بيان
الآيات تذكر قصة أصحاب الكهف و هي أحد الأمور الثلاثة التي أشارت اليهود على قريش أن تسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها و تختبر بها صدقه في دعوى النبوة: قصة أصحاب الكهف و قصة موسى و فتاه و قصة ذي القرنين على ما وردت به الرواية غير أن هذه القصة لم تصدر بما يدل على تعلق السؤال بها كما صدرت به قصة ذي القرنين: «يسألونك عن ذي القرنين» الآية و إن كان في آخرها بعض ما يشعر بذلك كقوله: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا» على ما سيجيء.
و سياق الآيات الثلاث التي افتتحت بها القصة مشعر بأن قصة الكهف كانت معلومة إجمالا قبل نزول الوحي بذكر القصة و خاصة سياق قوله: «أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا و أن الذي كشف عنه الوحي تفصيل قصتهم الآخذ من قوله: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق» إلى آخر الآيات.
و وجه اتصال آيات القصة بما تقدم أنه يشير بذكر قصتهم و نفي كونهم عجبا من آيات الله أن أمر جعله تعالى ما على الأرض زينة لها يتعلق بها الإنسان و يطمئن إليها مكبا عليها منصرفا غافلا عن غيرها لغرض البلاء و الامتحان ثم جعل ما عليها بعد أيام قلائل صعيدا جرزا لا يظهر للإنسان إلا سدى و سرابا ليس ذلك كله إلا آية إلهية هي نظيرة ما جرى على أصحاب الكهف حين سلط الله عليهم النوم في فجوة من الكهف ثلاث مائة سنين شمسية ثم لما بعثهم لم يحسبوا مكثهم ذلك إلا مكث يوم أو بعض يوم.
فمكث كل إنسان في الدنيا و اشتغاله بزخارفها و زيناتها و تولهه إليها ذاهلا عما سواها آية تضاهي في معناها آية أصحاب الكهف و سيبعث الله الناس من هذه الرقدة فيسألهم «كم لبثتم في الأرض عدد سنين قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم»: المؤمنون: 113 «كأنهم يوم يرون ما يوعدون لم يلبثوا إلا ساعة من نهار»: الأحقاف: 35 فما آية أصحاب الكهف ببدع عجيب من بين الآيات بل هي متكررة جارية ما جرت الأيام و الليالي على الإنسان.
فكأنه تعالى لما قال: «فلعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا» إلى تمام ثلاث آيات قال مخاطبا لنبيه: فكأنك ما تنبهت أن اشتغالهم بالدنيا و عدم إيمانهم بهذا الحديث عن تعلقهم بزينة الأرض آية إلهية تشابه آية مكث أصحاب الكهف في كهفهم ثم انبعاثهم و لذلك حزنت و كدت تقتل نفسك أسفا بل حسبت أن أصحاب الكهف كانوا من آياتنا بدعا عجبا من النوادر في هذا الباب.
و إنما لم يصرح بهذا المعنى صونا لمقام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن نسبة الغفلة و الذهول إليه و لأن الكناية أبلغ من التصريح.
هذا ما يعطيه التدبر في وجه اتصال القصة و على هذا النمط يجري السياق في اتصال ما يتلو هذه القصة من مثل رجلين لأحدهما جنتان و قصة موسى و فتاه و سيجيء بيانه و قد ذكر في اتصال القصة وجوه أخر غير وجيهة لا جدوى في نقلها.
قوله تعالى: «أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا» الحسبان هو الظن، و الكهف هو المغارة في الجبل إلا أنه أوسع منها فإذا صغر سمي غارا و الرقيم من الرقم و هو الكتابة و الخط فهو في الأصل فعيل بمعنى المفعول كالجريح و القتيل بمعنى المجروح و المقتول، و العجب مصدر بمعنى التعجب أريد به معنى الوصف مبالغة.
و ظاهر سياق القصة أن أصحاب الكهف و الرقيم جماعة بأعيانهم و القصة قصتهم جميعا فهم المسمون أصحاب الكهف و أصحاب الرقيم أما تسميتهم أصحاب الكهف فلدخولهم الكهف و وقوع ما جرى عليهم فيه.
و أما تسميتهم أصحاب الرقيم فقد قيل: إن قصتهم كانت منقوشة في لوح منصوب هناك أو محفوظ في خزانة الملوك فبذلك سموا أصحاب الرقيم: و قيل: إن الرقيم اسم الجبل الذي فيه الكهف، أو الوادي الذي فيه الجبل أو البلد الذي خرجوا منه إلى الكهف أو الكلب الذي كان معهم أقوال خمسة، و سيأتي في الكلام على قصتهم ما يؤيد القول الأول.
و قيل: إن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف و قصتهم غير قصتهم ذكرهم الله مع أصحاب الكهف و لم يذكر قصتهم و قد رووا لهم قصة سنشير إليها في البحث الروائي الآتي.
و هو بعيد جدا فما كان الله ليشير في بليغ كلامه إلى قصة طائفتين ثم يفصل القول في إحدى القصتين و لا يتعرض للأخرى لا إجمالا و لا تفصيلا على أن ما أوردوه من قصة أصحاب الرقيم لا يلائم السياق السابق المستدعي لذكر قصة أصحاب الكهف.
و قد تبين مما تقدم في وجه اتصال القصة أن معنى الآية: بل ظننت أن أصحاب الكهف و الرقيم - و قد أنامهم الله مئات من السنين ثم أيقظهم فحسبوا أنهم لبثوا يوما أو بعض يوم - كانوا من آياتنا آية عجيبة كل العجب؟ لا و ليسوا بعجب و ما يجري على عامة الإنسان من افتتانه بزينة الأرض و غفلته عن أمر المعاد ثم بعثه و هو يستقل اللبث في الدنيا آية جارية تضاهي آية الكهف.
و ظاهر السياق - كما تقدمت الإشارة إليه - أن القصة كانت معلومة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إجمالا عند نزول القصة و إنما العناية متعلقة بالإخبار عن تفصيلها، و يؤيد ذلك تعقيب الآية بالآيات الثلاث المتضمنة لإجمال القصة حيث إنها تذكر إجمال القصة المؤدي إلى عدهم آية عجيبة نادرة في بابها.
قوله تعالى: «إذ أوى الفتية إلى الكهف» إلى آخر الآية الأوي الرجوع و لا كل رجوع بل رجوع الإنسان أو الحيوان إلى محل يستقر فيه أو ليستقر فيه و الفتية جمع سماعي لفتى و الفتى الشاب و لا تخلو الكلمة من شائبة مدح.
و التهيئة الإعداد قال البيضاوي: و أصل التهيئة إحداث هيأة الشيء انتهى و الرشد بفتحتين أو الضم فالسكون الاهتداء إلى المطلوب، قال الراغب: الرشد و الرشد خلاف الغي يستعمل استعمال الهداية.
انتهى.
و قوله: «فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة» تفريع لدعائهم على أويهم كأنهم اضطروا لفقد القوة و انقطاع الحيلة إلى المبادرة إلى المسألة، و يؤيده قولهم: «من لدنك» فلو لا أن المذاهب أعيتهم و الأسباب تقطعت بهم و اليأس أحاط بهم ما قيدوا الرحمة المسئولة أن تكون من لدنه تعالى بل قالوا: آتنا رحمة كقول غيرهم «ربنا آتنا في الدنيا حسنة»: البقرة: 201 «ربنا آتنا ما وعدتنا على رسلك»: آل عمران: 194 فالمراد بالرحمة المسئولة التأييد الإلهي إذ لا مؤيد غيره.
و يمكن أن يكون المراد بالرحمة المسئولة من لدنه بعض المواهب و النعم المختصة به تعالى كالهداية التي يصرح في مواضع من كلامه بأنها منه خاصة، و يشعر به التقييد بقوله «من لدنك»، و يؤيده ورود نظيره في دعاء الراسخين في العلم المنقول في قوله: «ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا و هب لنا من لدنك رحمة»: آل عمران: 8 فما سألوا إلا الهداية.
و قوله: «و هيىء لنا من أمرنا رشدا» المراد من أمرهم الشأن الذي يخصهم و هم عليه و قد هربوا من قوم يتبعون المؤمنين و يسفكون دماءهم و يكرهونهم على عبادة غير الله، و التجئوا إلى كهف و هم لا يدرون ما ذا سيجري عليهم؟ و لا يهتدون أي سبيل للنجاة يسلكون؟ و من هنا يظهر أن المراد بالرشد الاهتداء إلى ما فيه نجاتهم.
فالجملة أعني قوله: «و هيىء لنا من أمرنا رشدا» على أول الاحتمالين السابقين في معنى الرحمة عطف تفسير على قوله: «آتنا من لدنك رحمة» و على ثانيهما مسألة بعد مسألة.
قوله تعالى: «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» قال في الكشاف، أي ضربنا عليها حجابا من أن تسمع يعني أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبههم فيها الأصوات كما ترى المستثقل في نومه يصاح به فلا يسمع و لا يستنبه فحذف المفعول الذي هو الحجاب كما يقال: بنى على امرأته يريدون بنى عليها القبة.
انتهى.
و قال في المجمع،: و معنى ضربنا على آذانهم سلطنا عليهم النوم، و هو من الكلام البالغ في الفصاحة يقال: ضربه الله بالفالج إذا ابتلاه الله به، قال قطرب: هو كقول العرب: ضرب الأمير على يد فلان إذا منعه من التصرف، قال الأسود بن يعفر و قد كان ضريرا: و من الحوادث لا أبالك أنني.
ضربت علي الأرض بالأسداد.
و قال: هذا من فصيح لغات القرآن التي لا يمكن أن يترجم بمعنى يوافق اللفظ انتهى، و ما ذكره من المعنى أبلغ مما ذكره الزمخشري.
و هنا معنى ثالث و إن لم يذكروه: و هو أن يكون إشارة إلى ما تصنعه النساء عند إنامة الصبي غالبا من الضرب على أذنه بدق الأكف أو الأنامل عليها دقا نعيما لتتجمع حاسته عليه فيأخذه النوم بذلك فالجملة كناية عن إنامتهم سنين معدودة بشفقة و حنان كما تفعل الأم المرضع بطفلها الرضيع.
و قوله: «سنين عددا» ظرف للضرب، و العدد مصدر كالعد بمعنى المعدود فالمعنى سنين معدودة، و قيل بحذف المضاف و التقدير ذوات عدد.
و قد قال في الكشاف، إن توصيف السنين بالعدد يحتمل أن يراد به التكثير أو التقليل لأن الكثير قليل عنده كقوله: لم يلبثوا إلا ساعة من نهار، و قال الزجاج إن الشيء إذا قل فهم مقدار عدده فلم يحتج أن يعد و إذا كثر احتاج إلى أن يعد.
انتهى ملخصا.
و ربما كانت العناية في التوصيف بالعدد هي أن الشيء إذا بلغ في الكثرة عسر عده فلم يعد عادة و كان التوصيف بالعدد أمارة كونه قليلا يقبل العد بسهولة، قال تعالى: «و شروه بثمن بخس دراهم معدودة»: يوسف: 20 أي قليلة.
و كون الغرض من التوصيف بالعدد هو التقليل هو الملائم للسياق على ما مر فإن الكلام مسرود لنفي كون قصتهم عجبا و إنما يناسبه تقليل سني لبثهم لا تكثيرها - و معنى الآية ظاهر و قد دل فيها على كونهم نائمين في الكهف طول المدة لا ميتين.
قوله تعالى: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» المراد بالبعث هو الإيقاظ دون الإحياء بقرينة الآية السابقة، و قال الراغب: الحزب جماعة فيها غلظ انتهى.
و قال: الأمد و الأبد يتقاربان لكن الأبد عبارة عن مدة الزمان التي ليس لها حد محدود و لا يتقيد لا يقال: أبد كذا، و الأمد مدة لها حد مجهول إذا أطلق، و قد ينحصر نحو أن يقال: أمد كذا كما يقال: زمان كذا.
و الفرق بين الأمد و الزمان أن الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدإ و الغاية، و لذلك قال بعضهم: المدى و الأمد يتقاربان.
انتهى.
و المراد بالعلم العلم الفعلي و هو ظهور الشيء و حضوره بوجوده الخاص عند الله، و قد كثر ورود العلم بهذا المعنى في القرآن كقوله: «ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب»: الحديد: 25، و قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»: الجن: 28 و إليه يرجع قول بعضهم في تفسيره: أن المعنى ليظهر معلومنا على ما علمناه.
و قوله: «لنعلم أي الحزبين أحصى» إلخ تعليل للبعث و اللام للغاية و المراد بالحزبين الطائفتان من أصحاب الكهف حين سأل بعضهم بعضا بعد البعث: قائلا كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم على ما يفيده قوله تعالى في الآيات التالية: «و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم» إلخ.
و أما قول القائل: إن المراد بالحزبين الطائفتان من قومهم المؤمنون و الكافرون كأنهم اختلفوا في أمد لبثهم في الكهف بين مصيب في إحصائه و مخطىء فبعثهم الله تعالى ليبين ذلك و يظهر، و المعنى أيقظناهم ليظهر أي الطائفتين المختلفتين من المؤمنين و الكافرين في أمد لبثهم مصيبة في قولها، فبعيد.
و قوله: «أحصى لما لبثوا أمدا فعل ماض من الإحصاء، و «أمدا» مفعوله و الظاهر أن «لما لبثوا» قيد لقوله «أمدا» و ما مصدرية أي أي الحزبين عد أمد لبثهم و قيل: أحصى اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد كقولهم: هو أحصى للمال و أفلس من ابن المذلق 1، و أمدا منصوب بفعل يدل عليه «أحصى» و لا يخلو من تكلف، و قيل غير ذلك.
و معنى الآيات الثلاث أعني قوله: «إذ أوى الفتية إلى قوله: «أمدا» إذ رجع الشبان إلى الكهف فسألوا عند ذلك ربهم قائلين: ربنا هب لنا من لدنك ما ننجو به مما يهددنا بالتخيير بين عبادة غيرك و بين القتل و أعد لنا من أمرنا هدى نهتدي به إلى النجاة فأنمناهم في الكهف سنين معدودة ثم أيقظناهم ليتبين أي الحزبين عد أمدا للبثهم.
و الآيات الثلاث - كما ترى - تذكر إجمال قصتهم تشير بذلك إلى جهة كونهم من آيات الله و غرابة أمرهم، تشير الآية الأولى إلى دخولهم الكهف و مسألتهم للنجاة، و الثانية إلى نومهم فيه سنين عددا، و الثالثة إلى تيقظهم و انتباههم و اختلافهم في تقدير زمان لبثهم.
فلإجمال القصة أركان ثلاثة تتضمن كل واحدة من الآيات الثلاث واحدا منها و على هذا النمط تجري الآيات التالية المتضمنة لتفصيل القصة غير أنها تضيف إلى ذلك بعض ما جرى بعد ظهور أمرهم و تبين حالهم للناس، و هو الذي يشير إليه قوله: «و كذلك أعثرنا عليهم» إلى آخر آيات القصة.
قوله تعالى: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق» إلى آخر الآية.
شروع في ذكر ما يهم من خصوصيات قصتهم تفصيلا، و قوله: «إنهم فتية آمنوا بربهم أي آمنوا إيمانا مرضيا لربهم و لو لا ذلك لم ينسبه إليهم قطعا.
و قوله: «و زدناهم هدى» الهدى بعد أصل الإيمان ملازم لارتقاء درجة الإيمان الذي فيه اهتداء الإنسان إلى كل ما ينتهي إلى رضوان الله قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به»: الحديد: 28.
قوله تعالى: «و ربطنا على قلوبهم إذ قاموا فقالوا» إلى آخر الآيات الثلاث الربط هو الشد، و الربط على القلوب كناية عن سلب القلق و الاضطراب عنها، و الشطط الخروج عن الحد و التجاوز عن الحق، و السلطان الحجة و البرهان.
و الآيات الثلاث تحكي الشطر الأول من محاورتهم حين انتهضوا لمخالفة الوثنية و مخاصمتهم «إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا».
و قد أتوا بكلام مملوء حكمة و فهما راموا به إبطال ربوبية أرباب الأصنام من الملائكة و الجن و المصلحين من البشر الذين رامت الفلسفة الوثنية إثبات ألوهيتهم و ربوبيتهم دون نفس الأصنام التي هي تماثيل و صور لأولئك الأرباب تدعوها عامتهم آلهة و أربابا، و من الشاهد على ذلك قوله: «عليهم» حيث أرجع إليهم ضمير «هم» المختص بأولى العقل.
فبدءوا بإثبات توحيده بقولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» فأسندوا ربوبية الكل إلى واحد لا شريك له، و الوثنية تثبت لكل نوع من أنواع الخلقية إلها و ربا كرب السماء و رب الأرض و رب الإنسان.
