بيان
قوله تعالى: و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه، الرغبة إذا عديت بعن أفادت معنى الإعراض و النفرة، و إذا عديت بفي أفادت: معنى الشوق و الميل، و سفه يأتي متعديا و لازما، و لذلك ذكر بعضهم أن قوله: نفسه مفعول لقوله: سفه، و ذكر آخرون أنه تمييز لا مفعول، و المعنى على أي حال: أن الإعراض عن ملة إبراهيم من حماقة النفس، و عدم تمييزها ما ينفعها مما يضرها و من هذه الآية يستفاد معنى ما ورد في الحديث: أن العقل ما عبد به الرحمن.
قوله تعالى: و لقد اصطفيناه في الدنيا، الاصطفاء أخذ صفوة الشيء و تمييزه عن غيره إذا اختلطا، و ينطبق هذا المعنى بالنظر إلى مقامات الولاية على خلوص العبودية و هو أن يجري العبد في جميع شئونه على ما يقتضيه مملوكيته و عبوديته من التسليم الصرف لربه، و هو التحقق بالدين في جميع الشئون فإن الدين لا يشتمل إلا على مواد العبودية في أمور الدنيا و الآخرة و تسليم ما يرضاه الله لعبده في جميع أموره كما قال الله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19، فظهر: أن مقام الاصطفاء هو مقام الإسلام بعينه و يشهد بذلك قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين» الآية فإن الظاهر أن الظرف متعلق بقوله: اصطفيناه، فيكون المعنى أن اصطفاءه إنما كان حين قال له ربه: أسلم، فأسلم لله رب العالمين فقوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين، بمنزلة التفسير لقوله: اصطفيناه.
و في الكلام التفات من التكلم إلى الغيبة في قوله: إذ قال له ربه أسلم، و لم يقل إذ قلنا له أسلم، و التفات آخر من الخطاب إلى الغيبة في المحكي من قول إبراهيم: قال أسلمت لرب العالمين، و لم يقل: قال أسلمت لك أما الأول، فالنكتة فيه الإشارة إلى أنه كان سرا استسر به ربه إذ أسره إليه فيما خلى به معه فإن للسامع المخاطب اتصالا بالمتكلم فإذا غاب المتكلم عن صفة حضوره انقطع المخاطب عن مقامه و كان بينه و بين ما للمتكلم من الشأن و القصة ستر مضروب، فأفاد أن القصة من مسامرات الأنس و خصائص الخلوة.
و أما الثاني فلأن قوله تعالى: إذ قال له ربه، يفيد معنى الاختصاص باللطف و الاسترسال في المسارة لكن أدب الحضور كان يقتضي من إبراهيم و هو عبد عليه طابع الذلة و التواضع أن لا يسترسل، و لا يعد نفسه مختصا بكرامة القرب متشرفا بحظيرة الأنس، بل يراها واحدا من العبيد الأذلاء المربوبين، فيسلم لرب يستكين إليه جميع العالمين فيقول: أسلمت لرب العالمين.
و الإسلام و التسليم و الاستسلام بمعنى واحد، من السلم، و أحد الشيئين إذا كان بالنسبة إلى الآخر بحال لا يعصيه و لا يدفعه فقد أسلم و سلم و استسلم له، قال تعالى «بلى من أسلم وجهه لله»: البقرة - 112، و قال تعالى: «وجهت وجهي للذي فطر السموات و الأرض حنيفا مسلما»: الأنعام - 79، و وجه الشيء ما يواجهك به، و هو بالنسبة إليه تعالى تمام وجود الشيء، فإسلام الإنسان له تعالى هو وصف الانقياد و القبول منه لما يرد عليه من الله سبحانه من حكم تكويني، من قدر و قضاء، أو تشريعي من أمر أو نهي أو غير ذلك، و من هنا كان له مراتب بحسب ترتب الواردات بمراتبها.
