بيان
في الآيات تخلص إلى غرض البيان السابق و هو أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يصدع بما يؤمر و يأخذ بالصفح و الإعراض عن المشركين و لا يحزن عليهم و لا يضيق صدره بما يقولون فإن من القضاء الحق أن يجازي الناس بأعمالهم في الدنيا و الآخرة و خاصة يوم القيامة الذي لا ريب فيه و هو اليوم الذي لا يغادر أحدا و لا يدع مثقال ذرة من الخير و الشر إلا ألحقه بعامله فلا ينبغي أن يؤسف لكفر كافر فإن الله عليم به سيجازيه، و لا يحزن عليه فإن الاشتغال بالله سبحانه أهم و أوجب.
و لقد كرر سبحانه أمره بالصفح و الإعراض عن أولئك المستهزءين به - و هم الذين مر ذكرهم في مفتتح السورة - و الاشتغال بتسبيحه و تحميده و عبادته، و أخبره أنه كفاه شرهم فليشتغل بما أمره الله به، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق، و إن الساعة لآتية» الباء في قوله: «بالحق» للمصاحبة أي إن خلقها جميعا لا ينفك عن الحق و يلازمه فللخلق غاية سيرجع إليها قال تعالى: «إن إلى ربك الرجعى»: العلق: 8، و لو لا ذلك لكان لعبا باطلا قال تعالى: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق»: الدخان: 39، و قال: «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا»: ص: 27، و من الدليل على كون المراد بالحق ما يقابل اللعب الباطل تذييل الكلام بقوله: «و إن الساعة لآتية» و هو ظاهر.
و بذلك يظهر فساد ما ذكره بعضهم أن المراد بالحق العدل و الإنصاف و الباء للسببية و المعنى ما خلقنا ذلك إلا بسبب العدل و الإنصاف يوم الجزاء بالأعمال.
و ذلك أن كون الحق في الآية بمعنى العدل و الإنصاف لا شاهد عليه من اللفظ على أن الذي ذكره من المعنى إنما يلائم كون الباء بمعنى لام الغرض أو للمصاحبة دون السببية.
و كذا ما ذكره بعضهم أن الحق بمعنى الحكمة و أن الجملة الأولى «و ما خلقنا» إلخ، ناظرة إلى العذاب الدنيوي و الثانية «و إن الساعة لآتية» إلى العذاب الأخروي و المعنى و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا متلبسا بالحق و الحكمة بحيث لا يلائم استمرار الفساد و استقرار الشرور، و قد اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء دفعا لفسادهم و إرشادا لمن بقي إلى الصلاح، و إن الساعة لآتية فينتقم أيضا فيها من أمثال هؤلاء.
و في الآية مشاجرة بين أصحاب الجبر و التفويض كل من الفريقين يجر نارها إلى قرصته فاستدل بها أصحاب الجبر على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أعمالهم من جملة ما بينهما فهي مخلوقة له.
و استدل بها أصحاب التفويض على أن أفعال العباد ليست مخلوقة له بل لأنفسهم فإن المعاصي و قبائح الأعمال من الباطل فلو كانت مخلوقة له لكانت مخلوقة بالحق و الباطل لا يكون مخلوقا بالحق.
و الحق أن الحجتين جميعا من الباطل فإن جهات القبح و المعصية في الأفعال حيثيات عدمية إذ الطاعة و المعصية كالنكاح و الزنا و أكل المال من حله و بالباطل و أمثال ذلك مشتركة في أصل الفعل و إنما تختلف طاعة و معصية بموافقة الأمر و مخالفته و المخالفة جهة عدمية، و إذا كان كذلك فاستناد الفعل إلى الخلقة من جهة الوجود لا يستلزم استناد القبيح أو المعصية إليها فإن ذلك من جهاته العدمية فليس الفعل بجهته العدمية مما بين السماوات و الأرض حتى تشمله الآية، و لا بجهته الوجودية من الباطل حتى يكون خلقه خلقا للباطل بالحق.
