بيان
هذا هو الشطر الثاني من آيات صدر السورة، و قد كان الشطر الأول يتضمن توحيد الربوبية و إقامة الحجة على المشركين في ذلك بعد ما أنذرهم بإتيان الأمر و نزه الله سبحانه عن شركهم.
و هذا الشطر الثاني يتضمن ما يناسب المقام ذكره من مساوي صفات المشركين المتفرعة على إنكارهم التوحيد و أباطيل أقوالهم كاستكبارهم على الله و استهزائهم بآياته و إنكارهم الحشر، و بيان بطلانها و إظهار فسادها، و تهديدهم بإتيان الأمر و حلول العذاب الدنيوي، و الإيعاد بعذاب يوم الموت و يوم القيامة و حقائق أخر ستنكشف بالبحث.
قوله تعالى: «إلهكم إله واحد فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة و هم مستكبرون» قد تقدم الكلام في قوله: «إلهكم إله واحد» و أنه نتيجة الحجة التي أقيمت في الآيات السابقة.
و قوله: «فالذين لا يؤمنون بالآخرة» إلخ تفريع عليه، و افتتاح لفصل جديد من الكلام حول أعمال الكفار من أقوالهم و أعمالهم الناشئة عن عدم إيمانهم بالله سبحانه و إنما ذكر عدم إيمانهم بالآخرة و لم يذكر عدم إيمانهم بالله وحده لأن الذي أقيمت عليه الحجة هو التوحيد الكامل و هو وجوب الاعتقاد بإله عليم قدير خلق كل شيء و أتم النعمة لا لغوا باطلا بل بالحق ليرجعوا إليه فيحاسبهم على ما عملوا و يجازيهم بما اكتسبوا مما عهده إليهم من الأمر و النهي بواسطة الرسل.
فالتوحيد المندوب إليه في الآيات الماضية هو القول بوحدانيته تعالى و الإيمان بما أتى به رسل الله و الإيمان بيوم الحساب و الجزاء، و لذلك وصف الكفار بعدم الإيمان بالآخرة لأن الإيمان بها يستلزم الإيمان بالوحدانية و الرسالة.
و لك أن تراجع في استيضاح ما ذكرناه قوله في أول الآيات: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا إله إلا أنا فاتقون خلق السماوات و الأرض بالحق سبحانه عما يشركون» فإنه كلام جامع للأصول الثلاثة.
و قوله: «قلوبهم منكرة» أي للحق و قوله: «و هم مستكبرون» أي عن الحق، و الاستكبار - على ما ذكروه - طلب الترفع بترك الإذعان للحق.
و المعنى: إلهكم واحد على ما تدل عليه الآيات الواضحة في دلالتها، و إذا كان الأمر على هذا الوضوح و الجلاء لا يستتر بستر و لا يرتاب فيه فهم فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة للحق جاحدة له عنادا و هم مستكبرون عن الانقياد للحق من غير حجة و لا برهان.
قوله تعالى: «لا جرم أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون إنه لا يحب المستكبرين» «لا جرم» كلمة مركبة باقية على حالة واحدة يفيد معنى التحقيق على ما ذكره الخليل و سيبويه و إليه يرجع ما ذكره غيرهما و إن اختلفوا في أصل تركبه قال الخليل: و هو كلمة تحقيق و لا يكون إلا جوابا يقال فعلوا كذا فيقول السامع: لا جرم يندمون.
و المعنى من المحقق - أو حق - أن الله يعلم ما يسرون و ما يعلنون، و هو كناية و تهديد بالجزاء السيىء أي إنه يعلم ما يخفونه من أعمالهم و ما يظهرونه فسيجزيهم بما عملوا و يؤاخذهم على ما أنكروا و استكبروا إنه لا يحب المستكبرين.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين» قال الراغب في المفردات: السطر و السطر - بفتح فسكون أو بفتحتين - السطر من الكتابة و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف - إلى أن قال - و جمع السطر أسطر و سطور و أسطار.
قال: و أما قوله: «أساطير الأولين» فقد قال المبرد: هي جمع أسطورة نحو أرجوحة و أراجيح و أثفية و أثافي و أحدوثة و أحاديث، و قوله تعالى: «و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين» أي شيء كتبوه كذبا و مينا فيما زعموا نحو قوله تعالى: «أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا» انتهى و قال غيره: أساطير جمع أسطار و أسطار جمع سطر فهو جمع الجمع.
و قوله: «و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم» يمكن أن يكون القائل بعض المؤمنين و إنما قاله اختبارا لحالهم و استفهاما لما يرونه في الدعوة النبوية، و يمكن أن يكون من المشركين و إنما قاله لهم ليقلدهم فيما يرونه، و عبر عن القرآن بمثل قوله: «ما ذا أنزل ربكم» لنوع من التهكم و الاستهزاء، و يمكن أن يكون شاكا متحيرا باحثا، و الآية التالية و كذا قوله فيما سيأتي: «و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم» يؤيد أحد الوجهين الأخيرين.
و قوله: «قالوا أساطير الأولين» أي الذي يسأل عنه أكاذيب خرافية كتبها الأولون و أثبتوها و تركوها لمن خلفهم، و لازم هذا القول دعوى أنه ليس نازلا من عند الله سبحانه.
قوله تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة» إلى آخر الآية.
قال في المفردات: الوزر - بفتحتين - الملجأ الذي يلتجأ إليه من الجبل، قال تعالى: «كلا لا وزر إلى ربك يومئذ المستقر» و الوزر بالكسر فالسكون - الثقل تشبيها بوزر الجبل، و يعبر بذلك عن الإثم كما يعبر عنه بالثقل، قال تعالى: «ليحملوا أوزارهم كاملة» الآية كقوله: «و ليحملن أثقالهم و أثقالا مع أثقالهم».
قال: و حمل وزر الغير بالحقيقة هو على نحو ما أشار إليه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقوله: «من سن سنة حسنة كان له أجرها و أجر من عمل بها من غير أن ينقص من أجره شيء، و من سن سنة سيئة كان له وزرها و وزر من عمل بها أي مثل وزر من عمل بها، و قوله: «و لا تزر وازرة وزر أخرى» أي لا تحمل وزره من حيث يتعرى المحمول عنه، انتهى.
و الذي ذكره من الحديث النبوي مروي من طرق الخاصة و العامة جميعا و يصدقه من الكتاب العزيز مثل قوله تعالى: «و الذين آمنوا و اتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم و ما ألتناهم من عملهم من شيء كل امرىء بما كسب رهين»: الطور: 21، و قوله: «و نكتب ما قدموا و آثارهم»: يس: 12 و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
و أما قوله في تفسير قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «كان له وزرها و وزر من عمل بها»: أي مثل وزر من عمل بها فكلام ظاهري لا بأس بأن يوجه به الآية و الرواية لرفع التناقض بينهما و بين مثل قوله تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى»: الأنعام: 164، و قوله: «ليوفينهم ربك أعمالهم»: هود: 111، إذ لو حمل الآمر وزر السيئة و عذب بعذابها دون الفاعل ناقض ذلك الآية الأولى، و لو قسم بينهما و حمل كل منهما بعض الوزر و عذب ببعض العذاب ناقض الآية الثانية، و أما لو حمل السان و الآمر مثل ما للعامل الفاعل لم يناقض شيئا.
و أما بحسب الحقيقة فكما أن العمل عمل واحد حسنة أو سيئة كذلك وزره و عذابه مثلا واحد لا تعدد فيه، غير أن نفس العمل لما كان قائما بأكثر من واحد - قيامه بالآمر و الفاعل قياما طوليا لا عرضيا يوجب المحذور - كانت تبعته من الوزر و العذاب قائمة بأكثر من واحد، فهناك وزر واحد يزرها اثنان، و عذاب واحد يعذب به الآمر و الفاعل جميعا.
