معنا قوله هاهنا «بقدر معلوم» و نظير ذلك قوله في موضع آخر: «قد جعل الله لكل شيء قدرا»: الطلاق: 3، أي قدرا لا يتجاوزه معينا غير مبهم معلوما غير مجهول و بالجملة للقدر تقدم على الشيء بحسب العلم و المشية و إن كان مقارنا له غير منفك عنه في وجوده.
ثم إنه تعالى أثبت بقوله: «عندنا خزائنه و ما ننزله» إلخ، للشيء عنده قبل نزوله إلى هذه النشأة و استقراره فيها خزائن، و جعل القدر متأخرا عنها ملازما لنزوله فالشيء و هو في هذه الخزائن غير مقدر بقدر و لا محدود بحد و هو مع ذلك هو.
و قد جمع في تعريف هذه الخزائن بين كونها فوق القدر الذي يلحق الشيء و بين كونها خزائن فوق الواحدة و الاثنتين، و من المعلوم أن العدد لا يلحق إلا الشيء المحدود و أن هذه الخزائن لو لم تكن محدودة متميزة بعضها من بعض كانت واحدة البتة.
و من هنا يتبين أن هذه الخزائن بعضها فوق بعض و كل ما هو عال منها غير محدود بحد ما هو دان غير مقدر بقدره و مجموعها غير محدود بالحد الذي يلحق الشيء و هو في هذه النشأة، و لا يبعد أن يكون التعبير بالتنزيل الدال على نوع من التدريج في قوله: «و ما ننزله» إشارة إلى كونه يطوي في نزوله مرحلة بعد مرحلة و كلما ورد مرحلة طرأه من القدر أمر جديد لم يكن قبل حتى إذا وقع في الأخيرة أحاط به القدر من كل جانب قال تعالى: «هل أتى على الإنسان حين من الدهر لم يكن شيئا مذكورا»: الدهر: 1، فقد كان الإنسان و لكنه لم يكن شيئا مذكورا.
و هذه الخزائن جميعا فوق عالمنا المشهود لأنه تعالى وصفها بأنها عنده و قد أخبرنا بقوله: «ما عندكم ينفد و ما عند الله باق» أن ما عنده ثابت لا يزول و لا يتغير عما هو عليه فهذه الخزائن كائنة ما كانت أمور ثابتة غير زائلة و لا متغيرة، و الأشياء في هذه النشأة المادية المحسوسة متغيرة فانية لا ثابتة و لا باقية فهذه الخزائن الإلهية فوق عالمنا المشهود.
هذا ما يعطيه التدبر في الآية الكريمة و هو و إن كان لا يخلو من دقة و غموض يعضل على بادىء الفهم لكنك لو أمعنت في التدبر و بذلت في ذلك بعض جهدك استنار لك و وجدته من واضحات كلامه إن شاء الله تعالى و على من لم يتيسر له قبوله أن يعتمد الوجه الثالث المتقدم فهو أحسن الوجوه الثلاثة المتقدمة و الله ولي الهداية و سنرجع إلى بحث القدر في كلام مستقل يختص به إن شاء الله في موضع يناسبه.
قوله تعالى: «و أرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه و ما أنتم له بخازنين» اللواقح جمع لاقحة من اللقح بالفتح فالسكون يقال لقح النخل لقحا أي وضع اللقاح - بفتح اللام - و هو طلع الذكور من النخل على الإناث لتحمل بالتمر، و قد ثبت بالأبحاث الحديثة في علم النبات أن حكم الزوجية جار في عامة النبات و أن فيه ذكورية و أنوثية و أن الرياح في مهبها تحمل الذرات من نطفة الذكور فتلقح بها الإناث، و هو قوله تعالى: «و أرسلنا الرياح لواقح».
و قوله: «فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه» إشارة إلى المطر النازل من السحاب و قد تسلم الأبحاث العلمية الحديثة أن الماء الموجود في الكرة الأرضية من الأمطار النازلة عليها من السماء على خلاف ما كانت تعتقده القدماء أنه كرة ناقصة محيطة بكرة الأرض إحاطة ناقصة و هو عنصر من العناصر الأربعة.