الأولى: من مراتب الإسلام، القبول لظواهر الأوامر و النواهي بتلقي الشهادتين لسانا، سواء وافقه القلب، أو خالفه، قال تعالى: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم»: الحجرات - 14، و يتعقب الإسلام بهذا المعنى أول مراتب الإيمان و هو الإذعان القلبي بمضمون الشهادتين إجمالا و يلزمه العمل في غالب الفروع.
الثانية: ما يلي الإيمان بالمرتبة الأولى، و هو التسليم و الانقياد القلبي لجل الاعتقادات الحقة التفصيلية و ما يتبعها من الأعمال الصالحة و إن أمكن التخطي في بعض الموارد، قال الله تعالى في وصف المتقين: «الذين آمنوا بآياتنا و كانوا مسلمين»: الزخرف - 69، و قال أيضا: «يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة»: البقرة - 208، فمن الإسلام ما يتأخر عن الإيمان محققا فهو غير المرتبة الأولى من الإسلام، و يتعقب هذا الإسلام المرتبة الثانية من الإيمان و هو الاعتقاد التفصيلي بالحقائق الدينية، قال تعالى: «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا في سبيل الله بأموالهم و أنفسهم أولئك هم الصادقون»: الحجرات - 15، و قال أيضا: «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم، تؤمنون بالله و رسوله، و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم»: الصف - 11، و فيه إرشاد المؤمنين إلى الإيمان، فالإيمان غير الإيمان.
الثالثة: ما يلي الإيمان بالمرتبة الثانية فإن النفس إذا أنست بالإيمان المذكور و تخلقت بأخلاقه تمكنت منها و انقادت لها سائر القوى البهيمية و السبعية، و بالجملة القوى المائلة إلى هوسات الدنيا و زخارفها الفانية الداثرة، و صار الإنسان يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله يراه، و لم يجد في باطنه و سره ما لا ينقاد إلى أمره و نهيه أو يسخط من قضائه و قدره، قال الله سبحانه: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء - 65، و يتعقب هذه المرتبة من الإسلام المرتبة الثالثة من الإيمان، قال الله تعالى «قد أفلح المؤمنون» إلى أن قال: «و الذين هم عن اللغو معرضون»: المؤمنون - 3، و منه قوله تعالى: «إذ قال له ربه أسلم، قال أسلمت لرب العالمين» إلى غير ذلك، و ربما عدت المرتبتان الثانية و الثالثة مرتبة واحدة.
و الأخلاق الفاضلة من الرضاء و التسليم، و الحسبة و الصبر في الله، و تمام الزهد و الورع، و الحب و البغض في الله، من لوازم هذه المرتبة.
الرابعة: ما يلي، المرتبة الثالثة من الإيمان فإن حال الإنسان و هو في المرتبة السابقة مع ربه حال العبد المملوك مع مولاه، إذ كان قائما بوظيفة عبوديته حق القيام، و هو التسليم الصرف لما يريده المولى أو يحبه و يرتضيه، و الأمر في ملك رب العالمين لخلقه أعظم من ذلك و أعظم و إنه حقيقة الملك الذي لا استقلال دونه لشيء من الأشياء لا ذاتا و لا صفة، و لا فعلا على ما يليق بكبريائه جلت كبرياؤه.
فالإنسان - و هو في المرتبة السابقة من التسليم - ربما أخذته العناية الربانية فأشهدت له أن الملك لله وحده لا يملك شيء سواه لنفسه شيئا إلا به لا رب سواه، و هذا معنى وهبي، و إفاضة إلهية لا تأثير لإرادة الإنسان فيه، و لعل قوله تعالى: ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك، و أرنا مناسكنا، الآية، إشارة إلى هذه المرتبة من الإسلام فإن قوله تعالى: إذ قال له ربه أسلم، قال، أسلمت لرب العالمين الآية ظاهره أنه أمر تشريعي لا تكويني، فإبراهيم كان مسلما باختياره، إجابة لدعوة ربه و امتثالا لأمره، و قد كان هذا من الأوامر المتوجهة إليه (عليه السلام) في مبادىء حاله، فسؤاله في أواخر عمره مع ابنه إسماعيل الإسلام و إراءة المناسك سؤال لأمر ليس زمامه بيده أو سؤال لثبات على أمر ليس بيده فالإسلام المسئول في الآية هو هذه المرتبة من الإسلام و يتعقب الإسلام بهذا المعنى المرتبة الرابعة من الإيمان و هو استيعاب هذا الحال لجميع الأحوال و الأفعال، قال تعالى: «ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، الذين آمنوا و كانوا يتقون»: يونس - 62، فإن هؤلاء المؤمنين المذكورين في الآية يجب أن يكونوا على يقين من أن لا استقلال لشيء دون الله، و لا تأثير لسبب إلا بإذن الله حتى لا يحزنوا من مكروه واقع، و لا يخافوا محذورا محتملا، و إلا فلا معنى لكونهم بحيث، لا يخوفهم شيء، و لا يحزنهم أمر، فهذا النوع من الإيمان بعد الإسلام المذكور فافهم.