على أن الضرورة قائمة على حكومة نظام العلل و المعلولات في الوجود و أن قيام وجود شيء بشيء بحيث لا يستقل دونه هو ملاك الاتصاف فالمتصف بالطاعة و المعصية و حسن الفعل و قبيحه هو الإنسان دون الذي خلقه و يسر له أن يفعل كذا و كذا كما أن المتصف بالسواد و البياض الجسم الذي يقوم به هذان اللونان دون الذي أوجده.
و قد استوفينا الكلام في هذا البحث في تفسير قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26، الجزء الأول من الكتاب.
قوله تعالى: «فاصفح الصفح الجميل إن ربك هو الخلاق العليم» قال في المفردات: صفح الشيء عرضه و جانبه كصفحة الوجه و صفحة السيف و صفحة الحجر و الصفح ترك التثريب و هو أبلغ من العفو و لذلك قال: «فاعفوا و اصفحوا حتى يأتي الله بأمره» و قد يعفوا الإنسان و لا يصفح قال تعالى: «فاصفح عنهم و قل سلام» «فاصفح الصفح الجميل» «أ فنضرب عنكم الذكر صفحا».
و صفحت عنه أوليته صفحة جميلة معرضا عن ذنبه أو لقيت صفحته متجافيا عنه أو تجاوزت الصفحة التي أثبت فيها ذنبه من الكتاب إلى غيرها من قولك تصفحت الكتاب، و قوله: «إن الساعة لآتية فاصفح الصفح الجميل» فأمر له (عليه السلام) أن يخفف كفر من كفر كما قال: «و لا تحزن عليهم و لا تك في ضيق مما يمكرون» و المصافحة الإفضاء بصفحة اليد.
انتهى.
و سيأتي ما في الرواية من تفسير علي (عليه السلام) الصفح بالعفو من غير عتاب.
و قوله: «فاصفح الصفح الجميل» تفريع على سابقه أي إذا كانت الخلقة بالحق و هناك يوم فيه يحاسبون و يجازون لا ريب فيه فلا تشغل نفسك بما ترى منهم من التكذيب و الاستهزاء و اعف عنهم من غير أن تقع فيهم بعتاب أو مناقشة و جدال فإن ربك الذي خلقك و خلقهم هو عليم بحالك و حالهم و وراءهم يوم لا يفوتونه.
و من هنا يظهر أن قوله: «إن ربك هو الخلاق العليم» تعليل لقوله: «فاصفح الصفح الجميل».
و هذه الآيات الحافة لقوله: «فاصدع بما تؤمر» تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه ليأخذ قوله: «فاصدع بما تؤمر» موقعه فقد عرفت في أول السورة أن الغرض الأصيل منها هو الأمر بإعلان الدعوة و عرفت أيضا بالتدبر في الآيات السابقة أنها مسرودة ليتخلص بها إلى تسليته (صلى الله عليه وآله وسلم) عما لقي من قومه من الإيذاء و الإهانة و الاستهزاء و يتخلص من ذلك إلى الأمر المطلوب.
قوله تعالى: «و لقد آتيناك سبعا من المثاني و القرآن العظيم» السبع المثاني هي سورة الحمد على ما فسر في عدة من الروايات المأثورة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أئمة أهل البيت (عليهم السلام) فلا يصغى إلى ما ذكره بعضهم: أنها السبع الطوال، و ما ذكره بعض آخر أنها الحواميم السبع، و ما قيل: إنها سبع صحف من الصحف النازلة على الأنبياء، فلا دليل على شيء منها من لفظ الكتاب و لا من جهة السنة.
و قد كثر اختلافهم في قوله: «من المثاني» من جهة كون «من» للتبعيض أو للتبيين و في كيفية اشتقاق لفظة المثاني و وجه تسميتها بالمثاني.