و يسهل تصور ذلك بالتأمل في مضمون الآيات المبنية على تجسم الأعمال فإن العمل كالسيئة مثلا على تقدير التجسم واحد شخصي يتمثل لاثنين و يعذب بتمثله إنسانين الآمر و الفاعل أو السان و المستن فهو بوجه بعيد كالشخص الواحد يتصوره اثنان فيلتذان أو يتألمان معا به و ليس إلا واحدا.
و قد تقدم بعض الكلام في هذا المعنى في ذيل قوله تعالى: «ليميز الله الخبيث من الطيب» الآية في الجزء التاسع من الكتاب، و سيأتي إن شاء الله تفصيل القول فيه فيما يناسبه من المورد.
و كيف كان فقوله: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة و من أوزار الذين يضلونهم بغير علم» اللام للغاية و هي متعلقة بقوله: «قالوا أساطير الأولين» و في قوله: «يضلونهم» دلالة على أن حملهم لأوزار غيرهم إنما هو من جهة إضلالهم فيعود الإضلال غاية و الحمل غاية الغاية، و التقدير قالوا أساطير الأولين ليضلوهم و هم أنفسهم ضالون فيحملوا أوزار أنفسهم كاملة و من أوزار أولئك الذين يضلونهم بغير علم.
و في تقييد قوله: «ليحملوا أوزارهم» بقوله «كاملة» دفع لتوهم التقسيم و التبعيض بأن يحملوا بعضا من أوزار أنفسهم و بعضا من أوزار الذين يضلونهم فيعود الجميع أوزارا كاملة بل يحملون أوزار أنفسهم كاملة ثم من أوزار الذين يضلونهم.
و قوله: «و من أوزار الذين يضلونهم» من تبعيضية لأنهم لا يحملون جميع أوزارهم بل أوزارهم التي ترتبت على إضلالهم خاصة بشهادة السياق فالتبعيض إنما هو لتمييز الأوزار المترتبة على الإضلال من غيرها لا للدلالة على تبعيض كل وزر من أوزار الإضلال و حمل بعضه على هذا و بعضه على ذاك و لا تقسيم مجموع أوزار الإضلال و حمل قسم منه على هذا و قسم منه على ذاك مع تعريته عن القسم الآخر فإن أمثال قوله تعالى: «و من يعمل مثقال ذرة شرا يره»: الزلزال: 8 تنافي ذلك فافهم.
و مما تقدم يظهر وهن ما استفاده بعضهم من قوله: «ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة» أن مقتضاه أنه لم ينقص منها شيء و لم تكفر بنحو بلية تصيبهم في الدنيا أو طاعة مقبولة فيها كما تكفر بذلك أوزار المؤمنين.
و كذا ما استفاده بعض آخر أن في الآية دلالة على أنه تعالى قد يسقط بعض العقاب عن المؤمنين إذ لو كان هذا المعنى حاصلا للكل لم يكن لتخصيص هؤلاء الكفار به فائدة.
وجه الوهن أن ما ذكراه من خزي الكافرين و إكرام المؤمنين و إن كان حقا في نفسه كما تدل عليه الآيات الدالة على خزي الكفار بما يصيبهم في الدنيا و حبط أعمالهم و شمول المغفرة و الشفاعة لطائفة من المؤمنين، لكن هذه الآية ليست ناظرة إلى شيء من ذلك بل العناية فيها إنما هي بالفرق بين أوزار أنفسهم و أوزار غيرهم الذين أضلوهم و أن الطائفة الثانية يلحقهم بعضها و هي التي ترتبت من الأوزار على الإضلال بخلاف الطائفة الأولى فهي لهم أنفسهم.
و أوهن منهما ما ذكره بعضهم أن «من» في قوله «و من أوزار الذين» إلخ زائدة أو بيانية، و هو كما ترى.
و تقييده سبحانه قوله: «يضلونهم» بقوله: «بغير علم» للدلالة على أن الذين أضلهم هؤلاء المشركون الذين قالوا: أساطير الأولين إنما ضلوا باتباعهم لهم تقليدا و بغير علم فالقائلون أئمة الضلال و هؤلاء الضلال أتباعهم و مقلدوهم ثم ختم سبحانه الآية بذمهم و تقبيح أمرهم جميعا فقال: «ألا ساء ما يزرون».
قوله تعالى: «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد» إلخ، إتيانه تعالى بنيانهم من القواعد هو حضور أمره تعالى عنده بعد ما لم يكن حاضرا، و هذا شائع في الكلام و خرور السقف سقوطه على الأرض و انهدامه.
و الظاهر - كما يشعر به السياق - أن قوله: «فأتى الله بنيانهم من القواعد فخر عليهم السقف من فوقهم» كناية عن إبطال كيدهم و إفساد مكرهم من حيث لا يتوقعون كمن يتقي أمامه و يراقبه فيأتيه العدو من خلفه فالله سبحانه يأتي بنيان مكرهم من ناحية قواعده و هم مراقبون سقفه مما يأتيه من فوق فينهدم عليهم السقف لا بهادم يهدمه من فوقه بل بانهدام القواعد.
و على هذا فقوله: «و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون» عطف تفسيري يفسر قوله: «فأتى الله بنيانهم» إلخ و المراد بالعذاب العذاب الدنيوي.
و في الآية تهديد للمشركين الذين كانوا يمكرون بالله و رسوله بتذكيرهم ما فعل الله بالماكرين من قبلهم من مستكبري الأمم الماضية حيث رد مكرهم إلى أنفسهم فكانوا هم الممكورين.
قوله تعالى: «ثم يوم القيامة يخزيهم و يقول أين شركائي الذين كنتم تشاقون فيهم» الإخزاء من الخزي و هو على ما ذكره الراغب الذل الذي يستحيى منه، و المشاقة من الشق و هو قطع بعض الشيء و فصله منه فهي المخاصمة و المعاداة و الاختلاف ممن من شأنه أن يأتلف و يتفق فمشاقة المشركين في شركائهم هو اختلافهم مع أهل التوحيد و هم أمة واحدة فطرهم الله جميعا على التوحيد و دين الحق و مخاصمتهم لهم و انفصالهم عنهم.
و المعنى: أن الله سبحانه سيخزيهم يوم القيامة و يضرب عليهم الذلة و الهوان بقوله: أين شركائي الذين كنتم تشاقون أهل الحق فيهم و تخاصمونهم و توجدون الاختلاف في دين الله.
قوله تعالى: «قال الذين أوتوا العلم إن الخزي اليوم و السوء على الكافرين» الخزي ذلة الموقف و السوء العذاب على ما يفيده السياق.
و هؤلاء الذين وصفهم الله بأنهم أوتوا العلم و أخبر أنهم يتكلمون بكذا هم الذين رزقوا العلم بالله و انكشفت لهم حقيقة التوحيد فإن ذلك هو الذي يعطيه السياق من جهة المقابلة بينهم مع وصفهم بالعلم و بين المشركين الذين ينكشف لهم يومئذ أنهم ما كانوا يعبدون إلا أسماء سموها و سرابا توهموه.
على أن الله سبحانه يخبر عنهم أنهم يتكلمون يومئذ و يقولون كذا و قد قال في وصف اليوم: «لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن و قال صوابا»: النبأ: 38 و القول لا يكون صوابا بحق المعنى إلا مع كون قائله مصونا من خطأه و لغوه و باطله، و لا يكون مصونا في قوله إلا إذا كان مصونا في فعله و في علمه فهؤلاء قوم لا يرون إلا الحق و لا يفعلون إلا الحق و لا ينطقون إلا بالحق.