ثم أكدوا ذلك بقولهم: «لن ندعوا من دونه إلها و من فائدته نفي الآلهة الذين تثبتهم الوثنية فوق أرباب الأنواع كالعقول الكلية التي تعبده الصابئة و برهما و سيوا و وشنو الذين تعبدهم البراهمة و البوذية و أكدوه ثانيا بقولهم: «لقد قلنا إذا شططا» فدلوا على أن دعوة غيره من التجاوز عن الحد بالغلو في حق المخلوق برفعه إلى درجة الخالق.
ثم كروا على القوم في عبادتهم غير الله سبحانه باتخاذهم آلهة فقالوا: «هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين» فردوا قولهم بأنهم لا برهان لهم على ما يدعونه يدل عليه دلالة بينة.
و ما استدلوا به من قولهم: إن الله سبحانه أجل من أن يحيط به إدراك خلقه فلا يمكن التوجه إليه بالعبادة و لا التقرب إليه بالعبودية فلا يبقى لنا إلا أن نعبد بعض الموجودات الشريفة من عباده المقربين ليقربونا إليه زلفى مردود إليهم أما عدم إحاطة الإدراك به تعالى فهو مشترك بيننا معاشر البشر و بين من يعبدونه من العباد المقربين، و الجميع منا و منهم يعرفونه بأسمائه و صفاته و آثاره كل على قدر طاقته فله أن يتوجه إليه بالعبادة على قدر معرفته.
على أن جميع الصفات الموجبة لاستحقاق العبادة من الخلق و الرزق و الملك و التدبير له وحده و لا يملك غيره شيئا من ذلك فله أن يعبد و ليس لغيره ذلك.
ثم أردفوا قولهم: «لو لا يأتون عليهم بسلطان بين» بقولهم «فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا» و هو من تمام الحجة الرادة لقولهم، و معناه أن عليهم أن يقيموا برهانا قاطعا على قولهم فلو لم يقيموه كان قولهم من القول بغير علم في الله و هو افتراء الكذب عليه تعالى، و الافتراء ظلم و الظلم على الله أعظم الظلم.
هذا فقد دلوا بكلامهم هذا أنهم كانوا علماء بالله أولي بصيرة في دينهم، و صدقوا قوله تعالى «و زدناهم هدى» و في الكلام على ما به من الإيجاز قيود تكشف عن تفصيل نهضتهم في بادئها فقوله تعالى: «و ربطنا على قلوبهم» يدل على أن قولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» إلخ لم يكن بإسرار النجوى و في خلإ من عبدة الأوثان بل كان بإعلان القول و الإجهار به في ظرف تذوب منه القلوب و ترتاع النفوس و تقشعر الجلود في ملإ معاند يسفك الدماء و يعذب و يفتن.
و قوله: «لن ندعوا من دونه إلها» بعد قوله «ربنا رب السماوات و الأرض» - و هو جحد و إنكار - فيه إشعار و تلويح إلى أنه كان هناك تكليف إجباري بعبادة الأوثان و دعاء غير الله.
و قوله: «إذ قاموا فقالوا» إلخ يشير إلى أنهم في بادىء قولهم كانوا في مجلس يصدر عنه الأمر بعبادة الأوثان و الإجبار عليها و النهي عن عبادة الله و السياسة المنتحلية بالقتل و العذاب كمجلس الملك أو ملئه أو ملإ عام كذلك فقاموا و أعلنوا مخالفتهم و خرجوا و اعتزلوا القوم و هم في خطر عظيم يهددهم و يهجم عليهم من كل جانب كما يدل عليه قولهم: «و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون إلا الله فأووا إلى الكهف.
و هذا يؤيد ما وردت به الرواية - و سيجيء الخبر - أن ستة منهم كانوا من خواص الملك يستشيرهم في أموره فقاموا من مجلس و أعلنوا التوحيد و نفي الشريك عنه تعالى.
و لا ينافي ذلك ما سيأتي من الروايات أنهم كانوا يسرون إيمانهم و يعملون بالتقية لجواز أن يكونوا سائرين عليها ثم يفاجئوا القوم بإعلان الإيمان ثم يعتزلوهم من غير مهل فلم تكن تسعهم إدامة التظاهر بالإيمان و إلا قتلوا بلا شك.
و ربما احتمل أن يكون المراد بقيامهم قيامهم لله نصرة منهم للحق و قولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض» إلخ قولا منهم في أنفسهم و قولهم: «و إذ اعتزلتموهم» إلخ قولا منهم بعد ما خرجوا من المدينة، أو يكون المراد قيامهم لله، و جميع ما نقل من أقوالهم إنما قالوها فيما بين أنفسهم بعد ما خرجوا من المدينة و تنحوا عن القوم و على الوجهين يكون المراد بالربط على قلوبهم أنهم لم يخافوا عاقبة الخروج و الهرب من المدينة و هجرة القوم لكن الأظهر هو الوجه الأول.
قوله تعالى: «و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدون من دون الله فأووا إلى الكهف» إلى آخر الآية الاعتزال و التعزل التنحي عن أمر، و النشر البسط، و المرفق بكسر الميم و فتح الفاء و بالعكس و بفتحهما المعاملة بلطف.
هذا هو الشطر الثاني من محاورتهم جرت بينهم بعد خروجهم من بين الناس و اعتزالهم إياهم و ما يعبدون من دون الله و تنحيهم عن الجميع يشير به بعضهم عليهم أن يدخلوا الكهف و يتستروا فيه من أعداء الدين.
و قد تفرسوا بهدى إلهي أنهم لو فعلوا ذلك عاملهم الله من لطفه و رحمته بما فيه نجاتهم من تحكم القوم و ظلمهم و الدليل على ذلك قولهم بالجزم: «فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته» إلخ و لم يقولوا: عسى أن ينشر أو لعل.
و هذان اللذان تفرسوا بهما من نشر الرحمة و تهيئة المرفق هما اللذان سألوهما بعد دخول الكهف إذ قالوا - كما حكى الله - «ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا».
و الاستثناء في قوله: «و ما يعبدون إلا الله» استثناء منقطع فإن الوثنيين لم يكونوا يعبدون الله مع سائر آلهتهم حتى يفيد الاستثناء إخراج بعض ما دخل أولا في المستثنى منه فيكون متصلا فقول بعضهم: إنهم كانوا يعبدون الله و يعبدون الأصنام كسائر المشركين.
و كذا قول بعض آخر: يجوز أنه كان فيهم من يعبد الله مع عبادة الأصنام فيكون الاستثناء متصلا في غير محله، إذ لم يعهد من الوثنيين عبادة الله سبحانه مع عبادة الأصنام، و فلسفتهم لا تجيز ذلك، و قد أشرنا إلى حجتهم في ذلك آنفا.
قوله تعالى: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» إلى آخر الآيتين التزاور هو التمايل مأخوذ من الزور بمعنى الميل و القرض القطع، و الفجوة المتسع من الأرض و ساحة الدار و المراد بذات اليمين و ذات الشمال الجهة التي تلي اليمين أو الشمال أو الجهة ذات اسم اليمين أو الشمال و هما جهتا اليمين و الشمال.
و هاتان الآيتان تمثلان الكهف و مستقرهم منه و منظرهم و ما يتقلب عليهم من الحال أيام لبثهم فيه و هم رقود و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما أنه سامع لا بما أنه هو، و هذا شائع في الكلام، و الخطاب على هذا النمط يعم كل سامع من غير أن يختص بمخاطب خاص.
فقوله: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم في فجوة منه» يصف موقع الكهف و موقعهم فيه و هم نائمون و أما إنامتهم فيه بعد الأوي إليه و مدة لبثهم فيه فقد اكتفي في ذلك بما أشير إليه في الآيات السابقة من إنامتهم و لبثهم و ما سيأتي من قوله: «و لبثوا في كهفهم» «إلخ» إيثارا للإيجاز.
و المعنى: و ترى أنت و كل راء يفرض اطلاعه عليهم و هم في الكهف يرى الشمس إذا طلعت تتزاور و تتمايل عن كهفهم جانب اليمين فيقع نورها عليه، و إذا غربت تقطع جانب الشمال فيقع شعاعها عليه و هم في متسع من الكهف لا تناله الشمس.
و قد أشار سبحانه بذلك إلى أن الكهف لم يكن شرقيا و لا غربيا لا يقع عليه شعاع الشمس إلا في أحد الوقتين بل كان قطبيا يحاذي ببابه القطب فيقع شعاع الشمس على أحد جانبيه من داخل طلوعا و غروبا، و لا يقع عليهم لأنهم كانوا في متسع منه فوقاهم الله بذلك من أن يؤذيهم حر الشمس أو يغير ألوانهم أو يبلي ثيابهم بل كانوا مرتاحين في نومتهم مستفيدين من روح الهواء المتحول عليهم بالشروق و الغروب و هم في فجوة منه، و لعل تنكير فجوة للدلالة على وصف محذوف و التقدير و هم في فجوة منه لا يصيبهم فيه شعاعها.
و قد ذكر المفسرون أن الكهف كان بابه مقابلا للقطب الشمالي يسامت بنات النعش، و الجانب الأيمن منه ما يلي المغرب و يقع عليه شعاع الشمس عند طلوعها و الجانب الأيسر منه ما يلي المشرق و تناله الشمس عند غروبها، و هذا مبني على أخذ جهتي اليمين و الشمال للكهف باعتبار الداخل فيه، و كأن ذلك منهم تعويلا على ما هو المشهور أن هذا الكهف واقع في بلدة إفسوس من بلاد الروم الشرقي فإن الكهف الذي هناك قطبي يقابل بابه القطب الشمالي متمايلا قليلا إلى المشرق على ما يقال.
و المعمول في اعتبار اليمين و اليسار لمثل الكهف و البيت و الفسطاط و كل ما له باب أن يؤخذا باعتبار الخارج منه دون الداخل فيه فإن الإنسان أول ما أحس الحاجة إلى اعتبار الجهات أخذها لنفسه فسمى ما يلي رأسه و قدمه علوا و سفلا و فوق و تحت، و سمى ما يلي وجهه قدام و ما يقابله خلف، و سمى الجانب القوي منه و هو الذي فيه يده القوية يمينا، و الذي يخالفه شمالا و يسارا ثم إذا مست الحاجة إلى اعتبار الجهات في شيء فرض الإنسان نفسه مكانه فما كان من أطراف ذلك الشيء ينطبق عليه الوجه و هو الطرف الذي يستقبل به الشيء غيره تعين به قدامه و بما يقاطره خلفه، و بما ينطبق عليه يمين الإنسان من أطرافه يمينه و كذا بيسار الإنسان يساره.
و إذ كان الوجه في مثل البيت و الدار و الفسطاط و كل ما له باب طرفه الذي فيه الباب كان تعين يمينه و يساره باعتبار الخارج من الباب دون الداخل منه، و على هذا يكون الكهف الذي وصفته الآية بما وصفت جنوبيا يقابل بابه القطب الجنوبي لا كما ذكروه، و للكلام تتمة ستوافيك إن شاء الله.
و على أي حال كان وضعهم هذا من عناية الله و لطفه بهم ليستبقيهم بذلك حتى يبلغ الكتاب أجله، و إليه الإشارة بقوله عقيبه: «ذلك من آيات الله من يهد الله فهو المهتد و من يضلل فلن تجد له وليا مرشدا».
و قوله: «و تحسبهم أيقاظا و هم رقود» الأيقاظ جمع يقظ و يقظان و الرقود جمع راقد و هو النائم، و في الكلام تلويح إلى أنهم كانوا مفتوحي الأعين حال نومهم كالأيقاظ.
و قوله: «و نقلبهم ذات اليمين و ذات الشمال» أي و نقلبهم جهة اليمين و جهة الشمال، و المراد نقلبهم تارة من اليمين إلى الشمال و تارة من الشمال إلى اليمين لئلا تأكلهم الأرض، و لا تبلى ثيابهم، و لا تبطل قواهم البدنية بالركود و الخمود طول المكث.
و قوله: «و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد» الوصيد فناء البيت و قيل: عتبة الدار و المعنى كانوا على ما وصف من الحال و الحال أن كلبهم مفترش بذراعيه باسط لهما بفناء الكهف و فيه إخبار بأنهم كان لهم كلب يلازمهم و كان ماكثا معهم طول مكثهم في الكهف.
و قوله: «لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» بيان أنهم و حالهم هذا الحال كان لهم منظر موحش هائل لو أشرف عليهم الإنسان فر منهم خوفا من خطرهم تبعدا من المكروه المتوقع من ناحيتهم و ملأ قلبه الروع و الفزع رعبا و سرى إلى جميع الجوارح فملأ الجميع رعبا، و الكلام في الخطاب الذي في قوله: «لوليت» و قوله: «و لملئت» كالكلام في الخطاب الذي في قوله: «و ترى الشمس».
و قد بان بما تقدم من التوضيح أولا: الوجه في قوله: «و لملئت منهم رعبا» و لم يقل: و لملىء قلبك رعبا.
و ثانيا: الوجه في ترتيب الجملتين: «لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» و ذلك أن الفرار و هو التبعد من المكروه معلول لتوقع وصول المكروه تحذرا منه، و ليس بمعلول للرعب الذي هو الخشية و تأثر القلب، و المكروه المترقب يجب أن يتحذر منه سواء كان هناك رعب أو لم يكن.
فتقديم الفرار على الرعب ليس من قبيل تقديم المسبب على سببه بل من تقديم حكم الخوف على الرعب و هما حالان متغايران قلبيان، و لو كان بدل الخوف من الرعب لكان من حق الكلام تقديم الجملة الثانية و تأخير الأولى و أما بناء على ما ذكرناه فتقديم حكم الخوف على حصول الرعب و هما جميعا أثران للاطلاع على منظرهم الهائل الموحش أحسن و أبلغ لأن الفرار أظهر دلالة على ذلك من الامتلاء بالرعب.
قوله تعالى: «و كذلك بعثناهم ليتساءلوا بينهم» إلى آخر الآيتين التساؤل سؤال بعض القوم بعضا، و الورق بالفتح فالكسر: الدراهم، و قيل هو الفضة مضروبة كانت أو غيرها، و قوله: إن يظهروا عليكم أي إن يطلعوا عليكم أو إن يظفروا بكم.
و الإشارة بقوله: «و كذلك بعثناهم» إلى إنامتهم بالصورة التي مثلتها الآيات السابقة أي كما أنمناهم في الكهف دهرا طويلا على هذا الوضع العجيب المدهش الذي كان آية من آياتنا كذلك بعثناهم و أيقظناهم ليتساءلوا بينهم.
و هذا التشبيه و جعل التساؤل غاية للبعث مع ما تقدم من دعائهم لدى ورود الكهف و إنامتهم إثر ذلك يدل على أنهم إنما بعثوا من نومتهم ليتساءلوا فيظهر لهم حقيقة الأمر، و إنما أنيموا و لبثوا في نومتهم دهرا ليبعثوا، و قد نومهم الله إثر دعائهم و مسألتهم رحمة من عند الله و اهتداء مهيأ من أمرهم فقد كان أزعجهم استيلاء الكفر على مجتمعهم و ظهور الباطل و إحاطة القهر و الجبر و هجم عليهم اليأس و القنوط من ظهور كلمة الحق و حرية أهل الدين في دينهم فاستطالوا لبث الباطل في الأرض و ظهوره على الحق كالذي مر على قرية و هي خاوية على عروشها قال أنى يحيي هذه الله بعد موتها فأماته الله مائة عام ثم بعثه.
و بالجملة لما غلبت عليهم هذه المزعمة و استيأسوا من زوال غلبة الباطل أنامهم الله سنين عددا ثم بعثهم ليتساءلوا فيجيبوا بيوم أو بعض يوم ثم ينكشف لهم تحول الأحوال و مرور مآت من السنين عند غيرهم و هي بنظرة أخرى كيوم أو بعض يوم فيعلموا أن طول الزمان و قصره ليس بذاك الذي يميت حقا أو يحيي باطلا و إنما هو الله سبحانه جعل ما على الأرض زينة لها و جذب إليها الإنسان و أجرى فيها الدهور و الأيام ليبلوهم أيهم أحسن عملا، و ليس للدنيا إلا أن تغر بزينتها طالبيها ممن أخلد إلى الأرض و اتبع هواه.
