بيان
لما امتن الله تعالى على النبي و المسلمين، بإرسال النبي الكريم منهم إليهم نعمة لا تقدر بقدر و منحة على منحة - و هو ذكر منه لهم - إذ لم ينسهم في هدايتهم إلى مستقيم الصراط، و سوقهم إلى أقصى الكمال، و زيادة على ذلك، و هو جعل القبلة، الذي فيه كمال دينهم، و توحيد عبادتهم، و تقويم فضيلتهم الدينية و الاجتماعية فرع على ذلك دعوتهم إلى ذكره و شكره، ليذكرهم بنعمته على ذكرهم إياه بعبوديته و طاعته، و يزيدهم على شكرهم لنعمته و عدم كفرانهم، و قد قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف - 24.
و قال تعالى «لإن شكرتم لأزيدنكم»: إبراهيم - 7، و الآيتان جميعا نازلتان قبل آيات القبلة من سورة البقرة.
ثم إن الذكر ربما قابل الغفلة كقوله تعالى «و لا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا»: الكهف - 28.
و هي انتفاء العلم بالعلم، مع وجود أصل العلم، فالذكر خلافه، و هو العلم بالعلم، و ربما قابل النسيان و هو زوال صورة العلم عن خزانة الذهن، فالذكر خلافه، و منه قوله تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت» الآية.
و هو حينئذ كالنسيان معنى ذو آثار و خواص تتفرع عليه، و لذلك ربما أطلق الذكر كالنسيان في موارد تتحقق فيها آثارهما و إن لم تتحقق أنفسهما، فإنك إذا لم تنصر صديقك - و أنت تعلم حاجته إلى نصرك فقد نسيته، و الحال أنك تذكره، و كذلك الذكر.
و الظاهر أن إطلاق الذكر على الذكر اللفظي من هذا القبيل، فإن التكلم عن الشيء من آثار ذكره قلبا، قال تعالى «قل سأتلوا عليكم منه ذكرا»: الكهف - 83.
و نظائره كثيرة، و لو كان الذكر اللفظي أيضا ذكرا حقيقة فهو من مراتب الذكر، لأنه مقصور عليه و منحصر فيه، و بالجملة: الذكر له مراتب كما قال تعالى «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»: الرعد - 28، و قال «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول»: الأعراف - 205، و قال تعالى «فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرا: البقرة - 200، فالشدة إنما يتصف به المعنى دون اللفظ، و قال تعالى «و اذكر ربك إذا نسيت و قل عسى أن يهدين ربي لأقرب من هذا رشدا»: الكهف - 24.
و ذيل هذه الآية تدل على الأمر برجاء ما هو أعلى منزلة مما هو فيه، فيئول المعنى إلى أنك إذا تنزلت من مرتبة من ذكره إلى مرتبة هي دونها، و هو النسيان، فاذكر ربك و ارج بذلك ما هو أقرب طريقا و أعلى منزلة، فينتج أن الذكر القلبي ذو مراتب في نفسه، و بذلك يتبين صحة قول القائل: إن الذكر حضور المعنى عند النفس، فإن الحضور ذو مراتب.
و لو كان لقوله تعالى: فاذكروني - و هو فعل متعلق بياء المتكلم حقيقة من دون تجوز أفاد ذلك، أن للإنسان سنخا آخر من العلم غير هذا العلم المعهود عندنا الذي هو حصول صورة المعلوم و مفهومه عند العالم، إذ كلما فرض من هذا القبيل فهو تحديد و توصيف للمعلوم من العالم، و قد تقدست ساحته سبحانه عن توصيف الواصفين، قال تعالى «سبحان الله عما يصفون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات - 160، و قال: «و لا يحيطون به علما»: طه - 110، و سيجيء بعض ما يتعلق بالمقام في الكلام على الآيتين إن شاء الله.
بحث روائي
تكاثرت الأخبار في فضل الذكر من طرق العامة و الخاصة، فقد روي: بطرق مختلفة: أن ذكر الله حسن على كل حال.