فإن قلت: فالذين أوتوا العلم بناء على ما فسر، هم أهل العصمة لكن تدفعه كثرة ورود هذه اللفظة في كلامه تعالى و إرادة غيرهم كقوله: «و قال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير»: القصص: 80، و قوله: «و ليعلم الذين أوتوا العلم أنه الحق من ربك فيؤمنوا به»: الحج: 54 إلى غير ذلك من الموارد الظاهر فيها عدم إرادة العصمة من إيتاء العلم.
قلت: ما ذكرناه إنما هو استفادة بمئونة المقام لا أنه مدلول اللفظ كلما أطلق في كلامه تعالى.
و أما قولهم: إن المراد بالذين أوتوا العلم هم الأنبياء فقط أو الأنبياء و المؤمنون الذين علموا في الدنيا بدلائل التوحيد أو المؤمنون فحسب أو الملائكة فلا دليل في كلامه تعالى على واحد منها بخصوصه.
قوله تعالى: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم فألقوا السلم» إلى آخر الآية الظاهر أنه تفسير للكافرين الواقع في آخر الآية السابقة كما أن قوله الآتي: «الذين تتوفاهم الملائكة طيبين» إلخ، تفسير للمتقين الواقع في آخر الآية التي قبله، و لا يستلزم كونه بيانا للكافرين كونه من تمام قول الذين أوتوا العلم حتى يختل نظم الكلام بقولهم: «إن الخزي اليوم» إلخ، ثم بيانهم بقولهم: «الذين تتوفاهم الملائكة» إلخ دون أن يقولوا: الذين توفاهم الملائكة كما لا يخفى.
و قوله: «فألقوا السلم» أي الاستسلام و هو الخضوع و الانقياد، و ضمير الجمع للكافرين و المعنى الكافرون هم الذين تتوفاهم الملائكة و يقبضون أرواحهم و الحال أنهم ظالمون لأنفسهم بكفرهم بالله فألقوا السلم و قدموا الخضوع و الانقياد مظهرين بذلك أنهم ما كانوا يعملون من سوء، فيرد عليهم قولهم و يكذبون و يقال لهم: بلى قد فعلتم و عملتم إن الله عليم بما كنتم تعملون قبل ورودكم هذا المورد و هو الموت.
قوله تعالى: «فادخلوا أبواب جهنم خالدين فيها فلبئس مثوى المتكبرين» الخطاب للمجموع كما كان قوله: «إن الخزي اليوم و السوء على الكافرين» و كذا قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة» إلخ، ناظرا إلى جماعة الكافرين دون كل واحد واحد منهم.
و على هذا يعود معناه إلى مثل قولنا ليدخل كل واحد منكم بابا من جهنم يناسب عمله و موقفه من الكفر لا أن يدخل كل واحد منهم جميع الأبواب أو أكثر من واحد منها، و قد تقدم الكلام في معنى أبواب جهنم في تفسير قوله تعالى: «لها سبعة أبواب لكل باب منهم جزء مقسوم»: الحجر: 44.
و المتكبرون هم المستكبرون بحسب المصداق و إن كانت العناية اللفظية مختلفة فيهما كالمسلم و المستسلم فالمستكبر هو الذي يطلب الكبر لنفسه بإخراجه من القوة إلى الفعل و إظهاره لغيره و المتكبر هو الذي يقبله لنفسه و يأخذه صفة.
قوله تعالى: «و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم قالوا خيرا» إلى آخر الآية.
أخذ المسئول عنهم هم الذين اتقوا أي الذين شأنهم في الدنيا أنهم تلبسوا بالتقوى و هم المتصفون به المستمرون بدليل إعادة ذكرهم بعد بلفظ المتقين مرتين فيكون المسئول عنهم من هذه الطائفة خيارهم الكاملين في الإيمان كما كان المسئول عنهم في الطائفة الأخرى شرارهم الكاملين في الكفر و هم المستكبرون.
فقول بعضهم: إن المراد بالذين اتقوا مطلق المؤمنين الذين اتقوا الشرك أو الشرك و المعاصي في الجملة.
ليس في محله.
و قوله: «قالوا خيرا» أي أنزل خيرا لأنه أنزل قرآنا يتضمن معارف و شرائع في أخذها و العمل بها خير الدنيا و الآخرة و في قولهم: «خيرا» اعتراف بكون القرآن نازلا من عنده تعالى مضافا إلى وصفهم له بالخيرية و في ذلك إظهار منهم المخالفة للمستكبرين حيث أجابوا بقولهم: أساطير الأولين أي هو أساطير و لو قال المتقون: خير بالرفع لم يكن فيه اعتراف بالنزول كما أنه لو قال المستكبرون: أساطير الأولين بالنصب كان فيه اعتراف بالنزول.
كذا قيل.
و قوله: «للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة و لدار الآخرة خير» ظاهر السياق أنه بيان لقولهم: «خيرا» و هل هو تتمة قولهم أو بيان منه تعالى؟ ظاهر قوله: «و لنعم دار المتقين جنات عدن» إلى آخر الآية أنه كلام منه تعالى يبين به وجه الخيرية فيما أنزله إليهم فإنه أشبه بكلام الرب تعالى منه بكلام المربوب و خاصة المتقين الذين لا يجترءون على أمثال هذه الاقتراحات.
و المراد بالحسنة المثوبة الحسنة و ذلك لأنهم بالإحسان الذي هو العمل بما يتضمنه الكتاب يرزقون مجتمعا صالحا يحكم فيه العدل و الإحسان و عيشة طيبة مبنية على الرشد و السعادة ينالون ذلك جزاء دنيويا لإحسانهم لقوله: «لهم في الدنيا و لدار الحياة الآخرة خير جزاء لأن فيها بقاء بلا فناء و نعمة من غير نقمة و سعادة ليس معها شقاء.
و معنى الآية: و قيل للمتقين من المؤمنين ما ذا أنزل ربكم من الكتاب و ما شأنه؟ قالوا أنزل خيرا، و كونه خيرا هو أن للذين أحسنوا - أي عملوا بما فيه فوضع الإحسان موضع الأخذ و العمل بما في الكتاب إيماء إلى أن الذي يأمر به الكتاب أعمال حسنة - في هذه الدنيا مثوبة حسنة و لدار الآخرة خير لهم جزاء.
ثم مدح دارهم ليكون تأكيدا للقول فقال: «و لنعم دار المتقين» ثم بين دار المتقين بقوله: «جنات عدن يدخلونها تجري من تحتها الأنهار لهم فيها ما يشاءون كذلك يجزي الله المتقين» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون» بيان للمتقين كما كان قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» إلخ بيانا للمستكبرين.
و الطيب تعري الشيء مما يختلط به فيكدره و يذهب بخلوصه و محوضته يقال: طاب لي العيش أي خلص و تعرى مما يكدره و ينقصه و القول الطيب ما كان عاريا من اللغو و الشتم و الخشونة و سائر ما يوجب فيه غضاضة و الفرق بين الطيب و الطهارة أن الطهارة كون الشيء على طبعه الأصلي بحيث يخلو عما يوجب التنفر عنه و الطيب كونه على أصله من غير أن يختلط به ما يكدره و يفسد أمره سواء تنفر عنه أم لا و لذلك قوبل الطيب بالخبيث المشتمل على الخبث الزائد، قال تعالى: «الخبيثات للخبيثين و الخبيثون للخبيثات و الطيبات للطيبين و الطيبون للطيبات»: النور: 26، و قال: «و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا»: الأعراف: 58.
و على هذا فالمراد بكون المتقين طيبين في حال توفيهم خلوصهم من خبث الظلم في مقابل المستكبرين الذين وصفهم بالظلم حال التوفي في قوله السابق: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» و يكون معنى الآية أن المتقين هم الذين تتوفاهم الملائكة متعرين عن خبث الظلم - الشرك و المعاصي - يقولون لهم سلام عليكم - و هو تأمين قولي لهم - ادخلوا الجنة بما كنتم تعملون - و هو هداية لهم إليها -.