و هذه حقيقة لا تزال لائحة للإنسان كلما انعطف على ما مرت عليه من أيامه السالفة و ما جرت عليه من الحوادث حلوها و مرها و جدها كطائف في نومة أو سنة في مثل يوم غير أن سكر الهوى و التلهي بلهو الدنيا لا يدعه أن ينتبه للحق فيتبعه لكن لله سبحانه على الإنسان يوم لا يشغله عن مشاهدة هذه الحقيقة شاغل من زينة الدنيا و زخرفها و هو يوم الموت كما عن علي (عليه السلام): «الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا و يوم آخر و هو يوم يطوي فيه بساط الدنيا و زينتها و يقضي على العالم الإنساني بالبيد و الانقراض.
و قد ظهر بما تقدم أن قوله تعالى: «ليتساءلوا بينهم» غاية لبعثهم و اللام لتعليل الغاية، و تنطبق على ما مر من الغاية في قوله: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا».
و ذكر بعضهم: أنه بعض الغاية وضع موضعها لاستتباعه لسائر آثار البعث كأنه قيل ليتساءلوا بينهم و ينجر ذلك إلى ظهور أمرهم و انكشاف الآية و ظهور القدرة و هذا مع عدم شاهد عليه من جهة اللفظ تكلف ظاهر.
و ذكر آخرون: أن اللام في قوله: «ليتساءلوا» للعاقبة دون الغاية استبعادا لأن يكون التساؤل و هو أمر هين غاية للبعث و هو آية عظيمة، و فيه أن جعل اللام للعاقبة لا يجدي نفعا في دفع ما استبعده إذ كما لا ينبغي أن يجعل أمر هين للغاية مطلوبة لأمر خطير و آية عظيمة كذلك لا يحسن ذكر شيء يسير عاقبة لأمر ذي بال و آية عجيبة مدهشة على أنك عرفت صحة كون التساؤل علة غائية للبعث آنفا.
و قوله: «قال قائل منهم كم لبثتم» دليل على أن السائل عن لبثهم كان واحدا منهم خاطب الباقين و سألهم عن مدة لبثهم في الكهف نائمين و كأن السائل استشعر طولا في لبثهم مما وجده من لوثة النوم الثقيل بعد التيقظ فقال: كم لبثتم؟.
و قوله: «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم» ترددوا في جوابهم بين اليوم و بعض اليوم و كأنهم بنوا الجواب على ما شاهدوا من تغير محل وقوع الشمس كأن أخذوا في النوم أوائل النهار و انتبهوا في أواسطه أو أواخره ثم شكوا في مرور الليل عليهم فيكون مكثهم يوما و عدم مروره فيكون بعض يوم فأجابوا بالترديد بين يوم و بعض يوم و هو على أي حال جواب واحد.
و قول بعضهم: إن الترديد على هذا يجب أن يكون بين بعض يوم و يوم و بعض لا بين يوم و بعض يوم فالوجه أن يكون «أو» للتفصيل لا للترديد و المعنى قال بعضهم: لبثنا يوم و قال بعض آخر: لبثنا بعض يوم.
لا يلتفت إليه أما أولا فلأن هذا المعنى لا يتلقى من سياق مثل قوله: «لبثنا يوما أو بعض يوم» البتة و قد أجاب بمثله شخص واحد بعينه قال تعالى: «قال كم لبثت قال: لبثت يوما أو بعض يوم»: البقرة: 259.
و أما ثانيا فلأن قولهم: «لبثنا يوما» إنما أخذوه عما استدلوا به من الأمور المشهودة لهم لجلالة قدرهم عن التحكم و التهوس و المجازفة و الأمور الخارجية التي يستدل بها الإنسان و خاصة من نام ثم انتبه من شمس و ظل و نور و ظلمة و نحو ذلك لا تشخص مقدار اليوم التام من غير زيادة و نقيصة سواء في ذلك الترديد و التفصيل فالمراد باليوم على أي حال ما يزيد على ليلة بنهارها بعض الزيادة و هو استعمال شائع.
و قوله تعالى: «قالوا ربكم أعلم بما لبثتم» أي قال بعض آخر منهم ردا على القائلين: لبثنا يوما أو بعض يوم»: «ربكم أعلم بما لبثتم» و لو لم يكن ردا لقالوا ربنا أعلم بما لبثنا.
و بذلك يظهر أن إحالة العلم إلى الله تعالى في قولهم: «ربكم أعلم» ليس لمجرد مراعاة حسن الأدب كما قيل بل لبيان حقيقة من حقائق معارف التوحيد و هي أن العلم بحقيقة معنى الكلمة ليس إلا لله سبحانه فإن الإنسان محجوب عما وراء نفسه لا يملك بإذن الله إلا نفسه و لا يحيط إلا بها و إنما يحصل له من العلم بما هو خارج عن نفسه ما دلت عليه الأمارات الخارجية و بمقدار ما ينكشف بها و أما الإحاطة بعين الأشياء و نفس الحوادث و هو العلم حقيقة فإنما هو لله سبحانه المحيط بكل شيء الشهيد على كل شيء و الآيات الدالة على هذه الحقيقة لا تحصى.
فليس للموحد العارف بمقام ربه إلا أن يسلم الأمر له و ينسب العلم إليه و لا يسند إلى نفسه شيئا من الكمال كالعلم و القدرة إلا ما اضطر إليه فيبدأ بربه فينسب إليه حقيقة الكمال ثم لنفسه ما ملكه الله إياه و أذن له فيه كما قال: «علم الإنسان ما لم يعلم»: العلق: 5 و قال: «قالوا سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا»: البقرة: 32 إلى آيات أخرى كثيرة.
و يظهر بذلك أن القائلين منهم: «ربكم أعلم بما لبثتم» كانوا أعلى كعبا في مقام المعرفة من القائلين: «لبثنا يوما أو بعض يوم» و لم يريدوا بقولهم هذا مجرد إظهار الأدب و إلا لقالوا: ربنا أعلم بما لبثنا و لم يكونوا أحد الحزبين اللذين أشار سبحانه إليهما بقوله فيما سبق: «ثم بعثناهم لنعلم أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمدا» فإن إظهار الأدب لا يسمى قولا و إحصاء و لا الآتي به ذا قول و إحصاء.
و الظاهر أن القائلين منهم: «ربكم أعلم بما لبثتم» غير القائلين: «لبثنا يوما أو بعض يوم» فإن السياق سياق المحاورة و المجاوبة كما قيل و لازمه كون المتكلمين ثانيا غير المتكلمين أولا و لو كانوا هم الأولين بأعيانهم لكان من حق الكلام أن يقال: ثم قالوا ربنا أعلم بما لبثنا بدل قوله: «ربكم أعلم» إلخ.
و من هنا يستفاد أن القوم كانوا سبعة أو أزيد إذ قد وقع في حكاية محاورتهم «قال» مرة و «قالوا» مرتين و أقل الجمع ثلاثة فقد كانوا لا يقل عددهم من سبعة.
و قوله تعالى: «فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه» من تتمة المحاورة و فيه أمر أو عرض لهم أن يرسلوا رسولا منهم إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به و الضمير في «أيها» راجع إلى المدينة و المراد بها أهلها من الكسبة استخداما.
و زكاء الطعام كونه طيبا و قيل: كونه حلالا و قيل: كونه طاهرا و وروده بصيغة أفعل التفضيل «أزكى طعاما» لا يخلو من إشعار بالمعنى الأول.
و الضمير في «منه» للطعام المفهوم من الكلام و قيل: للأزكى طعاما و «من» للابتداء أو التبعيض أي ليأتكم من ذلك الطعام الأزكى برزق ترتزقون به، و قيل: الضمير للورق و «من» للبداية و هو بعيد لإحواجه إلى تقدير ضمير آخر يرجع إلى الجملة السابقة و كونه ضمير التذكير و قد أشير إلى الورق بلفظ التأنيث من قبل.
و قوله تعالى: «و ليتلطف و لا يشعرن بكم أحدا» التلطف إعمال اللطف و الرفق و إظهاره فقوله: «و لا يشعرن بكم أحدا» عطف تفسيري له و المراد على ما يعطيه السياق: ليتكلف اللطف مع أهل المدينة في ذهابه و مجيئه و معاملته لهم كي لا يقع خصومة أو منازعة لتؤدي إلى معرفتهم بحالكم و إشعارهم بكم، و قيل المعنى ليتكلف اللطف في المعاملة و إطلاق الكلام يدفعه.
و قوله تعالى: «إنهم إن يظهروا عليكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا» تعليل للأمر بالتلطف و بيان لمصلحته.
ظهر على الشيء بمعنى اطلع عليه و علم به و بمعنى ظفر به و قد فسرت الآية بكل من المعنيين و الكلمة على ما ذكره الراغب مأخوذة من الظهر بمعنى الجارحة مقابل البطن فكان هو الأصل ثم استعير للأرض فقيل: ظهر الأرض مقابل بطنها ثم أخذ منه الظهور بمعنى الانكشاف مقابل البطون للملازمة بين الكون على وجه الأرض و بين الرؤية و الاطلاع و كذا بينه و بين الظفر و كذا بينه و بين الغلبة عادة فقيل: ظهر عليه أي اطلع عليه و علم بمكانه أو ظفر به أو غلبه ثم اتسعوا في الاشتقاق فقالوا: أظهر و ظاهر و تظاهر و استظهر إلى غير ذلك.
و ظاهر السياق أن يكون «يظهروا عليكم» بمعنى يطلعوا عليكم و يعلموا بمكانكم فإنه أجمع المعاني لأن القوم كانوا ذوي أيد و قوة و قد هربوا و استخفوا منهم فلو اطلعوا عليهم ظفروا بهم و غلبوهم على ما أرادوا.
و قوله: «يرجموكم» أي يقتلوكم بالحجارة و هو شر القتل و يتضمن معنى النفرة و الطرد، و في اختيار الرجم على غيره من أصناف القتل إشعار بأن أهل المدينة عامة كانوا يعادونهم لدينهم فلو ظهروا عليهم بادروا إليهم و تشاركوا في قتلهم و القتل الذي هذا شأنه يكون بالرجم عادة.
و قوله: «أو يعيدوكم في ملتهم» الظاهر أن الإعادة مضمن معنى الإدخال و لذا عدي بفي دون إلى.
و كان لازم دخولهم في ملتهم عادة و قد تجاهروا برفضها و سموها شططا من القول و افتراء على الله بالكذب - أن لا يقنع القوم بمجرد اعترافهم بحقية الملة صورة دون أن يثقوا بصدقهم في الاعتراف و يراقبوهم في أعمالهم فيشاركوا الناس في عبادة الأوثان و الإتيان بجميع الوظائف الدينية التي لهم و الحرمان عن العمل بشيء من شرائع الدين الإلهي و التفوه بكلمة الحق.
و هذا كله لا بأس به على من اضطر على الإقامة في بلاد الكفر و الانحصار بين أهله كالأسير المستضعف بحكم العقل و النقل و قد قال تعالى: «إلا من أكره و قلبه مطمئن بالإيمان»: النحل: 106 و قال تعالى: «إلا أن تتقوا منهم تقاة»: آل عمران: 28 فله أن يؤمن بقلبه و ينكره بلسانه و أما من كان بنجوة منهم و هو حر في اعتقاده و عمله ثم ألقى بنفسه في مهلكة الضلال و تسبب إلى الانحصار في مجتمع الكفر فلم يستطع التفوه بكلمة الحق و حرم التلبس بالوظائف الدينية الإنسانية فقد حرم على نفسه السعادة و لن يفلح أبدا قال تعالى: «إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا أ لم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم و ساءت مصيرا»: النساء: 97.
و بهذا يظهر وجه ترتب قوله: «و لن تفلحوا إذا أبدا» على قوله: «أو يعيدوكم في ملتهم» و يندفع ما قيل: إن إظهار الكفر بالإكراه مع إبطان الإيمان معفو عنه في جميع الأزمان فكيف رتب على العود في ملتهم عدم الفلاح أبدا مع أن الظاهر من حالهم الكره هذا فإنهم لو عرضوا بأنفسهم عليهم أو دلوهم بوجه على مكانهم فأعادوهم في ملتهم و لو على كره كان ذلك منهم تسببا اختياريا إلى ذلك و لم يعذروا البتة.
و قد أجابوا عن الإشكال بوجوه أخر غير مقنعة: منها: أن الإكراه على الكفر قد يكون سببا لاستدراج الشيطان إلى استحسانه و الاستمرار عليه و فيه أن لازم هذا الوجه أن يقال: و يخاف عليكم أن لا تفلحوا أبدا إلا أن يقضى بعدم الفلاح قطعا.
و منها: أنه يجوز أن يكون أراد يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه و أنت خبير بأن سياق القصة لا يساعد عليه.
و منها: أنه يجوز أن يكون في ذلك الوقت كان لا يجوز التقية بإظهار الكفر مطلقا و فيه عدم الدليل على ذلك.
و سياق ما حكى من محاورتهم أعني قوله: «لبثتم» إلى تمام الآيتين سياق عجيب دال على كمال تحابهم في الله و مواخاتهم في الدين و أخذهم بالمساواة بين أنفسهم و نصح بعضهم لبعض و إشفاق بعضهم على بعض فقد تقدم أن قول القائلين: «ربكم أعلم بما لبثتم» تنبيه و دلالة على موقع من التوحيد أعلى و أرفع درجة مما يدل عليه قول الآخرين «لبثنا يوما أو بعض يوم»».
ثم قول القائل: «فابعثوا» حيث عرض بعث الرسول على الجميع و لم يستبد بقول: ليذهب أحدكم و قوله: «أحدكم» و لم يقل اذهب يا فلان أو ابعثوا فلانا و قوله: «بورقكم هذه» فأضاف الورق إلى الجميع كل ذلك دليل المواخاة و المساواة.
ثم قوله: «فلينظر أيها أزكى طعاما» إلخ و قوله: «و ليتلطف» إلخ نصح و قوله: «إنهم إن يظهروا عليكم» إلخ نصح لهم و إشفاق على نفوسهم بما هم مؤمنون على دينهم.
و قوله تعالى: «بورقكم هذه» على ما فيه من الإضافة و الإشارة المعينة لشخص الورق مشعر بعناية خاصة بذكرها فإن سياق استدعاء أن يبعثوا أحدا لاشتراء طعام لهم لا يستوجب بالطبع ذكر الورق التي يشتري بها الطعام و الإشارة إليها بشخصها و لعلها إنما ذكرت في الآية مع خصوصية الإشارة لأنها كانت هي السبب لظهور أمرهم و انكشاف حالهم لأنها حين أخرجها رسومها ليدفعها ثمنا للطعام كانت من مسكوكات عهد مرت عليها ثلاثة قرون و ليس في آيات القصة ما يشعر بسبب ظهور أمرهم و انكشاف حالهم إلا هذه اللفظة.
قوله تعالى: «و كذلك أعثرنا عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها إذ يتنازعون بينهم أمرهم» قال في المفردات:، عثر الرجل يعثر عثرا و عثورا إذا سقط و يتجوز به فيمن يطلع على أمر من غير طلبه قال تعالى: فإن عثر على أنهما استحقا إثما. يقال عثرت على كذا قال: «و كذلك أعثرنا عليهم» أي وقفناهم عليهم من غير أن طلبوا.
انتهى.
و التشبيه في قوله: «و كذلك أعثرنا عليهم» كنظيره في قوله: «و كذلك بعثناهم» أي و كما أنساهم دهرا ثم بعثناهم لكذا و كذا كذلك أعثرنا عليهم و مفعول أعثرنا هو الناس المدلول عليه بالسياق كما يشهد به ذيل الآية و قوله: «ليعلموا أن وعد الله حق» ضمير الجمع للناس و المراد بوعد الله على ما يعطيه السياق البعث و يكون قوله: «و أن الساعة لا ريب فيها» عطفا تفسيريا لسابقه.
و قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» ظرف لقوله: «أعثرنا» أو لقوله «ليعلموا» و التنازع التخاصم قيل: أصل التنازع التجاذب و يعبر به عن التخاصم و هو باعتبار أصل معناه يتعدى بنفسه، و باعتبار التخاصم يتعدى بفي كقوله تعالى: «فإن تنازعتم في شيء» انتهى.
و المراد بتنازع الناس بينهم أمرهم تنازعهم في أمر البعث و إنما أضيف إليهم إشعارا باهتمامهم و اعتنائهم بشأنه فهذه حال الآية من جهة مفرداتها بشهادة بعضها على بعض.
و المعنى على ما مر: و كما أنمناهم ثم بعثناهم لكذا و كذا أطلعنا الناس عليهم في زمان يتنازعون أي الناس بينهم في أمر البعث ليعلموا أن وعد الله بالبعث حق و أن الساعة لا ريب فيها.
أو المعنى أعثرنا عليهم ليعلم الناس مقارنا لزمان يتنازعون فيه بينهم في أمر البعث أن وعد الله بالبعث حق.