و هذه الآية التي تثبت بشطرها الأول: «و أرسلنا الرياح لواقح» مسألة الزوجية و اللقاح في النبات، و بشطرها الثاني: «فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه» أن المياه الموجودة المدخرة في الأرض تنتهي إلى الأمطار، و قوله تعالى السابق: «و أنبتنا فيها من كل شيء موزون» الظاهر في أن للوزن دخلا خاصا في الإنبات و الإنماء من نقود العلم التي سبق إليها القرآن الكريم الأبحاث العلمية و هي تتلو المعجزة أو هي هي.
قوله تعالى: «و إنا لنحن نحيي و نميت و نحن الوارثون» الكلام مسوق للحصر يريد بيان رجوع كل التدبير إليه، و قد كان ما عده من النعم كالسماء ببروجها و الأرض برواسيها، و إنبات كل شيء موزون و جعل المعايش و إرسال اللواقح و إنزال الماء من السماء إنما يتم نظاما مبنيا على الحكمة و العلم إذا انضم إليه الحياة و الموت و الحشر، و كان مما ربما يظن أن بعض الحياة و الموت ليس إليه تعالى و لذا أكد الكلام و أتى بالحصر دفعا لذلك.
ثم جاء بقوله: «و نحن الوارثون» أي الباقون بعد إماتتكم المتصرفون فيما خولناكموه من أمتعة الحياة كأنه تعالى يقول إلينا تدبير أمركم و نحن محيطون بكم نحييكم بعد ما لم تكونوا فنحن قبلكم، و نميتكم و نرثكم فنحن بعدكم.
قوله تعالى: «و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين» لما كانت الآيات السابقة التي تعد النعم الإلهية و تصف التدبير مسوقة لبيان وحدانيته تعالى في ربوبيته، و كان لا ينفع الخلق و النظم من غير انضمام علمه تعالى و خاصة بمن يحييه و يميته عقبها بهذه الآية الدالة على علمه بمن استقدم منهم بالوجود و من استأخر أي المتقدمين من الناس و المتأخرين على ما يفيده السياق.
و قيل: المراد بالمستقدمين المستقدمون في الخير، و قيل: المستقدمون في صفوف الحرب، و قيل: المستقدمون إلى الصف الأول في صلاة الجماعة و المستأخرون خلافهم، و هي أقوال ردية.
قوله تعالى: «و إن ربك هو يحشرهم إنه حكيم عليم» الكلام مسوق للحصر أي هو يحشرهم لا غير فهو الرب.
و أورد عليه أنه في مثل ذلك من الحصر يكون الفعل مسلم الثبوت و النزاع إنما هو في الفاعل، و هاهنا ليس كذلك فإن الخصم لا يسلم الحشر من أصله هذا.
و قد ذهب على هذا المعترض أن الآية حولت الخطاب السابق للناس عنهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) التفاتا فقيل: «و إن ربك هو يحشرهم» و لم يقل إن ربكم هو يحشركم، و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مسلم للحشر.
و بذلك يظهر نكتة الالتفات في الآية في مورده تعالى من التكلم مع الغير إلى الغيبة، و في مورد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الغيبة إلى الخطاب و في مورد الناس بالعكس.
و قد ختمت الآية بقوله: «إنه حكيم عليم» لأن الحشر يتوقف على الحكمة المقتضية لحساب الأعمال و مجازاة المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته، و على العلم حتى لا يغادر منهم أحد.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و لقد جعلنا في السماء بروجا» قال: قال: منازل الشمس و القمر.
و فيه،: في قوله تعالى: «إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين» قال: قال: لم يزل الشياطين تصعد إلى السماء و تجس حتى ولد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المعاني، عن البرقي عن أبيه عن جده عن البزنطي عن أبان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان إبليس يخترق السماوات السبع فلما ولد عيسى (عليه السلام) حجب عن ثلاث سماوات و كان يخترق أربع سماوات فلما ولد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حجب عن السبع كلها و رميت الشياطين بالنجوم.