و الذي ينبغي أن يقال - و الله أعلم - أن «من» للتبعيض فإنه سبحانه سمى جميع آيات كتابه مثاني إذ قال: «كتابا متشابها مثاني تقشعر منه قلوب الذين يخشون ربهم»: الزمر: 23 و آيات سورة الحمد من جملتها فهي بعض المثاني لا كلها.
و الظاهر أن المثاني جمع مثنية اسم مفعول من الثني بمعنى اللوي و العطف و الإعادة قال تعالى «يثنون صدورهم»: هود: 5، و سميت الآيات القرآنية مثاني لأن بعضها يوضح حال البعض و يلوي و ينعطف عليه كما يشعر به قوله: «كتابا متشابها مثاني» حيث جمع بين كون الكتاب متشابها يشبه بعض آياته بعضا و بين كون آياته مثاني، و في كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في صفة القرآن: «يصدق بعضه بعضا» و عن علي (عليه السلام): فيه: «ينطق بعضه ببعض و يشهد بعضه على بعض» أو هي جمع مثنى بمعنى التكرير و الإعادة كناية عن بيان بعض الآيات ببعض.
و لعل في ذلك كفاية و غنى عما ذكروه من مختلف المعاني كما في الكشاف و حواشيه و المجمع و روح المعاني و غيرها كقولهم: إنها من التثنية أو الثني بمعنى التكرير و الإعادة سميت آيات القرآن مثاني لتكرر المعاني فيها، و كقولهم: سميت الفاتحة مثاني لوجوب قراءتها في كل صلاة مرتين أو لأنها تثنى في كل ركعة بما يقرأ بعدها من القرآن، أو لأن كثيرا من كلماتها مكررة كالرحمان و الرحيم و إياك و الصراط و عليهم، أو لأنها نزلت مرتين مرة بمكة و مرة بالمدينة أو لما فيها من الثناء على الله، أو لأن الله استثناها و ادخرها لهذه الأمة و لم ينزلها على الأمم الماضين كما في الرواية، إلى غير ذلك من الوجوه المذكورة في التفاسير.
و في قوله: «سبعا من المثاني و القرآن العظيم» من تعظيم أمر الفاتحة و القرآن ما لا يخفى أما القرآن فلتوصيفه من ساحة العظمة و الكبرياء بالعظيم، و أما الفاتحة فلمكان التعبير عنه بالنكرة غير الموصوفة «سبعا» و فيه من الدلالة على عظمة قدرها و جلالة شأنها ما لا يخفى و قد قوبل بها القرآن العظيم و هي بعضه.
و الآية - كما تبين - في مقام الامتنان و هي مع ذلك لوقوعها في سياق الدعوة إلى الصفح و الإعراض تفيد أن في هذه الموهبة العظمى المتضمنة لحقائق المعارف الإلهية الهادية إلى كل كمال و سعادة بإذن الله عدة أن تحملك على الصفح الجميل و الاشتغال بربك و التوغل في طاعته.
قوله تعالى: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم - إلى قوله - المبين» الآيتان في مقام بيان الصفح الجميل الذي تقدم الأمر به، و لذلك جيء بالكلام في صورة الاستئناف.
و المذكور فيهما أربعة دساتير: منفيان و مثبتان فقوله: «لا تمدن عينيك إلى ما متعنا به أزواجا منهم» مد العينين إلى ما متعوا به من زهرة الحياة الدنيا كناية عن التعدي عن قصر النظر على ما آتاه الله من نعمة، و المراد بالأزواج الأزواج من الرجال و النساء أو الأصناف من الناس كالوثنيين و اليهود و النصارى و المجوس، و المعنى لا تتجاوز عن النظر عما أنعمناك به من النعم الظاهرة و الباطنة إلى ما متعنا به أزواجا قليلة أو أصنافا من الكفار.