فالآية - كما ترى - تصف المتقين بالتخلص عن التلبس بالظلم و تعدهم الأمن و الاهتداء إلى الجنة فيعود مضمونها إلى معنى قوله: «الذين آمنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.
و ذكر بعض المفسرين أن المراد بالطيب في الآية الطهارة عن دنس الشرك و فسره بعضهم بكون أقوالهم و أفعالهم زاكية، و الأكثر على تفسيره بالطهارة عن قذارة الذنوب و أنت بالتأمل فيما تقدم تعرف أن شيئا مما ذكروه لا يخلو عن تسامح.
قوله تعالى: «هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك كذلك فعل الذين من قبلهم» إلخ، رجوع إلى حديث المستكبرين من المشركين و ذكر بعض أحوالهم و أقوالهم و قياسهم ممن سبقهم من طغاة الأمم الماضين و ما آل إليه أمرهم.
و قوله: «هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك» سياق الآية و خاصة ما في الآية التالية من حديث العذاب ظاهر في أنها مسوقة للتهديد فالمراد بإتيان الملائكة نزولهم لعذاب الاستئصال و ينطبق على مثل قوله: «ما ننزل الملائكة إلا بالحق و ما كانوا إذا منظرين»: الحجر: 8، و المراد بإتيان أمر الرب تعالى قيام الساعة و فصل القضاء و الانتقام الإلهي منهم.
و أما كون المراد بإتيان الأمر ما تقدم في أول السورة من قوله: «أتى أمر الله» و قد قربنا هناك أن المراد به مجيء النصر و ظهور الإسلام على الشرك فلا يلائم اللحن الشديد الذي في الآية تلك الملاءمة، و أيضا سيأتي في ذيل الآيات ذكر إنكارهم للبعث و إصرارهم على نفيه و الرد عليهم، و هو يؤيد كون المراد بإتيان الأمر قيام الساعة.
و قد أضاف الرب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «أمر ربك» و لم يقل: أمر الله أو أمر ربهم ليدل به على أن فيه انتصارا له (صلى الله عليه وآله وسلم) و قضاء له عليهم.
و قوله: «كذلك فعل الذين من قبلهم» تأكيد للتهديد و تأييد بالنظير أي فعل الذين من قبلهم مثل فعلهم من الجحود و الاستهزاء مما فيه بحسب الطبع انتظار عذاب الله «فأصابهم سيئات ما عملوا» إلخ.
و قوله: «و ما ظلمهم الله و لكن كانوا أنفسهم يظلمون» معترضة يبين بها أن الذي نزل بهم من العذاب لم يستوجبه إلا الظلم، غير أن هذا الظلم كان هو ظلمهم أنفسهم لا ظلما منه تعالى و تقدس، و لم يعذبهم الله سبحانه عن ظلم وقع منهم مرة أو مرتين بل أمهلهم إذ ظلموا حتى استمروا في ظلمهم و أصروا عليه - كما يدل عليه قوله: كانوا أنفسهم يظلمون - فعند ذلك أنزل عليهم العذاب، ففي قوله: «و ما ظلمهم الله» إلخ، إثبات الاستمرار على الظلم عليهم و نفي أصل الظلم عن الله سبحانه.
قوله تعالى: «فأصابهم سيئات ما عملوا و حاق بهم ما كانوا به يستهزءون» حاق بهم أي حل بهم، و قيل: معناه نزل بهم و أصابهم، و الذي كانوا به يستهزءون هو العذاب الذي كانت رسلهم ينذرونهم به و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا و لا حرمنا من دونه من شيء» إلخ، الذي تورده الآية شبهة على النبوة من الوثنيين المنكرين لها، و لذلك عرفهم بنعتهم الصريح حيث قال: «و قال الذين أشركوا» و لم يكتف بالضمير و لم يقل: و قالوا كما في الآيات السابقة ليعلم أن الشبهة لهم بعينهم.
و قوله: «لو شاء الله ما عبدنا» جملة شرطية حذف فيها مفعول «شاء» لدلالة الجزاء عليه، و التقدير لو شاء الله أن لا نعبد من دونه شيئا ما عبدنا إلخ.
و قول بعضهم: إن الإرادة و المشية لا تتعلق بالعدم و إنما تتعلق بالوجود، فلا معنى لمشية عدم العبادة فالأولى أن يقدر متعلق المشية أمرا وجوديا ملازما لعدم العبادة كالتوحيد مثلا و يكون التقديم لو شاء الله أن نوحده أو أن نعبده وحده ما عبدنا من دونه من شيء، و استدل بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ما شاء الله كان و ما لم يشأ لم يكن» حيث علق عدم الكون على عدم المشية لا على مشية العدم.
و فيه أن ما ذكره حق بالنظر إلى حقيقة الأمر، إلا أن العنايات اللفظية و التوسعات الكلامية لا تدور دائما مدار الحقائق الكونية و الأنظار الفلسفية و أن الأفهام البسيطة - و لم تكن أفهام أولئك الوثنيين بأرقى منها - كما تجيز ترتب الفعل الوجودي على المشية تجيز تعلق عدمه بها، و في كلامه (صلى الله عليه وآله وسلم) جريا على هذه العناية الظاهرية: «اللهم إن شئت أن لا تعبد لم تعبد».
على أنهم يشيرون بقولهم: «لو شاء الله ما عبدنا» إلخ، إلى قول الرسل لهم: لا تشركوا بالله و لا تعبدوا غير الله و لا تحرموا ما أحل الله و هي نواه و مدلول النهي طلب الترك.
على أن الوثنيين لا ينكرون توحيده تعالى في الألوهية بمعنى الصنع و الإيجاد، و إنما يشركون في العبادة بمعنى أنهم يخصونه تعالى بالصنع و الإيجاد و يخصون آلهتهم بالعبادة فلهم آلهة كثيرون أحدهم إله موجد غير معبود و هو الله سبحانه، و الباقون شفعاء معبودون غير موجدين فهم لا يعبدون الله أصلا لا أنهم يعبدونه تعالى و آلهتهم جميعا، و حينئذ لو كان التقدير «لو شاء الله أن نوحده في العبادة أو أن نعبده وحده» لكان الأهم أن يقع في الجزاء توحيدهم له في العبادة أو عبادتهم له وحده لا نفي عبادتهم لغيره أو كان نفي عبادة الغير كناية عن توحيد عبادته أو عبادته وحده، فافهم ذلك.
و إن كان و لا بد من تقدير متعلق المشية أمرا وجوديا فليكن التقدير: لو شاء الله أن نكف عن عبادة غيره ما عبدنا «إلخ» حتى يتحد الشرط و الجزاء بحسب الحقيقة في عين أنهما يختلفان في النفي و الإثبات.
و قوله: «ما عبدنا من دونه من شيء» لفظة من الأولى بيانية و الثانية زائدة لتأكيد الاستغراق في النفي، و المعنى ما عبدنا شيئا دونه، و نظير ذلك قوله: «و لا حرمنا من دونه من شيء».
و قوله: «نحن و لا آباؤنا» بيان لضمير التكلم في «عبدنا» للدلالة على أنهم يتكلمون عنهم و عن آبائهم جميعا لأنهم كانوا يقتدون في عبادة الأصنام بآبائهم، و قد تكرر في القرآن حكاية مثل قولهم: «إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مقتدون»: الزخرف: 23.
و قوله: «و لا حرمنا من دونه من شيء» عطف على قوله: «عبدنا» إلخ أي و لو شاء الله أن لا نحرم من دونه من شيء أو نحل ما حرمناه ما حرمنا إلخ، و المراد البحيرة و السائبة و غيرهما مما حرموه.