و أما دلالة بعثهم عن النوم على أن البعث يوم القيامة حق فإنما هو من جهة أن انتزاع أرواحهم عن أجسادهم ذاك الدهر الطويل و تعطيل شعورهم و ركود حواسهم عن أعمالها و سقوط آثار القوى البدنية كالنشو و النماء و نبات الشعر و الظفر و تغير الشكل و ظهور الشيب و غير ذلك و سلامة ظاهر أبدانهم و ثيابهم عن الدثور و البلى ثم رجوعهم إلى حالهم يوم دخلوا الكهف بعينها يماثل انتزاع الأرواح عن الأجساد بالموت ثم رجوعها إلى ما كانت عليها، و هما معا من خوارق العادة لا يدفعهما إلا الاستبعاد من غير دليل.
و قد حدث هذا الأمر في زمان ظهر التنازع بين طائفتين من الناس موحد يرى مفارقة الأرواح الأجساد عند الموت ثم رجوعها إليها في البعث و مشرك 1 يرى مغايرة الروح البدن و مفارقتها له عند الموت لكنه لا يرى البعث و ربما رأى التناسخ.
فحدوث مثل هذه الحادثة في مثل تلك الحال لا يدع ريبا لأولئك الناس أنها آية إلهية قصد بها إزالة الشك عن قلوبهم في أمر البعث بالدلالة بالمماثل على المماثل و رفع الاستبعاد بالوقوع.
و يقوى هذا الحدس منهم و يشتد بموتهم بعيد الانبعاث فلم يعيشوا بعده إلا سويعات لم تسع أزيد من اطلاع الناس على حالهم و اجتماعهم عليهم و استخبارهم عن قصتهم و إخبارهم بها.
و من هنا يظهر وجه آخر لقوله تعالى: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» و هو رجوع الضميرين الأولين إلى الناس و الثالث إلى أصحاب الكهف و كون «إذ» ظرفا لقوله «ليعلموا» و يؤيده قوله بعده: «ربهم أعلم بهم» على ما سيجيء.
و الاعتراض على هذا الوجه أولا: بأنه يستدعي كون التنازع بعد الإعثار و ليس كذلك و ثانيا بأن التنازع كان قبل العلم و ارتفع به فكيف يكون وقته وقته، مدفوع بأن التنازع على هذا الوجه في الآية هو تنازع الناس في أمر أصحاب الكهف و قد كان بعد الإعثار و مقارنا للعلم زمانا، و الذي كان قبل الإعثار و قبل العلم هو تنازعهم في أمر البعث و ليس بمراد على هذا الوجه.
و قوله تعالى: «فقالوا ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم» القائلون هم المشركون من القوم بدليل قوله بعده: «قال الذين غلبوا على أمرهم» و المراد ببناء البنيان عليهم على ما قيل أن يضرب عليهم ما يجعلون به وراءه و يسترون عن الناس فلا يطلع عليهم مطلع منهم كما يقال: بنى عليه جدارا إذا حوطه و جعله وراءه.
و هذا الشطر من الكلام بانضمامه إلى ما قبله من قوله: «و كذلك بعثناهم» «و كذلك أعثرنا عليهم» يلوح إلى تمام القصة كأنه قيل: و لما أن جاء رسولهم إلى المدينة و قد تغيرت الأحوال و تبدلت الأوضاع بمرور ثلاثة قرون على دخولهم في الكهف و انقضت سلطة الشرك و ألقي زمام المجتمع إلى التوحيد و هو لا يدري لم يلبث دون أن ظهر أمره و شاع خبره فاجتمع عليه الناس ثم هجموا و ازدحموا على باب الكهف فاستنبئوهم قصتهم و حصلت الدلالة الإلهية ثم إن الله قبضهم إليه فلم يلبثوا أحياء بعد انبعاثهم إلا سويعات ارتفعت بها عن الناس شبهتهم في أمر البعث و عندئذ قال المشركون ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم.
و في قوله: «ربهم أعلم بهم» إشارة إلى وقوع خلاف بين الناس المجتمعين عليهم أمرهم، فإنه كلام آيس من العلم بهم و استكشاف حقيقة أمرهم يلوح منه أن القوم تنازعوا في شيء مما يرجع إليهم فتبصر فيه بعضهم و لم يسكن الآخرون إلى شيء و لم يرتضوا رأي مخالفيهم فقالوا: ابنوا لهم بنيانا ربهم أعلم بهم.
فمعنى الجملة أعني قوله: «ربهم أعلم بهم» يتفاوت بالنظر إلى الوجهين المتقدمين في قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» إذ للجملة على أي حال نوع تفرع على تنازع بينهم كما عرفت آنفا فإن كان التنازع المدلول عليه بقوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» هو التنازع في أمر البعث بالإقرار و الإنكار لكون ضمير «أمرهم» للناس كان المعنى أنهم تنازعوا في أمر البعث فأعثرناهم عليهم ليعلموا أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها لكن المشركين لم ينتهوا بما ظهرت لهم من الآية فقالوا ابنوا على أصحاب الكهف بنيانا و اتركوهم على حالهم ينقطع عنهم الناس فلم يظهر لنا من أمرهم شيء و لم نظفر فيهم على يقين ربهم أعلم بهم، و قال الموحدون أمرهم ظاهر و آيتهم بينة و لنتخذن عليهم مسجدا يعبد فيه الله و يبقى ببقائه ذكرهم.
و إن كان التنازع هو التنازع في أصحاب الكهف و ضمير «أمرهم» راجعا إليهم كان المعنى أنا أعثرنا الناس عليهم بعد بعثهم عن نومتهم ليعلم الناس أن وعد الله حق و أن الساعة لا ريب فيها عند ما توفاهم الله بعد إعثار الناس عليهم و حصول الغرض و هم أي الناس يتنازعون بينهم في أمرهم أي أمر أصحاب الكهف كأنهم اختلفوا: أ نيام القوم أم أموات؟ و هل من الواجب أن يدفنوا و يقبروا أو يتركوا على هيئتهم في فجوة الكهف فقال المشركون: ابنوا عليهم بنيانا و اتركوهم على حالهم ربهم أعلم بهم أ نيام أم أموات؟ قال الموحدون: «لنتخذن عليهم مسجدا».
لكن السياق يؤيد المعنى الأول لأن ظاهره كون قول الموحدين: «لنتخذن عليهم مسجدا» ردا منهم لقول المشركين: «ابنوا عليهم بنيانا» إلخ» و القولان من الطائفتين إنما يتنافيان على المعنى الأول، و كذا قولهم: «ربهم أعلم بهم» و خاصة حيث قالوا: «ربهم» و لم يقولوا: ربنا أنسب بالمعنى الأول.
و قوله: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا» هؤلاء القائلون هم الموحدون و من الشاهد عليه التعبير عما اتخذوه بالمسجد دون المعبد فإن المسجد في عرف القرآن هو المحل المتخذ لذكر الله و السجود له قال تعالى: «و مساجد يذكر فيها اسم الله»: الحج: 40.
و قد جاء الكلام بالفصل من غير عطف لكونه بمنزلة جواب عن سؤال مقدر كأن قائلا يقول فما ذا قال غير المشركين؟ فقيل: قال الذين غلبوا إلخ، و أما المراد بغلبتهم على أمرهم فإن كان المراد بأمرهم هو الأمر المذكور في قوله: «إذ يتنازعون بينهم أمرهم» و الضمير للناس فالمراد بالغلبة غلبة الموحدين بنجاحهم بالآية التي قامت على حقية البعث، و إن كان الضمير للفتية فالغلبة من حيث التصدي لأمرهم و الغالبون هم الموحدون و قيل: الملك و أعوانه، و قيل: أولياؤهم من أقاربهم و هو أسخف الأقوال.
و إن كان المراد بأمرهم غير الأمر السابق و الضمير للناس فالغلبة أخذ زمام أمور المجتمع بالملك و ولاية الأمور، و الغالبون هم الموحدون أو الملك و أعوانه و إن كان الضمير عائدا إلى الموصول فالغالبون هم الولاة و المراد بغلبتهم على أمورهم أنهم غالبون على ما أرادوه من الأمور قادرون هذا، و أحسن الوجوه أولها.
و الآية من معارك آراء المفسرين و لهم في مفرداتها و في ضمائر الجمع التي فيها و في جملها اختلاف عجيب و الاحتمالات التي أبدوها في معاني مفرداتها و مراجع ضمائرها و أحوال جملها إذا ضربت بعضها في بعض بلغت الألوف، و قد أشرنا منها إلى ما يلائم السياق و على الطالب لأزيد من ذلك أن يراجع المطولات.
قوله تعالى: «سيقولون ثلاثة رابعهم كلبهم - إلى قوله - و ثامنهم كلبهم» يذكر تعالى اختلاف الناس في عدد أصحاب الكهف و أقوالهم فيه، و هي على ما ذكره تعالى - و قوله الحق - ثلاثة مترتبة متصاعدة أحدها أنهم ثلاثة رابعهم كلبهم و الثاني أنهم خمسة و سادسهم كلبهم و قد عقبه بقوله: «رجما بالغيب» أي قولا بغير علم.
و هذا التوصيف راجع إلى القولين جميعا: و لو اختص بالثاني فقط كان من حق الكلام أن يقدم القول الثاني و يؤخر الأول و يذكر مع الثالث الذي لم يذكر معه ما يدل على عدم ارتضائه.
و القول الثالث أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم، و قد ذكره الله سبحانه و لم يعقبه بشيء يدل على تزييفه، و لا يخلو ذلك من إشعار بأنه القول الحق، و قد تقدم في الكلام على محاورتهم المحكية بقوله تعالى: «قال قائل منهم كم لبثتم قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم» أنه مشعر بل دال على أن عددهم لم يكن بأقل من سبعة.
و من لطيف صنع الآية في عد الأقوال نظمها العدد من ثلاثة إلى ثمانية نظما متواليا ففيها ثلاثة رابعها خمسة سادسها سبعة و ثامنها.
و أما قوله: «رجما بالغيب» تمييز يصف القولين بأنهما من القول بغير علم و الرجم هو الرمي بالحجارة و كأن المراد بالغيب الغائب و هو القول الذي معناه غائب عن العلم لا يدري قائله أ هو صدق أم كذب؟ فشبه الذي يلقي كلاما ما هذا شأنه بمن يريد الرجم بالحجارة فيرمي ما لا يدري أ حجر هو يصيب غرضه أم لا؟ و لعله المراد بقول بعضهم: رجما بالغيب أي قذفا بالظن لأن المظنون غائب عن الظان لا علم له به.
و قيل: معنى «رجما بالغيب» ظنا بالغيب و هو بعيد.
و قد قال تعالى: «ثلاثة رابعهم كلبهم» و قال: «خمسة سادسهم كلبهم» فلم يأت بواو ثم قال: «سبعة و ثامنهم كلبهم» فأتى بواو قال في الكشاف،: و ثلاثة خبر مبتدإ محذوف أي هم ثلاثة، و كذلك خمسة و سبعة، رابعهم كلبهم جملة من مبتدإ و خبر واقعة صفة لثلاثة، و كذلك سادسهم كلبهم و ثامنهم كلبهم.
فإن قلت: فما هذه الواو الداخلة على الجملة الثالثة؟ و لم دخلت عليها دون الأوليين؟ قلت: هي الواو التي تدخل على الجملة الواقعة صفة للنكرة كما تدخل على الواقعة حالا عن المعرفة في نحو قولك: جاءني رجل و معه آخر و مررت بزيد و بيده سيف، و منه قوله تعالى: «و ما أهلكنا من قرية إلا و لها كتاب معلوم» و فائدتها تأكيد لصوق الصفة بالموصوف و الدلالة على أن اتصافه بها أمر ثابت مستقر.
و هذه الواو هي التي آذنت بأن الذين قالوا: سبعة و ثامنهم كلبهم قالوه عن ثبات علم و طمأنينة نفس و لم يرجموا بالظن كما غيرهم، و الدليل عليه أن الله سبحانه اتبع القولين الأولين قوله: «رجما بالغيب، و اتبع القول الثالث قوله: ما يعلمهم إلا قليل، و قال ابن عباس: حين وقعت الواو انقطعت العدة أي لم يبق بعدها عدة عاد يلتفت إليها و ثبت أنهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات انتهى.
و قال في المجمع، في ذيل ما لخص به كلام أبي علي الفارسي: و أما من قال: هذه الواو واو الثمانية و استدل بقوله: «حتى إذا جاءوها و فتحت أبوابها» لأن للجنة ثمانية أبواب فشيء لا يعرفه النحويون انتهى.
قوله تعالى: «قل ربي أعلم بعدتهم ما يعلمهم إلا قليل» إلى آخر الآية أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقضي في عدتهم حق القضاء و هو أن الله أعلم بها و قد لوح في كلامه السابق إلى القول و هذا نظير ما حكى عن الفتية في محاورتهم و ارتضاء إذ قال قائل منهم كم لبثتم؟ قالوا: لبثنا يوما أو بعض يوم.
قالوا: ربكم أعلم بما لبثتم.
و مع ذلك ففي الكلام دلالة على أن بعض المخاطبين بخطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «ربي أعلم بعدتهم» إلخ كان على علم من ذلك فإن قوله: «ما يعلمهم» و لم يقل: لا يعلمهم يفيد نفي الحال فالاستثناء منه بقوله: «إلا قليل» يفيد الإثبات في الحال و اللائح منه على الذهن أنهم من أهل الكتاب.
و بالجملة مفاد الكلام أن الأقوال الثلاثة كانت محققة في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و على هذا فقوله: «سيقولون ثلاثة» إلخ المفيد للاستقبال، و كذا قوله: «و يقولون خمسة» إلخ، و قوله: «و يقولون سبعة» إلخ إن كانا معطوفين على مدخول السين في «سيقولون» تفيد الاستقبال القريب بالنسبة إلى زمن نزول الآيات أو زمن وقوع الحادثة فافهم ذلك.
و قوله تعالى: «فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا» قال الراغب: المرية التردد في الأمر و هو أخص من الشك، قال: و الامتراء و المماراة المحاجة فيما فيه مرية قال: و أصله من مريت الناقة إذا مسحت ضرعها للحلب.
انتهى.
فتسمية الجدال مماراة لما فيه من إصرار المماري بالبحث ليفرغ خصمه كل ما عنده من الكلام فينتهي عنه.
و المراد بكون المراء ظاهرا أن لا يتعمق فيه بالاقتصار على ما قصه القرآن من غير تجهيل لهم و لا رد كما قيل، و قيل: المراء الظاهر ما يذهب بحجة الخصم يقال: ظهر إذا ذهب، قال الشاعر:.
و تلك شكاة ظاهر عنك عارها.
و المعنى: و إذا كان ربك أعلم و قد أنبأك نبأهم فلا تحاجهم في الفتية إلا محاجة ظاهرة غير متعمق فيها - أو محاجة ذاهبة لحجتهم - و لا تطلب الفتيا في الفتية من أحد منهم فربك حسبك.
قوله تعالى: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» الآية الكريمة سواء كان الخطاب فيها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة أو له و لغيره متعرضة للأمر الذي يراه الإنسان فعلا لنفسه و يخبر بوقوعه منه في مستقبل الزمان.
و الذي يراه القرآن في تعليمه الإلهي أن ما في الوجود من شيء ذاتا كان أو فعلا و أثرا فإنما هو مملوك لله وحده له أن يفعل فيه ما يشاء و يحكم فيه ما يريد لا معقب لحكمه، و ليس لغيره أن يملك شيئا إلا ما ملكه الله تعالى منه و أقدره عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره و الآيات القرآنية الدالة على هذه الحقيقة كثيرة جدا لا حاجة إلى إيرادها.
فما في الكون من شيء له فعل أو أثر - و هذه هي التي نسميها فواعل و أسبابا و عللا فعالة - غير مستقل في سببيته و لا مستغن عنه تعالى في فعله و تأثيره لا يفعل و لا يؤثر إلا ما شاء الله أن يفعله و يؤثره أي أقدره عليه و لم يسلب عنه القدرة عليه بإرادة خلافه.
و بتعبير آخر كل سبب من الأسباب الكونية ليس سببا من تلقاء نفسه و باقتضاء من ذاته بل بإقداره تعالى على الفعل و التأثير و عدم إرادته خلافه، و إن شئت فقل: بتسهيله تعالى له سبيل الوصول إليه، و إن شئت فقل بإذنه تعالى فالإذن هو الإقدار و رفع المانع و قد تكاثرت الآيات الدالة على أن كل عمل من كل عامل موقوف على إذنه تعالى قال تعالى: «ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله»: الحشر - 5 و قال: «ما أصاب من مصيبة إلا بإذن الله»: التغابن: 11 و قال: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه»: الأعراف: 58 و قال: «و ما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله»: آل عمران: 145 و قال: «و ما كان لنفس أن تؤمن إلا بإذن الله»: يونس: 100 و قال: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء: 64 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
فعلى الإنسان العارف بمقام ربه المسلم له أن لا يرى نفسه سببا مستقلا لفعله مستغنيا فيه عن غيره بل مالكا له بتمليك الله قادرا عليه بإقداره و أن القوة لله جميعا و إذا عزم على فعل أن يعزم متوكلا على الله قال تعالى: «فإذا عزمت فتوكل على الله» و إذا وعد بشيء أو أخبر عما سيفعله أن يقيده بإذن الله أو بعدم مشيته خلافه.