و ربما أخذ بعضهم قوله: «لا تمدن عينيك» كناية عن إطالة النظر و إدامته، و أنت تعلم أن الغرض على أي حال النهي عن الرغبة و الميل و التعلق القلبي بما في أيديهم من أمتعة الحياة كالمال و الشوكة و الصيت و الذي يكنى به عن ذلك هو النهي عن أصل النظر إليه لا عن إطالته و إدامته و يشهد به ما سننقله من آية الكهف.
و قوله: «و لا تحزن عليهم» أي من جهة تماديهم في التكذيب و الاستهزاء و إصرارهم على أن لا يؤمنوا بك.
و قوله: «و اخفض جناحك للمؤمنين» قالوا: هو كناية عن التواضع و لين الجانب، و الأصل فيه أن الطائر إذا أراد أن يضم إليه أفراخه بسط جناحه عليها ثم خفضه لها هذا.
و الذي ذكروه و إن أمكن أن يتأيد بآيات أخر كقوله: «فبما رحمة من الله لنت لهم»: آل عمران: 159، و قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «بالمؤمنين رءوف رحيم»: التوبة: 128، لكن الذي وقع في نظير الآية مما يمكن أن يفسر به خفض الجناح هو صبر النفس مع المؤمنين و هو يناسب أن يكون كناية عن ضم المؤمنين إليه و قصر الهم على معاشرتهم و تربيتهم و تأديبهم بأدب الله أو كناية عن ملازمتهم و الاحتباس فيهم من غير مفارقة، كما أن الطائر إذا خفض الجناح لم يطر و لم يفارق، قال تعالى: «و اصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة و العشي يريدون وجهه و لا تعد عيناك عنهم تريد زينة الحياة الدنيا» الآية: الكهف: 28.
و قوله: «و قل إني أنا النذير المبين» أي لا دعوى لي إلا أني نذير أنذركم بعذاب الله سبحانه مبين أبين لكم ما تحتاجون إلى بيانه، و ليس لي وراء ذلك من الأمر شيء.
فهذه الأمور الأربعة أعني ترك الرغبة بما في أيديهم من متاع الحياة الدنيا و ترك الحزن عليهم إذا كفروا و استهزءوا، و خفض الجناح للمؤمنين و إظهار أنه نذير مبين هو الصفح الجميل الذي يليق بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو أسقط منها واحد لاختل الأمر.
و من ذلك يظهر أن قول بعضهم: إن قوله: «فاصفح الصفح الجميل» منسوخ بآية السيف غير وجيه فإن هذا الصفح الذي تأمر به الآية و يفسره قوله: «لا تمدن عينيك» باق على إحكامه و اعتباره حتى بعد نزول آية السيف فلا وجه لنسبة النسخ إليه.
قوله تعالى: «كما أنزلنا على المقتسمين الذين جعلوا القرآن عضين» قال في المجمع: عضين جمع عضة و أصله عضوة فنقصت الواو و لذلك جمعت عضين بالنون كما قيل: عزوة و عزون و الأصل عزوة، و التعضية: التفريق مأخوذة من الأعضاء يقال: عضيت الشيء أي فرقته و بعضته قال رؤبة: و ليس دين الله بالمعضي، انتهى موضع الحاجة.
و قوله: «كما أنزلنا على المقتسمين» لا يخلو السياق من دلالة على أنه متعلق بمقدر يلوح إليه قوله: «و قل إني أنا النذير المبين» أي بعذاب منزل ينزل عليكم كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين هم الذين يصفهم قوله بعد: «الذين جعلوا القرآن عضين» و هم على ما وردت به الرواية قوم من كفار قريش جزءوا القرآن أجزاء فقالوا: سحر، و قالوا: أساطير الأولين، و قالوا: مفترى، و تفرقوا في مداخل طرق مكة أيام الموسم يصدون الناس الواردين عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كما سيأتي في البحث الروائي إن شاء الله.