ثم إن قولهم: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» إلخ، ظاهر من جهة تعليق نفي العبادة على نفس مشيته تعالى في أنهم أرادوا بالمشية إرادته التكوينية التي لا تتخلف عن المراد البتة و لو أرادوا غيرها لقالوا: لو شاء الله كذا لأطعناه و استجبنا دعوته أو ما يفيد هذا المعنى.
فكأنهم يقولون: لو كانت الرسالة حقة و كان ما جاء به الرسل من النهي عن عبادة الأصنام و الأوثان و النهي عن تحريم البحيرة و السائبة و الوصيلة و غيرها نواهي لله سبحانه كان الله سبحانه شاء أن لا نعبد شيئا غيره و أن لا نحرم من دونه شيئا، و لو شاء الله سبحانه أن لا نعبد غيره و لا نحرم شيئا لم نعبد و لم نحرم لاستحالة تخلف مراده عن إرادته لكنا نعبد غيره و نحرم أشياء فليس يشاء شيئا من ذلك فلا نهي و لا أمر منه تعالى و لا شريعة و لا رسالة من قبله.
هذا تقرير حجتهم على ما يعطيه السياق، و مغزى مرادهم أن عبادتهم لغير الله و تحريمهم لما حرموه و بالجملة عامة أعمالهم لم تتعلق بها مشية من الله بنهي و لو تعلقت لم يعملوها ضرورة.
و ليسوا يعنون بها أن مشية الله تعلقت بعبادتهم و تحريمهم فصارت ضرورية الوجود و هم ملجئون في فعلها مجبرون في الإتيان بها فلا معنى لنهي الرسل عنها بعد الإلجاء و ذلك أن «لو» تفيد امتناع الجزاء لامتناع الشرط فيكون مفهوم الشرطية «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» أنه لم يشأ ذلك فعبدنا غيره، و إن شئت قلت: لكنا عبدنا غيره فانكشف أنه لم يشأ ذلك، و أما مثل قولنا: لكنه شاء أن نعبد غيره فعبدنا غيره أو قولنا: لكنه شاء أن لا نوحده فعبدنا غيره فهو أجنبي عن مفهوم الشرطية و منطوقها جميعا.
على أنهم لو عنوا ذلك و كان غرضهم رد النبوة بإثبات الإلجاء في أفعالهم بما أقاموه من الحجة كانوا بذلك معترفين على الضلال مسلمين له غير أنهم معتذرون عن اتباع الهدى الذي أتاهم به الرسل بالإلجاء و الإجبار و أن الله شاء منهم ما هم عليه من الضلال و الشقاء بعبادة غير الله و تحريم ما أحل الله و أجبرهم على ذلك فليسوا يقدرون على تركه و لا يستطيعون التخلف عنه.
لكنهم مدعون للاهتداء مصرون على هذه المزعمة مصرحون بها كما حكى الله سبحانه ذلك عنهم بعد ذكر عبادتهم للملائكة إذ قال: «و قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون - إلى أن قال - بل قالوا إنا وجدنا آباءنا على أمة و إنا على آثارهم مهتدون»: الزخرف: 22، و قد تكرر في كلامه حكاية تعليلهم عبادة الأصنام بأنها سنة قومية قدسها سلفهم قبل خلفهم فمن الواجب أن يقدسها و يجري عليها خلفهم بعد سلفهم و أين هذا من الاعتراف بالضلال و الشقاء؟.
و كذا ليسوا يعنون بهذه الحجة أن أعمالهم مخلوقة لأنفسهم غير مرتبطة بالمشية الإلهية و لا أنه خالقها إذ الأعمال و الأفعال على هذا التقدير بمعزل من أن تتعلق بها الإرادة الإلهية، و إنما يتسبب تعالى لعدم فعل من الأفعال بإيجاد المانع عنه فكان الأنسب حينئذ أن يقولوا: لو شاء الله لصرفنا عن عبادة غيره و تحريم ما حرمناه و هو مدفوع بظاهر الكلام أو يقولوا: لو شاء الله شيئا من أعمالنا لبطل و خرج عن كونه عملا لنا و نحن مستقلون به.
على أنه لو كان معنى قولهم: «لو شاء الله ما عبدنا هو أنه لو شاء لصرفنا كان حقا فلم يكن معنى لقوله تعالى في آية الزخرف السابقة: «و قالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون»: الزخرف: 20.
فالحق أنهم أرادوا بقولهم: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» أن يستدلوا بعبادتهم لها على أن المشية الإلهية لم تتعلق بتركها من غير تعرض لتعلق المشية بفعل العبادة أو لكون المشية مستحيلة التعلق بعبادتهم إلا بالصرف.
قوله تعالى: «كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين»، خطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأمره أن يبلغ رسالته بلاغا مبينا و لا يعتني بما لفقوه من الحجة فإنها داحضة و الحجة تامة عليهم بالبلاغ و فيه إشارة إجمالية إلى دحض حجتهم.
فقوله: «كذلك فعل الذين من قبلهم» أي على هذا الطريق الذي سلكه هؤلاء سلك الذين من قبلهم فعبدوا غير الله و حرموا ما لم يحرمه الله ثم إذا جاءتهم رسلهم ينهونهم عن ذلك قالوا: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن و لا آباؤنا و لا حرمنا من دونه من شيء فالجملة كقوله تعالى: «كدأب آل فرعون و الذين من قبلهم كفروا بآيات الله فأخذهم الله بذنوبهم»: الأنفال: 52.
و قوله: «فهل على الرسل إلا البلاغ المبين» أي بلغهم الرسالة بلاغا مبينا تتم به الحجة عليهم فإنما وظيفة الرسل البلاغ المبين و ليس من وظيفتهم أن يلجئوا الناس إلى ما يدعونهم إليه و ينهونهم عنه و لا أن يحملوا معهم إرادة الله الموجبة التي لا تتخلف عن المراد و لا أمره الذي إذا أراد شيئا قال له كن فيكون حتى يحولوا بذلك الكفر إلى الإيمان و يضطروا العاصي على الإطاعة.
فإنما الرسول بشر مثلهم و الرسالة التي بعث بها إنذار و تبشير و هي مجموعة قوانين اجتماعية أوحاها إليه الله فيها صلاح الناس في دنياهم و آخرتهم صورتها صورة الأوامر و النواهي المولوية و حقيقتها الإنذار و التبشير، قال تعالى: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب و لا أقول لكم إني ملك»: الأنعام: 50، فهذا ما أمر به نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغهم و قد أمر به نوحا و من بعده من الرسل (عليهم السلام) أن يبلغوه أممهم كما في سورة هود و غيرها.
و قال أيضا مخاطبا نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا و لا يشرك بعبادة ربه أحدا»: الكهف: 110.
فهذا هو الذي يشير إليه على سبيل الإجمال بقوله: «كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين» فإن ظاهره كما أشرنا إليه سابقا أن هذه حجة دائرة بينهم قديما و حديثا، و على هذا ليس من شأن الرسول إجبار الناس و إلجائهم على الإيمان و الطاعة بل البلاغ المبين بالإنذار و التبشير و حجتهم لا تدفع ذلك فبلغ ما أرسلت به بلاغا مبينا و لا تطمع في هداية من ضل منهم، و ستفصل الآيتان التاليتان ما أجملته هذه الآية و توضحانها.
قوله تعالى: «و لقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت فمنهم من هدى الله و منهم من حقت عليه الضلالة» إلخ، الطاغوت في الأصل مصدر كالطغيان و هو تجاوز الحد بغير حق، و اسم المصدر منه الطغوى، قال الراغب: الطاغوت عبارة عن كل متعد و كل معبود من دون الله، و يستعمل في الواحد و الجمع، قال تعالى: «فمن يكفر بالطاغوت» «و اجتنبوا الطاغوت» «أولياؤهم الطاغوت».