و هذا المعنى هو الذي يسبق إلى الذهن المسبوق بهذه الحقيقة القرآنية إذا قرع بابه قوله تعالى: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا أن يشاء الله» و خاصة بعد ما تقدم في آيات القصة من بيان توحده تعالى في ألوهيته و ربوبيته و ما تقدم قبل آيات القصة من كون ما على الأرض زينة لها سيجعله الله صعيدا جرزا.
و من جملة ما على الأرض أفعال الإنسان التي هي زينة جالبة للإنسان يمتحن بها و هو يراها مملوكة لنفسه.
و ذلك أن قوله: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا» نهي عن نسبته فعله إلى نفسه، و لا بأس بهذه النسبة قطعا فإنه سبحانه كثيرا ما ينسب في كلامه الأفعال إلى نبيه و إلى غيره من الناس و ربما يأمره أن ينسب أفعالا إلى نفسه قال تعالى: «فقل لي عملي و لكم عملكم»: يونس: 41، و قال: «لنا أعمالنا و لكم أعمالكم»: الشورى: 15.
فأصل نسبة الفعل إلى فاعله مما لا ينكره القرآن الكريم و إنما ينكر دعوى الاستقلال في الفعل و الاستغناء عن مشيته و إذنه تعالى فهو الذي يصلحه الاستثناء أعني قوله: «إلا أن يشاء الله».
و من هنا يظهر أن الكلام على تقدير باء الملابسة و هو استثناء مفرغ عن جميع الأحوال أو جميع الأزمان، و تقديره: و لا تقولن لشيء - أي لأجل شيء تعزم عليه - إني فاعل ذلك غدا في حال من الأحوال أو زمان من الأزمنة إلا في حال أو في زمان يلابس قولك المشية بأن تقول: إني فاعل ذلك غدا إن شاء الله أن أفعله أو إلا أن يشاء الله أن لا أفعله و المعنى على أي حال: إن أذن الله في فعله.
هذا ما يعطيه التدبر في معنى الآية و يؤيده ذيلها و للمفسرين فيها توجيهات أخرى.
منها أن المعنى هو المعنى السابق إلا أن الكلام بتقدير القول في الاستثناء و تقدير الكلام: إلا أن تقول إن شاء الله، و لما حذف «تقول» نقل «إن شاء الله» إلى لفظ الاستقبال، فيكون هذا تأديبا من الله للعباد و تعليما لهم أن يعلقوا ما يخبرون به بهذه اللفظة حتى يخرج عن حد القطع فلا يلزمهم كذب أو حنث إذا لم يفعلوه لمانع و الوجه منسوب إلى الأخفش.
و فيه أنه تكلف من غير موجب.
على أن التبديل المذكور يغير المعنى و هو ظاهر و منها أن الكلام على ظاهره غير أن المصدر المؤول إليه «أن يشاء الله» بمعنى المفعول، و المعنى لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا إلا ما يشاؤه الله و يريده، و إذ كان الله لا يشاء إلا الطاعات فكأنه قيل: و لا تقولن في شيء إني سأفعله إلا الطاعات، و النهي للتنزيه لا للتحريم حتى يعترض عليه بجواز العزم على المباحات و الإخبار عنه.
و فيه أنه مبني على حمل المشية على الإرادة التشريعية و لا دليل عليه و لم يستعمل المشية في كلامه تعالى بهذا المعنى قط و قد استعمل استثناء المشية التكوينية في مواضع من كلامه كما حكى من قول موسى لخضر: «ستجدني إن شاء الله صابرا»: الكهف: 69، و قول شعيب لموسى: «ستجدني إن شاء الله من الصالحين»: القصص، 27 و قول إسماعيل لأبيه: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين»: الصافات: 102 و قوله تعالى: «لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين»: الفتح: 27 إلى غير ذلك من الآيات.
و الوجه مبني على أصول الاعتزال و عند المعتزلة أن لا مشية لله سبحانه في أعمال العباد إلا الإرادة التشريعية المتعلقة بالطاعات، و هو مدفوع بالعقل و النقل.
و منها أن الاستثناء من الفعل دون القول من غير حاجة إلى تقدير، و المعنى و لا تقولن لشيء هكذا و هو أن تقول: إني فاعل ذلك غدا باستقلالي إلا أن يشاء الله خلافه بإبداء مانع على ما تقوله المعتزلة أن العبد فاعل مستقل للفعل إلا أن يبدىء الله مانعا دونه أقوى منه، و مآل المعنى أن لا تقل في الفعل بقول المعتزلة.
و فيه أن تعلق الاستثناء بالفعل دون القول بما مر من البيان أتم فلا وجه للنهي عن تعليق الاستثناء على الفعل، و قد وقع تعليقه على الفعل في مواضع من كلامه من غير أن يرده كقوله حكاية عن إبراهيم: «و لا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئا»: الأنعام: 80 و قوله حكاية عن شعيب: «و ما يكون لنا أن نعود فيها إلا أن يشاء الله»: الأعراف: 89، و قوله: «و ما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله»: الأنعام: 111 إلى غير ذلك من الآيات.
فلتحمل الآية التي نحن فيها على ما يوافقها.
و منها: أن الاستثناء من أعم الأوقات إلا أن مفعول «يشاء» هو القول و المعنى و لا تقولن ذلك إلا أن يشاء الله أن تقوله، و المراد بالمشية الإذن أي لا تقل ذلك إلا أن يؤذن لك فيه بالإعلام.
و فيه أنه مبني على تقدير شيء لا دليل عليه من جهة اللفظ و هو الإعلام و لو لم يقدر لكان تكليفا بالمجهول.
و منها: أن الاستثناء للتأبيد نظير قوله: «خالدين فيها ما دامت السماوات و الأرض إلا ما شاء ربك عطاء غير مجذوذ»: هود: 108 و المعنى: لا تقولن ذلك أبدا.
و فيه أنه مناف للآيات الكثيرة المنقولة آنفا التي تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إلى سائر الناس أعمالهم ماضية و مستقبلة بل تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينسب أعماله إلى نفسه كقوله: «فقل لي عملي و لكم عملكم»: يونس: 41، و قوله: «قل سأتلوا عليكم منه ذكرا»: الكهف: 83.
قوله تعالى: «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا» اتصال الآية و اشتراكها مع ما قبلها في سياق التكليف يقضي أن يكون المراد من النسيان نسيان الاستثناء، و عليه يكون المراد من ذكر ربه ذكره بمقامه الذي كان الالتفات إليه هو الموجب للاستثناء و هو أنه القائم على كل نفس بما كسبت الذي ملكه الفعل و أقدره عليه و هو المالك لما ملكه و القادر على ما عليه أقدره.
و المعنى: إذا نسيت الاستثناء ثم ذكرت أنك نسيته فاذكر ربك متى كان ذلك بما لو كنت ذاكرا لذكرته به و هو تسليم الملك و القدرة إليه و تقييد الأفعال بإذنه و مشيته.
و إذ كان الأمر بالذكر مطلقا لم يتعين في لفظ خاص فالمندوب إليه هو ذكره تعالى بشأنه الخاص سواء كان بلفظ الاستثناء بأن يلحقه بالكلام، إن ذكره و لما يتم الكلام أو يعيد الكلام و يستثني أو يضمر الكلام ثم يستثني إن كان فصل قصير أو طويل كما ورد في بعض الروايات أنه لما نزلت الآيات قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إن شاء الله أو كان الذكر باستغفار و نحوه.
و يظهر مما مر أن ما ذكره بعضهم أن الآية مستقلة عما قبلها و أن المراد بالنسيان نسيانه تعالى أو مطلق النسيان، و المعنى: و اذكر ربك إذا نسيته ثم ذكرته أو و اذكر ربك إذا نسيت شيئا من الأشياء، و كذا ما ذكره بعضهم بناء على الوجه السابق أن المراد بذكره تعالى خصوص الاستثناء و إن طال الفصل أو خصوص الاستغفار أو الندم على التفريط، كل ذلك وجوه غير سديدة.
و قوله: «و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا» حديث الاتصال و الاشتراك في سياق التكليف بين جمل الآية يقضي هنا أيضا أن تكون الإشارة بقوله: «هذا» إلى الذكر بعد النسيان، و المعنى و ارج أن يهديك ربك إلى أمر هو أقرب رشدا من النسيان ثم الذكر و هو الذكر الدائم من غير نسيان فيكون من قبيل الآيات الداعية له (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى دوام الذكر كقوله تعالى: «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين»: الأعراف: 205 و ذكر الشيء كلما نسي ثم ذكر و التحفظ عليه كرة بعد كرة من أسباب دوام ذكره.
و من العجيب أن المفسرين أخذوا قوله: «هذا» في الآية إشارة إلى نبإ أصحاب الكهف و ذكروا أن معنى الآية: قل عسى أن يعطيني ربي من الآيات الدالة على نبوتي ما هو أقرب إرشادا للناس من نبإ أصحاب الكهف، و هو كما ترى.
و أعجب منه ما عن بعض أن هذا إشارة إلى المنسي و أن معنى الآية: ادع الله إذا نسيت شيئا أن يذكرك إياه و قل إن لم يذكرك ما نسيته عسى أن يهديني ربي لشيء هو أقرب خيرا و منفعة من المنسي.
و أعجب منه ما عن بعض آخر أن قوله: «و قل عسى أن يهدين» إلخ عطف تفسيري لقوله: «و اذكر ربك إذا نسيت» و المعنى إذا وقع منك النسيان فتب إلى ربك و توبتك أن تقول: عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا، و يمكن أن يجعل الوجهان الثاني و الثالث وجها واحدا و بناؤهما على أي حال على كون المراد بقوله: «إذا نسيت» مطلق النسيان، و قد عرفت ما فيه.
قوله تعالى: «و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا» بيان لمدة لبثهم في الكهف على حال النوم فإن هذا اللبث هو متعلق العناية في آيات القصة و قد أشير إلى إجمال مدة اللبث بقوله في أول الآيات: «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا».
و يؤيده تعقيبه بقوله في الآية التالية: «قل الله أعلم بما لبثوا» ثم قوله: «و اتل ما أوحي إليك» إلخ ثم قوله: «و قل الحق من ربكم» و لم يذكر عددا غير هذا فقوله: «قل الله أعلم بما لبثوا» بعد ذكر مدة اللبث كقوله: «قل ربي أعلم بعدتهم» يلوح إلى صحة العدد المذكور.
فلا يصغى إلى قول القائل إن قوله: «و لبثوا في كهفهم» إلخ محكي قول أهل الكتاب و قوله: «قل الله أعلم بما لبثوا» رد له، و كذا قول القائل إن قوله: «و لبثوا» إلخ قول الله تعالى و قوله: «و ازدادوا تسعا» إشارة إلى قول أهل الكتاب و الضمير لهم و المعنى أن أهل الكتاب زادوا على العدد الواقعي تسع سنين ثم قوله: «قل الله أعلم بما لبثوا» رد له.
على أن المنقول عنهم أنهم قالوا بلبثهم مائتي سنة أو أقل لا ثلاثمائة و تسعة و لا ثلاثمائة.
و قوله: «سنين» ليس بمميز للعدد و إلا لقيل: ثلاثمائة سنة بل هو بدل من ثلاثمائة كما قالوا، و في الكلام مضاهاة لقوله فيما أجمل في صدر الآيات: «سنين عددا».
و لعل النكتة في تبديل «سنة» من «سنين» استكثار مدة اللبث، و على هذا فقوله: «و ازدادوا تسعا» لا يخلو من معنى الإضراب كأنه قيل: و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة هذه السنين المتمادية و الدهر الطويل بل ازدادوا تسعا، و لا ينافي هذا ما تقدم في قوله: «سنين عددا» إن هذا لاستقلال عدد السنين و استحقاره لأن المقامين مختلفان بحسب الغرض فإن الغرض هناك كان متعلقا بنفي العجب من آية الكهف بقياسها إلى آية جعل ما على الأرض زينة لها فالأنسب به استحقار المدة، و الغرض هاهنا بيان كون اللبث آية من آياته و حجة على منكري البعث و الأنسب به استكثار المدة، و المدة بالنسبتين تحتمل الوصفين فهي بالنسبة إليه تعالى شيء هين و بالنسبة إلينا دهر طويل.
و إضافة تسع سنين إلى ثلاثمائة سنة مدة اللبث تعطي أنهم لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة شمسية فإن التفاوت في ثلاثمائة سنة إذا أخذت تارة شمسية و أخرى قمرية بالغ هذا المقدار تقريبا و لا ينبغي الارتياب في أن المراد بالسنين في الآية السنون القمرية لأن السنة في عرف القرآن هي القمرية المؤلفة من الشهور الهلالية و هي المعتبرة في الشريعة الإسلامية.
و في التفسير الكبير، شدد النكير على ذلك لعدم تطابق العددين تحقيقا و ناقش في ما روي عن علي (عليه السلام) في هذا المعنى مع أن الفرق بين العددين الثلاثمائة شمسية و الثلاثمائة و تسع سنين قمرية أقل من ثلاثة أشهر و التقريب في أمثال هذه النسب ذائع في الكلام بلا كلام.
قوله تعالى: «قل الله أعلم بما لبثوا له غيب السماوات و الأرض» إلى آخر الآية مضي في حديث أصحاب الكهف بالإشارة إلى خلاف الناس في ذلك و أن ما قصه الله تعالى من قصتهم هو الحق الذي لا ريب فيه.
فقوله: «قل الله أعلم بما لبثوا» مشعر بأن مدة لبثهم المذكورة في الآية السابقة لم تكن مسلمة عند الناس فأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحتج في ذلك بعلم الله و أنه أعلم بهم من غيره.
و قوله: «له غيب السماوات و الأرض» تعليل لكونه تعالى أعلم بما لبثوا، و اللام للاختصاص الملكي و المراد أنه تعالى وحده يملك ما في السماوات و الأرض من غيب غير مشهود فلا يفوته شيء و إن فات السماوات و الأرض، و إذ كان مالكا للغيب بحقيقة معنى الملك و له كمال البصر و السمع فهو أعلم بلبثهم الذي هو من الغيب.
و على هذا فقوله: «أبصر به و أسمع» - و هما من صيغ التعجب معناهما كمال بصره و سمعه - لتتميم التعليل كأنه قيل: و كيف لا يكون أعلم بلبثهم و هو يملكهم على كونهم من الغيب و قد رأى حالهم و سمع مقالهم.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم: إن اللام في «له غيب» إلخ للاختصاص العلمي أي له تعالى ذلك علما، و يلزم منه ثبوت علمه لسائر المخلوقات لأن من علم الخفي علم غيره بطريق أولى.
انتهى، غير سديد لأن ظاهر قوله: «أبصر به و أسمع» أنه للتأسيس دون التأكيد، و كذا ظاهر اللام مطلق الملك دون الملك العلمي.
و قوله: «ما لهم من دونه من ولي» إلخ المراد بالجملة الأولى منه نفي ولاية غير الله لهم مستقلا بالولاية دون الله، و بالثانية نفي ولاية غيره بمشاركته إياه فيها أي ليس لهم ولي غير الله لا مستقلا بالولاية و لا غير مستقل.
و لا يبعد أن يستفاد من النظم - بالنظر إلى التعبير في الجملة الثانية «و لا يشرك في حكمه أحدا» بالفعل دون الوصف و تعليق نفي الإشراك بالحكم دون الولاية أن الجملة الأولى تنفي ولاية غيره تعالى لهم سواء كانت بالاستقلال فيستقل بتدبير أمرهم دون الله أو بالشركة بأن يلي بعض أمورهم دون الله، و الجملة الثانية تنفي شركة غيره تعالى في الحكم و القضاء في الحكم بأن تكون ولايتهم لله تعالى لكنه وكل عليهم غيره و فوض إليه أمرهم و الحكم فيهم كما يفعله الولاة في نصب الحكام و العمال في الشعب المختلفة من أمورهم فيباشر الحكام و العمال من الأحكام ما لا علم به من الولاة.
و يؤول المعنى إلى أنه كيف لا يكون تعالى أعلم بلبثهم و هو تعالى وحده وليهم المباشر للحكم الجاري فيهم و عليهم.