و قيل قوله: «كما أنزلنا» متعلق بما تقدم من قوله: «و لقد آتيناك سبعا من المثاني» أي أنزلنا عليك القرآن كما أنزلنا على المقتسمين، و المراد بالمقتسمين اليهود و النصارى الذين فرقوا القرآن أجزاء و أبعاضا و قالوا نؤمن ببعض و نكفر ببعض.
و فيه أن السورة مكية نازلة في أوائل البعثة و لم يبتل الإسلام يومئذ باليهود و النصارى ذاك الابتلاء و قولهم: «آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار و اكفروا آخره»: آل عمران: 72، مما قالته اليهود بعد الهجرة و كذا ما أشبه ذلك و الدليل على ما ذكرنا سياق الآيات.
و ربما قيل: سموا مقتسمين لأنهم اقتسموا أنبياء الله و كتبه المنزلة إليهم فآمنوا ببعض و كفروا ببعض، و يدفعه أن الآية التالية تفسر المقتسمين بالذين جعلوا القرآن عضين لا بالذين فرقوا بين أنبياء الله أو بين كتبه.
فالظاهر أن الآيتين تذكران قوما نهضوا في أوائل البعثة على إطفاء نور القرآن و بعضوه أبعاضا ليصدوا عن سبيل الله فأنزل الله عليهم العذاب و أهلكهم، و هم الذين ذكروا في الآيتين ثم يذكر الله مآل أمرهم بقوله: «فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون».
قوله تعالى: «فاصدع بما تؤمر و أعرض عن المشركين» قال في المجمع: الصدع و الفرق و الفصل نظائر، و صدع بالحق إذا تكلم به جهارا، انتهى.
و الآية تفريع على ما تقدم، و من حقها أن تتفرع لأنها الغرض في الحقيقة من السورة أي إذا كان الأمر على ما ذكر و أمرت بالصفح الجميل و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلنا على المقتسمين فأظهر كلمة الحق و أعلن الدعوة.
و بذلك يظهر أن قوله: «إنا كفيناك المستهزءين» في مقام التعليل لقوله: «فاصدع» إلخ كما يشعر الكلام أو يدل على أن هؤلاء المستهزءين هم المقتسمون المذكورون قبل، و معنى الآية إذا كان الأمر كما ذكرناه و كنت نذيرا بعذابنا كما أنزلناه على المقتسمين «فاصدع بما تؤمر» و أعلن الدعوة و أظهر الحق «و أعرض عن المشركين إنا» أي لأننا «كفيناك المستهزءين» بإنزال العذاب عليهم و هم «الذين يجعلون مع الله إلها آخر فسوف يعلمون».
قوله تعالى: «و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون» رجع ثانيا إلى حزنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و ضيق صدره من استهزائهم لمزيد العناية بتسليته و تطييب نفسه و تقوية روحه، و قد أكثر سبحانه في كلامه و خاصة في السور المكية من ذلك لشدة الأمر عليه (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين» وصاه سبحانه بالتسبيح و التحميد و السجدة و العبادة أو إدامة العبودية مفرعا ذلك على ضيق صدره بما يقولون ففي ذلك استعانة على الغم و المصيبة، و قد أمره في الآيات السابقة بالصفح و الصبر، و يستفاد الأمر بالصبر أيضا من قوله: «و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين» فإن ظاهره الأمر بالصبر على العبودية حتى حين، و بذلك يصير الكلام قريب المضمون من قوله تعالى لدفع الشدائد و المقاومة على مر الحوادث: «استعينوا بالصبر و الصلاة»: البقرة: 153.
و بذلك يتأيد أن المراد بالساجدين المصلون و أنه أمر بالصلاة و قد سميت سجودا تسمية لها باسم أفضل أجزائها و يكون المراد بالتسبيح و التحميد اللفظي منهما كقول سبحان الله و الحمد لله أو ما في معناهما نعم لو كان المراد بالصلاة في آية البقرة التوجه إلى الله سبحانه أمكن أن يكون المراد بالتسبيح و التحميد - أو بهما و بالسجود - المعنى اللغوي و هو تنزيهه تعالى عما يقولون و الثناء عليه بما أنعم به عليه من النعم و التذلل له تذلل العبودية.