انتهى.
و قوله: «و لقد بعثنا في كل أمة رسولا» إشارة إلى أن بعث الرسول أمر لا يختص به أمة دون أمة بل هو سنة إلهية جارية في جميع الناس بما أنهم في حاجة إليه و هو يدركهم أينما كانوا كما أشار إلى عمومه في الآية السابقة إجمالا بقوله: «كذلك فعل الذين من قبلهم».
و قوله: «أن اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت» بيان لبعث الرسول على ما يعطيه السياق أي ما كانت حقيقة بعث الرسول إلا أن يدعوهم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت لأن الأمر و كذا النهي من البشر و خاصة إذا كان رسولا ليس إلا دعوة عادية لا إلجاء و اضطرارا تكوينيا، و لا أن للرسول أن يدعي ذلك حتى يرد عليه أنه لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء و إذ لم يشأ فلا معنى للرسالة.
و من هنا يظهر أن قول بعضهم إن التقدير ليقول لهم: اعبدوا الله و اجتنبوا الطاغوت.
ليس في محله.
و قوله: «فمنهم من هدى الله و منهم من حقت عليه الضلالة» أي كانت كل من هذه الأمم مثل هذه الأمة منقسمة إلى طائفتين فبعضهم هو من هداه الله إلى ما دعاهم إليه الرسول من عبادة الله و اجتناب الطاغوت.
و ذلك أن الهداية من الله سبحانه لا يشاركه فيها غيره و لا تنسب إلى أحد دونه إلا بالتبع كما قال: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56 و سنشير إليه في الآية التالية: «إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل» و الآيات في حصر الهداية فيه تعالى كثيرة، و لا يستلزم ذلك كونها أمرا اضطراريا لا صنع فيه للعبد أصلا فإنها اختيارية بالمقدمة كما يشير إليه قوله: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت: 69 يفيد أن للهداية الإلهية طريقا ميسرا للإنسان و هو الإحسان في العمل و إن الله لمع المحسنين لا يدعهم يضلون.
و بعض هذه الأمم - الطائفة الثانية منهم - هو من حقت عليه الضلالة أي ثبتت و لزمت، و هذه الضلالة هي التي من قبل العبد بسوء اختياره و ليس بالتي تتبعها مجازاة من الله فإن الله يصفها بقوله: حقت ثم يضيفها في الآية التالية إلى نفسه إذ يقول: «فإن الله لا يهدي من يضل» فقد كانت هناك ضلالة ثم حقت و ثبتت بإثبات الله مجازاة فصارت هي التي من قبل الله سبحانه مجازاة، فتبصر.
و لم ينسب الله سبحانه في كلامه إلى نفسه إضلالا إلا ما كان مسبوقا بظلم من العبد أو فسق أو كفر و تكذيب أو نظائرها كقوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الجمعة: 5 و عدم الهداية هو الإضلال، و قوله: «و يضل الله الظالمين و يفعل الله ما يشاء»: إبراهيم: 27، و قوله: «و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26، و قوله: «إن الذين كفروا و ظلموا لم يكن الله ليغفر لهم و لا ليهديهم طريقا إلا طريق جهنم»: النساء: 168، و قوله: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم»: الصف: 5، إلى غير ذلك من الآيات.
و لم يقل سبحانه: فمنهم من هدى الله و منهم من أضله مع كون ضلالهم ضلال مجازاة لا مانع من إضافته إليه تعالى دفعا لإيهام نسبة أصل الضلال إليه بل ذكر أولا من هداه ثم قابله بمن كان من حقه أن يضل - و هو الذي اختار الضلالة على الهدى أي اختار أن لا يهتدي - فلم يهده الله و حق له ذلك.
و توضيحه ببيان آخر: أن خلاصة الفرق بين الضلال الابتدائي و نسبته إلى العبد و الضلال مجازاة و نسبته إليه تعالى و نسبة الهداية ابتداء و مجازاة إلى الله سبحانه هي أن الله أودع في الإنسان إمكان الرشد و استعداد الاهتداء فإن جرى على سلامة الفطرة و لم يبطل الاستعداد باتباع الهوى و المعصية أو أصلحه بالندامة و التوبة بعد المعصية هداه الله، و هذه هداية مجازاة من الله سبحانه بعد الهداية الأولى الفطرية.
و إن اتبع هواه و عصى ربه بطل استعداده للاهتداء فلم يفض عليه الهدى و هو ضلاله بسوء اختياره فإن لم يندم و لم يراجع أثبته الله على حاله و حقت عليه الضلالة و هو الضلال مجازاة.
و ربما توهم متوهم أن الإمكان و الاستعداد لا يكون إلا ذا طرفين فالذي يمكنه الهدى يمكنه الضلال و الإنسان لا يزال مترددا بين آثار وجودية و أفعال مثبتة و الجميع منه تعالى حتى الاستعداد و الإمكان الأول.
و هو من أوهن التوهم فإن عد إمكان الضلال و ما يترتب عليه الضلال أمرا وجوديا و عطاء ربانيا يفسد معنى الضلال و يبطله فإن الضلال إنما هو ضلال لكونه عدم الهداية فلو عاد أمرا ثبوتيا لم يكن ضلالا بل صار الهدى و الضلال كلاهما أمرين وجوديين و عطاءين إلهيين نظير ما يترتب على الجماد مثلا من الآثار الوجودية الخارجة عن الهدى و الضلال.
و بعبارة أخرى: الضلال إنما يكون ضلالا إذا كان مقيسا إلى الهدى و من الواجب حينئذ أن يكون عدم الهدى و إذا أخذ أمرا وجوديا لم يكن ضلالا فلم ينقسم الموضوع إلى مهتد و ضال و لا حاله إلى هدى و ضلال فلا مفر من أخذ الضلال أمرا عدميا، و نسبة الضلال الأول إلى نفس العبد.
فأحسن التأمل فيه فلا تزل قدم بعد ثبوتها.
و قوله: «فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين» ظاهر السياق أن الخطاب للذين أشركوا القائلين: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» و الالتفات إلى خطابهم لكونه أشد تأثيرا في تثبيت القول و إتمام الحجة.
و الكلام متفرع على ما بين جوابا لحجتهم إجمالا و تفصيلا و محصل المعنى أن الرسالة و الدعوة النبوية ليست من الإرادة التكوينية الملجئة إلى ترك عبادة الأصنام و تحريم ما لم يحرمه الله حتى يستدلوا بعدم وجود الإلجاء على عدم وجود الرسالة و كذب مدعيها بل هي دعوة عادية بعث الله سبحانه بها رسلا يدعونكم إلى عبادة الله و اجتناب الطاغوت و حقيقته الإنذار و التبشير، و من الدليل على ذلك آثار الأمم الماضية الظالمة التي تحكي عن نزول العذاب عليهم فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين حتى يتبين لكم أن الدعوة النبوية التي هي إنذار حق و أن الرسالة ليست كما تزعمون.
قوله تعالى: «إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل و ما لهم من ناصرين» لما بين أن الأمم الماضين انقسموا طائفتين و كانت إحدى الطائفتين هم الذين حقت عليهم الضلالة و كانت هؤلاء الذين أشركوا و قالوا ما قالوا كالذين من قبلهم منهم بين في هذه الآية أن ثبوت الضلالة في حقهم إنما هو ثبوت لا زوال معه و تحتم لا يقبل التغيير فإنه لا هادي بالحقيقة إلا الله فإن جاز هداهم كان الله هو هاديهم لكنه لا يهديهم فإنه يضلهم و لا يجتمع الهدى و الضلال معا، و ليس هناك ناصر ينصرهم على الله فيقهره على هداهم فليؤيس منهم.