قوله تعالى: و إنه في الآخرة لمن الصالحين، الصلاح، و هو اللياقة بوجه ربما نسب في كلامه إلى عمل الإنسان و ربما نسب إلى نفسه و ذاته، قال تعالى: «فليعمل عملا صالحا»: الكهف - 110، و قال تعالى: «و أنكحوا الأيامى منكم و الصالحين من عبادكم و إمائكم»: النور - 32. و صلاح العمل و إن لم يرد به تفسير بين من كلامه تعالى غير أنه نسب إليه من الآثار ما يتضح به معناه.
فمنها: أنه صالح لوجه الله، قال تعالى: «صبروا ابتغاء وجه ربهم»: الرعد - 22، و قال تعالى: «و ما تنفقون إلا ابتغاء وجه الله»: البقرة - 272.
و منها: أنه صالح لأن يثاب عليه، قال تعالى: «ثواب الله خير لمن آمن و عمل صالحا»: القصص - 80.
و منها: أنه يرفع الكلم الطيب الصاعد إلى الله سبحانه قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: فاطر - 10، فيستفاد من هذه الآثار المنسوبة إليه أن صلاح العمل معنى تهيؤه و لياقته لأن يلبس لباس الكرامة و يكون عونا و ممدا لصعود الكلام الطيب إليه تعالى، قال تعالى: «و لكن يناله التقوى منكم»: الحج - 37، و قال تعالى: «و كلا نمد هؤلاء، و هؤلاء من عطاء ربك، و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء - 20، فعطاؤه تعالى بمنزلة الصورة، و صلاح العمل بمنزلة المادة.
و أما صلاح النفس و الذات فقد قال تعالى: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين، و الصديقين، و الشهداء و الصالحين، و حسن أولئك رفيقا»: النساء - 69، و قال تعالى: «و أدخلناهم في رحمتنا إنهم من الصالحين»: الأنبياء - 86، و قال تعالى حكاية عن سليمان: «و أدخلني برحمتك في عبادك الصالحين»: النمل - 19، و قال تعالى: «و لوطا آتيناه حكما و علما إلى قوله و أدخلناه في رحمتنا إنه من الصالحين»: الأنبياء - 75، و ليس المراد الصلاح لمطلق الرحمة العامة الإلهية الواسعة لكل شيء و لا الخاصة بالمؤمنين على ما يفيده قوله تعالى: «و رحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون»: الأعراف - 156، إذ هؤلاء القوم و هم الصالحون، طائفة خاصة من المؤمنين المتقين، و من الرحمة ما يختص ببعض دون، بعض قال تعالى «يختص برحمته من يشاء»: البقرة - 105 و ليس المراد أيضا مطلق كرامة، الولاية و هو تولي الحق سبحانه أمر عبده، فإن الصالحين و إن شرفوا بذلك، و كانوا من الأولياء المكرمين على ما بيناه سابقا في قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم»: فاتحة الكتاب - 6 و سيجيء في تفسير الآية لكن هذه أعني الولاية صفة مشتركة بينهم و بين النبيين، و الصديقين، و الشهداء فلا يستقيم إذن عدهم طائفة خاصة في قبالهم.