و أما قوله: «و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين» فإن كان المراد به الأمر بالعبادة كان كالمفسر للآية السابقة و إن كان المراد الأخذ بالعبودية - كما هو ظاهر السياق، و خاصة سياق الآيات السابقة الآمرة بالصفح و الإعراض و لازمهما الصبر كان بقرينة تقييده بقوله: «حتى يأتيك اليقين» أمرا بانتهاج منهج التسليم و الطاعة و القيام بلوازم العبودية.
و على هذا فالمراد بإتيان اليقين حلول الأجل و نزول الموت الذي يتبدل به الغيب من الشهادة و يعود به الخبر عيانا، و يؤيد ذلك تفريع ما تقدم من قوله: «فاصفح الصفح الجميل» على قوله: «و ما خلقنا السماوات و الأرض و ما بينهما إلا بالحق و إن الساعة لآتية» فإنه بالحقيقة أمر بالعفو و الصبر على ما يقولون لأن لهم يوما ينتقم الله منهم و يجازيهم بأعمالهم فيكون معنى الآية دم على العبودية و اصبر على الطاعة و عن المعصية و على مر ما يقولون حتى يدركك الموت و ينزل عليك عالم اليقين فتشاهد ما يفعل الله بهم ربك.
و في التعبير بمثل قوله: «حتى يأتيك اليقين» إشعار أيضا بذلك فإن العناية فيه بأن اليقين طالب له و سيدركه فليعبد ربه حتى يدركه و يصل إليه و هذا هو عالم الآخرة الذي هو عالم اليقين العام بما وراء الحجاب دون الاعتقاد اليقيني الذي ربما يحصل بالنظر أو بالعبادة.
و بذلك يظهر فساد ما ربما قيل: إن الآية تدل على ارتفاع التكليف بحصول اليقين، و ذلك لأن المخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد دلت آيات كثيرة من كتاب الله أنه من الموقنين و أنه على بصيرة و أنه على بينة من ربه و أنه معصوم و أنه مهدي بهداية الله سبحانه إلى غير ذلك.
مضافا إلى ما قدمناه من دلالة الآية على كون المراد باليقين هو الموت.
و سنفرد لدوام التكليف بحثا عقليا بعد الفراغ عن البحث الروائي إن شاء الله تعالى.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن علي بن أبي طالب: في قوله. «فاصفح الصفح الجميل» قال: الرضا بغير عتاب.
و في المجمع، حكي عن علي بن أبي طالب (عليه السلام): أن الصفح الجميل هو العفو من غير عتاب.
و في العيون، بإسناده عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه عن الرضا (عليه السلام): في الآية قال: العفو من غير عتاب.
و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن السبع المثاني و القرآن العظيم هي فاتحة الكتاب؟ قال: نعم. قلت: بسم الله الرحمن الرحيم من السبع؟ قال: نعم هي أفضلهن.
أقول: و هو مروي من طرق الشيعة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) و غير واحد من أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و من طرق أهل السنة عن علي و عدة من الصحابة كعمر بن الخطاب و عبد الله بن مسعود و ابن عباس و أبي بن كعب و أبي هريرة و غيرهم.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني في الأوسط عن ابن عباس قال: سأل رجل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: أ رأيت قول الله: «كما أنزلنا على المقتسمين»؟ قال: اليهود و النصارى. قال: «الذين جعلوا القرآن عضين» قال: آمنوا ببعض و كفروا ببعض.
أقول: و قد عرفت فيما مر أن مضمون الرواية لا يلائم كون السورة مكية.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قوله: «الذين جعلوا القرآن عضين» قالا: هم قريش.