ففي الآية تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إرشاد له أن لا يحرص في هداهم و إعلام له أن القضاء قد مضى في حقهم و ما يبدل القول لديه و ما هو بظلام للعبيد.
فقوله: «إن تحرص على هداهم» إلخ، في تقدير إن تحرص على هداهم لم ينفعهم حرصك شيئا فليسوا ممن يمكن له الاهتداء فإن الله هو الذي يهدي من اهتدى، و هو لا يهديهم فإنه يضلهم و لا يناقض تعالى فعل نفسه، و ليس لهم ناصرون ينصرونهم عليه.
و في هذه الآيات الثلاث مشاجرات طويلة بين المجبرة و المفوضة و كل يفسرها بما يقتضيه مذهبه حتى قال الإمام الرازي: إن المشركين أرادوا بقولهم: لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء إلخ، أنه لما كان الكل من التوحيد و الشرك و الهدى و الضلال من الله كانت بعثة الأنبياء عبثا فنقول: هذا اعتراض على الله و جار مجرى طلب العلة في أحكامه و أفعاله تعالى و ذلك باطل فلا يقال له: لم فعلت هذا و لم لم تفعل ذلك؟.
قال: فثبت أن الله تعالى إنما ذم هؤلاء القائلين لأنهم اعتقدوا أن كون الأمر كذلك يمنع عن جواز بعثة الرسل لا لأنهم كذبوا في قولهم ذلك.
انتهى ملخصا.
و قال الزمخشري إن المشركين فعلوا ما فعلوا من القبيح ثم نسبوه إلى ربهم و قالوا لو شاء الله إلى آخره و هذا مذهب المجبرة بعينه كذلك فعل أسلافهم فهل على الرسل إلا أن يبلغوا الحق و أن الله لا يشاء الشرك و المعاصي بالبيان و البرهان، و يطلعوا على بطلان الشرك و قبحه، و براءة الله من أفعال العباد، و أنهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و أن الله باعثهم على جميلها و موفقهم له و زاجرهم عن قبيحها و موعدهم عليه، انتهى موضع الحاجة و قد أطالوا البحث عن ذلك من الجانبين.
و قد عرفت أن الآيات تروم غرضا وراء ذلك، و أن مرادهم بقولهم: «لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» إلخ، إبطال الرسالة بأن ما أتى به الرسل من النهي عن عبادة غير الله و تحريم ما لم يحرمه الله لو كان حقا لكان الله مريدا لتركهم عبادة غيره و تحريم ما لم يحرمه و لو كان مريدا ذلك لم يتحقق منهم و ليس كذلك، و أما أن الإرادة الإلهية تعلقت بفعلهم فوجب أو أنها لم تتعلق و من المحال أن تتعلق و ليست أفعالهم إلا مخلوقة لأنفسهم من غير أن يكون لله سبحانه فيها صنع فإنما ذلك أمر خارج عن مدلول كلامهم أجنبي عن الحجة التي أقاموها على ما يستفاد من السياق كما تقدم.
و في قوله: «و ما لهم من ناصرين» دلالة على أن لغيرهم ناصرين كثيرين و ذلك أن السياق يدل على أنه ليس لهم ناصر أصلا لا واحد و لا كثير فنفي الناصرين بصيغة الجمع يكشف عن عناية زائدة بذلك أي أن هناك ناصرين لكنهم ليسوا لهم بل لغيرهم و ليس إلا من يهتدي بهدى الله، و نظير الآية ما حكاه الله سبحانه عن المجرمين يوم القيامة: «فما لنا من شافعين»: الشعراء: 100.
و هؤلاء الناصرون هم الملائكة الكرام و سائر أسباب التوفيق و الهداية و الله سبحانه من ورائهم محيط، قال تعالى: «إنا لننصر رسلنا و الذين آمنوا في الحياة الدنيا و يوم يقوم الأشهاد»: المؤمن: 51.
قوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت بلى» إلى آخر الآية، قال في المفردات: الجهد - بفتح الجيم و ضمها - الطاقة، و المشقة أبلغ من الجهد بالفتح، قال: و قال تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم» أي حلفوا و اجتهدوا في الحلف أن يأتوا به على أبلغ ما في وسعهم.
انتهى.
و قال في المجمع في معنى قوله: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم» أي بلغوا في القسم كل مبلغ.
انتهى.
و قولهم: «لا يبعث الله من يموت» إنكار للحشر، و الجملة كناية عن أن الموت فناء فلا يتعلق به بعده خلق جديد، و هذا لا ينافي قول كلهم أو جلهم بالتناسخ فإنه قول بتعلق النفس بعد مفارقتها البدن ببدن آخر إنساني أو غير إنساني و عيشها في الدنيا، و هو قولهم بالتولد بعد التولد.
و قوله: «بلى وعدا عليه حقا» أي ليس الأمر كما يقولون بل يبعث الله من يموت وعده وعدا ثابتا عليه حقا أي إن الله سبحانه أوجبه على نفسه بالوعد الذي وعد عباده، و أثبته إثباتا فلا يتخلف و لا يتغير.
و قوله: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون» أي لا يعلمون أنه من الوعد الذي لا يخلف و القضاء الذي لا يتغير لإعراضهم عن الآيات الدالة عليه الكاشفة عن وعده و هي خلق السماوات و الأرض و اختلاف الناس بالظلم و الطغيان و العدل و الإحسان و التكليف النازل في الشرائع الإلهية.
قوله تعالى: «ليبين لهم الذي يختلفون فيه و ليعلم الذين كفروا أنهم كانوا كاذبين» اللام للغاية و الغرض أي يبعث الله من يموت ليبين لهم إلخ، و الغايتان في الحقيقة غاية واحدة فإن الثانية من متفرعات الأولى و لوازمها فإن الكافرين إنما يعلمون أنهم كانوا كاذبين في نفي المعاد من جهة تبين الاختلاف الذي ظهر بينهم و بين الرسل بسبب إثبات المعاد و نفيه و ظهور المعاد لهم عيانا.
و تبين ما اختلف فيه الناس من شئون يوم القيامة، و قد تكرر في كلامه هذا التعبير و ما في معناه تكرارا صح معه جعل تبيين الاختلاف معرفا لهذا اليوم الذي ثقل في السماوات و الأرض و على ذلك يتفرع ما قصه الله سبحانه في كلامه من تفاصيل ما يجري فيه من المرور على الصراط و تطاير الكتب و وزن الأعمال و السؤال و الحساب و فصل القضاء.
و من المعلوم - و خاصة من سياق آيات القيامة - أن المراد بالاختلاف ليس ما يوجد بينهم بحسب الخلقة بنحو ذكورة و أنوثة و طول و قصر و بياض و سواد بل ما يوجد في دين الحق من الاختلاف في اعتقاد أو عمل.
و قد بين الله ذلك لهم في هذه النشأة الدنيوية في كتبه المنزلة و بلسان أنبيائه بكل طريق ممكن كما يقول بعد عدة آيات: «و ما أنزلنا عليك الكتاب إلا لتبين لهم الذي اختلفوا فيه»: الآية: 64 من السورة.
و من هنا يظهر للمتدبر أن البيان الذي يخبر تعالى عنه و يخصه بيوم القيامة نوع آخر من الظهور و الوضوح غير ما يتمشى من الكتاب و النبوة في هذه الدنيا من البيان بالحكمة و الموعظة و الجدال بالتي هي أحسن، و ليس إلا العيان الذي لا يتطرق إليه شك و ارتياب و لا يهجس معه خطور نفساني بالخلاف كما يشير إليه قوله تعالى: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»: ق: 22، و قوله: «يومئذ يوفيهم الله دينهم الحق و يعلمون أن الله هو الحق المبين»: النور: 25.