نعم الأثر الخاص بالصلاح هو الإدخال في الرحمة، و هو الأمن العام من العذاب كما ورد المعنيان معا في الجنة، قال تعالى: «فيدخلهم ربهم في رحمته»: الجاثية - 30، أي في الجنة، و قال تعالى: «يدعون فيها بكل فاكهة آمنين»: الدخان - 55 أي في الجنة.
و أنت إذا تدبرت قوله تعالى: «و أدخلناه في رحمتنا»: الأنبياء - 75 و قوله: «و كلا جعلنا صالحين»: الأنبياء - 72 حيث نسب الفعل إلى نفسه تعالى لا إلى العبد - ثم تأملت أنه تعالى قصر الأجر و الشكر على ما بحذاء العمل و السعي قضيت بأن الصلاح الذاتي كرامة ليست بحذاء العمل و الإرادة و ربما تبين به معنى قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها» - و هو ما بالعمل - و قوله: «و لدينا مزيد» - و هو أمر غير ما بالعمل على ما سيجيء بيانه إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها»: ق - 35.
ثم إنك إذا تأملت حال إبراهيم و مكانته في أنه كان نبيا مرسلا و أحد أولي العزم من الأنبياء، و أنه إمام، و أنه مقتدى عدة ممن بعده من الأنبياء و المرسلين و أنه من الصالحين بنص قوله تعالى: «و كلا جعلنا صالحين»: الأنبياء - 72، الظاهر في الصلاح المعجل على أن من هو دونه في الفضل من الأنبياء أكرم بهذا الصلاح المعجل و هو (عليه السلام) مع ذلك كله يسأل اللحوق بالصالحين الظاهر في أن هناك قوما من الصالحين سبقوه و هو يسأل اللحوق بهم فيما سبقوه إليه، و أجيب بذلك في الآخرة كما يحكيه الله تعالى في ثلاثة مواضع من كلامه حيث قال تعالى: «و لقد اصطفيناه في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: البقرة - 130، و قال تعالى: «و آتيناه أجره في الدنيا و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: العنكبوت - 27، و قال تعالى: «و آتيناه في الدنيا حسنة و إنه في الآخرة لمن الصالحين»: النحل - 122، فإذا تأملت ذلك حق التأمل قضيت بأن الصلاح ذو مراتب بعضها فوق بعض و لم تستبعد لو قرع سمعك أن إبراهيم (عليه السلام) سأل اللحوق بمحمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» و آله الطاهرين (عليهم السلام) فأجيب إلى ذلك في الآخرة لا في الدنيا فإنه (عليه السلام) يسأل اللحوق بالصالحين، و محمد «(صلى الله عليه وآله وسلم)» يدعيه لنفسه.
قال تعالى: «قل إن وليي الله الذي نزل الكتاب بالحق و هو يتولى الصالحين»: الأعراف - 196 فإن ظاهر الآية أن رسول الله «(صلى الله عليه وآله وسلم)» يدعي لنفسه الولاية فالظاهر منه أن رسول الله «(صلى الله عليه وآله وسلم)» هو المتحقق بالصلاح الذي يدعيه بموجب الآية لنفسه و إبراهيم كان يسأل الله اللحوق بعده من الصالحين يسبقونه في الصلاح فهو هو.
قوله تعالى: و وصى بها إبراهيم بنيه، أي وصى بالملة.
قوله تعالى: فلا تموتن، النهي عن الموت و هو أمر غير اختياري للإنسان، و التكليف إنما يتعلق بأمر اختياري إنما هو لرجوعه إلى أمر يتعلق بالاختيار، و التقدير احذروا أن يغتالكم الموت في غير حال الإسلام، أي داوموا و الزموا الإسلام لئلا يقع موتكم إلا في هذا الحال، و في الآية إشارة إلى أن الدين هو الإسلام كما قال تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران - 19.
قوله تعالى: و إله آبائك إبراهيم و إسمعيل و إسحق، في الكلام إطلاق لفظ الأب على الجد و العم و الوالد من غير مصحح للتغليب، و حجة فيما سيأتي إن شاء الله تعالى في خطاب إبراهيم لآزر بالأب.