و في المعاني، بإسناده عن عبد الله بن علي الحلبي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: مكث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة بعد ما جاء الوحي عن الله تبارك و تعالى ثلاث عشرة سنة مستخفيا منها ثلاث سنين خائفا لا يظهر حتى أمر الله عز و جل أن يصدع بما أمر فأظهر حينئذ الدعوة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن أبي عبيدة أن عبد الله بن مسعود قال: ما زال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مستخفيا حتى نزل: «فاصدع بما تؤمر» فخرج هو و أصحابه.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن علي الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: اكتتم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة سنين ليس يظهر و علي معه و خديجة ثم أمره الله أن يصدع بما يؤمر فظهر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فجعل يعرض نفسه على قبائل العرب فإذا أتاهم قالوا: كذاب امض عنا.
و في تفسير العياشي، عن أبان بن عثمان الأحمر رفعه قال: كان المستهزءون خمسة من قريش: الوليد بن المغيرة المخزومي و العاص بن وائل السهمي و الحارث بن حنظلة و الأسود بن عبد يغوث بن وهب الزهري و الأسود بن المطلب بن أسد فلما قال الله: «إنا كفيناك المستهزءين» علم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قد أخزاهم فأماتهم الله بشر ميتات: أقول: و رواه الصدوق في المعاني، بإسناده عن أبان و روى فيه، أيضا و الطبرسي في الإحتجاج، عن موسى بن جعفر عن آبائه عن علي (عليه السلام): ما في هذا المعنى و هو حديث طويل فيه تفصيل هلاك كل من هؤلاء الخمسة لعنهم الله. و روي كون المستهزءين خمسة من قريش عن علي و عن ابن عباس مع سبب هلاكهم.
و الروايات مع ذلك مختلفة من طرق أهل السنة من جهة عددهم و أسمائهم و أسباب هلاكهم، و الذي اتفق فيه حديث الفريقين هو ما قدمناه.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و الديلمي عن أبي الدرداء سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: ما أوحي إلي أن أكون تاجرا و لا أجمع المال متكاثرا و لكن أوحي إلي: أن سبح بحمد ربك و كن من الساجدين - و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين.
أقول: و روي ما في معناه أيضا عن ابن مردويه عن ابن مسعود عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و فيه، أخرج البخاري و ابن جرير عن أم العلاء: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دخل على عثمان بن مظعون و قد مات فقلت: رحمة الله عليك أبا السائب فشهادتي عليك لقد أكرمك الله فقال: و ما يدريك أن الله أكرمه؟ أما هو فقد جاءه اليقين إني لأرجو له الخير.
و في الكافي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن من صبر صبر قليلا و من جزع جزع قليلا. ثم قال: عليك بالصبر في جميع أمورك فإن الله عز و جل بعث محمدا و أمره بالصبر و الرفق فقال: «و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلا - و ذرني و المكذبين أولي النعمة» و قال تبارك و تعالى: «ادفع بالتي هي أحسن السيئة - فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم - و ما يلقاها إلا الذين صبروا - و ما يلقاها إلا ذو حظ عظيم». فصبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى نالوه بالعظائم و رموه بها و ضاق صدره و قال الله: «و لقد نعلم أنك يضيق صدرك بما يقولون - فسبح بحمد ربك و كن من الساجدين».
بحث فلسفي في كيفية وجود التكليف و دوامه
قد تقدم في خلال أبحاث النبوة و كيفية انتشاء الشرائع السماوية في هذا الكتاب أن كل نوع من أنواع الموجودات له غاية كمالية هو متوجه إليها ساع نحوها طالب لها بحركة وجودية تناسب وجوده لا يسكن عنها دون أن ينالها إلا أن يمنعه عن ذلك مانع مزاحم فيبطل دون الوصول إلى غايته كالشجرة تقف عن الرشد و النمو قبل أن تبلغ غايتها لآفات تعرضها، و تقدم أيضا أن الحرمان من بلوغ الغايات إنما هو في أفراد خاصة من الأنواع و أما النوع بنوعيته فلا يتصور فيه ذلك.
