بيان
قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم، خطاب خاص بالمؤمنين بعد الخطاب السابق للناس فهو من قبيل انتزاع الخطاب من الخطاب، كأنه انصراف عن خطاب جماعة ممن لا يقبل النصح و لا يصغي إلى القول، و التفات إلى من يستجيب الداعي لإيمانه به، و التفاوت الموجود بين الخطابين ناش من تفاوت المخاطبين، فإن المؤمنين بالله لما كان يتوقع منهم القبول بدل قوله: ما في الأرض حلالا طيبا من قوله: طيبات ما رزقناكم، و كان ذلك وسيلة إلى أن يطلب منهم الشكر لله وحده لكونهم موحدين لا يعبدون إلا الله سبحانه، و لذلك بعينه قيل: ما رزقناكم و لم يقل: ما رزقتم أو ما في الأرض و نحوه، لما فيه من الإيماء أو الدلالة على كونه تعالى معروفا لهم قريبا منهم حنينا رءوفا بهم، و الظاهر أن يكون قوله: من طيبات ما رزقناكم، من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف لا من قبيل قيام الصفة مقام الموصوف فإن المعنى على الأول كلوا من رزقنا الذي كله طيب، و هو المناسب لمعنى التقرب و التحنن الذي يلوح من المقام، و المعنى على الثاني كلوا من طيب الرزق لا من خبيثه، و هو بعيد المناسبة عن المقام الذي هو مقام رفع الحظر، و النهي عن الامتناع عن بعض ما رزقهم الله سبحانه تشريعا من عند أنفسهم و قولا بغير علم.
قوله تعالى: و اشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون، لم يقل و اشكروا لنا بل اشكروا لله ليكون أدل على الأمر بالتوحيد و لذلك أيضا قيل: إن كنتم إياه تعبدون فدل على الحصر و القصر و لم يقل إن كنتم تعبدونه.
قوله تعالى: إنما حرم عليكم الميتة و الدم و لحم الخنزير و ما أهل به لغير الله، الإهلال لغير الله هو الذبح لغيره كالأصنام.
قوله تعالى: فمن اضطر غير باغ و لا عاد، أي غير ظالم و لا متجاوز حده، و هما حالان عاملهما الاضطرار فيكون المعنى فمن اضطر إلى أكل شيء مما ذكر من المنهيات اضطرارا في حال عدم بغيه و عدم عدوه فلا ذنب له في الأكل، و أما لو اضطر في حال البغي و العدو كأن يكونا هما الموجبين للاضطرار فلا يجوز له ذلك، و قوله تعالى: إن الله غفور رحيم، دليل على أن التجوز تخفيف و رخصة منه تعالى للمؤمنين و إلا فمناط النهي موجود في صورة الاضطرار أيضا.
قوله تعالى: إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب، تعريض لأهل الكتاب إذ عندهم شيء كثير من المحللات الطيبة التي حرمها كبراؤهم و رؤساؤهم في العبادات و غيرها - و عندهم الكتاب الذي لا يقضي فيه بالتحريم - و لم يكتموا ما كتموه إلا حفظا لما يدر عليهم من رزق الرئاسة و أبهة المقام و الجاه و المال.
و في الآية من الدلالة على تجسم الأعمال و تحقق نتائجها ما لا يخفى فإنه تعالى ذكر أولا أن اختيارهم الثمن القليل على ما أنزل الله هو أكل النار في بطونهم ثم بدل اختيار الكتمان و أخذ الثمن على بيان ما أنزل الله في الآية التالية من اختيار الضلالة على الهدى ثم من اختيار العذاب على المغفرة ثم ختمها بقوله: فما أصبرهم على النار، و الذي كان منهم ظاهرا هو الإدامة للكتمان و البقاء عليها فافهم.
بحث روائي
في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى فمن اضطر غير باغ و لا عاد الآية، قال: الباغي باغي الصيد، و العادي السارق ليس لهما أن يأكلا الميتة إذا اضطرا إليها، هي حرام عليهما ليس هي عليهما كما هي على المسلمين و ليس لهما أن يقصرا في الصلاة.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام) قال: الباغي الظالم، و العادي الغاصب.
و عن حماد عنه (عليه السلام) قال: الباغي الخارج على الإمام و العادي اللص.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) و أبي عبد الله (عليه السلام): غير باغ على إمام المسلمين و لا عاد بالمعصية طريق المحقين.
أقول: و الجميع من قبيل عد المصاديق، و هي تؤيد المعنى الذي استفدناه من ظاهر اللفظ.
و في الكافي، و تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: فما أصبرهم على النار الآية، قال: ما أصبرهم على فعل ما يعلمون أنه يصيرهم إلى النار.
و في المجمع، عن علي بن إبراهيم عن الصادق (عليه السلام) قال: ما أجرأهم على النار.
و عن الصادق (عليه السلام): ما أعملهم بأعمال أهل النار.
أقول: و الروايات قريبة المعاني ففي الأولى تفسير الصبر على النار بالصبر على سبب النار، و في الثانية تفسير الصبر على النار بالجرأة عليها و هي لازمة للصبر، و في الثالثة تفسير الصبر على النار بالعمل بما يعمل به أهل النار و مرجعه إلى معنى الرواية الأولى.
|