فيومئذ يشاهدون حقائق ما اختلفوا فيه من المعارف الدينية الحقة و الأعمال الصالحة و ما أخلدوا إليه من الباطل و يفصل بينهم بظهور الحق و انجلائه.
قوله تعالى: «إنما قولنا لشيء إذا أردناه أن نقول له كن فيكون» هو نظير قوله في موضع آخر: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82، و منه يعلم أنه تعالى يسمي أمره قولا كما يسمي أمره و قوله من حيث قوته و إحكامه و خروجه عن الإبهام و كونه مرادا حكما و قضاء، قال تعالى: «و ما أغنى عنكم من الله من شيء إن الحكم إلا لله»: يوسف: 67، و قال: «و قضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين»: الحجر: 66، و قال: «و إذا قضى أمرا فإنما يقول له كن فيكون»: البقرة: 117، و كما يسمي قوله الخاص كلمة، قال تعالى: «و لقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون»: الصافات: 172، و قال: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59، ثم قال في عيسى (عليه السلام): «و كلمة ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء: 171.
فتحصل من ذلك كله أن إيجاده تعالى أعني ما يفيضه على الأشياء من الوجود من عنده - و هو بوجه نفس وجود الشيء الكائن - هو أمره و قوله حسب ما يسميه القرآن و كلمته لكن الظاهر أن الكلمة هي القول باعتبار خصوصيته و تعينه.
و يتبين بذلك أن إرادته و قضاءه واحد، و أنه بحسب الاعتبار متقدم على القول و الأمر فهو سبحانه يريد شيئا و يقضيه ثم يأمره و يقول له كن فيكون، و قد علل عدم تخلف الأشياء عن أمره بألطف التعليل إذ قال: «و هو الذي خلق السماوات و الأرض بالحق و يوم يقول كن فيكون قوله الحق»: الأنعام: 73، فأفاد أن قوله هو الحق الثابت بحقيقة معنى الثبوت أي نفس العين الخارجية التي هي فعله فلا معنى لفرض التخلف فيه و عروض الكذب أو البطلان عليه فمن الضروري أن الواقع لا يتغير عما هو عليه فلا يخطىء و لا يغلط في فعله، و لا يرد أمره، و لا يكذب قوله و لا يخلف في وعده.
و قد تبين أيضا من هذه الآية و من قوله: «و قال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء» إلخ، أن لله سبحانه إرادتين إرادة تكوين لا يتخلف عنها المراد، و إرادة تشريع يمكن أن تعصى و تطاع، و سنستوفي هذا البحث بعض الاستيفاء إن شاء الله.
بحث روائي
في تفسير القمي، بإسناده عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «قد مكر الذين من قبلهم فأتى الله بنيانهم من القواعد - فخر عليهم السقف من فوقهم - و أتاهم العذاب من حيث لا يشعرون» قال: بيت مكرهم أي ماتوا و أبقاهم الله في النار و هو مثل لأعداء آل محمد.
أقول: و ظاهره أن قوله: «فأتى الله بنيانهم» إلخ كناية عن بطلان مكرهم.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: فأتى الله بنيانهم من القواعد» قال: كان بيت غدر يجتمعون فيه إذا أرادوا الشر.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «قال الذين أوتوا العلم» الآية قال: قال (عليه السلام): الذين أوتوا العلم الأئمة يقولون لأعدائهم: أين شركاؤكم و من أطعتموهم في الدنيا؟ ثم قال: قال: فهم أيضا الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم «فألقوا السلم» سلموا لما أصابهم من البلاء ثم يقولون: «ما كنا نعمل من سوء» فرد الله عليهم فقال: «بلى»، إلخ.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن أبي إسحاق الهمداني عن أمير المؤمنين (عليه السلام): فيما كتبه إلى أهل مصر قال: يا عباد الله إن أقرب ما يكون العبد من المغفرة و الرحمة حين يعمل بطاعته و ينصح في توبته. عليكم بتقوى الله فإنها يجمع الخير و لا خير غيرها و يدرك بها من خير الدنيا و خير الآخرة، قال عز و جل: «و قيل للذين اتقوا ما ذا أنزل ربكم - قالوا خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة - و لدار الآخرة خير و لنعم دار المتقين».
و في تفسير العياشي، عن ابن مسكان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «و لنعم دار المتقين» قال الدنيا.
و في تفسير القمي،: في قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة طيبين» قال: قال (عليه السلام) هم المؤمنون الذين طابت مواليدهم في الدنيا.
أقول: و هو بالنظر إلى ما يقابله من قوله: «الذين تتوفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم» الآية لا يخلو عن خفاء و الرواية ضعيفة.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمعت قريش فقالوا: إن محمدا رجل حلو اللسان إذا كلمه الرجل ذهب بعقله فانظروا أناسا من أشرافكم المعدودين المعروفة أنسابهم فابعثوهم في كل طريق من طرق مكة على رأس كل ليلة أو ليلتين فمن جاء يريده فردوه عنه. فخرج ناس منهم في كل طريق فكان إذا أقبل الرجل وافدا لقومه ينظر ما يقول محمد؟ فينزل بهم قالوا له: أنا فلان بن فلان فيعرفه بنسبه و يقول: أنا أخبرك بمحمد فلا يريد أن يعني إليه هو رجل كذاب لم يتبعه على أمره إلا السفهاء و العبيد و من لا خير فيه و أما شيوخ قومه و خيارهم فمفارقون له فيرجع أحدهم فذلك قوله: «و إذا قيل لهم ما ذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين». فإذا كان الوافد ممن عزم الله له على الرشاد فقالوا له مثل ذلك في محمد قال: بئس الوافد أنا لقومي إن كنت جئت حتى بلغت إلا مسيرة يوم رجعت قبل أن ألقى هذا الرجل و أنظر ما يقول و آتي قومي ببيان أمره فيدخل مكة فيلقى المؤمنين فيسألهم: ما ذا يقول محمد؟ فيقولون: خيرا للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة يقول مال و لدار الآخرة خير و هي الجنة.
أقول: و الاعتبار يساعد على القصة و ما في آخرها من تفسير الحسنة بالمال غير مرضي.
و في الكافي، بإسناده عن صفوان بن يحيى قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام): أخبرني عن الإرادة من الله و من الخلق. قال: فقال: الإرادة من الخلق الضمير و ما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، و أما من الله تعالى فإرادته إحداثه لا غير ذلك لأنه لا يروي و لا يهم و لا يتفكر، و هذه الصفات منفية عنه و هي صفات الخلق فإرادة الله الفعل لا غير ذلك يقول له كن فيكون بلا لفظ و لا نطق بلسان و لا همة و لا تفكر و لا كيف لذلك كما أنه لا كيف له.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و الترمذي و حسنه و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان و اللفظ له عن أبي ذر عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يقول الله: يا بن آدم كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم و كلكم فقراء إلا من أغنيت فسلوني أعطكم، و كلكم ضال إلا من هديت فسلوني الهدى أهدكم و من استغفرني و هو يعلم أني ذو قدرة على أن أغفر له غفرت له و لا أبالي. و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أشقى واحد منكم ما نقص ذلك من سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم اجتمعوا على قلب أتقى واحد منكم ما زادوا في سلطاني مثل جناح بعوضة، و لو أن أولكم و آخركم و حيكم و ميتكم و رطبكم و يابسكم سألوني حتى تنتهي مسألة كل واحد منهم فأعطيتهم ما سألوني ما نقص ذلك مما عندي كغرز إبرة لو غمسها أحدكم في البحر. و ذلك أني جواد ماجد واحد عطائي كلام و عذابي كلام إنما أمري لشيء إذا أردته أن أقول له كن فيكون.
|