و في عدة الداعي، قال: و روي: أن رسول الله قد خرج على أصحابه، فقال: ارتعوا في رياض الجنة، قالوا: يا رسول الله و ما رياض الجنة؟ قال: مجالس الذكر اغدوا و روحوا و اذكروا، و من كان يحب أن يعلم منزلته عند الله فلينظر كيف منزلة الله عنده، فإن الله تعالى ينزل العبد حيث أنزل العبد الله من نفسه، و اعلموا: أن خير أعمالكم عند مليككم و أزكاها و أرفعها في درجاتكم، و خير ما طلعت عليه الشمس ذكر الله تعالى، فإنه تعالى أخبر عن نفسه فقال: أنا جليس من ذكرني، و قال تعالى: فاذكروني أذكركم بنعمتي، اذكروني بالطاعة و العبادة أذكركم بالنعم و الإحسان و الراحة و الرضوان.
و في المحاسن، و دعوات الراوندي، عن الصادق (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى يقول: من شغل بذكري عن مسألتي، أعطيه أفضل ما أعطي من سألني.
و في المعاني، عن الحسين البزاز قال: قال: لي أبو عبد الله (عليه السلام) أ لا أحدثك بأشد ما فرض الله على خلقه؟ قلت: بلى قال، إنصاف الناس من نفسك، و مواساتك لأخيك، و ذكر الله في كل موطن، أما إني لا أقول: سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر، و إن كان هذا من ذاك، و لكن ذكر الله في كل موطن، إذا هجمت على طاعته أو معصيته.
أقول: و هذا المعنى مروي بطرق كثيرة عن النبي، و أهل بيته (عليهم السلام)، و في بعضها و هو قول الله: الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون الآية.
و في عدة الداعي، عن النبي، قال: قال سبحانه: إذا علمت أن الغالب على عبدي الاشتغال بي، نقلت شهوته في مسألتي و مناجاتي، فإذا كان عبدي كذلك و أراد أن يسهو حلت بينه و بين أن يسهو، أولئك أوليائي حقا، أولئك الأبطال حقا، أولئك الذين إذا أردت أن أهلك أهل الأرض عقوبة زويتها عنهم من أجل أولئك الأبطال.
و في المحاسن، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال الله تعالى: ابن آدم اذكرني في نفسك أذكرك في نفسي، ابن آدم اذكرني في خلاء أذكرك في خلاء، اذكرني في ملإ أذكرك في ملإ خير من ملإك، و قال: ما من عبد يذكر الله في ملإ من الناس إلا ذكره الله في ملإ من الملائكة.
أقول: و قد روي هذا المعنى بطرق كثيرة في كتب الفريقين.
و في الدر المنثور، أخرج الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن ابن مسعود قال: قال: رسول الله،: من أعطي أربعا أعطي أربعا، و تفسير ذلك في كتاب الله من أعطي الذكر ذكره الله، لأن الله يقول: اذكروني أذكركم، و من أعطي الدعاء أعطي الإجابة، لأن الله يقول: ادعوني أستجب لكم، و من أعطي الشكر أعطي الزيادة، لأن الله يقول: لئن شكرتم لأزيدنكم، و من أعطي الاستغفار أعطي المغفرة لأن الله يقول: استغفروا ربكم إنه كان غفارا.
و في الدر المنثور، أيضا أخرج سعيد بن منصور و ابن المنذر و البيهقي في شعب الإيمان عن خالد بن أبي عمران، قال: قال: رسول الله:، من أطاع الله فقد ذكر الله، و إن قلت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن، و من عصى الله فقد نسي الله، و إن كثرت صلاته و صيامه و تلاوته للقرآن.
أقول: في الحديث إشارة إلى أن المعصية لا تتحقق من العبد إلا بالغفلة و النسيان فإن الإنسان لو ذكر ما حقيقة معصيته و ما لها من الأثر لم يقدم على معصيته، حتى أن من يعصي الله و لا يبالي إذا ذكر عند ذلك بالله، و لا يعتني بمقام ربه هو طاغ جاهل بمقام ربه و علو كبريائه و كيفية إحاطته، و إلى ذلك تشير أيضا رواية أخرى، رواها الدر المنثور، عن أبي هند الداري، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): قال الله: اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي و من ذكرني و هو مطيع فحق علي أن أذكره بمغفرتي، و من ذكرني و هو عاص فحق علي أن أذكره بمقت الحديث، و ما اشتمل عليه هذا الحديث من الذكر عند المعصية هو الذي تسميه الآية و سائر الأخبار بالنسيان لعدم ترتب آثار الذكر عليه، و للكلام بقايا سيجيء شطر منها.
|