و الضمير في قوله: «لهم» لأصحاب الكهف أو لجميع ما في السماوات و الأرض المفهوم من الجملة السابقة بتغليب جانب أولي العقل أو لمن في السماوات و الأرض و الوجوه الثلاثة مترتبة جودة و أجودها أولها.
و عليه فالآية تتضمن حجتين على أن الله أعلم بما لبثوا إحداهما حجة عامة لهم و لغيرهم و هي قوله: «له غيب السماوات و الأرض أبصر به و أسمع» فهو أعلم بجميع الأشياء و منها لبث أصحاب الكهف، و ثانيتهما حجة خاصة بهم و هي قوله: «ما لهم» إلى آخر الآية فهو تعالى وليهم المباشر للقضاء الجاري عليهم فكيف لا يكون أعلم بهم من غيره؟ و لمكان العلية في الجملتين جيء بهما مفصولتين من غير عطف.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أم حسبت أن أصحاب الكهف» الآية قال: يقول: قد آتيناك من الآيات ما هو أعجب منه، و هم فتية كانوا في الفترة بين عيسى بن مريم و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما الرقيم فهما لوحان من نحاس مرقوم أي مكتوب فيهما أمر الفتية و أمر إسلامهم و ما أراد منهم دقيانوس الملك و كيف كان أمرهم و حالهم.
و فيه، حدثنا أبي عن ابن أبي عمير عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان سبب نزول سورة الكهف أن قريشا بعثوا ثلاثة نفر إلى نجران: النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط و العاص بن وائل السهمي ليتعلموا من اليهود مسائل يسألونها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). فخرجوا إلى نجران إلى علماء اليهود فسألوهم فقالوا: اسألوه عن ثلاث مسائل فإن أجابكم فيها على ما عندنا فهو صادق ثم اسألوه عن مسألة واحدة فإن ادعى علمها فهو كاذب. قالوا: و ما هذه المسائل؟ قالوا:! سلوه عن فتية كانوا في الزمن الأول فخرجوا و غابوا و ناموا، كم بقوا في نومهم حتى انتبهوا؟ و كم كان عددهم؟ و أي شيء كان معهم من غيرهم؟ و ما كان قصتهم؟ و سلوه عن موسى حين أمره الله أن يتبع العالم و يتعلم منه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما كان قصته معه؟ و سلوه عن طائف طاف مغرب الشمس و مطلعها حتى بلغ سد يأجوج و مأجوج من هو؟ و كيف كان قصته؟ ثم أملئوا عليهم أخبار هذه المسائل الثلاث و قالوا لهم: إن أجابكم بما قد أملينا عليكم فهو صادق، و إن أخبركم بخلاف ذلك فلا تصدقوه. قالوا: فما المسألة الرابعة؟ قالوا: سلوه متى تقوم الساعة! فإن ادعى علمها فهو كاذب فإن قيام الساعة لا يعلمه إلا الله تبارك و تعالى. فرجعوا إلى مكة و اجتمعوا إلى أبي طالب فقالوا: يا أبا طالب إن ابن أخيك يزعم أن خبر السماء يأتيه و نحن نسأله عن مسائل فإن أجابنا عنها علمنا أنه صادق و إن لم يخبرنا علمنا أنه كاذب فقال أبو طالب: سلوه عما بدا لكم فسألوه عن الثلاث المسائل فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) غدا أخبركم و لم يستثن، فاحتبس الوحي عنه أربعين يوما حتى اغتم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و شك أصحابه الذين كانوا آمنوا به، و فرحت قريش و استهزءوا و آذوا، و حزن أبو طالب. فلما كان بعد أربعين يوما نزل عليه سورة الكهف فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا جبرئيل لقد أبطأت فقال: إنا لا نقدر أن ننزل إلا بإذن الله فأنزل الله تعالى: أم حسبت يا محمد أن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا من آياتنا عجبا ثم قص قصتهم فقال: إذ أوى الفتية إلى الكهف فقالوا ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا. قال: فقال الصادق (عليه السلام). إن أصحاب الكهف و الرقيم كانوا في زمن ملك جبار عات، و كان يدعو أهل مملكته إلى عبادة الأصنام فمن لم يجبه قتله، و كان هؤلاء قوما مؤمنين يعبدون الله عز و جل، و وكل الملك بباب المدينة و لم يدع أحدا يخرج حتى يسجد للأصنام فخرجوا هؤلاء بعلة الصيد و ذلك أنهم مروا براع في طريقهم فدعوه إلى أمرهم فلم يجبهم و كان مع الراعي كلب فأجابهم الكلب و خرج معهم. قال (عليه السلام): فخرج أصحاب الكهف من المدينة بعلة الصيد هربا من دين ذلك الملك فلما أمسوا دخلوا إلى ذلك الكهف و الكلب معهم فألقى الله عليهم النعاس كما قال الله: «فضربنا على آذانهم في الكهف سنين عددا» فناموا حتى أهلك الله ذلك الملك و أهل المدينة و ذهب ذلك الزمان و جاء زمان آخر و قوم آخرون. ثم انتبهوا فقال بعضهم لبعض: كم نمنا هاهنا؟ فنظروا إلى الشمس قد ارتفعت فقالوا: نمنا يوما أو بعض يوم ثم قالوا لواحد منهم: خذ هذه الورق و أدخل المدينة متنكرا لا يعرفونك فاشتر لنا طعاما فإنهم إن علموا بنا و عرفونا قتلونا أو ردونا في دينهم. فجاء ذلك الرجل فرأى مدينة بخلاف التي عهدها و رأى قوما بخلاف أولئك لم يعرفهم و لم يعرفوا لغته و لم يعرف لغتهم فقالوا له: من أنت، و من أين جئت؟ فأخبرهم فخرج ملك تلك المدينة مع أصحابه و الرجل معهم حتى وقفوا على باب الكهف و أقبلوا يتطلعون فيه فقال بعضهم: هؤلاء ثلاثة رابعهم كلبهم، و قال بعضهم: خمسة سادسهم كلبهم، و قال بعضهم: سبعة و ثامنهم كلبهم. و حجبهم الله بحجاب من الرعب فلم يكن يقدم بالدخول عليهم غير صاحبهم فإنه لما دخل عليهم وجدهم خائفين أن يكونوا أصحاب دقيانوس شعروا بهم فأخبرهم صاحبهم أنهم كانوا نائمين هذا الزمن الطويل، و أنهم آية للناس فبكوا و سألوا الله أن يعيدهم إلى مضاجعهم نائمين كما كانوا. ثم قال الملك: ينبغي أن نبني هاهنا مسجدا نزوره فإن هؤلاء قوم مؤمنون. فلهم في كل سنة تقلبان ينامون ستة أشهر على جنوبهم 1 اليمنى و ستة أشهر على جنوبهم 2 اليسرى و الكلب معهم باسط ذراعيه بفناء الكهف و ذلك قوله تعالى: «نحن نقص عليك نبأهم بالحق» إلى آخر الآيات.
أقول: و الرواية من أوضح روايات القصة متنا و أسلمها من التشوش و هي مع ذلك تتضمن أن الذين اختلفوا في عددهم فقالوا: ثلاثة أو خمسة أو سبعة هم أهل المدينة الذين اجتمعوا على باب الكهف بعد انتباه الفتية و هو خلاف ظاهر الآية، و تتضمن أن أصحاب الكهف لم يموتوا ثانيا بل عادوا إلى نومتهم و كذلك كلبهم باسطا ذراعيه بالوصيد و أن لهم في كل سنة تقلبين من اليمين إلى اليسار و بالعكس و أنهم بعد على هيئتهم.
و لا كهف معهودا على وجه الأرض و فيه قوم نيام على هذه الصفة.
على أن في ذيل هذه الرواية.
و قد تركنا نقله هاهنا لاحتمال أن يكون من كلام القمي أو رواية أخرى - أن قوله تعالى: «و لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنة و ازدادوا تسعا» من كلام أهل الكتاب، و أن قوله بعده: «قل الله أعلم بما لبثوا» رد له، و قد عرفت في البيان المتقدم أن السياق يدفعه و النظم البليغ لا يقبله.
و قد تكاثرت الروايات في بيان القصة من طرق الفريقين لكنها متهافتة مختلفة لا يكاد يوجد منها خبران متوافقا المضمون من جميع الجهات.
فمن الاختلاف ما في بعض الروايات كالرواية المتقدمة أن سؤالهم كان عن أربعة نبإ أصحاب الكهف و نبإ موسى و العالم و نبإ ذي القرنين و عن الساعة متى تقوم؟ و في بعضها أن السؤال كان عن خبر أصحاب الكهف و ذي القرنين و عن الروح و قد ذكروا أن آية صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يجيب آخر الأسؤلة فأجاب عن نبإ أصحاب الكهف و نبإ ذي القرنين، و نزل «قل الروح من أمر ربي» الآية فلم يجب عنها، و قد عرفت في بيان آية الروح أن الكلام مسوق سوق الجواب و ليس بتجاف.
و من ذلك ما في أكثر الروايات أنهم جماعة واحدة سمعوا أصحاب الكهف و الرقيم، و في بعضها أن أصحاب الرقيم غير أصحاب الكهف، و أن الله سبحانه أشار في كلامه إليهما معا لكنه قص قصة أصحاب الكهف و أعرض عن قصة أصحاب الرقيم، و ذكروا لهم قصة و هي أن قوما و هم ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم فأخذتهم السماء فأووا إلى كهف و انحطت صخرة من أعلى الجبل و سدت بابه.
فقال بعضهم لبعض: ليذكر كل منا شيئا من عمله الصالح و ليدع الله به لعله يفرج عنا فذكر واحد منهم منه عمله لوجه الله و دعا الله به فتنحت الصخرة قدر ما دخل عليهم الضوء ثم الثاني فتنحت حتى تعارفوا ثم الثالث ففرج الله عنهم فخرجوا رواه 1 النعمان بن بشير مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و المستأنس بأسلوب الذكر الحكيم يأبى أن يظن به أن يشير في دعوته إلى قصتين ثم يفصل القول في إحداهما و ينسى الأخرى من أصلها.
و من ذلك ما تذكره الروايات أن الملك الذي هرب منه الفتية هو دقيانوس ديوكليس 285 م - 305 م ملك الروم و في بعضها كان يدعي الألوهية، و في بعض أنه كان دقيوس دسيوس 249 - 254 م ملك الروم و بينهما عشرات من السنين و كان الملك يدعو إلى عبادة الأصنام و يقتل أهل التوحيد، و في بعض الروايات كان مجوسيا يدعو إلى دين المجوس، و لم يذكر التاريخ شيوع المجوسية هذا الشيوع في بلاد الروم، و في بعض الروايات أنهم كانوا قبل عيسى (عليه السلام).
و من ذلك أن بعض الروايات تذكر أن الرقيم اسم البلد الذي خرجوا منه و في بعضها اسم الوادي، و في بعضها اسم الجبل الذي فيه الكهف، و في بعضها اسم كلبهم، و في بعضها هو لوح من حجر، و في بعضها من رصاص، و في بعضها من نحاس و في بعضها من ذهب رقم فيه أسماؤهم و أسماء آبائهم و قصتهم و وضع على باب الكهف و في بعضها داخله، و في بعضها كان معلقا على باب المدينة، و في بعضها في بعض خزائن الملوك و في بعضها هما لوحان.
و من ذلك ما في بعض الروايات أن الفتية كانوا من أولاد الملوك، و في بعضها من أولاد الأشراف، و في بعضها من أولاد العلماء، و في بعضها أنهم سبعة سابعهم كان راعي غنم لحق بهم هو و كلبه في الطريق، و في حديث 1 وهب بن منبه أنهم كانوا حماميين يعملون في بعض حمامات المدينة و ساق لهم قصة دعوة الملك إلى عبادة الأصنام و في بعضها أنهم كانوا من وزراء الملك يستشيرهم في أموره.
و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم أظهروا المخالفة و علم بها الملك قبل الخروج و في بعضها أنه لم يعلم إلا بعد خروجهم و في بعضها أنهم تواطئوا على الخروج فخرجوا و في بعضها أنهم خرجوا على غير معرفة من بعضهم لحال بعض و على غير ميعاد ثم تعارفوا و اتفقوا في الصحراء و في بعضها أن راعي غنم لحق بهم و هو سابعهم و في بعضها أنه لم يتبعهم و تبعهم كلبه و سار معهم.
و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم لما هربوا و اطلع الملك على أمرهم افتقدهم و لم يحصل منهم على أثر، و في بعضها أنه فحص عنهم فوجدهم نياما في كهفهم فأمر أن يبنى على باب الكهف بنيان ليحتبسوا فيموتوا جوعا و عطشا جزاء لعصيانهم فبقوا على هذه الحال حتى إذا أراد الله أن ينبههم بعث راعي غنم فخرب البنيان ليتخذ حظيرة لغنمه و عند ذلك بعثهم الله أيقاظا و كان من أمرهم ما قصه الله.
و من ذلك ما في بعض الروايات أنه لما ظهر أمرهم أتاهم الملك و معه الناس فدخل عليهم الكهف فكلمهم فبينا هو يكلمهم و يكلمونه إذ ودعوه و سلموا عليه و قضوا نحبهم، و في بعضها أنهم ماتوا أو ناموا قبل أن يدخل الملك عليهم و سد باب الكهف و غاب عن أبصارهم فلم يهتدوا للدخول فبنوا هناك مسجدا يصلون فيه.
و من ذلك ما في بعض الروايات أنهم قبضت أرواحهم، و في بعضها أن الله أرقدهم ثانيا فهم نيام إلى يوم القيامة، و يقلبهم كل عام مرتين من اليمين إلى الشمال و بالعكس.
و من ذلك اختلاف الروايات في مدة لبثهم ففي أكثرها أن الثلاثمائة و تسع سنين المذكور في الآية قول الله تعالى، و في بعضها أنه محكي قول أهل الكتاب، و قوله تعالى: «قل الله أعلم بما لبثوا» رد له، و في بعضها أن الثلاثمائة قوله سبحانه و زيادة التسع قول أهل الكتاب.
إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف بين الروايات، و قد جمعت أكثرها من طرق أهل السنة في الدر المنثور، و من طرق الشيعة في البحار، و تفسيري البرهان، و نور - الثقلين، من أراد الاطلاع عليها فليراجعها، و الذي يمكن أن تعد الروايات متفقة أو كالمتفقة عليه أنهم كانوا قوما موحدين هربوا من ملك جبار كان يجبر الناس على الشرك فأووا إلى الكهف فناموا إلى آخر ما قصه الله تعالى.
و في تفسير العياشي، عن سليمان بن جعفر الهمداني قال: قال لي جعفر بن محمد (عليهما السلام) يا سليمان من الفتى؟ فقلت له؟ جعلت فداك الفتى عندنا الشاب. قال لي: أ ما علمت أن أصحاب الكهف كانوا كلهم كهولا فسماهم الله فتية بإيمانهم يا سليمان من آمن بالله و اتقى فهو الفتى.
أقول: و روي ما في معناه في الكافي، عن القمي مرفوعا عن الصادق (عليه السلام)، و قد روي عن 1 ابن عباس أنهم كانوا شبانا.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن أبي جعفر قال: كان أصحاب الكهف صيارفة.
أقول: و روى القمي أيضا بإسناده عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كان أصحاب الكهف صيارفة: لكن في تفسير العياشي، عن درست عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه ذكر أصحاب الكهف فقال: كانوا صيارفة كلام و لم يكونوا صيارفة دراهم.
و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن أصحاب الكهف أسروا الإيمان و أظهروا الكفر فآجرهم الله مرتين.
أقول: و روي في الكافي، ما في معناه عن هشام بن سالم عنه (عليه السلام) و روى ما في معناه العياشي عن الكاهلي عنه (عليه السلام) و عن درست في خبرين عنه (عليه السلام) و في أحد الخبرين: أنهم كانوا ليشدون الزنانير و يشهدون الأعياد.
و لا يرد عليه أن ظاهر قوله تعالى حكاية عنهم: «إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها» الآية أنهم كانوا لا يرون التقية كما احتمله المفسرون في تفسير قوله تعالى حكاية عنهم: «أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا» الآية و قد تقدم.
و ذلك لأنك عرفت أن خروجهم من المدينة كان هجرة من دار الشرك التي كانت تحرمهم إظهار كلمة الحق و التدين بدين التوحيد غير أن تواطيهم على الخروج و هم ستة من المعاريف و أهل الشرف و إعراضهم عن الأهل و المال و الوطن لم يكن لذلك عنوان إلا المخالفة لدين الوثنية فقد كانوا على خطر عظيم لو ظهر عليهم القوم و لم ينته أمرهم إلا إلى أحد أمرين الرجم أو الدخول في ملة القوم.
