بيان
الآيتان معترضتان بين آيات السورة و سياقهما يشهد بأنهما من كلام ملك الوحي بوحي قرآني من الله سبحانه فإن النظم نظم قرآني بلا ريب.
و بذلك يتأيد ما ورد بطرق مختلفة من طرق أهل السنة و رواه في مجمع البيان، أيضا عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) استبطأ نزول جبريل فسأله عن ذلك فأجابه بوحي من الله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآيتين.
و قد تكلف جمع في بيان اتصال الآيتين بالآيات السابقة فقال بعضهم: إن التقدير: هذا و قال جبريل: و ما نتنزل إلا بأمر ربك إلخ، و قال آخرون: إنهما متصلتان بقول جبريل لمريم المنقول سابقا: «إنما أنا رسول ربك لأهب لك غلاما زكيا» الآية، و ذكر قوم أن قوله: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآية من كلام المتقين حين يدخلون الجنة فالتقدير و قال المتقون و ما نتنزل الجنة إلا بأمر ربك «إلخ» و قيل غير ذلك.
و هي جميعا وجوه ظاهرة السخافة يأباها السياق و لا يقبلها النظم البليغ لا حاجة إلى الاشتغال ببيان وجوه فسادها.
و سيأتي في ذيل البحث في الآية الثانية وجه آخر للاتصال.
قوله تعالى: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» إلى آخر الآية، التنزل هو النزول على مهل و تؤدة فإن تنزل مطاوع نزل يقال: نزله فتنزل و النفي و الاستثناء يفيدان الحصر فلا يتنزل الملائكة إلا بأمر من الله كما قال: «لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون»: التحريم: 6.
و قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» يقال: كذا قدامه و أمامه و بين يديه و المعنى واحد غير أن قولنا: بين يديه إنما يطلق فيما كان بقرب منه و هو مشرف عليه له فيه نوع من التصرف و التسلط فظاهر قوله: «ما بين أيدينا» أن المراد به ما نشرف عليه مما هو مكشوف علينا مشهود لنا: و ظاهر قوله: «و ما خلفنا» بالمقابلة ما هو غائب عنا مستور علينا.
و على هذا فلو أريد بقوله: «ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» المكان شمل بعض المكان الذي أمامهم و المكان الذي هم فيه و جميع المكان الذي خلفهم و لم يشمل كل مكان، و كذا لو أريد به الزمان شمل الماضي كله و الحال و المستقبل القريب فقط و سياق قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك»، ينادي بالإحاطة و لا يلائم التبعيض.
فالوجه حمل «ما بين أيدينا» على الأعمال و الآثار المتفرعة على وجودهم التي هم قائمون بها متسلطون عليها، و حمل «ما خلفنا» على ما هو من أسباب وجودهم مما تقدمهم و تحقق قبلهم، و حمل «ما بين ذلك» على وجودهم أنفسهم و هو من أبدع التعبير و ألطفه و بذلك تتم الإحاطة الإلهية بهم من كل جهة لرجوع المعنى إلى أن الله تعالى هو المالك لوجودنا و ما يتعلق به وجودنا من قبل و من بعد.
و لقد اختلفت كلماتهم في تفسير هذه الجملة فقيل: المراد بما بين أيدينا ما هو قدامنا من الزمان المستقبل و بما خلفنا الماضي و بما بين ذلك الحال، و قيل: ما بين أيدينا ما قبل الإيجاد من الزمان.
و ما خلفنا ما بعد الموت إلى استمرار الآخرة و ما بين ذلك هو مدة الحياة و قيل: ما بين الأيدي الدنيا إلى النفخة الأولى و ما خلفهم هو ما بعد النفخة الثانية و ما بين ذلك ما بين النفختين و هو أربعون سنة، و قيل: ما بين أيديهم الآخرة و ما خلفهم الدنيا، و قيل: ما بين أيديهم ما قبل الخلق و ما خلفهم ما بعد الفناء و ما بين ذلك ما بين الدنيا و الآخرة، و قيل: ما بين أيديهم ما بقي من أمر الدنيا و ما خلفهم ما مضى منه و ما بين ذلك ما هم فيه و قيل: المعنى ابتداء خلقنا و منتهى آجالنا و مدة حياتنا.