قوله تعالى: إلها واحدا، في هذا الإيجاز بعد الإطناب بقوله: إلهك و إله آبائك «إلخ» دفع لإمكان إبهام اللفظ أن يكون إلهه غير إله آبائه على نحو ما يتخذه الوثنيون من الآلهة الكثيرة.
قوله تعالى: و نحن له مسلمون، بيان للعبادة و أنها ليست عبادة كيفما اتفقت بل عبادة على نهج الإسلام و في الكلام جملة أن دين إبراهيم هو الإسلام و الموروث منه في بني إبراهيم كإسحق و يعقوب و إسمعيل، و في بني إسرائيل، و في بني إسمعيل من آل إبراهيم جميعا هو الإسلام لا غير، و هو الذي أتى به إبراهيم من ربه فلا حجة لأحد في تركه و الدعوة إلى غيره.
بحث روائي
في الكافي، عن سماعة عن الصادق (عليه السلام): الإيمان من الإسلام بمنزلة الكعبة الحرام من الحرم قد يكون في الحرم و لا يكون في الكعبة و لا يكون في الكعبة حتى يكون في الحرم.
و فيه، عن سماعة أيضا عن الصادق (عليه السلام) قال: الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله و التصديق برسول الله، به حقنت الدماء و عليه جرت المناكح و المواريث و على ظاهره جماعة الناس، و الإيمان الهدى و ما يثبت في القلوب من صفة الإسلام.
أقول: و في هذا المضمون روايات أخر و هي تدل على ما مر بيانه من المرتبة الأولى من الإسلام و الإيمان.
و فيه، عن البرقي عن علي (عليه السلام): قال الإسلام هو التسليم و التسليم هو اليقين، و فيه، عن كاهل عن الصادق: لو أن قوما عبدوا الله وحده لا شريك له و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة، و حجوا البيت، و صاموا شهر رمضان ثم قالوا لشيء صنعه الله أو صنعه رسول الله إلا صنع بخلاف الذي صنع أو وجدوا ذلك في قلوبهم لكانوا بذلك مشركين الحديث.
أقول: و الحديثان يشيران إلى المرتبة الثالثة من الإسلام و الإيمان.
و في البحار، عن إرشاد الديلمي، و ذكر سندين لهذا الحديث، و هو من أحاديث المعراج و فيه: قال الله سبحانه: يا أحمد هل تدري أي عيش أهنى و أي حياة أبقى؟ قال: اللهم لا، قال: أما العيش الهنيء فهو الذي لا يفتر صاحبه عن ذكري و لا ينسى نعمتي، و لا يجهل حقي، يطلب رضائي في ليله و نهاره، و أما الحياة الباقية، فهي التي يعمل لنفسه حتى تهون عليه الدنيا، و تصغر في عينه، و تعظم الآخرة عنده، و يؤثر هواي على هواه و يبتغي مرضاتي، و يعظم حق نعمتي، و يذكر عملي به، و يراقبني بالليل و النهار عند كل سيئة أو معصية، و ينقي قلبه عن كل ما أكره، و يبغض الشيطان و وساوسه، و لا يجعل لإبليس على قلبه سلطانا و سبيلا، فإذا فعل ذلك أسكنت قلبه حبا حتى أجعل قلبه و فراغه و اشتغاله و همه و حديثه من النعمة التي أنعمت بها على أهل محبتي من خلقي و أفتح عين قلبه و سمعه، حتى يسمع بقلبه و ينظر بقلبه إلى جلالي و عظمتي، و أضيق عليه الدنيا، و أبغض إليه ما فيها من اللذات، و أحذره من الدنيا و ما فيها كما يحذر الراعي على غنمه مراتع الهلكة، فإذا كان هكذا يفر من الناس فرارا، و ينقل من دار الفناء إلى دار البقاء، و من دار الشيطان إلى دار الرحمن، يا أحمد و لأزيننه بالهيبة و العظمة فهذا هو العيش الهنيء و الحياة الباقية، و هذا مقام الراضين فمن عمل برضاي ألزمه ثلاث خصال أعرفه شكرا لا يخالطه الجهل، و ذكرا لا يخالطه النسيان، و محبة لا يؤثر على محبتي محبة