و بذلك يظهر أن قيامهم أول مرة و قولهم: «ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لم يكن بتظاهر منهم على المخالفة و تجاهر على ذم ملة القوم و رمي طريقتهم فما كانت الأوضاع العامة تجيز لهم ذلك، و إنما كان ذلك منهم قياما لله و تصميما على الثبات على كلمة التوحيد و لو سلم دلالة قوله: «إذ قاموا فقالوا ربنا رب السماوات و الأرض» على التظاهر و رفض التقية فقد كان في آخر أيام مكثهم بين القوم و كانوا قبل ذلك سائرين على التقية لا محالة، فقد بان أن سياق شيء من الآيتين لا ينافي كون الفتية سائرين على التقية ما داموا بين القوم و في المدينة.
و في تفسير العياشي، أيضا عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج أصحاب الكهف على غير معرفة و لا ميعاد فلما صاروا في الصحراء أخذ بعضهم على بعض العهود و المواثيق فأخذ هذا على هذا و هذا على هذا ثم قالوا: أظهروا أمركم فأظهروه فإذا هم على أمر واحد.
أقول: و في معناه ما عن ابن عباس في الخبر الآتي.
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: غزونا مع معاوية غزوة المضيق نحو الروم فمررنا بالكهف الذي فيه أصحاب الكهف الذي ذكر الله في القرآن فقال معاوية: لو كشف لنا عن هؤلاء فنظرنا إليهم فقال له ابن عباس: ليس ذلك لك قد منع الله ذلك عمن هو خير منك فقال: «لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» فقال معاوية: لا أنتهي حتى أعلم علمهم فبعث رجالا فقال: اذهبوا فادخلوا الكهف فانظروا فذهبوا فلما دخلوا الكهف بعث الله عليهم ريحا فأخرجتهم فبلغ ذلك ابن عباس فأنشأ يحدث عنهم. فقال: إنهم كانوا في مملكة ملك من الجبابرة فجعلوا يعبدون حتى عبدوا الأوثان و هؤلاء الفتية في المدينة فلما رأوا ذلك خرجوا من تلك المدينة فجمعهم الله على غير ميعاد فجعل بعضهم يقول لبعض: أين تريدون؟ أين تذهبون؟ فجعل بعضهم يخفي على بعض لأنه لا يدري هذا على ما خرج هذا و لا يدري هذا فأخذوا العهود و المواثيق أن يخبر بعضهم بعضا فإن اجتمعوا على شيء و إلا كتم بعضهم بعضا فاجتمعوا على كلمة واحدة فقالوا: «ربنا رب السماوات و الأرض إلى قوله مرفقا». قال: فقعدوا فجاء أهلهم يطلبونهم لا يدرون أين ذهبوا؟ فرفع أمرهم إلى الملك فقال: ليكونن لهؤلاء القوم بعد اليوم شأن، ناس خرجوا لا يدرى أين ذهبوا في غير خيانة و لا شيء يعرف؟ فدعا بلوح من رصاص فكتب فيه أسماءهم ثم طرح في خزانته فذلك قول الله: «أم حسبت أن أصحاب الكهف و الرقيم» و الرقيم هو اللوح الذي كتبوا، فانطلقوا حتى دخلوا الكهف فضرب الله على آذانهم فناموا فلو أن الشمس تطلع عليهم لأحرقتهم، و لو لا أنهم يقلبون لأكلتهم الأرض، و ذلك قول الله: و ترى الشمس» الآية. قال: ثم إن ذلك الملك ذهب و جاء ملك آخر فعبد الله و ترك تلك الأوثان و عدل في الناس فبعثهم الله لما يريد فقال قائل منهم: كم لبثتم؟ فقال بعضهم: يوما و قال بعضهم: يومين و قال بعضهم: أكثر من ذلك فقال كبيرهم: لا تختلفوا فإنه لم يختلف قوم قط إلا هلكوا فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى المدينة. فرأى شارة 1 أنكرها و رأى بنيانا أنكره ثم دنا إلى خباز فرمى إليه بدرهم و كانت دراهمهم كخفاف الربع يعني ولد الناقة فأنكر الخباز الدرهم فقال: من أين لك هذا الدرهم؟ لقد وجدت كنزا لتدلني عليه أو لأرفعنك إلى الأمير فقال: أ و تخوفني بالأمير؟ و أتى الدهقان الأمير قال: من أبوك؟ قال: فلان فلم يعرفه قال: فمن الملك؟ قال: فلان فلم يعرفه فاجتمع عليهم الناس فرفع إلى عالمهم فسأله فأخبره فقال: علي باللوح فجيء به فسمى أصحابه فلانا و فلانا و هم مكتوبون في اللوح فقال للناس: إن الله قد دلكم على إخوانكم. و انطلقوا و ركبوا حتى أتوا إلى الكهف فلما دنوا من الكهف قال الفتى. مكانكم أنتم حتى أدخل أنا على أصحابي، و لا تهجموا فيفزعون منكم و هم لا يعلمون أن الله قد أقبل بكم و تاب عليكم فقالوا: لتخرجن علينا؟ قال: نعم إن شاء الله فدخل فلم يدروا أين ذهب؟ و عمي عليهم فطلبوا و حرضوا فلم يقدروا على الدخول عليهم فقالوا: لنتخذن عليهم مسجدا فاتخذوا عليهم مسجدا يصلون عليهم و يستغفرون لهم.
أقول: و الرواية مشهورة أوردها المفسرون في تفاسيرهم و تلقوها بالقبول و هي بعد غير خالية عن أشياء منها أن ظاهرها أنهم بعد على هيئة النيام لا يمكن الاطلاع عليهم بصرف إلهي، و الكهف الذي في المضيق و هو كهف إفسوس المعروف اليوم ليس على هذا النعت.
و الآية التي تمسك بها ابن عباس إنما تمثل حالهم و هم رقود قبل البعث لا بعده و قد وردت عن ابن عباس رواية أخرى تخالف هذه الرواية و هي ما في الدر المنثور، عن عبد الرزاق و ابن أبي حاتم عن عكرمة و قد ذكرت فيها القصة و في آخرها: فركب الملك و ركب معه الناس حتى انتهى إلى الكهف فقال الفتى: دعوني أدخل إلى أصحابي فلما أبصروه و أبصرهم ضرب على آذانهم فلما استبطئوه دخل الملك و دخل الناس معه فإذا أجساد لا يبلى منها شيء غير أنها لا أرواح فيها فقال الملك: هذه آية بعثها الله لكم.
فغزا ابن عباس مع حبيب بن مسلمة فمروا بالكهف فإذا فيه عظام فقال رجل: هذه عظام أهل الكهف فقال ابن عباس ذهبت عظامهم أكثر من ثلاثمائة سنة الحديث.
و تزيد هذه الرواية إشكالا أن قوله: ذهبت عظامهم «إلخ» يؤدي إلى وقوع القصة في أوائل التاريخ الميلاد أو قبله فتخالف حينئذ عامة الروايات إلا ما تقول إنهم كانوا قبل المسيح.
و منها ما في قوله: «فقال بعضهم: يوما و قال بعضهم: يومين» إلخ و الذي وقع في القرآن: «قالوا لبثنا يوما أو بعض يوم قالوا ربكم أعلم بما لبثتم» و هو المعقول الموافق للاعتبار من قوم ناموا ثم انتبهوا و تكلموا في مدة لبثهم أخذا بشواهد الحال و أما احتمال اليومين و أزيد فمما لا سبيل إليه و لا شاهد يشهد عليه عادة على أن اختلافهم في تشخيص مدة اللبث لم يكن من الاختلاف المذموم الذي هو اختلاف في العمل في شيء حتى يؤدي إلى الهلاك فينهى عنه و إنما هو اختلاف في النظر و لا مناص.
و منها ما في آخرها أنه دخل فلم يدروا أين ذهب؟ و عمي عليهم «إلخ» كان المراد به ما في بعض الروايات أن باب الكهف غاب عن أنظارهم بأن مسحه الله و عفاه، و لا يلائم ذلك ما في صدر الرواية أنه كان ظاهرا معروفا في تلك الديار فهل مسحه الله لذلك الملك و أصحابه ثم أظهره للناس؟.
و ما في صدر الرواية من قول ابن عباس إن الرقيم لوح من رصاص مكتوب فيه أسماؤهم» روى ما في معناه العياشي في تفسيره، عن أحمد بن علي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و قد روي في روايات أخرى عن ابن عباس إنكاره كما في الدر المنثور، عن سعيد بن منصور و عبد الرزاق و الفريابي و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الزجاجي في أماليه و ابن مردويه عن ابن عباس قال: لا أدري ما الرقيم و سألت كعبا فقال اسم القرية التي خرجوا منها.
و فيه، أيضا عن عبد الرزاق عن ابن عباس قال: كل القرآن أعلمه إلا أربعا: غسلين 1 و حنانا و أواه و رقيم.
و في تفسير القمي،: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا» يعني جورا على الله إن قلنا له شريك.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن سنان عن البطيخي عن أبي جعفر (عليه السلام): في قول الله: «لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا» قال: إن ذلك لم يعن به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما عني به المؤمنون بعضهم لبعض لكنه حالهم التي هم عليها.
و في تفسير روح المعاني، أسماؤهم على ما صح عن ابن عباس: مكسلمينا و يمليخا و مرطولس و ثبيونس و دردونس و كفاشيطيطوس و منطنواسيس و هو الراعي و الكلب اسمه قطمير: قال: و روي عن علي كرم الله وجهه: إن أسماءهم: يمليخا و مكسلينيا و مسلينيا و هؤلاء أصحاب يمين الملك، و مرنوش و دبرنوش و شاذنوش، و هؤلاء أصحاب يساره، و كان يستشير الستة و السابع الراعي و لم يذكر في هذه الرواية اسمه و ذكر فيها أن اسم كلبهم قطمير.
قال: و في صحة نسبة هذه الرواية لعلي كرم الله وجه مقال و ذكر العلامة السيوطي في حواشي البيضاوي، أن الطبراني روى ذلك عن ابن عباس في معجمه الأوسط، بإسناد صحيح، و الذي في الدر المنثور، رواية الطبراني في الأوسط بإسناد صحيح ما قدمناه عن ابن عباس.
قال: و قد سموا في بعض الروايات بغير هذه الأسماء، و ذكر الحافظ ابن حجر في شرح البخاري، أن في النطق بأسمائهم اختلافا كثيرا و لا يقع الوثوق من ضبطها، و في البحر، أن أسماء أصحاب الكهف أعجمية لا تنضبط بشكل و لا نقط و السند في معرفتها ضعيف انتهى كلامه 2.
الرواية التي نسبها إلى علي (عليه السلام) هي التي رواها الثعلبي في العرائس، و الديلمي في كتابه مرفوعة و فيها أعاجيب.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أصحاب الكهف أعوان المهدي.
و في البرهان، عن ابن الفارسي قال الصادق (عليه السلام): يخرج للقائم (عليه السلام) من ظهر الكعبة سبعة و عشرون رجلا من قوم موسى الذين كانوا يهدون بالحق و به يعدلون و سبعة من أهل الكهف و يوشع بن نون، و أبو دجانة الأنصاري، و مقداد بن الأسود و مالك الأشتر فيكونون بين يديه أنصارا و حكاما.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن ميمون عن أبي عبد الله (عليه السلام) عن أبيه علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: إذا حلف رجل بالله فله ثنياها إلى أربعين يوما و ذلك أن قوما من اليهود سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن شيء فقال: ائتوني غدا و لم يستثن حتى أخبركم فاحتبس عنه جبرئيل أربعين يوما ثم أتاه و قال: «و لا تقولن لشيء إني فاعل ذلك غدا - إلا أن يشاء الله و اذكر ربك إذا نسيت».
أقول: الثنيا بالضم فالسكون مقصورا اسم الاستثناء و في هذا المعنى روايات أخر عن الصادقين (عليهما السلام) و الظاهر من بعضها أن المراد بالحلف بت الكلام و تأكيده كما يلوح إليه استشهاده (عليه السلام) في هذه الرواية بقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أما البحث في تقييد اليمين به بعد انعقاده و وقوع الحنث معه و عدمه فموكول إلى الفقه.
«كلام حول قصة أصحاب الكهف في فصول»
1 - وردت قصة الكهف مفصلة كاملة في عدة روايات عن الصحابة و التابعين و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كرواية القمي و رواية ابن عباس و رواية عكرمة و رواية مجاهد و قد أوردها في الدر المنثور، و رواية ابن إسحاق في العرائس، و قد أوردها في البرهان، و رواية وهب بن منبه و قد أوردها في الدر المنثور، و في الكامل، من غير نسبة و رواية النعمان بن بشير في أصحاب الرقيم و قد أوردها في الدر المنثور،.
و هذه الروايات - و قد أوردنا في البحث الروائي السابق بعضها و أشرنا إلى بعضها الآخر - من الاختلاف في متونها بحيث لا تكاد تتفق في جهة بارزة من جهات القصة، و أما الروايات الواردة في بعض جهات القصة كالمتعرضة لزمان قيامهم و الملك الذي قاموا في عهده و نسبهم و سمتهم و أسمائهم و وجه تسميتهم بأصحاب الرقيم إلى غير ذلك من جزئيات القصة فالاختلاف فيها أشد و الحصول فيها على ما تطمئن إليه النفس أصعب.
و السبب العمدة في اختلاف هذه الأحاديث مضافا إلى ما تطرق إلى أمثال هذه الروايات من الوضع و الدس أمران.
أحدهما: أن القصة مما اعتنت به أهل الكتاب كما يستفاد من رواياتها أن قريشا تلقتها عنهم و سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عنها بل يستفاد من التماثيل و قد ذكرها أهل التاريخ عن النصارى و من الصور الموجودة في كهوف شتى في بقاع الأرض المختلفة من آسيا و أوربا و إفريقيا أن القصة اكتسبت بعد شهرة عالمية، و من شأن القصص التي كذلك أن تتجلى لكل قوم في صورة تلائم ما عندهم من الآراء و العقائد و تختلف رواياتها.
ثم إن المسلمين بالغوا في أخذ الرواية و ضبطها و توسعوا فيه و أخذوا ما عند غيرهم كما أخذوا ما عند أنفسهم و خاصة و قد اختلط بهم قوم من علماء أهل الكتاب دخلوا في الإسلام كوهب بن منبه و كعب الأحبار و أخذ عنهم الصحابة و التابعون كثيرا من أخبار السابقين ثم أخذ الخلف عن السلف و عاملوا مع رواياتهم معاملة الأخبار الموقوفة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانت بلوى.
و ثانيهما: أن دأب كلامه تعالى فيما يورده من القصص أن يقتصر على مختارات من نكاتها المهمة المؤثرة في إيفاء الغرض من غير أن يبسط القول بذكر متنها بالاستيفاء و التعرض لجميع جهاتها و الأوضاع و الأحوال المقارنة لها فما كتاب الله بكتاب تاريخ و إنما هو كتاب هدى.
و هذا من أوضح ما يعثر عليه المتدبر في القصص المذكورة في كلامه تعالى كالذي ورد فيه من قصة أصحاب الكهف و الرقيم فقد أورد أولا شطرا من محاورتهم يشير إلى معنى قيامهم لله و ثباتهم على كلمة الحق و اعتزالهم الناس إثر ذلك و دخولهم الكهف و رقودهم فيه و كلبهم معهم دهرا طويلا ثم يذكر بعثهم من الرقدة و محاورة ثانية لهم هي المؤدية إلى انكشاف حالهم و ظهور أمرهم للناس.
ثم يذكر إعثار الناس عليهم بما يشير إلى توفيهم ثانيا بعد حصول الغرض الإلهي و ما صنع بعد ذلك من اتخاذ مسجد عليهم هذا هو الذي جرى عليه كلامه تعالى.
و قد أضرب عن ذكر أسمائهم و أنسابهم و موالدهم و كيفية نشأتهم و ما اتخذوه لأنفسهم من المشاغل و موقعهم من مجتمعهم و زمان قيامهم و اعتزالهم و اسم الملك الذي هربوا منه و المدينة التي خرجوا منها و القوم الذين كانوا فيهم و اسم الكلب الذي لازمهم و هل كان كلب صيد لهم أو كلب غنم للراعي؟ و ما لونه؟ - و قد أمعن فيه الروايات - إلى غير ذلك من الأمور التي لا يتوقف غرض الهداية على العلم بشيء منها كما يتوقف عليه غرض البحث التاريخي.