و قيل: ما بين أيديهم السماء و ما خلفهم الأرض و ما بين ذلك ما بينهما، و قيل: بعكس ذلك، و قيل: ما بين أيديهم المكان الذي ينتقلون إليه و ما خلفهم المكان الذي ينتقلون منه و ما بين ذلك المكان الذي هم فيه.
و تشترك الأقوال الثلاثة الأخيرة في أن الماءات عليها مكانية كما يشترك السبعة في أن الماءات عليها زمانية و هناك قول بكون الآية تعم الزمان و المكان فهذه أحد عشر قولا و لا دليل على شيء منها مع ما فيها من قياس الملك على الإنسان و الوجه ما قدمناه.
فقوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» يفيد إحاطة ملكه تعالى بهم ملكا حقيقيا لا يجري فيه تصرف غيره و لا إرادة من سواه إلا عن إذن منه و مشية و إذ لا معصية للملائكة فلا تفعل فعلا إلا عن أمره و من بعد إذنه و لا تريد إلا ما أراده الله فلا يتنزل ملك إلا بأمر ربه.
و قد تقرر بهذا البيان أن قوله: «له ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك» في مقام التعليل لقوله: «و ما نتنزل إلا بأمر ربك» و أن قوله: «و ما كان ربك نسيا» - و النسي فعول من النسيان - من تمام التعليل أي أنه تعالى لا ينسى شيئا من ملكه حتى يختل بإهماله أمر التدبير فلا يأمر بالنزول حينما يجب فيه النزول أو يأمر به حينما لا يجب و هكذا و كان هذا هو وجه العدول في الآية عن إثبات العلم أو الذكر إلى نفي النسيان.
و قيل المعنى و ما كان ربك نسيا أي تاركا لأنبيائه أي ما كان عدم النزول إلا لعدم الأمر به و لم تكن عن تركه تعالى لك و توديعه إياك.
و فيه أنه و إن وافق ما تقدم من سبب النزول بوجه لكن يبقى معه التعليل بقوله: «له ما بين أيدينا» إلخ، ناقصا و ينقطع قوله: «رب السموات و الأرض و ما بينهما» عما تقدمه كما سيتضح.
قوله تعالى: «رب السموات و الأرض و ما بينهما فاعبده و اصطبر لعبادته هل تعلم له سميا» صدر الآية أعني قوله: «رب السموات و الأرض و ما بينهما» تعليل لقوله في الآية السابقة «له ما بين أيدينا و ما خلفنا» إلى آخر الآية أي كيف لا يملك ما بين أيدينا و ما خلفنا و ما بين ذلك و كيف يكون نسيا و هو تعالى رب السماوات و الأرض و ما بينهما؟ و رب الشيء هو مالكه، المدبر لأمره، فملكه و عدم نسيانه مقتضى ربوبيته.
و قوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» تفريع على صدر الآية و المعنى إذا كنا لا نتنزل إلا بأمر ربك و قد نزلنا عليك هذا الكلام المتضمن للدعوة إلى عبادته فالكلام كلامه و الدعوة دعوته فاعبده وحده و اصطبر لعبادته فليس هناك من يسمى ربا غير ربك حتى لا تصطبر على عبادة ربك و تنتقل إلى عبادة ذلك الغير الذي يسمى ربا فتكتفي بعبادته عن عبادة ربك أو تشرك به و ربما قيل: إن الجملة تفريع على قوله: «رب السماوات و الأرض» أو على قوله: «و ما كان ربك نسيا» أي لم ينسك ربك فاعبده «إلخ» و الوجهان كما ترى.