و أن الإنسان و هو نوع وجودي له غاية وجودية لا ينالها إلا بالاجتماع المدني كما يشهد به تجهيز وجوده بما لا يستغني به عن سائر أمثاله كالذكورة و الأنوثة و العواطف و الإحساسات و كثرة الحوائج و تراكمها.
و أن تحقق هذا الاجتماع و انعقاد المجتمع الإنساني يحوج أفراد المجتمع إلى أحكام و قوانين ينتظم باحترامها و العمل بها شتات أمورهم و يرتفع بها اختلافاتهم الضرورية و يقف بها كل منهم في موقفه الذي ينبغي له و يحوز بها سعادته و كماله الوجودي، و هذه الأحكام و القوانين العملية في الحقيقة منبعثة عن الحوائج التي تهتف بها خصوصية وجود الإنسان و خلقته الخاصة بما لها من التجهيزات البدنية و الروحية كما أن خصوصية وجوده و خلقته مرتبطة بخصوصيات العلل و الأسباب التي تكون وجود الإنسان من الكون العام.
و هذا معنى كون الدين فطريا أي أنه مجموع أحكام و قوانين يرشد إليها وجود الإنسان بحسب التكوين و إن شئت فقل: سنن يستدعيها الكون العام فلو أقيمت أصلحت المجتمع و بلغت بالأفراد غايتها في الوجود و كمالها المطلوب و لو تركت و أبطلت أفسدت العالم الإنساني و زاحمت الكون العام في نظامه.
و أن هذه الأحكام و القوانين سواء كانت معاملية اجتماعية تصلح بها حال المجتمع و يجمع بها شمله أو عبادية تبلغ بالإنسان غاية كماله من المعرفة و الصلاح في مجتمع صالح فإنها جميعا يجب أن يتلقاها الإنسان من طريق نبوة إلهية و وحي سماوي لا غير.
و بهذه الأصول الماضية يتبين أن التكليف الإلهي يلازم الإنسان ما عاش في هذه النشأة الدنيوية سواء كان في نفسه ناقصا لم يكمل وجودا بعد أو كاملا علما و عملا: أما لو كان ناقصا فظاهر، و أما لو كان كاملا فلأن معنى كماله أن يحصل له في جانبي العلم و العمل ملكات فاضلة يصدر عنها من الأعمال المعاملية ما يلائم المجتمع و يصلحه و يتمكن من كمال المعرفة و صدور الأعمال العبادية الملائمة للمعرفة كما تقتضيه العناية الإلهية الهادية للإنسان إلى سعادته.
و من المعلوم أن تجويز ارتفاع التكليف عن الإنسان الكامل ملازم لتجويز تخلفه عن الأحكام و القوانين و هو فيما يرجع إلى المعاملات يوجب فساد المجتمع و العناية الإلهية تأباه.
و فيما يرجع إلى العبادات يوجب تخلف الملكات عن آثارها فإن الأفعال مقدمات معدة لحصول الملكات ما لم تحصل، و إذا حصلت عادت تلك الأفعال آثارا لها تصدر عنها صدورا لا تخلف فيه.
و من هنا يظهر فساد ما ربما يتوهم أن الغرض من التكليف تكميل الإنسان و إيصاله غاية وجوده فإذا كمل لم يكن لبقاء التكليف معنى.
وجه الفساد: أن تخلف الإنسان عن التكليف الإلهي و إن كان كاملا، في المعاملات يفسد المجتمع و فيه إبطال العناية الإلهية بالنوع، و في العبادات يستلزم تخلف الملكات عن آثارها، و هو غير جائز، و لو جاز لكان فيه إبطال الملكة و فيه أيضا إبطال العناية.
نعم بين الإنسان الكامل و غيره فرق في صدور الأفعال و هو أن الكامل مصون عن المخالفة لمكان الملكة الراسخة بخلاف غير الكامل و الله المستعان.
|