ثم إن المفسرين من السلف لما أخذوا في البحث عن آيات القصص راموا بيان اتصال الآيات بضم المتروك من أطراف القصص إلى المختار المأخوذ منها لتصاغ بذلك قصة كاملة الأجزاء مستوفاة الأطراف فأدى اختلاف أنظارهم إلى اختلاف يشابه اختلاف النقل فآل الأمر إلى ما نشاهده.
2 - قصة أصحاب الكهف في القرآن:
و قد قال تعالى مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) «فلا تمار فيهم إلا مراء ظاهرا و لا تستفت فيهم منهم أحدا» كانت أصحاب الكهف و الرقيم فتية نشئوا في مجتمع مشرك لا يرى إلا عبادة الأوثان فتسرب في المجتمع دين التوحيد فآمن بالله قوم منهم فأنكروا عليهم ذلك و قابلوهم بالتشديد و التضييق و الفتنة و العذاب، و أجبروهم على عبادة الأوثان و رفض دين التوحيد فمن عاد إلى ملتهم تركوه و من أصر على المخالفة قتلوه شر قتلة.
و كانت الفتية ممن آمن بالله إيمانا على بصيرة فزادهم الله هدى على هداهم و أفاض عليهم المعرفة و الحكمة و كشف بما آتاهم من النور عما يهمهم من الأمر و ربط على قلوبهم فلم يخشوا إلا الله و لا أوحشهم ما يستقبلهم من الحوادث و المكاره فعلموا أنهم لو أداموا المكث في مجتمعهم الجاهل المتحكم لم يسعهم دون أن يسيروا بسيرتهم فلا يتفوهوا بكلمة الحق و لا يتشرعوا بشريعة الحق و علموا أن سبيلهم أن يقوموا على التوحيد و رفض الشرك ثم اعتزال القوم، و علموا أن لو اعتزلوهم و دخلوا الكهف أنجاهم الله مما هم فيه من البلاء.
فقاموا و قالوا ردا على القوم في اقتراحهم و تحكمهم: ربنا رب السماوات و الأرض لن ندعوا من دونه إلها لقد قلنا إذا شططا هؤلاء قومنا اتخذوا من دونه آلهة لو لا يأتون عليهم بسلطان بين فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا.
ثم قالوا: و إذ اعتزلتموهم و ما يعبدن إلا الله فأووا إلى الكهف ينشر لكم ربكم من رحمته و يهيىء لكم من أمركم مرفقا.
ثم دخلوا الكهف و استقروا على فجوة منه و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد فدعوا ربهم بما تفرسوا من قبل أنه سيفعل بهم ذلك فقالوا: ربنا آتنا من لدنك رحمة و هيىء لنا من أمرنا رشدا فضرب الله على آذانهم في الكهف سنين و لبثوا في كهفهم - و كلبهم معهم ثلاثمائة سنين و ازدادوا تسعا و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال و هم في فجوة منه و تحسبهم أيقاظا و هم رقود و يقلبهم الله ذات اليمين و ذات الشمال و كلبهم باسط ذراعيه بالوصيد لو اطلعت عليهم لوليت منهم فرارا و لملئت منهم رعبا.
ثم إن الله بعثهم بعد هذا الدهر الطويل و هو ثلاثمائة و تسع سنين من يوم دخلوا الكهف ليريهم كيف نجاهم من قومهم فاستيقظوا جميعا و وجدوا أن الشمس تغير موقعها و فيهم شيء من لوثة نومهم الثقيل قال قائل منهم: كم لبثتم؟ قال قوم منهم: لبثنا يوما أو بعض يوم لما وجدوا من تغير موقع الشعاع و ترددوا هل مرت عليهم ليلة أو لا؟ و قال آخرون منهم: بل ربكم أعلم بما لبثتم ثم قال: فابعثوا بورقكم هذه إلى المدينة فلينظر أيها أزكى طعاما فليأتكم برزق منه فإنكم جياع و ليتلطف الذاهب منكم إلى المدينة في مسيره إليها و شرائه الطعام و لا يشعرن بكم أحدا إنهم إن علموا بمكانكم يرجموكم أو يعيدوكم في ملتهم و لن تفلحوا إذا أبدا.
و هذا أوان أن يعثر الله سبحانه الناس عليهم فإن القوم الذين اعتزلوهم و فارقوهم يوم دخلوا الكهف قد انقرضوا و ذهب الله بهم و بملكهم و ملتهم و جاء بقوم آخرين الغلبة فيهم لأهل التوحيد و السلطان و قد اختلفوا أعني أهل التوحيد و غيرهم في أمر المعاد فأراد الله سبحانه أن يظهر لهم آية في ذلك فأعثرهم على أصحاب الكهف.
فخرج المبعوث من الفتية و أتى المدينة و هو يظن أنها التي فارقها البارحة لكنه وجد المدينة قد تغيرت بما لا يعهد مثله في يوم و لا في عمر و الناس غير الناس و الأوضاع و الأحوال غير ما كان يشاهده بالأمس فلم يزل على حيرة من الأمر حتى أراد أن يشتري طعاما بما عنده من الورق و هي يومئذ من الورق الرائجة قبل ثلاثة قرون فأخذت المشاجرة فيها و لم تلبث دون أن كشفت عن أمر عجيب و هو أن الفتى ممن كانوا يعيشون هناك قبل ذلك بثلاثة قرون، و هو أحد الفتية كانوا في مجتمع مشرك ظالم فهجروا الوطن و اعتزلوا الناس صونا لإيمانهم و دخلوا الكهف فأنامهم الله هذا الدهر الطويل ثم بعثهم، و ها هم الآن في الكهف في انتظار هذا الذي بعثوه إلى المدينة ليشتري لهم طعاما يتغذون به.
فشاع الخبر في المدينة لساعته و اجتمع جم غفير من أهلها فساروا إلى الكهف و معهم الفتى المبعوث من أصحاب الكهف فشاهدوا ما فيه تصديق الفتى فيما أخبرهم من نبإ رفقته و ظهرت لهم الآية الإلهية في أمر المعاد.
و لم يلبث أصحاب الكهف بعد بعثهم كثيرا دون أن توفاهم الله سبحانه و عند ذلك اختلف المجتمعون على باب الكهف من أهل المدينة ثانيا فقال المشركون منهم: ابنوا عليهم بنيانا ربهم أعلم بهم قال الذين غلبوا على أمرهم و هم الموحدون لنتخذن عليهم مسجدا.
3 - القصة عند غير المسلمين:
معظم أهل الرواية و التاريخ على أن القصة وقعت في الفترة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المسيح (عليه السلام) و لذلك لم يرد ذكرها في كتب العهدين و لم يعتوره اليهود و إن اشتملت عدة من الروايات على أن قريشا تلقت القصة من اليهود، و إنما اهتم بها النصارى و اعتوروها قديما و حديثا، و ما نقل عنهم في القصة قريب مما أورده ابن إسحاق في العرائس، عن ابن عباس غير أنهم يختلف رواياتهم عن روايات المسلمين في أمور:.
أحدها: أن المصادر السريانية تذكر عدد أصحاب الكهف ثمانية في حين يذكره المسلمون و كذا المصادر اليونانية و الغربية سبعة.
ثانيها: أن قصتهم خالية من ذكر كلب أصحاب الكهف.
ثالثها: أنهم ذكروا أن مدة لبث أصحاب الكهف فيه مائتا سنة أو أقل و المسلمون يذكر معظمهم أنه ثلاثمائة و تسع سنين على ما هو ظاهر القرآن الكريم و السبب في تحديدهم ذلك أنهم ذكروا أن الطاغية الذي كان يجبر الناس على عبادة الأصنام و قد هرب منه الفتية هو دقيوس الملك 449 - 451 و قد استيقظ أهل الكهف على ما ذكروا سنة 435 م أو سنة 437 أو سنة 439 م فلا يبقى للبثهم في الكهف إلا مائتا سنة أو أقل و أول من ذكره من مؤرخهم على ما يذكر هو «جيمس» الساروغي السرياني الذي ولد سنة 451 م و مات سنة 521 م ثم أخذ عنه الآخرون و للكلام تتمة ستوافيك.
4 - أين كهف أصحاب الكهف؟
عثر في مختلف بقاع الأرض على عدة من الكهوف و الغيران و على جدرانها تماثيل رجال ثلاثة أو خمسة أو سبعة و معهم كلب و في بعضها بين أيديهم قربان يقربونه، و يتمثل عند الإنسان المطلع عليها قصص أصحاب الكهف و يقرب من الظن أن هذه النقوش و التماثيل إشارة إلى قصة الفتية و أنها انتشرت و ذاعت بعد وقوعها في الأقطار فأخذت ذكرى يتذكر بها الرهبان و المتجردون للعبادة في هذه الكهوف.
و أما الكهف الذي التجأ إليه و استخفى فيه أهل الكهف فجرى عليهم ما جرى فالناس فيه في اختلاف و قد ادعي ذلك في عدة مواضع.
أحدها: كهف إفسوس و إفسوس 1 هذا مدينة خربة أثرية واقعة في تركيا على مسافة 73 كيلو مترا من بلدة إزمير، و الكهف على مساحة كيلو متر واحد أو أقل من إفسوس بقرب قرية «اياصولوك» بسفح جبل «ينايرداغ».
و هو كهف وسيع فيه - على ما يقال - مات من القبور مبنية من الطوب و هو في سفح الجبل و بابه متجه نحو الجهة الشمالية الشرقية و ليس عنده أثر من مسجد أو صومعة أو كنيسة، و هذا الكهف هو الأعرف عند النصارى، و قد ورد ذكره في عدة من روايات المسلمين.
و هذا الكهف على الرغم من شهرته البالغة - لا ينطبق عليه ما ورد في الكتاب العزيز من المشخصات.
أما أولا: فقد قال تعالى: «و ترى الشمس إذا طلعت تزاور عن كهفهم ذات اليمين و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» و هو صريح في أن الشمس يقع شعاعها عند الطلوع على جهة اليمين من الكهف و عند الغروب على الجانب الشمالي منه، و يلزمه أن يواجه باب الكهف جهة الجنوب، و باب الكهف الذي في إفسوس متجه نحو الشمال الشرقي.
و هذا الأمر أعني كون باب كهف إفسوس متجها نحو الشمال و ما ورد من مشخص إصابة الشمس منه طلوعا و غروبا هو الذي دعا المفسرين إلى أن يعتبروا يمين الكهف و يساره بالنسبة إلى الداخل فيه لا الخارج منه مع أنه المعروف المعمول - كما تقدم في تفسير الآية - قال البيضاوي في تفسيره،: إن باب الكهف في مقابلة بنات النعش، و أقرب المشارق و المغارب إلى محاذاته مشرق رأس السرطان و مغربه و الشمس إذا كان مدارها مداره تطلع مائلة عنه مقابلة لجانبه الأيمن و هو الذي يلي المغرب، و تغرب محاذية لجانبه الأيسر فيقع شعاعها على جانبه و يحلل عفونته و يعدل هواءه و لا يقع عليهم فيؤذي أجسادهم و يبلي ثيابهم.
انتهى و نحو منه ما ذكره غيره.
على أن مقابلة الباب للشمال الشرقي لا للقطب الشمالي و بنات النعش كما ذكروه تستلزم عدم انطباق الوصف حتى على الاعتبار الذي اعتبروه فإن شعاع الشمس حينئذ يقع على الجانب الغربي الذي يلي الباب عند طلوعها و أما عند الغروب فالباب و ما حوله مغمور تحت الظل و قد زال الشعاع بعيد زوال الشمس و انبسط الظل.
اللهم إلا أن يدعى أن المراد بقوله: «و إذا غربت تقرضهم ذات الشمال» عدم وقوع الشعاع أو وقوعه خلفهم لا على يسارهم هذا.
و أما ثانيا: فلأن قوله تعالى: «و هم في فجوة منه» أي في مرتفع منه و لا فجوة في كهف إفسوس - على ما يقال - و هذا مبني على كون الفجوة بمعنى المرتفع و هو غير مسلم و قد تقدم أنها بمعنى الساحة.
و أما ثالثا: فلأن قوله تعالى: «قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجدا» ظاهر في أنهم بنوا على الكهف مسجدا، و لا أثر عند كهف إفسوس من مسجد أو صومعة أو نحوهما و أقرب ما هناك كنيسة على مسافة ثلاث كيلو مترات تقريبا و لا جهة تربطها بالكهف أصلا.
على أنه ليس هناك شيء من رقيم أو كتابة أو أمر آخر يشهد و لو بعض الشهادة على كون بعض هاتيك القبور و هي مآت هي قبور أصحاب الكهف أو أنهم لبثوا هناك صفة من الدهر راقدين ثم بعثهم الله ثم توفاهم.
الكهف الثاني: كهف رجيب و هذا الكهف واقع على مسافة ثمانية كيلو مترات من مدينة عمان عاصمة الأردن بالقرب من قرية تسمى رجيب و الكهف في جبل محفورا على الصخرة في السفح الجنوبي منه، و أطرافه من الجانبين الشرقي و الغربي مفتوحة يقع عليه شعاع الشمس منها، و باب الكهف يقابل جهة الجنوب و في داخل الكهف صفة صغيرة تقرب من ثلاثة أمتار في مترين و نصف على جانب من سطح الكهف المعادل لثلاثة في ثلاثة تقريبا و في الغار عدة قبور على هيئة النواويس البيزنطية كأنها ثمانية أو سبعة.
و على الجدران نقوش و خطوط باليوناني القديم و الثمودي منمحية لا تقرأ و أيضا صورة كلب مصبوغة بالحمرة و زخارف و تزويقات أخرى.
و فوق الغار آثار صومعة بيزنطية تدل النقود و الآثار الأخرى المكتشفة فيها على كونها مبنية في زمان الملك جوستينوس الأول 418 427 و آثار أخرى على أن الصومعة بدلت ثانيا بعد استيلاء المسلمين على الأرض مسجدا إسلاميا مشتملا على المحراب و المأذنة و الميضاة، و في الساحة المقابلة لباب الكهف آثار مسجد آخر بناه المسلمون في صدر الإسلام ثم عمروها و شيدوها مرة بعد مرة، و هو مبني على أنقاض كنيسة بيزنطية كما أن المسجد الذي فوق الكهف كذلك.
و كان هذا الكهف - على الرغم من اهتمام الناس بشأنه و عنايتهم بأمره كما يكشف عنه الآثار - متروكا منسيا و بمرور الزمان خربة و ردما متهدما حتى اهتمت دائرة الآثار الأردنية أخيرا 1 بالحفر و التنقيب فيه فاكتشفته فظهر ثانيا بعد خفائه قرونا، و قامت عدة من الأمارات و الشواهد الأثرية على كونه هو كهف أصحاب الكهف المذكورين في القرآن.
و قد ورد كون كهف أصحاب الكهف بعمان في بعض روايات المسلمين كما أشرنا إليه فيما تقدم و ذكره الياقوت في معجم البلدان و أن الرقيم اسم قرية بالقرب من عمان كان فيها قصر ليزيد بن عبد الملك و قصر آخر في قرية أخرى قريبة منها تسمى الموقر و إليهما يشير الشاعر بقوله: يزرن على تنانيه يزيدا.
بأكناف الموقر و الرقيم.
و بلدة عمان أيضا مبنية في موضع مدينة «فيلادلفيا» التي كانت من أشهر مدن عصرها و أجملها قبل ظهور الدعوة الإسلامية و كانت هي و ما والاها تحت استيلاء الروم منذ أوائل القرن الثاني الميلاد حتى فتح المسلمون الأرض المقدسة.
و الحق أن مشخصات كهف أهل الكهف أوضح انطباقا على هذا الكهف من غيره.
و الكهف الثالث: كهف بجبل قاسيون بالقرب من الصالحية بدمشق الشام ينسب إلى أصحاب الكهف.
و الكهف الرابع: كهف بالبتراء من بلاد فلسطين ينسبونه إلى أصحاب الكهف.
و الكهف الخامس: كهف اكتشف - على ما قيل - في شبه جزيرة إسكاندنافية من الأوربة الشمالية عثروا فيه على سبع جثث غير بالية على هيئة الرومانيين يظن أنهم الفتية أصحاب الكهف.
و ربما يذكر بعض كهوف أخر منسوب إلى أصحاب الكهف كما يذكر أن بالقرب من بلدة نخجوان من بلاد قفقاز كهفا يعتقد أهل تلك النواحي أنه كهف أصحاب الكهف و كان الناس يقصدونه و يزورونه.
و لا شاهد يشهد على كون شيء من هذه الكهوف هو الكهف المذكور في القرآن الكريم.
على أن المصادر التاريخية تكذب الأخيرين إذ القصة على أي حال قصة رومانية، و سلطتهم حتى في أيام مجدهم و سؤددهم لم تبلغ هذه النواحي نواحي أوربة الشمالية و قفقاز.
|