و قد بان بهذا التقرير أمور: أحدها أن قوله: «هل تعلم له سميا» من تمام البيان المقصود بقوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» و هو في مقام التعليل له.
و الثاني أن المراد بالسمي المشارك في الاسم و المراد بالاسم هو الرب لأن مقتضى بيان الآية ثبوت الربوبية المطلقة له تعالى على كل شيء فهو يقول: هل تعلم من اتصف بالربوبية فسمي لذلك ربا حتى تعدل عنه إليه فتعبده دونه.
و بذلك يظهر عدم استقامة عامة ما قيل في معنى السمي في الآية فقد قيل: إن المراد بالسمي المماثل مجازا، و قيل: السمي بمعنى الولد و قيل: هو بمعناه الحقيقي غير أن المراد بالاسم الذي لا مشاركة فيه هو رب السماوات و الأرض و قيل: هو اسم الجلالة، و قيل: هو الإله، و قيل: هو الرحمن، و قيل: هو الإله الخالق الرازق المحيي المميت القادر على الثواب و العقاب.
و الثالث: أن النكتة في إضافة الرب إلى ضمير الخطاب و تكراره في الآية الأولى إذ قال: بأمر ربك و قال: و ما كان ربك و لم يقل: ربنا هي التوطئة لما في ذيل الكلام من توحيد الرب ففي قوله: «ربك» إشارة إلى أن ربنا الذي نتنزل عن أمره هو ربك فالدعوة دعوته فاعبده، و يمكن أن تكون هذه هي النكتة فيما في مفتتح السورة إذ قال: «ذكر رحمة ربك» إلخ لأن الآيات كما نبهنا عليه ذات سياق واحد لغرض واحد.
و الرابع: أن قوله: «فاعبده و اصطبر لعبادته» مسوق لتوحيد العبادة و ليس أمرا بالعبادة و أمرا بالثبات عليها و إدامتها إلا من جهة الملازمة فافهم ذلك.
و يمكن أن يستفاد من التفريع أنه تأكيد للبيان الذي يتضمنه السياق السابق على هاتين الآيتين و بذلك يظهر اتصالهما بالآيات السابقة عليهما من غير أن تؤخذا معترضتين من كل جهة.
فكان ملك الوحي لما تنزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالسورة و أوحى إليه الآيات الثلاث و الستين منها و هي مشتملة على دعوة كاملة إلى الدين الحنيف خاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأنه لم يتنزل و ليس يتنزل بما تنزل به من عند نفسه بل عن أمر من ربه و برسالة من عنده فالكلام كلامه و الدعوة دعوته و هو رب النبي و رب كل شيء فليعبده وحده فليس هناك رب آخر يعدل عنه إليه فالآيتان مما أوحي إلى ملك الوحي ليلقيه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تثبيتا له و تأكيدا للآيات السابقة.
و هذا نظير أن يرسل ملك رسولا بكتاب من عنده أو رسالة إلى بعض عماله فيأتيه الرسول ثم إذا قرأ الكتاب أو أدى الرسالة قال للعامل: إني ما جئتك من عند نفسي بل بأمر من الملك و إشارة منه و الكتاب كتابه و الرسالة قوله و حكمه و هو مليكك و مليك عامة من في المملكة فاسمع له و أطع و أقم على ذلك فليس هناك مليك غيره حتى تعدل عنه إليه.
فكلام هذا الرسول تأكيد لكلام الملك و إذا فرض أن الملك، هو الذي أمره أن يعقب رسالته بهذا الكلام كان الكلام كلاما للرسول و رسالة أيضا عن قبل الملك و كلامه.
و غير خفي عليك أن هذا الوجه أوفق بالآيتين و أوضح انطباقا عليهما مما تذكره روايات سبب النزول على ما فيها من الاختلاف و الوهن.
|