المخلوقين، فإذا أحبني أحببته و أفتح عين قلبه إلى جلالي، و لا أخفي عليه خاصة خلقي و أناجيه في ظلم الليل و نور النهار، حتى ينقطع حديثه مع المخلوقين، و مجالسته معهم، و أسمعه كلامي و كلام ملائكتي و أعرفه السر الذي سترته عن خلقي، و ألبسه الحياء، حتى يستحيي منه الخلق كلهم، و يمشي على الأرض مغفورا له، و أجعل قلبه واعيا و بصيرا و لا أخفي عليه شيئا من جنة و لا نار، و أعرفه ما يمر على الناس في القيامة من الهول و الشدة و ما أحاسب به الأغنياء و الفقراء و الجهال و العلماء، و أنومه في قبره، و أنزل عليه منكرا و نكيرا حتى يسألاه، و لا يرى غم الموت، و ظلمة القبر و اللحد، و هول المطلع، ثم أنصب له ميزانه، و أنشر ديوانه، ثم أضع كتابه في يمينه فيقرؤه منشورا، ثم لا أجعل بيني و بينه و ترجمانا فهذه صفات المحبين» يا أحمد اجعل همك هما واحدا و اجعل لسانك لسانا واحدا و اجعل بدنك حيا لا يغفل أبدا من يغفل عني لم أبال في أي واد هلك.
و في البحار، عن الكافي، و المعاني، و نوادر الراوندي، بأسانيد مختلفة عن الصادق و الكاظم (عليهما السلام) و اللفظ المنقول هاهنا للكافي قال: استقبل رسول الله: حارثة بن مالك بن النعمان الأنصاري فقال له: كيف أنت يا حارثة بن مالك النعماني؟ فقال: يا رسول الله مؤمن حقا، فقال له رسول الله: لكل شيء حقيقة فما حقيقة قولك؟ فقال يا رسول الله عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي، و أظمأت هواجري، و كأني أنظر إلى عرش ربي و قد وضع للحساب، و كأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون في الجنة و كأني أسمع عواء أهل النار في النار، فقال رسول الله «(صلى الله عليه وآله وسلم)»: عبد نور الله قلبه أبصرت فأثبت.
أقول: و الروايتان تحومان حوم المرتبة الرابعة من الإسلام و الإيمان المذكورتين و في خصوصيات معناهما روايات كثيرة متفرقة سنورد جملة منها في تضاعيف الكتاب إن شاء الله تعالى و الآيات تؤيدها على ما سيجيء بيانها، و اعلم أن لكل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان معنى من الكفر و الشرك يقابله، و من المعلوم أيضا أن الإسلام و الإيمان كلما دق معناهما و لطف مسلكهما، صعب التخلص مما يقابلهما من معنى الكفر أو الشرك، و من المعلوم أيضا أن كل مرتبة من مراتب الإسلام و الإيمان الدانية، لا ينافي الكفر أو الشرك من المرتبة العالية، و ظهور آثارهما فيها، و هذان أصلان.
و يتفرع عليهما: أن للآيات القرآنية بواطن تنطبق على موارد لا تنطبق عليها ظواهرها و ليكن هذا عندك على إجماله حتى يأتيك تفصيله.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: و لدينا مزيد، قال (عليه السلام) النظر إلى رحمة الله.
و في المجمع، عن النبي «(صلى الله عليه وآله وسلم)»: يقول الله: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت و لا خطر على قلب بشر.
أقول: و الروايتان قد اتضح معناهما عند بيان معنى الصلاح، و الله الهادي.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت الآية عن الباقر (عليه السلام) أنها جرت في القائم.
أقول قال: في الصافي:، لعل مراده أنها في قائم آل محمد فكل قائم منهم يقول: ذلك حين موته لبنيه، و يجيبونه بما أجابوا به.
|