الحديث.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: قال جرير بن عبد الله: حدثني يا رسول الله عن السماء الدنيا و الأرض السفلى، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أما السماء الدنيا فإن الله خلقها من دخان ثم رفعها و جعل فيها سراجا و قمرا منيرا و زينها بمصابيح النجوم و جعلها رجوما للشياطين و حفظها من كل شيطان رجيم.
أقول: و سيأتي إن شاء الله ما يتبين به معنى هذه الأحاديث.
و في تفسير القمي،: في قوله: «و جعلنا لكم فيها معايش» قال: لكل ضرب من الحيوان قدرنا شيئا مقدرا.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و أنبتنا فيها من كل شيء موزون» فإن الله أنبت في الجبال الذهب و الفضة و الجوهر و الصفر و النحاس و الحديد و الرصاص و الكحل و الزرنيخ و أشباه ذلك لا تباع إلا وزنا.
أقول: ينبغي أن يحمل على بيان بعض المصاديق على ما في متنه و سنده من الوهن.
و في روضة الواعظين، لابن الفارسي روي عن جعفر بن محمد عن أبيه عن جده (عليهم السلام) أنه قال: في العرش تمثال جميع ما خلق الله في البر و البحر. قال: و هذا تأويل قوله: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه» الحديث.
و في المعاني، بإسناده عن مقاتل بن سليمان قال: قال أبو عبد الله الصادق (عليه السلام): لما صعد موسى (عليه السلام) الطور فنادى ربه عز و جل قال: رب أرني خزائنك. قال: يا موسى إنما خزائني إذا أردت شيئا أن أقول له: كن فيكون.
و في الدر المنثور، أخرج البزار و ابن مردويه في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خزائن الله الكلام فإذا أراد شيئا قال له: كن فكان.
أقول: و الروايات الثلاث الأخيرة تؤيد ما قدمناه في تقرير معنى الآية، و المراد بقول كن كلمة الإيجاد الذي هو وجود الأشياء.
و هو مما يؤيد عموم الشيء في الآية، و كذا كان يفهمه الصحابة و أهل عصر النزول كما يؤيده ما رواه في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن معاوية أنه قال: أ لستم تعلمون أن كتاب الله حق؟ قالوا: بلى. قال: فاقرءوا هذه الآية «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه - و ما ننزله إلا بقدر معلوم» أ لستم تؤمنون بهذا و تعلمون أنه حق؟ قالوا: بلى. قال: فكيف تلومونني بعد هذا؟ فقام الأحنف و قال: يا معاوية و الله ما نلومك على ما في خزائن الله و لكن إنما نلومك على ما أنزله الله من خزائنه فجعلته أنت في خزائنك و أغلقت عليه بابك فسكت معاوية.
و فيه، أخرج ابن مردويه و الحاكم عن مروان بن الحكم قال: كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء فأنزل الله و لقد علمنا المستقدمين منكم الآية.
أقول: و روي فيه، أيضا عن عدة عن أبي الجوزاء عن ابن عباس قال: كانت امرأة تصلي خلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حسناء من أحسن الناس فكان بعض القوم يتقدم حتى يكون في الصف الأول لئلا يراها و يستأخر بعضهم حتى يكون في الصف المؤخر فإذا ركع نظر من تحت إبطيه فأنزل الله: «و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين».
و الآية لا تنطبق على ما في هاتين الروايتين لا من جهة اللفظ و لا من جهة السياق الذي وقعت هي فيه.
و هو ظاهر.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم من طريق معتمر بن سليمان عن شعيب بن عبد الملك عن مقاتل بن سليمان: في قوله: «و لقد علمنا المستقدمين منكم» الآية قال: بلغنا أنه في القتال. قال معتمر فحدثت أبي فقال: لقد نزلت هذه الآية قبل أن يفرض القتال.
أقول: يعني أنها مكية.
و في تفسير العياشي، عن جابر عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «و لقد علمنا المستقدمين منكم و لقد علمنا المستأخرين» قال: هم المؤمنون من هذه الأمة.
و في تفسير البرهان، عن الشيباني في نهج البيان، عن الصادق جعفر بن محمد: أن المستقدمين أصحاب الحسنات، و المستأخرين أصحاب السيئات.
|