بيان
قوله تعالى: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية، لسان الآية لسان الوجوب فإن الكتابة يستعمل في القرآن في مورد القطع و اللزوم و يؤيده ما في آخر الآية من قوله حقا، فإن الحق أيضا كالكتابة يقتضي معنى اللزوم لكن تقييد الحق بقوله على المتقين، مما يوهن الدلالة على الوجوب و العزيمة فإن الأنسب بالوجوب أن يقال: حقا على المؤمنين، و كيف كان فقد قيل إن الآية منسوخة بآية الإرث، و لو كان كذلك فالمنسوخ هو الفرض دون الندب و أصل المحبوبية و لعل تقييد الحق بالمتقين في الآية لإفادة هذا الغرض.
و المراد بالخير المال، و كأنه المال المعتد به، دون اليسير الذي لا يعبأ به و المراد بالمعروف هو المعروف المتداول من الصنيعة و الإحسان.
قوله تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، ضمير إثمه راجع إلى التبديل، و الباقي من الضمائر إلى الوصية بالمعروف، و هي مصدر يجوز فيه الوجهان و إنما قال على الذين يبدلونه، و لم يقل عليهم ليكون فيه دلالة على سبب الإثم و هو تبديل الوصية بالمعروف و ليستقيم تفريع الآية التالية عليه.
قوله تعالى: فمن خاف من موص جنفا أو إثما فأصلح بينهم فلا إثم عليه، الجنف هو الميل و الانحراف، و قيل: هو ميل القدمين إلى الخارج كما أن الحنف بالحاء المهملة انحرافهما إلى الداخل، و المراد على أي حال الميل إلى الإثم بقرينة الإثم و الآية تفريع على الآية السابقة عليها، و المعنى و الله أعلم فإنما إثم التبديل على الذين يبدلون الوصية بالمعروف، و يتفرع عليه: أن من خاف من وصية الموصي أن يكون وصيته بالإثم أو مائلا إليه فأصلح بينهم برده إلى ما لا إثم فيه فلا إثم عليه لأنه لم يبدل وصيته بالمعروف بل إنما بدل ما فيه إثم أو جنف.
بحث روائي
و في الكافي، و التهذيب، و تفسير العياشي، و اللفظ للأخير عن محمد بن مسلم عن الصادق (عليه السلام): سألته عن الوصية تجوز للوارث؟ قال نعم ثم تلا هذه الآية إن ترك خيرا الوصية للوالدين و الأقربين.
و في تفسير العياشي، عن الصادق عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية.
و في تفسير العياشي، أيضا عن الصادق (عليه السلام): في الآية قال: حق جعله الله في أموال الناس لصاحب هذا الأمر، قال قلت: لذلك حد محدود، قال: نعم، قلت: كم؟ قال: أدناه السدس و أكثره الثلث.
أقول: و روى هذا المعنى الصدوق أيضا في الفقيه، عنه (عليه السلام) و هو استفادة لطيفة من الآية بضم قوله تعالى: «النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم و أزواجه أمهاتهم و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين إلا أن تفعلوا إلى أوليائكم معروفا كان ذلك في الكتاب مسطورا»: الأحزاب - 6، فإن الآية هي الناسخة لحكم التوارث بالأخوة الذي كان في صدر الإسلام فقد نفت التوارث بالأخوة و أثبتته للقرابة ثم استثني ما فعل من معروف في حق الأولياء، و قد عدت النبي وليا و الطاهرين من ذريته أولياء لهم، و هذا المعروف المستثنى مورد قوله تعالى: إن ترك خيرا الوصية الآية - و هم قربى - فافهم.
و في تفسير العياشي، عن أحدهما (عليهما السلام): في قوله تعالى كتب عليكم إذا حضر الآية، قال (عليه السلام) هي منسوخة نسختها آية الفرائض التي هي المواريث.
أقول: مقتضى الجمع بين الروايات السابقة و بين هذه الرواية أن المنسوخ من الآية.
هو الوجوب فقط فيبقى الاستحباب على حاله.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله فمن خاف من موص جنفا أو إثما الآية، قال الجنف أن يكون على جهة الخطإ من حيث لا يدري أنه يجوز.
و في تفسير القمي، قال الصادق (عليه السلام): إذا الرجل أوصى بوصيته فلا يجوز للوصي أن يغير وصية يوصيها بل يمضيها على ما أوصى إلا أن يوصي بغير ما أمر الله فيعصي في الوصية و يظلم، فالموصى إليه جائز له أن يرده إلى الحق مثل رجل يكون له ورثة فيجعل المال كله لبعض ورثته و يحرم بعضا فالوصي جائز له أن يرده إلى الحق و هو قوله جنفا أو إثما، و الجنف الميل إلى بعض ورثته دون بعض، و الإثم أن يأمر بعمارة بيوت النيران و اتخاذ المسكر فيحل للوصي أن لا يعمل بشيء من ذلك.
أقول: و بما في الرواية من معنى الجنف يظهر معنى قوله تعالى فأصلح بينهم فالمراد الإصلاح بين الورثة لوقوع النزاع بينهم من جهة جنف الموصي.
و في الكافي، عن محمد بن سوقة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه، قال نسختها التي بعدها قوله: فمن خاف من موص جنفا أو إثما - فأصلح بينهم فلا إثم عليه، قال: يعني الموصى إليه إن خاف جنفا من الموصي في ولده فيما أوصى به إليه فيما لا يرضى الله به من خلاف الحق فلا إثم عليه أي على الموصى إليه أن يبدله إلى الحق و إلى ما يرضى الله به من سبيل الحق.
أقول: هذا من تفسير الآية بالآية فإطلاق النسخ عليه ليس على الاصطلاح و قد مر أن النسخ في كلامهم ربما يطلق على غير ما اصطلح عليه الأصوليون.
|